عبد الحميد فجر سلوم
كاتب ووزير مفوض دبلوماسي سابق/ نُشِرَ لي سابقا ما يقرب من ألف مقال في صحف عديدة
(Abdul-hamid Fajr Salloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8037 - 2024 / 7 / 13 - 09:38
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حينما توقفت دبابات الاتحاد السوفييتي مع دبابات الحلفاء وسط برلين في نهاية الحرب العالمية الثانية في 16 نيسان 1945، وتقاسموها بين شرقية وغربية، يفصل بينهما جدار برلين الشهير، اعتقدَ العالم أن هذه كانت نهاية حروب أوروبا التي طالما عانت من أشرس الحروب منذ القرون الوسطى وحتى الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، وصولا ليومنا هذا..
بعض هذه الحروب (القديمة) كانت مذهبية دينية، وبعضها(الحديثة) كانت استعمارية توسعية، من حروب نابليون حتى حروب هتلر..
لم يكَد يتوقف هدير الدبابات في برلين، حتى نشبت حربا جديدة شرسِة بين أعداء النازية أنفسهم، طرفيها الولايات المتحدة وحلفائها في حلف الناتو من جهة، والاتحاد السوفييتي وحلفائه في حلف وارسو من جهة أخرى.. كانت حربا بين آيديولوجيتين متناقضتين بالمطلق، آيديولوجيا الشيوعية، وآيديولوجيا الرأسمالية، وسباقٌ حول صُنعِ النفوذ في العالم.. وأطلقوا على هذه الحرب مُصطلَح (الحرب الباردة) . وحقيقة الأمر كانت ساخنة، وأحيانا ساخنة جدا، بين القوتين العظمتين، ولكن بالوكالة في أفريقيا وآسيا، وأمريكا الجنوبية، والبحر الكاريبي.. والشرق الأوسط، لاسيما في فلسطين..
**
استمرّت هذه الحرب 45 عاما انتهت بتفكيك الاتحاد السوفييتي عام 1991 على يد رئيسهِ حينذاك ميخائيل غورباتشوف، صاحب نظرية البيريسترويكا والغلاسنوست، أي الانفتاح والشفافية، وبدا من البداية وكأنهُ يسير على حبل سيرك، وما أن اهتزّ توازنهُ قليلا حتى سقط أرضا.. وسقط معه جدار برلين، وحلف وارسو، وكل منظومة الدول الشيوعية في شرق أوروبا، فكان آخر رئيس للاتحاد السوفييتي، ليبدأ بعدها الاتحاد الروسي برئاسة بوريس يلسين، ثم فلاديمير بوتين..
وهكذا اعتقد العالم أنه مع هذه النهاية انتهت الحروب.. ولكن الأمر لم يكن كذلك، فبرزت حالا أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 وضربِ بُرجَي التجارة العالمي في نيويورك، والتي أشعلَت حربا جديدة تحت عنوان الحرب على الإرهاب وتنظيم القاعدة(الذي أسّستهُ الولايات المتحدة ذاتها)وكانت نتيجتها احتلال وتدمير بلدين في آسيا، وهما العراق وأفغانستان.. وما زالت هذه الحرب مستمرة، وتحت هذا العنوان احتلت الولايات المتحدة أجزاء من الأراضي السورية، ودعمت قوى انفصالية، وأقامت 28 قاعدة ونقطة عسكرية فوق الأراضي السورية.. وفسّرت الإرهاب كما يحلو لها وكما يتناسب مع مصالحها، ولكنها لم ترى في أي يوم أكبر إرهاب بتاريخ البشرية وهو الإرهاب الذي جسّدتهُ حليفتها إسرائيل، وتمارسهُ في غزّة بما يندى له جبين الولايات المتحدة وجبين البشرية..
**
وبموازاة ادّعاء الولايات المتحدة الحرب على الإرهاب، فهي تمارس الإرهاب على كل دولة في العالم لا تسير في الرّكب الأمريكي.. إرهاب متعدد الوجوه والأشكال، إرهاب سياسي وعسكري واقتصادي واجتماعي ومخابراتي، وكل ما يخطر بالبال.. ولم تسلم منطقة شرق آسيا من هذه الأشكال من الإرهاب، التي خلقت توترات عالمية كبيرة، فكان استهداف الصين، والسعي لمحاصرتها في محيطها الجغرافي، لإعاقة تقدمها الاقتصادي والصناعي والتجاري والعلمي وكل شيء، بموازاة ترسيخ انفصال جزيرة تايوان وبما يحول دون عودتها للوطن الأم..
**
أخطر ما تقوم به الولايات المتحدة اليوم هو إعادة نظرية الحرب الباردة بشكل علني وواضح، بدءا من أوكرانيا وأوربا في وجه الاتحاد الروسي، وانعكاس ذلك على كل العالم..
ما نعيشه اليوم هو أكثر من حرب باردة، إنها حربا ساخنة، بين الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو الذي ازداد عدد أعضائه كثيرا ليبلغ 32 دولة، بعد أن كان زمن الاتحاد السوفييتي 16 دولة، وبين الاتحاد الروسي، مدعوما من بعض الأصدقاء كما الصين وإيران وكوريا الشمالية، ولكن لا يمكن اعتبارهم حلفاء على شاكلة دول الناتو. وربما كوريا الشمالية هي الأكثر تحالفا مع موسكو بعد التوقيع على اتفاقية شراكة إستراتيجية شاملة في حزيران الماضي، تنصُّ على المساعدة المتبادَلَة في حال تعرُّض أي من البلدين للعدوان. والمساعدة المتبادلة لا تعني الانخراط في الحرب في حال تعرّضت أيٍّ منهما إلى عدوان، كما الحال في المادة الخامسة من معاهدة الناتو.
**
بيان قمة الناتو المنعقدة في واشنطن بين 9 و 11 تموز /يوليو 2024 بمناسبة الذكرى الـ 75 لتأسيس الناتو، كان إعلان حرب باردة جديدة وواضحة تماما..
فهذا الإعلان الذي جاء من 38 مادّة باللغة الإنكليزية، إضافة إلى 6 مواد مخصّصة لأوكرانيا، تحت عنوان: تعهُّد بتقديم مساعدة أمنية طويلة الأمد لأوكرانيا،،
تعهدت فيه دول الناتو بتقديم كل أشكال الدعم لأوكرانيا، السياسي والاقتصادي والعسكري والمالي والإنساني، بشكل غير مسبوق.. وتمّ تخصيص 40 مليار يورو لها سنويا، وإتاحة كل مقدّراتهم الصناعية والدفاعية لدعم احتياجات أوكرانيا.. وتسليمها طائرات إف 16 الأمريكية، بعد أن تمّ تدريب الطيارين الأوكران عليها.. والأخطر إعلان البنتاغون (وزارة الدفاع الأمريكية) لنشرِ صواريخ طويلة المدى في ألمانيا بدئا من العام 2025 وصواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت، وصواريخ متوسطة وقصيرة المدى.
ومن أبرز ما اتّفقوا عليه:
ــ القلق العميق حيال العلاقات الوثيقة الصينية ــ الروسية، واتّهام الصين بأداء دور رئيسي في مساعدة روسيا،
ــ تعزيز وتعميق العلاقات مع دول آسيا والمحيط الهادي، لاسيما أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا، باعتبار أن الصين تمثِّلُ تهديدا أمنيا، بما في ذلك بسبب علاقاتها الوثيقة مع روسيا.
ــ التزام الدول الأعضاء بإنفاق دفاعي عند مستوى لا يقلُّ عن 2% من الناتج المحلي الإجمالي، كما ورد في قمية فيلنيوس العام الماضي.
ــ الاتفاق على أن أوكرانيا تسلك طريقا لا رجعة فيه نحو انضمامها إلى الحلف، لكن لا يوجد إجماع على قبول انضمامها حاليا إلى الناتو.
ــ الاتفاق على تزويد أوكرانيا بخمسة أنظمة دفاع جوي استراتيجية إضافية، والعشرات من أنظمة الدفاع الجوي التكتيكية للدفاع في الأشهر المقبلة..
**
كل ذلك استدعى ردود فعل غاضبة من روسيا، وصرّح سفير روسيا في واشنطن أن هذا يشكل تهديدا مباشرا للأمن الدولي والاستقرار الاستراتيجي، ويزيد من مخاطر سباق التسلح الصاروخي، وهذا خطأ فادح من جانب واشنطن..
بينما صرّح نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف، أن قرار واشنطن بنشرِ الصواريخ الأمريكية في ألمانيا لن يُعزِّز أمن الجزء الغربي من القارة الأوروبية، ولن يجلب لواشنطن وبرلين سوى مشاكل جديدة..
ولكن أقوى التصريحات جاءت على لسان دميتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، المعروف بتصريحاته الشديدة، في منشور عبر مواقع التواصل الاجتماعي قال فيه: (الاستنتاج واضح، يجب علينا أن نفعل كل شيء حتى لا ينتهي مسار أوكرانيا إلى الناتو، إما بزوال أوكرانيا أو باختفاء الحلف، والأفضل باختفائهما معا)..
بينما كان رد فعل الصين من خلال سفارتيها في واشنطن وبروكسل، أن (البيان مليء بالأكاذيب في المحتوى المتعلق بالصين، ويستخدم لغة عدائية ويتضمن استفزازات وأكاذيب، وأن الصين لم تكن سببا ولا طرفا في أزمة أوكرانيا، ولا تقدم أسلحة لأطراف النزاع وتفرض رقابة صارمة على تصدير المواد ذات الاستخدام المزدوج)..
طبعا الصين تدرِك جيدا أن انتصار الناتو على روسيا سيجعلهُ يتفرّغ تماما للصين، وسيأتي الدور عليها.
**
البيان اتّهم بيلاروسيا في الفقرة 24 بإتاحة أراضيها ومنشآتها لخدمة روسيا في هذه الحرب، واتّهم إيران وكوريا الشمالية في الفقرة 25 بتأجيج الحرب من خلال تقديم الدعم العسكري المباشر لروسيا.
وفي الفقرة 32 تحدّث البيان عن جيران الناتو من الجنوب، وجاء فيه ما يلي:
(إن الجوار الجنوبي لحلف الناتو يوفر فرصاً للتعاون في القضايا ذات الاهتمام المشترك. ومن خلال شراكاتنا، نهدف إلى تعزيز قدر أكبر من الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط وأفريقيا، والمساهمة في السلام والازدهار في المنطقة. وفي فيلنيوس، أطلقنا تفكيراً شاملاً حول التهديدات والتحديات والفرص في الجنوب. لقد اعتمدنا اليوم خطة عمل لنهج أقوى وأكثر إستراتيجية وموجه نحو النتائج تجاه جوارنا الجنوبي، والتي سيتم تحديثها بانتظام. لقد قمنا بدعوة الأمين العام لتعيين ممثل خاص للجوار الجنوبي والذي سيكون بمثابة نقطة محورية لحلف شمال الأطلسي في المنطقة وسيقوم بتنسيق جهود الناتو. وسوف نعزز حوارنا وتواصلنا ورؤيتنا وأدواتنا الحالية للتعاون، مثل مبادرة بناء القدرات الدفاعية ومركز الجنوب والمركز الإقليمي لحلف شمال الأطلسي ومبادرة إسطنبول للتعاون في الكويت. لقد اتفقنا مع المملكة الأردنية الهاشمية على فتح مكتب اتصال لحلف شمال الأطلسي في عمان. بناءً على نجاح بعثة الناتو في العراق وبناءً على طلب السلطات العراقية، قمنا بتوسيع نطاق دعمنا للمؤسسات الأمنية العراقية وسنواصل مشاركتنا من خلال بعثة الناتو).
لم يأتوا على ذكر الوضع في غزّة ولا عن حل القضية الفلسطينية. التركيز الأساس كان على روسيا ثمّ الصين. فروسيا بالنسبة للناتو هي عدو اليوم، بينما الصين تشكِّل تحدٍّ فقط..
**
الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، يتّبعون إستراتيجية تِجاه الاتحاد الروسي، شبيهة بالإستراتيجية التي اتّبعوها تِجاه الاتحاد السوفييتي، بِجرّهِ إلى سباق التسلُّح، وإضعاف التنمية والاقتصاد، وإشغالهِ بالدفاع عن أمنهِ القومي، وتحريض شعوب الاتحاد الروسي بالداخل، كما كانوا يفعلون زمن الاتحاد السوفييتي، ويراهنون على الزمن، وذهاب بوتين، ولكن هل سيجدون هذه المرة بعد الرئيس بوتين (غورباتشوف) آخر يُحقِّق لهم ما يصبون إليه؟.
وهل سيتمكن ميدفيديف من إزالة أوكرانيا، وإنهاء الناتو، ويُحبِط مخططاتهم الخبيثة تجاه الاتحاد الروسي؟.
واضحٌ من خلال لهجة هذا البيان، ومن خلال المؤتمر الصحفي للرئيس بايدن بعد القمة، أن الولايات المتحدة ماضية في طريق التحدّي، وبأن تبقى القوة الأكبر، والقُطب الأقوى في العالم، وهذا تجلّى في كلام بايدن حينما قال(لا ينبغي أن تتراجع الولايات المتحدة عن العالم، يجبُ أن نقود العالم)..
فولادة عالم متعدد الأقطاب ما يزال أمامهُ طريقٌ طويلٌ، لأن الولايات المتحدة لن تُسلِّم بذلك بهذه السهولة. وكردٍّ على الاتفاق الدفاعي الكوري الشمالي ــ الروسي، وقّع الرئيس بايدن مع نظيره الكوري الجنوبي خلال قمة الناتو على مبادئ الردع النووي، ليشمل سلاح الردع النووي إن تعرضت كوريا الجنوبية إلى هجوم نووي، وكان التهديد قويا لكوريا الشمالية.
والرئيس بوتين مُدرِكٌ أن ولادة عالم متعدد الأقطاب ليس سهلا، وعبّر عن ذلك بوضوح في كلمته أمام الجلسة العامة للمنتدى البرلماني العاشر لدولة مجموعة بريكس، في بطرسبورغ يوم 11 / 7/ 2024، حينما قال(تشكيل نظام عالمي يعكس التوازن الحقيقي للقوى، وواقعا جيوسياسيا واقتصاديا وديمغرافيا جديدا هي عملية معقّدة، بل إنها مؤلمة للأسف من نواحٍ كثيرة..) ..
بوتين مُدركٌ لشراسة الولايات المتحدة وحلفائها لدى المس بمصالهحم الاستراتيجية، وتشكيل أي خطر عليهم..
إذا العالم أمام حرب باردة / ساخنة جديدة، بدأت من أوكرانيا، فكيف وأين ستنتهي، اللهُ أعلم.
#عبد_الحميد_فجر_سلوم (هاشتاغ)
Abdul-hamid_Fajr_Salloum#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟