سماح هدايا
الحوار المتمدن-العدد: 8036 - 2024 / 7 / 12 - 04:49
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كان للثورات العربيّة التي فاجأت العالم تأثير سلبيّ عندما أشعلت على الشعوب العربيّة حرباً ضارية... والسّبب أنّ سوريا والبلاد العربيّة مازالت تواجه استعماراً ضخماً طامعاً وباطشاً، وعالما ماديّاً لا يرحم....لكنّ الثورات العربية، بكلّ آلامها، هي مخاض اليقظة، وهي الردّ على الانكسار والتّبعيّة والجهل. ومهما اشتدت الحرب؛ فهي طريق التّحرير السّياسي والثّقافي وطريق الكرامة.
الاستعمار في المنطقة العربيّة واسع التأثير والحضور، بهويات كثيرة وأشكال متنوّعة. وقد تضخّمت الهجمة الاستعمارية المتوحشة على البلاد العربية، منذ نهاية التسعينات، مستحدثة مختلف الأدوات من سياسيّة ومعرفيّة، وانماط تفكير وسلوك للتحكّم بالعقل والفعل. الاعتراف المتبصّر الواعي بأنّ المعركة هي معركة تحرير للذات وتحرّر من عدوان الآخر المتمثل في الاستعمار وحليفه الاستبداد، يجعل الأمر واضحا والرؤية ناضجة. الحكومة التّركيّة ليست جمعيّة خيريّة، هي دولة لها أطماعُها وسياساتُها ومخاوف سيادتِها، وعلى الرغم من وقوفها مع جماعات مختلفة من الحراك الوطني التّحرّريّ في البلاد العربية، ومع اللاجئين الهاربين من أنظمة الاستبداد والقهر العربيّة، فإنّ موقفها ليس ثابتا مبدأياً، بل يتبع مصلحتها ونفوذها ورؤيتها السياسيّة، وقد يلتقي مع الإيراني والروسيّ والأوروبي والأمريكي، باتفاق المصالح وتوافقها. لا قانون يمنعها من التّطبيع مع أنظمة الحكم العربيّة الاستبداديّة عندما يحتاج الأمر ذلك ويتعلّق بمصلحتها الداخلية ونفوذها الخارجيّ.
الحرب الحديثة على العرب، عمرها أزيد من مئتي سنة، باستعمار سياسي ومعرفيّ. ولن تتغير نتائج الحرب لمصلحةِ العرب والسوريين، إلا بتغيّر العقل الذي يواجه هذا الاستعمار. فأدوات الحرب المستعملة هي الإضعاف والتجهيل والتفرقة والتقسيم؛ ولأن الثورات الصاعدة زرعت الجرأة والقوة، ووحّدّت، في بدايتها، الأصوات الوطنيّة بمختلف مشاربها، وكسرتْ الإحساس بالضعف والعجز؛ فقد أخافت الدول الاستعماريّة؛ فقامت تبعاً لذلك حرب ضروسٌ لاحتواء الثورات على امتداد الخارطة الكبيرة الثائرة واختراقها من داخلها... وراحت تضرب بضراوة عمق الحركات الوطنية التحرّريّة العربية التي اشتدت منذ 2010-2011، وعملت على محاصرتها وتطويقها واحتوائها وتدجينها، وتوظيف بعض منتهزيها ومنافقيها، منعاً لانتصارها وامتدادها.
يجب ألا تغيب الحقيقة عن الأبصار والأذهان؛ بأنّ القضية قضيّة تحرّر من الاستعمار والاستبداد والتبعية المهينة... ويجب أن يكون الأمر واضحا ودقيقا بأنّ المسؤول عن مصير السوريين هم السوريون، لا الأتراك أو روسيا أو الغرب، أو أيّ نظام سياسي آخر: إسلامي، علماني، ديمقراطيّ؛ لأن الضعيف تفترسه السباع، والقويّ يَصعبُ افتراسه عندما يحسن الدّفاع عن نفسه. فلا شفقة في عالم السياسة، ولا أخوّة مجانيّة، ولا تعاطف مع الضحية إلا بما يفيد القويّ ويحقّق مصالحه.
ماحصل ويحصل للسوريين في داخل تركيا، وعلى الأرض السوريّة وعبر القضية السوريّة سببُه الأساسي السّوريون والعرب قبل أيّ أحد، بنظام الاستبداد الهمجي، وبالأنظمة التابعة الضعيفة، وبالواقع السّوريّ الجغرافيّ المحاصر، وبالعقلية الجاهلة التي تحس بضآلتها في حضور الأقوى وتنكسر أمامه ناكرة حضارتها القوميّة وقيمتها، فهي بسبب ضعفها وجهلها مأخوذة ببريق الثقافات الأخرى. وقد وقع السّوريون ضحية الخداع السياسي والادّعاءات الدينيّة السطحيّة والتعاطف الضّحل، عندما لم يحسنوا استخدام العقل في قراءة الواقع وفهم الظروف والتاريخ وانقادوا مضطرين أو تابعين، إلى أن وقفوا وجهاً لوجه أمام العنصريّة المتأصلة في العقول.
ظهرت العنصريّة الباطنة، وقد تكرّست في الإعلام والثّقافة، بالأنماط الاختزالية الاستعمارية التي تنمّط العربي وحضارته بمرتبة أدنى، وبرؤية استعلائية على ثقافته وتاريخه، كامتداد للفكر الاستعماري الغربي الذيّ أصّل النظرة السيّئة للعرب والإسلام، عبر قرون من التزوير والتشويه؛ لكي يسهّل ويشرعن عمليّة الاستقواء والاستعلاء والاستعمار والاحتلال؛ فحصل التقييد والإذلال والقهر. فما حصل ويحصل وسيحصل في السّياسة التركيّة وفي المجتمع التركيّ ليس فقط عملاً انتخابيّا او حزبيّاً أو مصلحة سياسية، هو، أيضاً، منبثق مما زُرعَ في سياقات الذهنية التركية الشعبيّة، وفي الوعي الدّاخلي التركي عن العرب والثقافة العربية والإسلام، وعن سوريا بعربها وكردها، وبجغرافيتها التي تبدو بلا حدود واضحة، تسهيلا للمطامع السّياسيّة التّركيّة، التي تستغل حالة الجوار وموضوع الصراعات السياسية الحزبيّة والعرقيّة لنفوذها واستقرارها، بخاصّةٍ أنّ بعض الجغرافيا السورية والعراقية تاريخيّاً وسياسيّاً، منذ عقود طويلة، جزء من الخارطة التركية السياسية الحديثة.
لذلك لا غرابة في أن ترتفع الأعلام التّركية فوق التراب السّوريّ، وأن يحضر الجيش التركي على الأرض، ويلحقها بالحاكم التّركي، ويتحكّم بمصير الناس وبالمعابر والمعيشة، وبالفصائل العسكريّة والقوى السياسيّة، ويبتكر العملاء.... ولا غرابة أيضا أن ينتفض السوريون الأحرار في الشمال السّوري ضد هذا الواقع الظالم في شمال سوريا، وضد العنصريّة الواقعة على السوريين في بعض مناطق تركيا... فأمرٌ محقٌّ أن يقوم السوريون برفض الظلم والعنصريّة والعدوان، مادام الانتفاض سلميّاً، وفي مسارات منظّمة وعاقلة ومستقلة عن التدخل الاستعماري. بل يجب أن يستمر هذا الانتفاض، ليس تحريضا على الكراهيّة والانتقام والعنف، لكنْ للتحّرر من الطغيان والاستقواء الغاشم ودفاعاً عن الكرامة.
لا يمكن أن يحصل نهضة وتحرّر بوجود استعمار واستبداد وتبعيّة؛ فهي قوى تخنق عمليّة النمو والنضج والفعل الوطنيّ. وقد آن الأوان، بعد التحكّم الطويل في الأجيال السابقة؛ بأفكارها وهويتها ومصيرها؛ حتى انهارت وعجزت عن بناء شخصيتها المستقلة ، وإدارة حياتها وعملها وسياساتها، للتخلص من هذا الإرث المهين. الواقع السياسي والثقافي، بكل قسوته على السوريين سيغيّر النظرة السوريه باتجاه وعيٍ أكبر للذات، وللعنصرية السياسية والثقافية الموجّهة ضدّها وضدّ هويتها ووجودها. صعود الثورات العربية منذ 2011، قد غيّر عميقا في الوعي العربي، على الرغم من الفوضى وتأثير الاستعمار في الفكر العربي معرفيا وسياسيا..
يجب أنْ تتبلورَ إرادة التغيير بجماعات ناشطة تحتضن البناء الجديد، خصوصاً، أن قوى العالم آخذة في الصراع والتناحر، وتفتح مجالا للاستفادة من التغيير الحاصل في العالم. المجموعات الناشئة، وإن بدأت صغيرة وبلا دعمٍ، فالفكر والقيادة السليمة والتنظيم والأصالة، يجعلها كتلا قويّة فاعلة، تستطيع أن تستلهم مما في الأمة والعالم من تجارب مفيدة وصالحة لتحسين الحاضر والنهضة بالواقع والتحرّر من الواقع المظلم... الصراع سيدفع السوريين لادراك واقعهم والبحث في مصيرهم ... فالانتماء إلى أمة، ليس كلمة سطحيّة، وليس مسألة عرق أو مذهب أو ملّة أوحزب، بل مسألة ارادة ومصير مشترك استنادا إلى اللغة والثقافة المشتركة وبناء المستقبل الكريم... فالتّجربة هي المعلّم الأوّل.
#سماح_هدايا (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟