|
المكان وانسياح الشخصيات في رواية -ما لا نبوح به- ساندرا سراج
رائد الحواري
الحوار المتمدن-العدد: 8032 - 2024 / 7 / 8 - 10:21
المحور:
الادب والفن
يبدو أن هناك مسار (حقيقي) أخذ يترسخ في الرواية العربية يتمثل في الخروج من الجغرافيا العربية إلى جغرافيا أخرى عندما تريد (الساردة) أن تتحدث عن الحب والعلاقة مع الرجل، فكما تحتاج الحرية الفكرية/الرأي/القول/الحديث إلى مكان يتسع لها، تحتاج الرواية إلى مكان يتيح لها حرية الحديث، فكان الغرب/أوروبا مكان تلك الحرية التي تسمح لمثل هذا الحديث. إذن نحن أمام رواية تتحدث عن خروج "إيلين" من مصر إلى بريطانيا لتحدثنا عن علاقاتها مع "آدم" علما أنها (هربت) من مصر بسبب علاقة حب لم تكن ناجحة ولم تكتمل، وكأنها أنها تريد القول: إن المنطقة العربية لا تصبح للحب، أو لا تصلح للحديث عن مثل هذا الحدث، وهذا ما وجدنا في أحداث الرواية عندما عادت "إيلين" مع "آدم" إلى مصر لتعقد قرانها، فكانت المفاجأة بقولها إنها تريد الزواج من "زين" بطريقة (ميلودرامية)، مما يجعل المنطقة العربية تبدو (عقيمة) حتى عندما يتعلق الأمر بالزواج. فرغم أن "إيلين" تحمل من "آدم" في ليليتها الأولى معه، إلا أن ما أصابها من توترات ـ علما بأنها دارسة لعلم النفس، وعملت كمساعد لطبيب نفسي ـ وقولها إنها تريد الزواج من "زين" يشير إلى فكرة العقم التي أرادة الساردة إلصاقها بمصر وبالمنطقة العربية. المكان والجريمة سنحاول ترتيب أحداث الرواية والتوقف عن طبيعة الشخصيات "إيلين، آدم/ زين" وكيف قدمتهما الساردة، سبب ترك "إيلين" لمصر: "أنا من بلد محافظة ومغتربة ولكنني أقمت علاقة مع حبيبي وأصبحت حاملا، أحمل جنينيه في رحمي، ثمرة عشق ممنوع وتخلى عني فانتظرت حتى ولدت أبني ووضعته أمام بيت وتركته ورحلت" ص71، هذه ما قالته للدكتور "فايز" التي تعمل معه، وقد كانت تحدث عن هروبها في بداية الرواية، لكنها لم تتحدث عن حملها بهذا الوضوح وترك وليدها. الاغتسال هذه الجريمة انعكست على نفسية "إيلين" وأفعالها، من هنا تناولت أفعال تحاول بها تخفف/تزيل من أثر خطيئتها تتمثل في الاغتسال: "شعرت بالحرية وقررت أني أستحق حماما لطيفا ساخنا لأتخلص من بقايا الماضي" ص19، الاغتسال هنا لم يأت إلا من خلال العقل الباطن ل"إيلين" التي أرادت محو خطيئتها المزدوجة، فهي أعطت جسدها بصورة غير شرعية، وترك وليدها للمجهول، فكانت فتاة زانية، وأم خائنة وقاتلة، لهذا تم تكرار فعل الاغتسال في موضع آخر: "فقرر أن آخذ حماما صباحيا مريحا عساه ينزلق مع الماء من عقلي، أو يتبخر مع بخار المياه ويترسب على الأرض أو المرحاض" ص22، فهنا الاغتسال متعلق بالفكر، فالاغتسال الأول (طهر) جسدها، والاغتسال الثاني أرادت به تطهر فكرها/نفسيتها/عقلها، وهذا يقودنا إلى إدراك "إيلين" للجريمة المزدوجة التي أقدمت عليها في مصر، مما جعلها تتناول الاغتسال بحالين، حالة تتعلق بالجسد، وحالة تتعلق بالنفسية/بالعقل/بفكرة الخطيئة، من هنا لم تعد تذكر الاغتسال بتاتا في الرواية، مما يؤكد أن الاغتسال هنا جاء ليزيل فكرة الخطيئة من "إيلين" ويحررها مما اقترفته في مصر. البكاء اللافت في الرواية أن الشخصيات الرئيسة فيها "إيلين، آدم" تتحدث عن البكاء في أكثر من عشرين موضعا في الرواية، ولم يقتصر البكاء على "إيلين" فقط، بل طال أيضا "آدم وزين" وبما أن "إيلين" الشخصية المركزية في الرواية وهي من بدأت السرد، فهذا يقودنا إلى أن خطيئتها انعكست/أسقطتها على بقية الشخصيات، مما جعل "آدم" المثقف بالثقافة الغربية يتصرف وكأنه شرقي/مصري عاش في بيئة مضغوطة، مما جعله غزيز البكاء. سنحاول التوقف عند بعض المواضع/المواقف التي جاء فيها البكاء: "بكيت أكثر فلم يسعه سوى أن ضمني لصدره.. شعرت بقلبه، استنشقت رائحته وبكيت أكثر، وهمست وأنا أبكي "آدم أنا أتألم، داخلي يحترق.. أموت" ليقبّل جبيني وكأنه يعتذر مني على ما لا يعرفه" ص52، هذا الموقف ـ البكاء أثناء اللقاء الجسدي ـ يتكرر كثيرا في الرواية، حتى أن غالبية البكاء جاء مقرونا باللقاء الجسدي: "أقترب آدم وضمها له، وظلت تبكي ويحاول تهدئتها" ص66، وهذا ما يجعلنا نقول إن "إيلين" الخاطئة ما زالت تحمل في داخلها خطيئتها التي اقترفته في مصر، من هنا وجدناها تبكي عند ملامسة جسد "آدم" وكأن جسده يذكرها بما اقترفته مع (حبيبها) في مصر، فكان البكاء هو التعبير عن ندمها وما اقترفته من خطيئة. ونلاحظ أن فعل البكاء يلازم حالة الفرح والسعادة والنشوة أيضا: " كان يتأملني بتفاهم واقترب وضم رأسي لصدره وهو يقول: "لا بأس" وتحاول كل ضحكي المريب إلى بكاء، بل نحيب، بكيت كما لم أبك من قبل" ص78، وهذا ما يجعل فكرة (الندم) تبدو حقيقية، وأن "إيلين" فعلا شخصية حقيقية وليست روائية، لهذا وجدناها تبكي كلما ضمها "آدم" بكاء "آدم" لو اقتصر البكاء على "إيلين" لهان الأمر، لكن أن تجعله يتماثل معها في فقدانه لطفله وخيانة زوجته، وجعله يبكي كما تبكي أية فتاة، فبكاء "آدم" ليس بكاء رجل، بل بكاء "إيلين" وله تداعيات على طريقة تقديم الساردة لشخصيات الرواية، فألبست "آدم" أفعال نسائية، وجعلته يحمل خطيئة "إيلين": لا أعلم ولكنني فقط بكيت، كانت تحتضني بطريقة مختلفة هذه المرة، كأنها أمي فعلا، أمي أنا" ص97، نلاحظ أن الساردة "إيلين" تُقمص "آدم" حاجتها لأمها من خلال البكاء ومن خلال تذكره لأمه، فهي من تحتاج أمها وليست "آدم" الذي ربته أمه وكانت حاضرة معه دوما، بينها هي من يفتقد أمه في الغربة وليس "آدم" وكما لازم البكاء "إيلين" وهي في أحضان "آدم" لازم البكاء "آدم" وهو في أحضان "إيلين": "بكى آدم في حضنها كثيرا" ص123، وهذا يحسم في (اختلاط/تداخل) الشخصيات فيما بينها، وعدم قدرة الساردة على تحديد طبيعة الشخصية وسلوكها، مما أفقد الخصوصية والتميز بين الشخصيات. بكاء زين وكما (أخطأت) الساردة في رسم شخصية "آدم" أخطأت في رسم شخصية "زين" فأعطت أفعال ومشاعر "إيلين" مما جعله يبكي كما بكى "آدم": "وقف، اقترب مني.. ركع على ركبته أمامي ومسك يدي ووضع رأسه فوقها وبكى.. ضممته، كنت كالأم التي تضم طفلا وجدته تائها فقط لتهدئه وتشعر تجاهه بأمومة ولكنها ليست أمه, لم أكن أمه، لم اكن حتى حبيبته" ص101، نلاحظ أن "إيلين" تذكر "الأم" وهذا يأخذنا إلى أنها تعاني من فقدان الأم، ما جعلها (تخترع) هذا الموقف مع "زين" لتفرغ ما بها من حنين/حاجة/عاطفة تجاه أمها. وبهذا المشهد نتأكد أن هناك انسياح شخصيات الرواية على بعضها، مما أفقدها التميز، فكانت بمجملها شخصيات متماثلة في المشاعر، وهذا انعكس على لغة الشخصيات. لغة "آدم" ومشاعره كان يفترض أن يكون "آدم" شخصية متميزة، فهو من أب مصري مسلم، وأم بريطانية مسيحية، لكن الساردة (أهملت) العناية به، وجعلت منه نسخة من "إيلين" مما أفقده وأفقد الرواية الإثارة، فنجده يتحدث باللغة دينية إسلامية، وكأنه عاش في بيئة مسلمة: "لطالما قرأت الطيبون للطيبات" ص96، ولم يقتصر الأمر على اللغة بل نجده يفكر/يتحدث وكأنه بنت شرقية، علما بأنه عاش في بريطانيا وتصرف وعمل وتربى كأي إنجليزي: "أشعر وكأني لم أتزوج من قبلن أشعر بتوتر وقلق بنت عذراء تتزوج للمرة الأولى.. ولكني أكثر ما اشعر به هو الخوف من الفشل، أنا لا أستطيع أن أفشل مجددا" ص133، نلاحظ أن هناك عقلية الأنثى الشرقية وليست عقلية الرجل الغربي، فكيف أتت فكرة (العذرية) لرجل غربي مارس الجنس مع العديد من الفتيات، وفي ليلة زفافه!؟ أليس هذا مؤشرا على انسياح الشخصيات على بعضها، وعدم تحديد طبيعة كل شخصية؟ فلو كانت الساردة معنيه في بناء رواية حقيقة لأعطت "آدم" حريته ليتحدث بلغته، بثقافته هو وليس بلغة "إيلين" التي هيمنت على السرد الروائي وعلى الشخصيات أيضا. اللهجة المصرية رغم أن الجزء الأكبر من أحداث الرواية يجري في لندن، إلا أن الساردة جعلت شخصيات الرواية تتحدث باللهجة المصرية، مما جعلها (مصرية) أكثر منها شخصيات مستقلة، فرغم أن "إيلين" تقابل شخصية فلسطينية، إلا أنها تتجاهلها تماما، وتركز الاهتمام على المصرية أو من تعلمت في مصر، وهذا أيضا يحسب على السرد الروائي الذي أخفق في تميز الشخصيات عن بعضها، وأخفق في تحديد لغتها أيضا. الرواية من منشورات دار دون، مصر، القاهرة، الطبعة الأولى 2018.
#رائد_الحواري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفلسطيني والاحتلال في مجموعة -على جسر النهر الحزين- محمد عل
...
-
رواية ذاكرة في الحَجْر تفضح أنظمة الاستبداد كوثر الزين
-
المثقف في رواية -موسم الهجرة إلى الشمال- الطيب صالح
-
الصوفية والحرب في -أجيء إلى ذراعيك- جواد العقاد.
-
الشاعر والوطن في ديوان -لا أكتب الشعر- جمال قاسم
-
تناسق الشكل والمضمون في -ديوان ما ظل مني- عبدالسلام عطاري
-
الهدوء والقسوة في -ولي لغتي- جمال قاسم
-
العدوان واللغة في قصيدة -نهار متوحش- جواد العقاد
-
عناصر الفرح/التخفيف في أنا لا أكتب لأحد جروان المعاني
-
الهزيمة والنصر في قصيدة -أمطار حزيرانية- علي البتيري
-
رواية الحكاية في رواية -تزوجت شيطانا- كفاح عواد
-
القصيدة الساخنة -رسائل لم تصل- سميح محسن
-
انحياز المرأة للمرأة في -نساء في غزة- هند زيتوني
-
الواقع الفلسطيني في قصيدة -سجل- هنادي خموس في ذكرة الخام
-
درب الآلام الفلسطيني في قصيدة -وكبر الرحيل- منير إبراهيم
-
الطرح الكامل في قصيدة -جذور- سامي البيجالي
-
المسموح والممنوع في -شرط- مأمون حسن
-
ثنائية الإبداع في قصيدة -خلف الباب- سمير التميمي
-
الازدواجية في كتاب متلازمة ديسمبر للكاتب فراس حج محمد
-
الغرب والمنطقة العربية في كتاب -انتفاضة رشيد عالي الكيلاني و
...
المزيد.....
-
حرب الروايات.. هل خسرت إسرائيل رهانها ضد الصحفي الفلسطيني؟
-
النسور تنتظر ساعة الصفر: دعوة للثوار السنوسيين في معركة الجب
...
-
المسرح في موريتانيا.. إرهاصات بنكهة سياسية وبحث متواصل عن ال
...
-
هكذا تعامل الفنان المصري حكيم مع -شائعة- القبض عليه في الإما
...
-
-لا أشكل تهديدًا-.. شاهد الحوار بين مذيعة CNN والروبوت الفنا
...
-
مسلسل حب بلا حدود الحلقة 40 مترجمة بجودة عالية HDقصة عشق
-
“دلعي أطفالك طوال اليوم” اضبط الآن تردد قناة تنه ورنه 2024 ع
...
-
-لوحة ترسم فرحة-.. فنانون أردنيون وعرب يقفون مع غزة برسوماته
...
-
ويكيبيديا تحسم موقفها وتصف حرب إسرائيل على غزة بأنها -إبادة
...
-
في المؤتمر الثالث للملكية الفكرية بالمغرب.. قلق بين شركات ال
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|