|
مقاربة ما بين نزار بنات وفانون
محمد بنات
الحوار المتمدن-العدد: 8029 - 2024 / 7 / 5 - 08:08
المحور:
القضية الفلسطينية
هذه الورقة ستقوم بربط العلاقة بين فلسفة فرانز فانون وطرح موقف نزار بنات من السلطة والمقاومة، وستركز على الاستدوال والعمل للاحتلال بالوكالة، وستناقش تصوير نزار وفانون للقوة الإمبريالية الذي يتردد صداه في كل عمليات الإلغاء والقتل على أيدي المستعْمِر ووكلائه، بغض النظر عن لون البشرة. وستنتقل هذه الورقة لربط وجه الشبه بين فكر فانون ونزار حول مفهوم المقاومة ودحر المستعمر. وللتوضيح أكثر يرى كل من فانون ونزار أن المقاومة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها المحتل، ومن خلال المقاومة وحدها تتحرر الشعوب. لقد زودنا فانون بأسلوب جديد لمقاومة الاستعمار، حيث أوصى بالمقاومة لأسباب تتجاوز ضرورة الدفاع عن النفس، أو إزالة نظام اجتماعي فاسد. باختصار أراد فانون أن يقول لنا بأن الاستعمار ينتهي بالتحرير الكامل، وليس بالاستبدال أو الاستدوال، وهنا يلتقي نزار مع فانون في الطرح حول مقاومة الاحتلال حتى التحرير.نزار يقول إن الأنظمة الفاسدة لا تفهم لغة التحرير، فالعلاقة بين الوطن والتحرير تقربها المقاومة، وهذه المقاومة تعيد للإنسان كرامته، وفي حالات المقاومة وحدها يشعر الإنسان بإنسانيته، ومن المعقول الجزم بأن فهم نزار للمقاومة وفانون كان قريبا إلى درجة الانصهار، وللشرح أكثر فإن فانون (1959) يرى أن الثورة أسلوب حياة الإنسان، وهذا العصر هو عصر الثورة على القيد. حيث يضيف بأن المقاومة المسلحة تكسر المألوف، وتصنع المستقبل والتحرير. وبطبيعة الحال فإن كليهما اعتمد المقاومة كوسيلة للتحرير؛ لأن التحرير لا يأتي دون مقاومة، بل يحتاج إلى تضحيات عظام، ولا يأتي كهدية من المحتل أبدا.ركز نزار على ثقافة استدخال الهزيمة لدى سلطة الاستدوال للحد من مفاهيم المقاومة؛ لضمان بقاء المحتل والتابع. ولذا فإن ثقافة استدخال الهزيمة مهدت الطريق إلى مجموعة كان هدفها بناء مصالح شخصية، ورأت بأن مقاومة الاحتلال عملية بائسة، ولهذا يجب الاعتراف بالاحتلال كسلطة واقع، وكشريك في الحياة. لم يعترف نزار أبدا بهذه الثقافة، وعمل على تعزيز ثقافة المقاومة، المقاومة المشتبكة مع المحتل وبلا مواربة، كان يقول "المحتل ليس شريكا، المحتل غاصب، احتل فلسطين بالقتل والسلب، وإجلاؤه عن فلسطين لا يأتي بلقاءات عبثية، بل يأتي بالمقاومة المشتبكة". هنا يلتقي نزار مع فانون مرة أخرى، إذ يقول فانون إن العنف يأتي من الأعلى، ولا يزول أو ينتهي إلا بالمقاومة، والمقاومة تخوضها الجماهير من الأسفل (1959). خطاب الجماهير والحث على المقاومة كان الشاغل الوحيد لدى نزار. كان نزار بعد حرب وحدة الساحات يشدد على ضرورة الاشتباك المسلح، وهاجم صمت السلطة، وكان يخشى حقا بأن السلطة الفلسطينية ستقوم بإجهاض أي عملية اشتباك مع المحتل؛ لإيمانها المطلق بالتحرير عبر المفاوضات، ناهيك عن موقف نزار من المفاوضات، ومطالب السلطة في دولة حسب حدود العام 1967 دون الالتفات إلى حجم معاناة ملايين اللاجئين الذين انتظروا وما زالوا ينتظرون العودة إلى فلسطين التاريخية.يقول فانون إن السلطة الحاكمة أو قيادة الثورات أحيانا تختار محادثات السلام كوسيلة للتحرير، وهذه الوسيلة تضمن للمحتل البقاء، ولكن بفناء المواطن الأصلي. ولهذا نجد أن الأنظمة القمعية الطاغية مجبولة على ممارسة الاستبداد والقمع والتشويه، وتكريس سياسة التخويف، وشيطنة كلّ من يُعارضها، لا بل ودأبت على التحكم في رقاب النّاس من منطلق أنّهم هم وحدهم من يمتلك الحقيقة المطلقة، والهيمنة والنفوذ الذي تطبقه على العوام مجموعة من أدوات الأنظمة الفاسدة التي تقوم بشراء ذمم الناس، من منطلق المصالح الضيقة التي يتبادلها أولئك المنتفعون من قاعدة الهرم إلى أعلاه. ولمّا كانت أنظمة القهر والاستبداد تعمل جاهدة على قهر الشعوب المغلوب على أمرها، والتحكم في مصيرها، وعلى الرّغم من حالة الشعور بالارتياح اللحظي التي يتمتع بها المستبدّون في مجتمعات يسودها الجهل والتّبعيّة، غير أنهم يظلون يعيشون في حالة من الخوف والقلق والترقب والهواجس الدائمة من الفئة المثقفة التي تمتلك فكرا مستنيرا يختلف تماما عن فكرهم القمعي التسلطي، وكأنهما خطان متوازيان لا يلتقيان أبدا، على اعتبار اختلاف الأفكار والمبادئ من ناحية، والخضوع والإذعان، أو الرّفض والمواجهة من ناحية أخرى، فشتان بين من يقول لا وبين من يقول نعم.وما من شكّ في أن تلك الأنظمة الفاسدة لا يمكنها قبول المُختلِف عنها في الفكر والتّوجّه؛ لذا تعمد إلى سياسة القمع والإقصاء والتشويه، لا لشيء وإنّما من منطلق قلقها الدّائم من ذلك الفكر والوعي الذي تحاول المعارضة لفت أنظار الشارع المغلوب على أمره إليه بكل الطرق والوسائل، ولم يعد الأمر خافيا على أحد في القرن الحادي والعشرين، حيث أصبحت وسائل التّواصل الاجتماعي منابر ذات أهمية بالغة في تسويق الفكر، وتقديم طروحات ووجهات نظر مختلفة رفضا أو قبولا، لا بل أصبحت حلبة سجال تتجاذب أقطاب الفكر والسّياسة في مختلف الأحزاب، فأصبح لكل فريق أنصاره ومؤيدوه، ولا ريب في أن هذه الحالة من التّنافس لم تكن يوما شريفة أو موضوعية، فما أسهل أن يشن الخصوم حربا شعواء على الأقلام الحرة التي تعمل على بث الفكر والوعي للتخلّص من التبعية والانقياد لأولئك المنتفعين، على نحو ما حصل مع المفكر والمعارض السياسي نزار، الذي عبر وبكل وضوح وصراحة عن مواقفه من قضايا عديدة، وقد لاقت منشوراته وحواراته أصداء كبيرة على الساحة الفلسطينية، إذ إن فكره يلتقي تماما مع أولئك المغلوب على أمرهم، غير أنهم لم يكونوا قادرين على التعبير عن همهم المشترك، وكأنه يتكلم بلسان حالهم، في محاولة منه لدفعهم إلى التمرد على الطغيان ورفض الظلم أيا كان، ومحاربة الفساد والفاسدين، من منطلق عميق الانتماء للوطن والدفاع عن مصالحه، والرغبة في الحفاظ على مقدراته، بعيدا عن الانجرار وراء المنبطحين والمطبلين، وأبواقهم من المنتفعين الصغار الذين جردوا ألسنتهم لتشويه صورته والنيل منه، ولكن هيهات هيهات، فصاحب الفكر لا يمكن تعريته أو تهميشه أو تغييبه، وهذا ما دفعهم إلى محاربته بشتى السبل، وكان آخرها اغتياله وإسكاته إلى الأبد، ومع ذلك فما زل فكره حاضرا وبقوة، لا بل زاده ذلك شهرة، فأقبل كثيرون على سماع آرائه وطروحاته بغية دراستها دراسة معمقة، للكشف عن مدى تأثيره على الشارع الفلسطيني، وبخاصة لدى الفئة المثقفة التي رأت في طروحاته فكرا مستنيرا. وفي ظل غياب ثقافة الحوار، والرفض المطلق للآخر، والعمل المستمر على شيطنة الآخر بكل السبل، أخذت تطفو على السطح سلسلة من المصطلحات التي يروج لها الفريق المهيمن بقوة البطش والسلاح، على أيدي مجموعة من أدوات الجهل، وأولئك العبيد الذين صموا آذانهم وغطوا أعينهم عن واقع الحال، من أجل إقصاء الآخر وتحطيمه وإنهاء حياته، عبر سلسلة من الإجراءات القمعية التي تطبق على مراحل عديدة ابتداء من تكميم الأفواه، والترهيب والترويع، والسحل والتعذيب، وانتهاء بسلب الحياة. والشواهد الواقعية التي تبرهن حقيقة هذا الطرح كثيرة، فكم من إنسان قضى دفاعا عن الكلمة، وقدم روحه متمسكا بمبدأ، ومدافعا عن قضية، في سبيل بث توعية المجتمع لضرورة الخلاص من أنظمة الاستعباد التي تمارس أبشع أنواع الاضطهاد والإقصاء تجاه من يعارضها في السياسة، أو يخالفها في الرأي. وفي الذكرى السنوية لاغتيال صوت الحق والحقيقة نزار بنات، ذلك الصوت الحر الذي غيبته نفوس حاقدة عن ساحة العمل الوطني الفلسطيني، لما عرف عنه من مواقفه الثابتة، وتمسكه بالمبادئ التي آمن بها، وعمله الدائم على ترويجها رغبة في الخلاص من ألوان القمع والفساد. ولمّا كان الخصم والحكم واحدا، فقد بات من المسلم به ضياع الحقوق، ونسيان القضية بتقادم الزمن، وبخاصة عقب إطلاق سراح القتلة الذين مارسوا أبشع أنواع جرائم الإنسانية بحقه، لا لشيء إلا لأن كلامه كان يوجعهم كثيرا، ففرغوا فيه حقدهم الدفين، واغتالوه بطريقة بشعة ستسجل في سفر تاريخهم الحافل بأحداث كثيرة، والشواهد كثيرة على أحرار مثل نزار بحيث لا يمكن نسيانها أو تغييبها مدى الزمن، فهو ورفاقه من الخالدين في صفحات التاريخ الذي يكتبه الأحرار بمداد دمائهم. ومعلوم لدى الجميع أن صوت الحق وصاحب الفكر لا يمكن أن يموت أبدا، وإن غيب جسدا، فما زال حيا روحا وفكرا مستنيرا، نستلهم أقواله الخالدة التي أثبت من خلالها حجم الفساد، داعيا إلى رفض سياسة تكميم الأفواه، معلنا مواقفه الواضح والصريح، وبجرأة لا يملكها إلا حر ثائر، وسيظل صدى كلماته يتردد في كل موقف يتساوق مع كل حادثة تقع كما هو الحال في الحرب الهمجية على غزة هذه الأيام. نعم كان نزار فكرة والفكرة لا تموت أبدا، فطوبى له بين الخالدين الذين ضحوا لمبدأ، وناضلوا من أجل أن يحيا الآخرون، وأطلقوا صرخاتهم عاليا أملا في أن يتحرك المجتمع، أو تهتز مشاعره، ولكن هيهات هيهات لمن جبلت نفوسهم على الذل والهوان، والانبطاح والخضوع والاستسلام، أولئك الذين انجروا وراء الماديات، وتعلقوا بحبال من الوهم، وتحولوا إلى مجرد خدم وعبيد لدى أسيادهم.في هذه الأيام تمر الذكرى السنوية الثالثة لاغتيال نزار، صاحب الكلمة الحرة، نستذكر مواقف جريئة، وطروحات عميقة، وانتقادات لاذعة، تناول خلالها جملة من القضايا التي سلط عليها الضوء، في إطار توجيهي توعوي تعبوي حينا، وفي إطار انتقادي ساخر من مواقف بعينها حينا آخر، إذ إنها تنم عن استخفاف بالعقول، كونها تخدم المحتل أولا، وتعبر عن انحطاط فكر أدوات الاحتلال الذين كان يصفهم على الدوام "بالوكلاء"، أولئك الذين فرطوا بالمبادئ، وقدموا تنازلات أفضت إلى حصر النضال الوطني الفلسطيني في أيدي نفر من المنتفعين الذين غلبوا مصالحهم الشخصية على المصلحة الوطنية، لا بل تحولوا إلى مجموعة من العبيد تخدم المحتل ليلا نهارا في سبيل نيل رضاه، وانطلقوا يحاربون كل فعل مقاوم تحت مسميات اخترعوها بأنفسهم، وأوهموا أنفسهم بها كالتنسيق الأمني، والاتفاقيات الاقتصادية المحصورة في فئة ضيقة من المنتفعين الذين نالوا رضا أسيادهم ومشغليهم، وفي إطار التنازلات أصبح أكبر الهموم فتح بوابة أغلقها المحتل، وتحولت الضفة الغربية بأسرها إلى مجموعة من البوابات يمكن إغلاقها بقفل نحاسي لا يتجاوز ثمنه عشرة شواقل، فأي تنازلات مهينة هذه، وأيّ وهم يعيشون فيه. هذه القضايا وغيرها كانت هاجسا يسيطر على فكر نزار، محاولا إيقاظ الضمائر، وتحريك الهمم؛ لنحافظ على ما تبقى لدينا من كرامة مضاعة، وقد أجاد فعلا في تشخيص الحالة الراهنة، لا بل قرأ الواقع المؤلم، وتنبأ بالمستقبل، ووقائع وأحداث ما زلنا نشاهدها عيانا بعد رحيله، وكأنه حاضر بيننا واقفا على أدق تفاصيل المرحلة، التي شخّص واقعها برؤى ثاقبة، والذي يسمع الفيديوهات المتنوعة التي كان يرفعها على الشبكة العنكبوتية يلحظ مدى العمق في الطرح، لعديد الأفكار التي آمن بها، وعمل جادا على التسويق لها في محاولة لإنارة الفكر وبث الوعي، لما يدور حولنا من أحداث على الصعيد السياسي، وأخرى تناقش همّ المواطن المغلوب على أمره، والذي تحول همه إلى الحصول على لقمة العيش، وتم تدجين غالبيتهم وفق مخططات مرسومة مسبقا بهدف صرفهم عن كل عمل مقاوم. وفي هذا الصدد يمكن القول إن العلاقة بين المستعَمْر والمستَعْمِر منذ اتفاقية أوسلو قد تحولت إلى حالة من الارتباك والتخبط في صفوف بعض الأحزاب السياسية الفلسطينية الموالية للسلطة. وليس من الخطأ الحسم -هنا- بأن هذا التخبط له علاقة متصلة مع مصالح الاحتلال، وقد شرح لنا نزار هذا التناقض ببساطة موضحا أن الذات المستعْمَرَة لا تتعارض أبدا وبشكل كامل مع المستعْمِر لما تربطه به من مصالح مشتركة، وبطبيعة الحال فإن هذا التناقض يشير الى وجود علاقة متقلبة في المفاهيم " المقاومة "، أو " التواطؤ "؛ مما ينعكس سلبا على المقاومة. ومما لاشك فيه فإن هذه الازدواجية في المفاهيم وخلق فريقين في الثقافة الفلسطينية محبذة لدى المستعْمِر، ذلك الذي يتغذى على تشرذم الحالة الفلسطينية، وموقف السلطة الحاكمة من المقاومة. في المقابل يقول نزار إن قرار المقاومة أو عدمه ينبع من قوة واستقرار المجموعة التي تتقرب من المستعْمِر، وللتوضيح أكثر أشار نزار أن هناك مجموعات قاومت الاحتلال، وفي المقابل هناك مجموعات ضعيفة تعاونت مع المحتل للحفاظ على مصالحها، في حين كان هدف الاحتلال الأسمى تكريس التبعية المطلقة وفقدان الاستقلالية؛ إلا أن المجموعة الضعيفة أو المتواطئة طالبت بحكم ذاتي كوسيلة أفضل للبقاء في الحكم. وهذا التواطؤ لا يختلف كمفهوم مع مفهوم الاستدوال حسب عادل سمارة، وفي كلتا الحالتين الحكم يكون عبر المستعْمِر، وبإشراف منه لتعزيز ثقافة التبعية. هنا يركز المستدول على القضاء على المجموعات الفاعلة أو إلغائها كشرط للبقاء في الحكم، حيث تتجسد علاقة إرادية مشتركة رغم الانفصال الفوقي بين المستعْمِر والمستَعْمَر قائمة على التبعية، بحيث ينصهر التابع في علاقة مكملة للمشروع الكولونيالي القائم بالأساس على فرض الاختلاف الثقافي والمكاني. وهذا ما أشار إليه إدوارد سعيد (1979) الذي بين أن الثقافة الاستعمارية لم تنته مع نهاية حقبة الاستعمار، وإنما تستمر، وخصوصا فيما يتعلق بالخطاب الثقافي، الذي يعمل على إقصاء أولئك المهمشين، لصالح النخبة خاصة في الحالات التي تكتسب تلك النخبة قوتها أو سلطتها المعرفية من علاقتها اللغوية والثقافية مع الاستعمار نفسه أو آثاره، مثل اللغة ونظام التعليم. ويؤكد سعيد أن الافتراضات غير المعلنة التي قامت عليها ثقافة الاستعمار والتبعية، استمرت بعد أن حصلت بعض الأمم على استقلالها. هذا الفهم يقودنا إلى أن الفلسطيني قد تم تصويره وفقا لمفاهيم ما بعد الاستعمار، أي التابع وإن كان لديه بعض السلطة في مناطق محدودة. وهذا الافتراض بدوره يؤكد أن السلطة الفلسطينية قائمة على أساس التبعية، أو بالأحرى على أساس تقاسم استعماري بالوكالة إن صح التعبير. وفي هذه الجزئية تحديدا أوضح لنا نزار أن المستعْمِر أبقى الحكم بيده، وأشرك السلطة الفلسطينية في التنفيذ وتحمل الأعباء فقط، واحتفظ المحتل بكل ما له علاقة بالسيادة والسيطرة، وأسندت مهمة الحفاظ على أمن المستوطنين إلى الأمن الفلسطيني عبر بوابات التنسيق الأمني. وبناء على الشروط القائمة على التبعية بين المستَعْمِر والمستَعْمَر عمدت السلطة الفلسطينية إلى مواجهة كل معارض للاتفاقية المبرمة بين الطرفين؛ وهذا يعزز جوهر الاتفاق القائم على أساس أمن المستَعْمِر بشكل خاص. وشرح لنا نزار أن أجهزة الأمن الفلسطينية بشكلها الحالي تخدم النخبة الفلسطينية المتنفذة في القرار الفلسطيني، أي بغطاء فلسطيني وباطن استعماري. نجزم هنا بأن الكل الفلسطيني يخضع لحالة دائمة من المراقبة، وهذا التنسيق يساهم في تغيير النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي في الشارع الفلسطيني. وقد تزامن وجود التنسيق الأمني مع خلفية تخفي حقيقة محاربة المختلف أو المعارض أو المقاوم الفلسطيني. فعملية التنسيق الأمني تحمل هذه الخلفية، ولا يمكن عزلها عن المرجعيات الثقافية والفكرية الممتدة في بنائها الأولي في مفاهيم التبعية وحماية الاستعمار. أي أن العقلية الاستعمارية المؤسسة تعمل جاهدة على هدم النسيج الاجتماعي بأيدي فلسطينية. أراد نزار هنا أن يقول لنا إن الظاهرة الاستعمارية ليست تدخلات ميدانية عسكرية بحتة، بل تتعدى ذلك إلى محاولة تفريغ الثقافة العربية، وهزيمة المشروع المقاوم لصالح الاحتلال، ومن ثم السيطرة الكاملة على القاعدة الجماهيرية الفلسطينية. وهنا نعتقد بأن قمع السلطة ما هو إلا محاولة لتفريغ الفلسطيني من حقوقه الروحية، وإيمانه بمشروعه الوطني، وخلق حالة جديدة تخدم الاحتلال بغطاء شرعي، وحتما فإن هذه الآلة تقوم على تفكيك الفهم الفلسطيني المقاوم، واستبداله بمفهوم التعاون مع المحتل من أجل البقاء، أي تطبيع الاستعمار وسلوكه. وقد يعتقد البعض أن الهيمنة الاستعمارية تفرض نفوذها على المنطقة، وهنا يلتزم التابع بمفهوم عمالة الوكلاء كي يحافظ على البقاء. وفي ظل المقاومة واشتباك المقاومين مع الاحتلال تبقى الأجهزة الأمنية أو السلطة بشكل عام تعمل كأبناء مدللين لدولة الاحتلال، ينهبون الموارد الوطنية، ويشاركون الاحتلال في السيطرة عليها، وعلى الكل الفلسطيني إبقاء السلطة أو الطبقة الحاكمة، وهكذا يظل المستفيدون من الاحتلال على علاقة متواصلة معه، وفي كثير من الأحيان تأخذ دور المستعمر، وتقوم بتطبيق صورة مماثلة للممارسات المحتل، أي أنها تدخل في مرحلة الاستدوال الدائمة لتحل محله كحاكم، وليس كمحرر. كان نزار واعيا جدا لهذه القضية -قضية التنسيق الأمني- والعمل على تقديم خدمات مجانية للمحتل، وتبادل الأدوار في عملية قمع المقاومة ومحاربتها بكل السبل، وهذا ما ركز عليه في كثير من الفيديوهات التي اعتاد أن يقدم لنا عبرها طروحات لأفكاره ورؤيته الخاصة لكثير من القضايا التي كانت تحظى باهتمامه على الدوام، وبالعودة إلى أحد فيديوهاته نجده يركز على الدورات التدريبية التي كان يخضع لها عدد كبير من عناصر الأجهزة الأمنية للسلطة في الخارج، مشيرا إلى أن هذه العناصر قد تم بالفعل غسيل أدمغتها، بحيث نسيت تماما أبناء شعبها المقهورين، وأمعنت في التضييق عليهم وملاحقتهم وخنقهم، وفي هذا الصدد يقول: "في الدورات التدريبية كانت تُنْصَب مدن وهمية لتعليم الاقتحامات، وكانت الدمية التي يجب أن يطلق عليها النار تلبس كوفية أو منظر فدائي، وكان ذلك الجندي يدرب على أن يطلق النار عليها، ويقتل هذه الدمى، وبهذا ينكسر أول حاجز كرامة للجندي الفلسطيني، الذي ينبغي عليه حماية أبناء شعبه، ولأنه قبل أن يطلق النار على الدمية، وقبل أن يكون محايدا بيننا وبين الجيش الإسرائيلي، ثم قبل على نفسه أن يكون سدا للجيش الإسرائيلي، ثم قبل على نفسه أن يغير البنشر للجيش الإشراسئيلي، ومثل ما قلت من يغير البنشر، غدا يعمر سلاحه، وراجعوني وواجهوني، إذا هذا الكلام ما تم ولقي من يبرره". وفي الحقيقة هذا الكلام واقعي جدا، والأفعال التي تقوم بها العناصر الأمنية ترجمة عملية له، ففي الآونة الأخيرة تمت تصفية العديد من الأحرار وقتلهم، بحجة خروجهم على النظام والقانون، وزج بالكثيرين في سجون السلطة من أبناء المعارضة، وتم قمعهم والتضييق عليهم، ومصادرة حرياتهم. لا يختلف فكر نزار عما جاء به فانون الذي يرى بأن العرق يشكل الطريقة التي يتعامل بها المستعمِر مع المستعمَر، فكيف يرى البعض استيعاب أفكار الاختلاف، والسيطرة على الآخر أو السكان الأصليين، وكأنهم أدنى مرتبة أي يريد أن يقول إن المستعمِر جعل المستعمَر يؤمن بالتطور والتبعية والقبول بالاستعمار أو العمل كوكيل ناشط للمستعمر من خلال ممارسة أفكاره، والقيام بأعمال المستعمر بالوكالة. هنا تحديدا نرى سلوك السلطة الفلسطينية في مجال التنسيق الأمني الوكيل التابع للمستعْمِر الذي يمارس ثقافة الاحتلال في القمع والقتل والسلب. يقول فانون هذا الاستيعاب جعل من السهل على المستعمرين تبرير حكمهم والحفاظ عليه، وهنا يبدأ ظهور الخلافات والتفتيت؛ لأن التأطير لبقاء الاحتلال مستمر، والمقاوم يصنف كالآخر، ووكيل الاحتلال يرى هذا المقاوم بنفس المنظار الذي يراه فيه المحتل. وهذا أكثر شيء كان يطرحه نزار، والذي أكد فيه دائما على أن الوظيفة الحقيقية للسلطة الفلسطينية للحفاظ على أمن الاحتلال كما هو محدد في اتفاقية أوسلو، وهذا الضعف أشار إليه فانون (1952) حيث يكون الضعيف وكيلا للاحتلال بلا سلطة، وبهذا تصبح سلطة الاحتلال ممثلة بسلطة وظيفية وبلا تكلفة، وكلتا السلطتين تتبعان مبدأ التبادلية الحصرية إلى المعلومات، وأمن مقابل بقاء، واستمرارية في الحكم. إن فانون يبين لنا أن السلطة الحاكمة تسرق ثورة الشعب، وتتسلم مقاليد الحكم لتحل محل المستعمر، وتنوب عنه في استغلال الشعب، وهنا أراد فانون توضيح الفرق بين الاستقلال الحقيقي والاستقلال المزيف. وحقا فإن السيادة سوغت للبعض تقديم قرابين بشكل دائم للسيد، وشاركت هذا السيد بشكل سري أو علني. وباختصار كانت ترى نفسها خارج هذا الجنون التي سيقمع بإسالة الدماء حسب فانون (2015). هذا الواقع الاستعماري الجديد واستبدال المستَعْمِر بالمستَعْمَر لتغيير أحوال الأمة تحت مسميات وطنية، يبين لنا الضيق في النظرة إلى التحرير، واقتصارها على امتيازات فردية لبعض من أبناء الطبقة الحاكمة. بيّن نزار بنات عدم تساوي السيادة بين المحتل والوكيل في الحالة الفلسطينية شارحا بأن عملية أوسلو احتضنتها طبقات متنفذة، حصلت على امتيازات سياسية ومالية لتعطي صفة شرعية للاحتلال، مقابل العمل كالوكالة لبقاء الاحتلال واستمرار الاستيطان. وركز فانون (1952) على أن المستعمَر يحاول جاهدا تبني عادات المستعمِر الثقافية، وقيمه بشكل عام، ويعتمد يقين الهيمنة الاستعمارية على أبناء جلدته، وإن اختلفت بعض التفاصيل خلال الممارسة، وفي واقع الحال فإن الهيمنة تمتد إلى حالة سيطرة مستمرة على سلوك المستعمَر من خلال إعادة إنتاج الذات المستعمرة على أنها متماثلة تقريبا ولكن ليس تماما. لقد حدد فانون تورط كل المستعمِر والمستعمَر في أهوال الإمبريالية من خلال استدخال الهزيمة (سمارة 2000)، ومن خلال السيطرة على عقول وأفئدة المستعمر للحصول على اعتراف المظلوم بأن الظالم سيد، ويجب العمل على رضاه، والمحافظة على كيانه مهما كانت الأسباب والظروف. وهكذا تصبح السلطة وسيطا بين المستعْمِر والمستعْمَر، وتطرح طرقا بديلة للمقاومة وتجهض الكفاح لتحقيق مصالح المستعْمِر والطبقة الحاكمة حسب فانون. وفي الحقيقة جاء نزار ليقول لنا بأن العديد من الفلسطينيين كانوا يشعرون بالقلق؛ لأن السلطة تتعامل مع المحتل ليس فقط لسحق الكفاح المسلح، بل كل أشكال المقاومة والمعارضة، ومن المعتاد جدا أن تسمع الفلسطينيون يتذمرون من الحالة التي وصلوا إليها، فهم يشعرون بأنهم يعيشون تحت احتلالين، وكأن السلطة عبارة عن مقاول فرعي للاحتلال، أو أنهم جزء من نفس النظام مع بقاء إسرائيل كقوة مهيمنة محافظة على مصالحها. وفي فيديو آخر يشخص نزر واقع منظومة السلطة الحاكمة قائلا: "فرغوا كل شيء من مضمونه، ومن معناه الحقيقي، وعهروه، عهروا مفهوم الاستشهاد الذي هو أرقى وأسمى مفهوم عرفته البشرية، وعهروا مفهوم المقاومة، وعهروا مفهوم الاشتباك، والتنسيق الأمني يعني التخابر، ولا يمكن إيقافه إلا بحل الأجهزة الأمنية، وغير هذا كله كذب، أنا وأنت وكل أهل البلد يعرف ذلك، بدليل أن نتنياهو طلب من ترامب ميزانية تشغيلية خاصة استثنائية بقيمة 12 مليون دولار، والتنسيق هو أساس وجودهم، من كان ينسق سيستمر في التنسيق لأن التنسيق هو الوظيفة الرئيسية المرادة للسلطة".هذا الموقف يبين فعلا كيفية شيطنة الآخر من ناحية، وقلب المفاهيم من ناحية أخرى، وإيجاد المبررات التي لا يمكن قبولها أو التفكير فيها بالمطلق، كون الشعب واقعا تحت الاحتلال، وهذا بدوره يعكس حالة من الشعور بالاستياء لدى أبناء الشعب، على اعتبار أن الأجهزة الأمنية تقوم بنفس الدور الذي يقوم به المحتل. وفي مداخلة أخرى لنزار يقول: "أعتقد أنه إما أن نذهب إلى مزيد من الحرية الشعبية وتشكيل حالة وطنية جديدة، وهذا ما يجب أن نحفر له الأرض حفرا، أو أن تزداد شراسة القمع السلطوي على الناس". فهذه المطالبة تعبر في حقيقتها عن الاحتقان لدى الشعب المقهور، الذي أخذ يطالب بمزيد من الحرية، عبر الدعوة إلى ضرورة التوافق الوطني على كثير من القضايا التي باتت غير مقبولة لدى الشريحة العظمى من المجتمع، باستثناء أولئك الذين تقودهم المصالح الشخصية من المتنفذين، وهذا ما حصل بالفعل إذ ازدادت شراسة القمع السلطوي على الناس على حد تعبير نزار. الخاتمة: إن الاستعمار والامبريالية عملية طويلة من الهيمنة على العالم، ولا تزال هذه الهيمنة مستمرة على الساحة الفلسطينية، ولهذه الهيمنة خاصية مرتبطة مع ثقافة المستعمر الذي يرى أن الآخر مجرد تابع له ولو احتملت عملية التحرير، ففي الحالة الفلسطينية لم يتكمل التحرر بعد، والتمدد الاستيطاني مستمر، وهناك في الحقيقة ذر للرماد في العيون، حيث حاول المحتل إقناع الفلسطينيين بأن التحرر يأتي من خلال التبعية والهيمنة، أو استبدال الاحتلال بسلطة بالوكالة، بحيث تهيمن حكومة الاحتلال على الشعب من خلال مصالحها، وبهذه السيطرة والهيمنة تبدو سلطة الاحتلال الجهة المخولة في حركة الناس وتتحكم في طريقة عيشهم، وبهذا تكون قد عملت على استمرارية الاحتلال وديمومته.
#محمد_بنات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في رواية -رحلة إلى ذات امرأة- للكاتبة المقدسيّة صباح ب
...
المزيد.....
-
الثلوج الأولى تبهج حيوانات حديقة بروكفيلد في شيكاغو
-
بعد ثمانية قرون من السكون.. بركان ريكيانيس يعيد إشعال أيسلند
...
-
لبنان.. تحذير إسرائيلي عاجل لسكان الحدث وشويفات العمروسية
-
قتلى وجرحى في استهداف مسيّرة إسرائيلية مجموعة صيادين في جنوب
...
-
3 أسماء جديدة تنضم لفريق دونالد ترامب
-
إيطاليا.. اتهام صحفي بالتجسس لصالح روسيا بعد كشفه حقيقة وأسب
...
-
مراسلتنا: غارات جديدة على الضاحية الجنوبية
-
كوب 29: تمديد المفاوضات بعد خلافات بشأن المساعدات المالية لل
...
-
تركيا: نتابع عمليات نقل جماعي للأكراد إلى كركوك
-
السوريون في تركيا قلقون من نية أردوغان التقارب مع الأسد
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|