|
سياحات : دمشق بأقلام الرحّالة 2 / 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1766 - 2006 / 12 / 16 - 10:56
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
ثانياً ـ جوّالو القرون اللاحقة
" الشام شامة ُ وجنة ُ الدنيا / إنسانُ مقلتها الغضيضة جُلّقُ من آسها لكَ جنة لا تنقضي / ومن الشقيق جهنم لا تحرقُ " بهذين البيتيْن ، للشاعر عرقلة الدمشقي ، يفتتحُ الرحّالة إبن بطوطة وصفه للشام ، البديع والمؤثر . رحالتنا هذا ، المغربيّ ، يُعتبر مع ماركو بولو ، الطليانيّ ، من أعظم جوّالي القرن الرابع عشر للميلاد . إنه من مواليد " طنجة " ؛ المدينة العريقة ، الواقعة في أقصى نقطة من البحر المتوسط ، والتي منها إنطلق في أسفاره المشرقية ، حتى وصل إلى الصين وسومطرة . كانت سلطة المماليك أيامذاك ، في الجناب القصيّ لمجدها ، متيحة بالتالي للعالم الإسلاميّ الرفعة والمهابة والمنعة . هاهوَ إبن بطوطة إذاً ، يهلّ على بلاد الشام في زمن قلاوون ؛ السلطان المملوكيّ ، العتيّ ، المقيم وقتها في القاهرة ، عاصمته . ويبدو أن رحالتنا وقتئذٍ ، كان يؤوب من تجواله الطويل في بلاد العجم والعرب ، والتي عاينَ في كل من حواضرها أحواله ومناظره وعلاماته . فما أن آهلَ الحاضرة الشآميّة ، حتى إنبرى مبدياً إنبهاره بها : " وهيَ التي تفضل جميع البلاد حسناً وتتقدمها جمالاً ، وكل وصفٍ وإن طالَ فهوَ قاصرٌ عن محاسنها " . ثم يستأذنُ رحالتنا ، المغربيّ ، ذكرى زميله ، الرحالة الأندلسيّ إبن جبير ، ناقلاً عن تذكرته ( التي كانت زمنئذٍ ذائعة الصيت ، على الأرجح ) بعضاً من عباراتها المنمقة ، الخاصة بتوصيف " الجَنة الجُلقية " .
وبأثر الرحالة الأندلسيّ ذاكَ ، تمضي خطى إبن بطوطة مصعّدة ً نحو الجبل المقدّس ؛ قاسيون . في ذلك الحين ، كانت " الصالحية " ، هيَ المحلة الوحيدة ، المأهولة ، المرابطة في قاعدة الجبل . وكانت هذه المحلة من ضمن أرباض دمشق التي زارها رحالتنا ، ووصفها بقوله : " إنها فسيحة الساحات ، ودواخلها أملحَ من داخل دمشق ، لأجل الضيق الذي في سككها . وبالجهة الشمالية منها ربضُ الصالحية ، وهيَ مدينة عظيمة لها سوق لا نظير لحسنه وفيها مسجد جامع ومارستان " . ومن هذا الموضع ، يتسلق إبن بطوطة صخور الجبل ، كيما يكتشف ما خفيَ من مغامض كهوفه / مشاهده ، المباركة : " لأنه مصعد الأنبياء . ومن مشاهده الكريمة ، الغار الذي ولد فيه إبراهيم الخليل ، وبالقرب منها مغارة الدم وفوقها بالجبل دم هابيل على الحجارة . ومنها كهف بأعلى الجبل يُنسب لآدم عليه السلام وأسفل منه مغارة الجوع ، يُذكر أنه آوى إليها سبعة من الأنبياء ، وكان عندهم رغيف فلم يزل يدور عليهم وكل منهم يؤثر صاحبه حتى ماتوا جميعاً . وعلى هذه المغارة مسجد قاسيون " . نعرفُ من تذكرة جوّالنا هذا ، أنّ محلة الصالحية في زمنه ، كانت قد إستعادت عافيتها مع إنقضاء الموجة المغولية ، المدمّرة ، التي عاثت فساداً في رونقها وبهائها . وبهذا المقام ، لا بدّ من نقل إعجاب إبن بطوطة بالعمائر الأيوبية ، داخل المدينة القديمة ؛ والتي نوّه منها بشكل خاص بالمدارس ، قائلاً إنّ " العادلية " كانت أعظمها . مودّعاً تلك البلاد التي أحبّها ، يأخذ جوّالنا طريقه عبْرَ جنوب دمشق ، فيجدُ طريق الحاج ميسورة ومؤمّنة . إنه يُشيد هنا بمآثر السلطان صلاح الدين ، مُعيداً إليه الفضل بذلك الأمان ؛ ذاكراً الخانقاه المبنيّ في زمنه ، المخصص لراحة الحجاج والمترفل ببركة عظيمة منسوبة لإبن شقيقه ، الملك الأيوبيّ عيسى المعظم ، وتعرف بإسمه . في الأخير ، لا ينسى إبن بطوطة أن ينقل لنا صورة طريفة عن الحجاج الشوام : " إذا وصلوا تبوك [ في الحجاز ] ، جردوا سيوفهم وحملوا على البلد ويقولون ، هكذا دخلها الرسول " ! . (1)
قرنٌ آخر ، يمضي . ثمّ يأتي إلى دمشق جوّال جديد ؛ هوَ عبد الله البدري . إنه تاجر من مصر ، أقام في الشام إبان عهد المماليك . كان رحالتنا قد جاء إلى المدينة في وقت عصيبٍ ، صادفَ إنقضاء غزوة " تيمورلنك " ، التترية ، المريعة . إنه هنا يخصّ قلعة صلاح الدين ، الدمشقية ، بوصفٍ مفصّل : " ومن محاسن الشام ، قلعتها وحسن بنائها وإتساعها ، فإنها قدْر المدينة . وبها حمّام وطاحون وبعض الحوانيت لبيع البضائع . وبها دار الضرب ، التي تضرب فيها النقود . وبها الدور والحواصل وبها الطارمة ، التي ليسَ على وجه الأرض أحسن منها ، كأنها أفرغت بقالب من شمع . ينظر الرائي أعلاها فيحسن نظره وإن طال مرآه . وهي تسامت رؤوس الجبال " (2) . وشكلّت هذه القلعة ، دوماً ، محط أنظار الرحالة الذين جالوا في دمشق . وفي عصر البدريّ نفسه ، جاء إلى دمشق الإيطالي نيكولو البوغيبونسي . يطلّ هذا الرحّالة على منظر القلعة ، التي كان قد لحقها أذىً شديدٌ على يد المغول والتتار ، فيجدُ أنها أكثر الأماكن تحصيناً في البلاد الشآمية : " في طرف المدينة ، تقع قلعة حصينة يدور بها سورٌ مرتفع ، ويتوصّل إليها عبرَ جسر يقوم على خندق . ويقوم أعوان السلطان على حراستها " . بعيْدَ فترة زمنية قصيرة ، من زيارة ذلك الرحّالة الإيطاليّ ، كان موعد دمشق مع مواطنه ؛ المدعو جورجيو غوتشي . إنه يهتمّ ، أولاً ، بحجم المدينة : " إنّ دمشق ، أو الجزء المحاط بالأسوار منها ، تبلغ مساحته ثلاثة أضعاف مساحة فلورنسة . ويدور بها سوران " . وينتقلُ الرجل إثرَئذٍ إلى وصف القلعة ، فيقول : " المدينة المذكورة حصينة جداً بأسوارها وخنادقها . ويوجد في داخلها قلعة لها أسوار وخنادق ، ويبلغ محيطها نحوَ الميل . ولا يقيم فيها إلا حملة السلاح ، الذين يدافعون عن المدينة والبلاد بإسم السلطان . ولا يسمح لأي شخص آخر بدخولها . ومنازلها متسعة بحيث يمكن أن يأوي إليها نحوَ عشرين ألفاً من رجال الحرب مع خيولهم " .
في أواخر القرن الخامس عشر ، يتسنى لأحد المبعوثين من لدن دوق مقاطعة بورغوندي ، زيارة دمشق . إنه برتران دو لابروكييه ، الذي زار المدينة بمهمة سريّة ، على ما يبدو ؛ وربما بهدف أستطلاع إمكانية نجاح حملة صليبية جديدة ، كان يجري التخطيط لها . وعلى كل حال ، فإنّ الرجلَ لم يضيّع وقته بتلك المهمة ، حسب . هاهوَ يستطلع أحوال البلد وساكنيه ، فيلحظ ما لحق بالأحياء خصوصاً من آثار الغزوة التيمورلنكية ، ويكتب في تذكرته عما رآه : " ولا تزال آثار هذه النكبة ظاهرة للعيان . كما انه على مقربة من باب القديس بولس ، لا يزال حيّ بأكمله من المدينة لم يرمم بعد " . من ناحية اخرى ، ما كان لأسواق دمشق ، المشهورة ، إلا أن تشدّ إهتمام أولئك الرحّالة الأوروبيين ، وتأخذ بلبابهم . وقد إتفق هؤلاء على أن ما يُصنع في حاضرة البلاد الشآمية هذه ، هوَ أكثر مما يُصنع في أيّ مكان آخر في الدنيا ؛ سواءً في ذلك الأقمشة الحريرية والقطنية والكتانية ، إلى الذهب والفضة والنحاس من جميع الأصناف ، إلى الزجاج بأنواعه . لدرجة أنّ أحدهم ، كتب في مدى ما يحدثه التجوّل في أسواق دمشق بنفسية المرء : " فلو أنكَ سرت متفرجاً ، لرأيتَ المصنوعات الرائعة ، الأنيقة ، الدقيقة ، والتي تغريكَ بحيث أنك لو كنت تخفي نقودكَ في قصبة رجلك ، لما ترددت في كسرها وإخراج النقود لشراء بعض ما هناك " . (3)
إبتزغ فجرُ إمبراطورية جديدة ، منذ مستهلّ القرن السادس عشر ؛ إنها الخلافة العثمانية ، الهمايونية ، التي سيقدّر لها بعيْدَ أعوام قليلة إستحواذ ممتلكات المماليك في الشام ومصر ، إثر القضاء على دولتهم . بيْدَ أنّ العثمانيين ، لم يتوغلوا في فتوحاتهم شرقاً . إنّ كون مستقرّهم الأول ، الأناضوليّ ، محاذٍ لحدود أوروبة ، كان على ما يبدو أحد الأسباب ، الحاسمة ، في توجيههم الحملات العسكرية ناحية الغرب . هذا الإضطرابُ في العلاقات ما بين المشرق والمغرب ، المُتسبب به بنو عثمان ، ما كان له إلا ان يؤثر على حركة التبادل التجاري والثقافي بينهما . لا غروَ ، والحالة هكذا ، أن تختفي أخبار الرحّالة الأجانب ، السائحين في بلادنا ، لنصف قرن تقريباً من العام الذي شهدَ آخرهم ( الإيطالي لودفيكو دي فارتما ) ، قبيْل إنهيار دولة المماليك . وعلى كل حال ، فإنّ المطابع الأوروبية أضحتْ تهتمّ منذئذٍ بمخطوطات أولئك الرحّالة ، وبالتالي ستمهّد الطريق لصنف آخر من الكتابة ؛ الا وهوَ " أدب الرحلات " . ولدينا هنا يقينُ الإعتقاد ، بأنّ الفرنسي بيير بولون ، كان أول جوّالي أوروبة في العهد العثماني ، الميمون . زار الرجلُ دمشق ، بين عامَيْ 1546 ـ 1549 ، ووصفها في مذكراته التي طبعها بنفسه في باريس ، فور عودته من أسفاره . في تذكرته تلك ، يعرّج المؤلف إلى ما كانه " بردى " ، في زمن خيره ؛ حدّ أنه إستحقّ النعت الإغريقيّ القديم " خريستو رُوّاس " : أيْ نهر الذهَب ؛ والمُحيل إلى عذوبته وصفاء مائه . ثمّ تلجُ الذكريات خلل بيوت دمشق ، العريقة ، والتي تجدُ دهاليزها وصفاً بليغاً لها في هذه الكلمات المُعبّرة : " إنها تبدو بأجمل ما يكون من البناء . لكن الطف ما فيها مداخلها المسقوفة ، ذات الممرات الوضيئة التي تجلب التهوية والإنتعاش " . وعلى الرغم من إعجاب رحّالتنا بأسوار المدينة ، وتشبيهه لها بمثيلاتها في القسطنطينية ( أو الآستانة ، كما صار إسمها العثمانيّ ) ؛ إلا أنّ قلعتها لا تثير إهتمامه كثيراً : " وهناك قلعة صغيرة مضلعة ، خارج نطاق الأسوار ، غير أنها تبدو كما لو كانت تحصيناً لحماية المدينة فقط " .
في القرن التالي ، وتحديداً في الفترة الزمنية بين 1600 ـ 1630 ، شهدتْ دمشقُ على التوالي ، جولاتٍ لرحّالة أوروبيين ومشرقيين . وكان من هؤلاء ، الإنكليزيان جون ساندرسون وجورج سانديز ، والفرنسي جان بابتيست تافيرنيه ، والألماني جون ويلدن . علاوة على قيام الرحّالة العثمانيّ أوليا جلبي ( يُقال أنه من أصل كرديّ ؟ ) ، برحلتيْن إلى دمشق ؛ ضمّن أخبارهما في المجلد العاشر من سِفره الضخم " سياحتنامة " . وفي أواخر ذلك القرن ، نقلتْ لنا مذكرات الفارس دارفيو ؛ الرحّالة الفرنسيّ ، صورة مؤثرة عن الشام في ذلك الزمن . جديرٌ بالإشارة ، إلى إعتماد رحّالتنا هذا ، على معلومات مفصّلة مأخوذة مباشرة من كتاب " تقويم البلدان " لأبي فداء الأيوبيّ ؛ الذي ترجم مبكراً إلى عدد من اللغات الأجنبية . ولكننا نعرفُ من تلك المذكرات ، أنّ مؤلفها كان يتقن العربيّة ، وأن ذلك سهّل له القيام بجولاتٍ على جانب من الخطورة ؛ على الأقل ، بالنسبة له كأوروبيّ : " لا يُسمح للغرباء بدخول القلعة إلا بغاية الصعوبة ، وللحصول على الإذن بذلك ينبغي للمرء أن يتنكر ، وأن يكون عارفاً بلغة البلد وله فيها من يعرفه . أما أنا فقد كان لديّ أصدقاء في دمشق ، وأتكلم اللغة المحكية هنا ( العربية ) ، كما ألبس زي المسلمين . وهكذا ، فقد تمكنت من دخول القلعة دونما أية صعوبة تذكر ". كان نصيب دمشق بيوتاً وأسواقاً وأسواراً وغوطة وقلعة .. ، وافراً في تذكرة دارفيو ، البديعة . إنه يمرّ بالشارع المستقيم ، الواصل مركز المدينة القديمة ببابها الشرقيّ ؛ من محيط المسجد الأموي ، أينَ تتركز غمرة الأهالي ، المعتنقة مذهب السنة ؛ وحتى الدائرة المحدقة بالأسوار ، حيث تتوزع حارات النصارى واليهود والشيعة . وإذ نوهنا ، فيما سلف ، بإنحطاط شأن القلعة الدمشقية في بدايات العهد العثمانيّ ؛ فها هوَ الفارس دارفيو ، يبدي إعجابه بهذا المعمار الفنيّ ، الشامخ ، المنذور للدفاع عن البلد أو عن السلطة الحاكمة. وينتقل من ثمّ إلى داخل هذا الحصن المنيع ، فينقل لنا مشاهداته فيه . وكان أكثر ما أثار إعجابه ثمة ، ذلك البناء المخصص لسك النقود ؛ والذي كان وقتذاك معروفاً بـ " القصبة " ، فيقول أنها تقوم : " في ناحية تحت قبة وافرة الإتساع ، عريضة الفتحة ، وهي ترتكز على أربع عضائد مفرطة في الضخامة ، أظن أن بإمكانها حمل قبة مار بطرس ، الموجودة في روما " . (4)
على مطيّة الهدف نفسه ، يأتي دمشقَ جوّالٌ فرنسيّ آخر ؛ وإسمه جان تيفنو . قدِمَ إلى المدينة بعدَ مواطنه ، الفارس النبيل ، بأربع سنين . إلا أنه لم يمض هناك ، سوى أياماً معدودة ؛ ربما كانت كافية له للتمتع ، بالقليل ، بمجالس النركيلة والسمر : " وكل مقاهي دمشق جميلة ، وتتميّز بوفرة في المياه . ولكن أجمل المقاهي تجدُها في الضواحي " . الجملة الأخيرة ، تخاطبنا نحن القراء ؛ فنتساءلُ بدورنا ، ما إذا كان المقصود بها مقهى " أبو شفيق " ، في ضاحية دمّر ، التي أزهرتْ فيه أعوامُ عمرنا ، المراهقة ؟! .. بأيّ حال ، فسيّاح هذا الزمن ، الذين ورثوا صفة مواطنيهم الرحّالة ، ما فتئوا يجدون في مقاهي الشام مكاناً أثيراً ، مفضلاً ، يجذبهم إليه أكثر من غيره من الأماكن الجميلة ، الكثيرة . وما من ريبٍ أيضاً أنّ إشارة جوّالنا هذا ، إلى وفرة المياه ، تحزّ في النفس بشكل خاص . إنه يتكلم هنا عن الجدوليْن ، المشكليْن لجزيرة " المرجة " ـ الفانية الآن ، في هذا الزمن البخس ـ فيقول معجباً بهما : " إنني أصف هذه الجداول بالصغر ، لكن ينبغي لي أن أشير إلى أنها تبلغ على الأقل 25 قدماً في عرضها ، وفي المعتاد تبلغ 30 أو 40 قدماً " . وعطفاً على إحالتنا ، سالفة الذكر ، بخصوص المصادفة والزمن ؛ فلا نملك ، ثانية ، إلا المساءلة عما إذا كان رحّالتنا الفرنسيّ ذاكَ ، قد إلتقى مرة ً في إحدى المقاهي بزميله ، المصريّ ، إبراهيم الخياري : ففي الآونة نفسها ، زارَ هذا المؤرخ دمشقَ ، وخصّ مقهى " النوفرة " بوصفٍ مفصل في كتابه " تحفة الأدباء وسلوَة الغرباء " . المعروف ، أنّ هذا المقهى الواقع خلف الجامع الأموي ، له صيت ذائع في وقتنا الراهن بين الأهلين والسيّاح سواءً بسواء . وعودة إلى زمن الرحالة المصري ، الذي يوردُ حادثة طريفة ، عن غريبٍ حضرَ إلى مقهى " النوفرة " ، فرأى ماءها الفوّار ، فلما رجع إلى موطنه قال لأهله : " رأيتُ بالشام عجباً ؛ شجرة من الماء تمتد أغصانها منه يميناً وشمالاً ، لم ترَ العين أعجبَ منها " .
موضوع توجيه سَفر الرحالة إلى المشرق ، نحوَ غاياتٍ سياسيّة ، والذي أثرناه في أكثر من موضع ؛ هكذا موضوع ، ينطوي على مغزىً خاص مع تناهي السيطرة العثمانية على بلاد الشام حتى مفتتح العقد الثاني من القرن العشرين . فقبل ذلك التاريخ بعقودٍ ثمانية من الأعوام ، شرْعَنت السلطنة الهمايونية للقوى العظمى ، الغربية ، إمتيازاتٍ لا حصر لها في تلك البلاد ؛ فيما عُرف بـ " الإصلاحات " أو " خط شريف " ، التي إرتبطت بإسم السلطان عبد المجيد الثاني . وعلى هذا ، صار لكل من تلك الدول الغربية وكلاء وقناصل من أهل البلاد الأصليين ، المحددين بالنصارى وأحياناً اليهود . مما كدّس لدى الأوروبيين أكوام فائضة من المعلومات ، عن شؤون هذه الولاية أو تلك من ولايات الدولة العليّة . وبالتالي ، فما عاد ثمة حاجة إلى معلومات بعض الرحّالة ؛ غيرَ الدقيقة غالباً ، نظراً لعدم معرفة لغة البلاد أو لأسباب اخرى . هذه الحقيقة ، الموصوفة ، عاضدَتْ ما يمكن ملاحظته من أنّ جوّالي القرن التاسع عشر ، الغربيين ، كانوا بمعظمهم من الكتاب والآثاريين ؛ ممن شدّهم إلى المشرق غايات علمية أو أدبية . وهذا الشاعر الفرنسي ، لامارتين ، يمرّ على دمشق أثناء سياحته السورية ( 1832 ـ 1833 ) ، قادماً عبْرَ ميناء بيروت . ففي تذكرته الشهيرة ، " رحلة إلى الشرق " ، يُبدي رحّالتنا منتهى إعجابه بحاضرة الأمويين ، ملخصاً مشاعره بهذه الجملة الشعريّة : " إنها كما يتنشق المرءُ أريجَ الورود " . كذلك تضمّن وصفه للشام مداخلها وحاراتها وأسوارها وعمائرها ، مفتتناً بشكل خاص بخان أسعد باشا العظم وكنيس قرية جوبر (5) . وفي أواخر القرن التاسع عشر ، كانت الشام على موعد مع رحّالة من طراز خاص ، عسكريّ ؛ هوَ الكابتن كوندر ، الذي جالَ أيضاً في أنحاء سورية الجنوبية . ويبدو أنّ سياحته تبطنتْ غاية ما ، سياسيّة . كما نستجلي ذلك في بعض ملاحظاته ، العابرة : " إن سيطرة الأتراك على سورية ، لم تتناقص بالتأكيد خلال الخمسة عشر سنة الأخيرة . ويُظهر موظفو السلطان ( وأكثرهم من الأكراد الأشداء ) ، تيقظاً ونشاطاً أعظم بكثير مما عرفته البلاد في السابق " . (6)
بمقتضى الحرب العظمى ، التي عصَفتْ بالخلافة العثمانية ، المدحورة ؛ تشرق أنوار شعوبها المفارقة أبداً ليلَ الظلامية والتزمّت والجهل . تتطوّر آداب العربية ، خصوصاً ، إثر عصر الإنحطاط ذاكَ ، البائد ، ويعود للغة القرآن رونقها وألقها وبريقها . ومع إستتباب الأمان في عموم البلاد الشآمية ، فلا غروَ إذاً أن يُداعبَ حلم الترحال مخيلة الكثيرين من أدبائنا وأعلامنا . ولا شكّ أنّ أمين الريحاني ، الكاتب النابغة ، كان أشهرَ أولئك الحالمين ؛ هوَ الذي قام بسياحات متعددة في ربوع موطن الأرز وغيره من الدول العربية ، وخلف لنا كتبه عنها ؛ ومنها تحفته الرائعة " قلب لبنان " . بدوره ، وجدَ أحمد وصفي زكريا نفسه ، على الدرب الذي سار فيه قبلاً الرحّالة التركيّ ، أوليا جلبي . وكان أحمد وصفي قد ترجم إلى العربية الجزء العاشر من " سياحة نامة " ؛ الذي يروي فيه رحالتنا التركيّ أخبار سياحته الدمشقية ، على مرحلتيْن ( عام 1648 و عام 1671 ) . شاءَ رحّالتنا ، العربيّ ، أن يحوي كتابه لدى الطباعة ، ذلك الجزء المُترجم ، الموسوم ؛ هوَ الذي عاكسَ إتجاه رحلة أوليا جلبي ، بولوجه البلاد الشامية من جنوبها ، الأردنيّ ، وإلى منتهاها على شط إسكندرونة . يخصّ أحمد وصفي كردَ سورية بإهتمامه ، منوّهاً بقدم تواجدهم في مناطقها الداخلية والساحلية ، العائد إلى فترة الدولة الزنكية ، التركمانية . ثم يعطف نحو كرد العاصمة ، فيقول أنهم : " يمتدون إلى أصول ومنابت مختلفة . وهم على الرغم من إختلاطهم بالدماشقة من عهد الدولة الصلاحية ( الأيوبية ) ، وإقتباسهم اللغة والأزياء العربية ، لا يزالون محتفظين بلغتهم وأكثر طباعهم الأصلية ، لإستمرار الوافدين عليهم من " هكاري " و " وان " ؛ لدوام إتصال سكانه بأهل تلك البلاد النائية ، بسبب تجارة الغنم التي يجلبونها ويميّرون معظم بلاد الشام بلحومها . وهم أبناء بجدة هذه التجارة ، المحتاجة إلى كثير من الجلد والعناء . وقد حاز بعضهم من ورائها ثروة غير يسيرة ، وزادها آل يوسف منهم ملكاً وجاهاً عظيمَيْن . وقلة إكتراث أهالي هذا الحيّ بالدراسة والثقافة قبلاً ، ساقت كثيراً منهم في عهد العثمانيين نحو الإرتزاق من التجند في سلك الدرك ( الشرطة والجندرمة ) ، أو جباية الأموال الميرية أو إلتزام الأعشار أو وكالة الضياع ، وغيرها مما يحتاج إلى القسوة والشدّة . ولما نضبَ معينُ النفع من هذه المواد بإنقضاء ذلك العهد ، تغيّر حالهم بالجملة وإنصرف بعضهم إلى الصناعات اليدوية وخلافها (7) . وفي فترة الثلاثينات ، من القرن المنصرم ، يقوم الديبلوماسي الأردني ، علي سيدو كوراني ، برحلة إطلاعية خلل البلاد الشآمية ، حتى أقصى نقطة في الشمال العراقي ؛ سجل وقائعها في كتابه الشيّق " من عمّان إلى العمادية : جولة في كردستان الجنوبية " . ومثل مواطنه أحمد وصفي زكريا ، عرّج جوّالنا هذا إلى دمشق ، فلفتَ هناك الحيّ الكرديّ إنتباهه ؛ فتناول هوَ الآخر شيئاً من تاريخ الدولة الأيوبية ، الشامية . ومن لوامع تذكرته تلك ، نقتطف بعضاً منها ؛ والمضيئة جوانب من حيّ الصالحية ، موقعاً وتقسيماتٍ وبيئة : " هيَ خيرُ جزء من دمشق ، تقع على سفح قاسيون ، وتبدأ من شارع بغداد وعرنوس . ولا بدّ لزائرها أن يمرّ بالمرجة ـ مركز المدينة ـ ثم يتجه شمالاً ، حيث يشاهد في طريقه الحدائق الجميلة المسوّرة باللبن ، يرويها جدولا ثورا ويزيد ، المتشعبان عن نهر بردى ( باردين ) . والقسم الأعظم من الصالحية ، يرتفع عن سهل المدينة وحدائقها . وقد أشتهرت بحسن مناخها وفخامة عمرانها ، الذي إنتشر على سفح جبل قاسيون . وينقسم هذا الجزء إلى حييْن ؛ الأول ، حيّ المهاجرين وسكانه من سراة دمشق ، وأخلاط من الأتراك والشراكسة . والثاني ، حيّ الأكراد وسكانه بأجمعهم من الكرد . وليس بهذا الحيّ عمران متجدد ، كما في الحيّ الأول . وينتشر الناس في شهور الصيف ، في هذا الجزء وغيره من أجزاء دمشق ، على ضفاف الأنهار وتحت ظلال الأشجار ؛ يرتادها الدماشقة هرباً من حَمارة القيظ ، ويأخذ معظمهم طعامه معه ليقضي سحابة يومه هناك " . (8)
الهوامش
1 ـ إبن بطوطة ، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار ـ تحقيق وطبع في القاهرة 1967 ، ص 60 ـ 67 2 ـ عبد الله البدري ، نزهة الأعلام في محاسن الشام ـ تحقيق وطبع في القاهرة 1341 هـ ، ص 60 3 ـ نقولا زيادة ، دمشق في عصر المماليك ـ الطبعة العربية في بيروت 1967 ، ص 107 : وجميع إستشهاداتنا مأخوذة من هنا ، فيما يخصّ الرحّالة الأجانب الذين زاروا الشام في ذلك العصر 4 ـ الفارس دارفيو ، وصف دمشق في القرن السابع عشر ـ الطبعة العربية في دمشق 1982 ، ص 73 : وجميع إستشهاداتنا ، فيما يخص الرحّالة الأجانب في العهد العثماني ، مستلة من هنا 5 ـ يوسف جميل نعيسة ، مجتمع مدينة دمشق ـ دمشق 1986 ، ص 117 ج 1 6 ـ سليمان موسى ، في ربوع الأردن : من مشاهدات الرحّالة 1875 / 1905 ـ عمّان 1974 ، ص 105 7 ـ أحمد وصفي زكريا ، جولة أثرية في بعض البلاد الشامية ـ دمشق 1934 ، ص 331 8 ـ علي سيدو كَوراني ، من عمّان إلى العمادية : أو جولة في كردستان الجنوبية ـ القاهرة 1939 ، ص 16
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نادية : نهاية زمن الرومانسية
-
العتبات الممنوعة
-
العصابة البعثية والتفجير الطائفي
-
سياحَات : دمشق بأقلام الرحّالة 1 / 2
-
جرائم أجاثا كريستي ، اللبنانية
-
الحزب الإلهي وأولى ثمار الحرب الأهلية
-
ناصر 56 : الأسطورة والواقع
-
رحلاتٌ إلى مَوطن الجرْمان 3 / 3
-
النظامُ القرداحيّ والقرون اللبنانيّة
-
رحلاتٌ إلى مَوطن الجرْمان 2 / 3
-
صدّام ؛ صورٌ شخصيّة للطاغيَة
-
مشاهدات : جولة في دمشق العثمانيين 2 / 2
-
مشاهدات : جولة في دمشق العثمانيين 1 / 2
-
رحلاتٌ إلى مَوطن الجرمَان 1 / 3
-
الحارَة ؛ بابُها وبشرُها
-
مشاهدات : جولة في دمشق صلاح الدين 2 / 2
-
زبير يوسف ؛ في منحَتِ الحَديد والتحدّي 2 / 2
-
مشاهدات : جولة في دمشق صلاح الدين 1 / 2
-
زبير يوسف ؛ منشدُ الأزمان القديمة
-
إسمُ الوردَة : ثيمة الجريمة في رواية لباموك
المزيد.....
-
ليس الإكثار فقط.. مخاطر صحية قد تنتج عن خفض استهلاك الملح بش
...
-
التبرع بالدم يقدم فائدة غير متوقعة لصحتك وحياتك
-
دراسة تكشف العلاقة بين مشاهدة التلفزيون وأمراض القلب
-
مفاوضون أمريكيون في موسكو وترامب يأمل بموافقة بوتين على وقف
...
-
مصادر دبلوماسية للجزيرة: مجلس الأمن يقر مشروع بيان يندد بالع
...
-
شرخ في جدار الغرب.. الطلاق بين الولايات المتحدة وأوروبا
-
جنود على الخطوط الأمامية في أوكرانيا يصفون محادثات السلام مع
...
-
زاخاروفا: تصريحات بودولياك حول موقف روسيا في الاتفاق مع الول
...
-
حريق بطائرة تابعة لأميركان إيرلاينز بمطار دنفر
-
انقسام في مجموعة السبع حول البيان الختامي
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|