أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - اياد البرغوثي - منظمة التحرير الفلسطينية... وحدانية الشكل وازدواجية الجوهر















المزيد.....



منظمة التحرير الفلسطينية... وحدانية الشكل وازدواجية الجوهر


اياد البرغوثي

الحوار المتمدن-العدد: 8027 - 2024 / 7 / 3 - 18:55
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لم يهدأ الحديث عن منظمة التحرير الفلسطينية ووضعها من حيث الدور الذي تقوم به، أو الذي يفترض أن تقوم به، وكذلك من حيث مكانتها وشرعيتها وتمثيلها للشعب الفلسطيني، منذ نشأتها في العام 1964. لكن ذلك الحديث بات اكثر توترا (تشنجا) بعد "اوسلو"، بل أصبح اكثر حساسية في الآونة الأخيرة.: يزداد سؤال منظمة التحرير حضورا عند الفلسطينيين وخاصة نخبهم السياسية والفكرية، حيث يشهد الفلسطينيون داخل فلسطين وخارجها، حراكا سياسيا وفكريا يتمحور حول المنظمة، معناها وجوهرها وشكلها وموقعها ودورها، وتأثير التطورات السياسية الدولية والاقليمية والمحلية عليها، ويشمل ذلك عادة اتفاقيات اوسلو، والانقسام الفلسطيني، ومؤخرا أحداث السابع من أكتوبر، وما تبعها من حرب اسرائيلية على غزة.
هذه الأمور، هي عناوين حراك فلسطيني متزايد، يأتي على شكل اسهامات فكرية يقوم بها مثقفون فلسطينيون، ومؤتمرات واجتماعات يقوم بها ناشطون، كثيرا ما تثير حفيظة النظام الرسمي الفلسطيني قيادة ونخبا، على اعتبار أن ذلك قد يكون ضمن "مؤامرات" يقوم بها البعض للالتفاف على تمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني، وهو الذي يعتبر في الفكر الفلسطيني السائد بمثابة قدس الاقداس.
شيء من التاريخ
مثل تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية التقاء بين رغبة شعبية فلسطينية، أخذت في البروز بعد أن "استفاق" الفلسطينيون من صدمة النكبة المتمثلة في فقدانهم للجزء الأكبر من وطنهم، وتشتتهم في أرجاء الأرض، وبين إرادة النظام العربي الذي قادته مصر عبد الناصر في تلك الفترة. في ذلك الوقت برز رأيان في موضوع دعم النظام العربي لإنشاء المنظمة، احدهما الذي مثل الأغلبية في حينه ثمن دور النظام واعتبره بداية اهتمام حقيقي بالقضية الفلسطينية، اما الثاني فقد فهم دور النظام العربي "مؤامرة" لتخليه عن فلسطين.
اعلنت المنظمة أن هدفها هو تحرير فلسطين، وهذا واضح من إسمها ومن ميثاقها الأول، ومن المؤسسات التي ابتدأت تعمل على تشكيلها وفي مقدمتها جيش التحرير الفلسطيني، وهكذا فهمها معظم الفلسطينيين، ووقفوا خلفها بناء على ذلك. وإلى أن يتم ذلك "التحرير" اُعتبرت المنظمة ممثلا "للقضية" الفلسطينية والوطن المعنوي "الافتراضي" للفلسطينيين.
تأثرت منظمة التحرير بهزيمة النظام العربي الناصري في حزيران 1967، لكن الدَفعة التي أخذتها المنظمات الفدائية المسلحة إثر معركة الكرامة في العام 1968، أتت بتلك المنظمات وفي مقدمتها حركة فتح برئاسة ياسر عرفات الى قيادة المنظمة، التي اصبحت تمثل حركة الشعب الفلسطيني نحو استعادة حقوقه الوطنية، واعادت الثقة الى الفلسطينيين والعرب بجدوى المقاومة المسلحة
لقد مثلت تلك الخطوة في وجدان الفلسطينيين، التقاء بين الهدف الأسمى للمنظمة المتمثل في "التحرير" وبين "الوسيلة" المعتمدة بوضوح وبلا مواربة الكفاح المسلح، وبين الحركات والقيادات الممثلة لتلك الوسيلة و"الساعية" الى ذلك الهدف
في العام 1974، وفي مؤتمر القمة في الرباط، تم اعتبار المنظمة كممثل "شرعي ووحيد" للشعب الفلسطيني. شكل ذلك "انتصارا" معنويا كبيرا للمنظمة على منافسيها الذين تمثلوا في حينه ببعض النظام العربي الجديد (ما بعد الناصري)، ذلك الذي بدأت تظهر عليه نتائج هزيمة حزيران 1967، وكذلك ببعض الفلسطينيين الذين عارضوا المنظمة من منطلقات مختلفة.
برأينا أن ذلك الحدث، الاعتراف بالمنظمة كممثل شرعي ووحيد، أعطى المنظمة دورا آخر، و"بعدا" آخر، غير الذي كان لها منذ انشائها حتى ذلك التاريخ، وهو البعد السياسي التمثيلي للشعب الفلسطيني الذي اتخذ شكل نظام سياسي "يختلف"، أو لا يتطابق بالضرورة من حيث المنهج والمنطلقات، مع الدور "المعلن" للمنظمة وهو "التحرير"، ومع بعدها التمثيلي الرمزي "للقضية" الفلسطينية.
جوهران ودوْران... وكيان واحد
بعد أن فازت المنظمة بصفتها الإضافية الجديدة كممثلة سياسية للشعب، حملت بالضرورة جوهرين ومعنيين، وأصبح لها دوران ووظيفتان؛ فهي من ناحية مثلت ما سمي بالوطن المعنوي "الافتراضي" للشعب الفلسطيني المشتت في العالم، والقضية الفلسطينية التي لا تعني، ولا يمكنها أن تعني، غير التحرير "الفعلي" للوطن الفلسطيني والعودة "المظفرة" للفلسطينيين اليه... هكذا بوضوح وبساطة واختصار وبعيدا عن أية "معطيات" وملابسات.
ومن الناحية الأخرى، كان للصفة الجديدة للمنظمة كممثل سياسي للشعب الفلسطيني، أن تعطيها "معنى" اضافيا وكذلك دورا جديدا مختلفا عن دورها الأول، فأصبحت بمثابة "نظام" سياسي، يتطلب دوره بالضرورة منهجا مختلفا يتعاطى السياسة، ويراعي المعطيات المختلفة، والقدرات والامكانيات المتوفرة و غيرها، ويذهب الى "المناورات" والمناكفات، ولديه استعداد للذهاب للحلول الوسط، ولتقديم "التنازلات" والقيام بكل ما يقوم به أي نظام سياسي لأية دولة "طبيعية".
اعتقد ان "الفرحة" التي عمت الفلسطينيين عندما تم اعتبار المنظمة ممثلا شرعيا ووحيدا لهم، حجبت عنهم التفكير مليا في ماذا يعني ذلك بالضبط، وماذا سيترتب عليه فيما بعد. لم يكن لأحد من الفلسطينيين (إلا ما ندر) أن يفكر بالاختلاف، ولاحقا بامكانية التعارض بين الجوهرين الذين حملتهما المنظمة، وهما "الوطن المعنوي والقضية العميقة" و"النظام السياسي"، و"للدورين" التي ينبغي أن تقوم بهما في نفس الوقت، وهما "التحرير" و"العمل السياسي للبحث عن حلول ممكنة". كان على المنظمة في وضعها الجديد، أن تجمع بين الحق المطلق الذي مثله جوهرها الأول، والممكن الذي يمثله الجوهر الجديد.
لم يكن من السهل ادراك أن البرنامج المرحلي الذي تبنته منظمة التحرير باعتبارها ممثلا شرعيا ووحيدا، لإقامة السلطة الفلسطينية على أية أرض تتحرر من الاحتلال، وما يتطلبه ذلك من بحث عن حلول وسط، هو أمر يمثل المنظمة باعتبارها "نظاما سياسيا" فلسطينيا، وليس باعتبارها وطنا معنويا للفلسطينيين وممثلة لقضيتهم. ولم يكن كذلك من السهل فهم ما جاء في خطاب ياسر عرفات الشهير في الأمم المتحدة في العام 1974 الذي افتتح فيه "الخط" الجديد للمنظمة، من أنه يحمل البندقية بيد وغصن الزيتون باليد الأخرى، أن ذلك يعني أنه يخيرهم بين الجوهر الأول للمنظمة كممثلة للقضية الفلسطينية ودورها المتمثل بالتحرير، وبين جوهرها الجديد كنظام سياسي فلسطيني مستعد للتعاطي مع ما يمكن تحقيقه من خلال "تفاعله" مع المجتمع الدولي. في ذلك الوقت كان من الصعب ادراك أن اليد التي تحمل البندقية وتلك التي تحمل غصن الزيتون هما ممثلتان لجوهرين مختلفين، ولصفتين مختلفتين، ودورين مختلفين، ومنهجين مختلفين، ولا ينتقص من هذه الحقيقة كونهما موجودتين في جسد واحد.
منظمة التحرير..ازدواجية الشخصية وتعقيدات الشرعية
تطرح الشخصية "المزدوجة" معنىً ودورا لمنظمة التحرير سؤال شرعيتها، ذلك الذي هو في حقيقة الأمر اكثر تعقيدا مما يعتقد، لأن لكل جوهر للمنظمة مصادر شرعيته وشكلها، المرتبطة أساسا بهدف ذلك الجوهر، وبكفاءته في تحقيق ذلك الهدف.
فالمنظمة بجوهرها الأول، كوطن معنوي للفلسطينيين، وكحاملة لهدف واحد ووحيد ونهائي هو تحرير فلسطين، استمدت شرعيتها من "نبل" هدفها، ومن وقوف الغالبية الساحقة من الفلسطينيين خلف هذا الهدف، ومن اعتمادها للمقاومة، خاصة المسلحة، كطريق لتحقيقه. يضاف الى ذلك، الشرعية التي اكتسبتها من وقوف النظام العربي القومي الناصري (في حينه) معها، ومن مناهضتها للامبريالية ووقوفها "المعلن" الى جانب حركات التحرر الوطني في العالم.في هذا الوضع أصبحت المنظمة اكثر من وسيلة واقتربت لتكون جزءا من الهدف.
أما جوهرها الثاني، كنظام سياسي يمثل الفلسطينيين، وله هدف مختلف عن هدف الجوهر الأول، فشرعيته انبثقت في بداياته من تأييد غالبية الشعب الفلسطيني، على اعتبار أنه جاء متكاملا مع الجوهر الأول ومكملا له، لكن ذلك التأييد أخذ في التناقص بمرور الوقت بعد أن ظهر اختلافه مع الجوهر الأول،الى أن وصل الى تعارض معه، وإلى جدل ثم الى انقسام حول ذلك الدور الجديد، و"الدهاليز" التي دخلها، والنتائج التي وصل اليها. في هذه الحالة كان ينبغي ان لا تكون المنظمة اكثر من وسيلة لتحقيق الهدف.
شكل النظام العربي مصدرا هاما لشرعية منظمة التحرير الفلسطينية بجوهريها، الأول الذي نشأ مع التأسيس في العام، 1964، والثاني الذي نشأ بالاعتراف بها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني عام 1974، لكن من المهم إدراك أن النظام العربي الذي وقف خلف انشائها في البداية، لا يشبه تماما ذلك النظام الذي اعترف بالثانية، فالأول كان نظاما ناصريا قوميا معاديا للاستعمار، بعكس الثاني المحافظ و"المعتدل"،و"التابع".
من المهم هنا ايضا عدم الاستهانة بما اضافته اوسلو من شرعية اسرائيلية ودولية (وخاصة أمريكية) الى الجوهر الثاني للمنظمة، كونها نظاما سياسيا من الضروري وجوده لاضفاء الشرعية على ما سيترتب من خطوات، تهدف اسرائيليا بالأساس لمحاربة الجوهر الأول للمنظمة، والذي يعني في نهاية الأمر "تصفية" القضية الفلسطينية بالمقاييس الاسرائيلية.
برزت تلك الرغبة الاسرائيلية في استخدام الجوهر الثاني للمنظمة، والمشرعَن اسرائيليا في مواجهة الجوهر الأول من خلال إصرار اسرائيل والولايات المتحدة على الغاء الميثاق الوطني الفلسطيني، وتغيير الهدف الأساس للمنظمة، واجبارها على إدانة مقاومتها المسلحة والتنكر لماضيها، واعتماد المفاوضات كسبيل وحيد لحل "المشاكل العالقة"... ذلك الذي حدث في المجلس الوطني الذي عُقد في رام الله بحضور الرئيس الأمريكي في حينه.. كلينتون.
تستمد القيادة عادة شرعيتها من الشعب، ثم تنطلق بها الى الخارج، هذا ما يفترض أنه يجري مع كل الدول والكيانات، وهذا ما جرى مع منظمة التحرير الفلسطينية طوال العقد الاول من عمرها، لكن بدء المنظمة في البحث عن شرعية من خارج شعبها، والمضي في ذلك ليصبح على حساب شعبها، هو الذي وضع أسس الانقسامات الحالية في النظام الفلسطيني. في هذه الحالة، عندنا كما في كل الكيانات التي تشبهنا، حيث علامات استفهام كبيرة حول الاستقلال والسيادة، تقل قيمة الشعوب لدى قياداتها، وتتحول الشعوب لدى تلك القيادات من سند ومسؤولية الى عبء، يغيب "المواطن" ويبقى "الراتب"، وينحصر هم القيادة في عدد الرواتب التي عليها أن توفرها في آخر الشهر.
في المجلس الوطني الفلسطيني الذي عُقد في رام الله بحضور كلينتون، اتخذ الجوهر الثاني للمنظمة قراره الصريح والواضح للذهاب في طريق آخر لا يلتقي مع طريق الجوهر الأول، وبذلك تم وضع "حجر الأساس" لإنقسام فلسطيني عمودي سياسي ومجتمعي، ترتب عليه الكثير من الآثار الكارثية على الفلسطينيين وقضيتهم.
في هذا الإطار، شكلت السلطة الفلسطينية المنبثقة عن أوسلو (ولا يهم هنا إن كانت تدري أو لا تدري)، أداة هامة إن لم تكن الأهم، في وقوف منظمة التحرير بشخصيتها الجديدة ومعناها الجديد، ضد منظمة التحرير بجوهرها الأساس. هنا وقف النظام السياسي الفلسطيني في مواجهة القضية الفلسطينية، ووقفت منظمة التحرير ضد منظمة التحرير. وكان لا بد للسلطة ان تنتصر للشخصية الثانية للمنظمة كنظام سياسي استمدت "بعضا" من شرعيتها منه، "تذود" عن شرعيته كمصدر لشرعيتها، وتهمشه الى الحد الأقصى، لأنه مهما اختلف أو "تناقض" مع "الشخصية" الأولى فهو يذكر بها باستمرار.
هذا يعني أن الشخصية الثانية للمنظمة كنظام سياسي، استمدت شرعية وجودها (اسرائيليا وامريكيا ) من الهدف الذي أراده هؤلاء لها، والمتمثل في رغبتهم في القضاء على شخصيتها الأولى كقضية وكوطن. في مثل هذه الحالة تصبح "رداءة" الهدف وليس "نُبلَه" مصدرا أساسيا للشرعية.
بقي أن نقول في موضوع اختلاف الشرعيات لشخصيتي المنظمة، أن مشاركة الأحزاب والحركات السياسية في الشخصية الثانية لها، كنظام سياسي وكسلطة، ظهر على شكل انحياز مِن قبلها لتلك الشخصية على حساب الأولى، حيث "تستنجد" الشخصية الثانية بتلك الأحزاب عند كل مأزق تواجهه، رغم أن ذلك لا يضيف لها الكثير، نظرا لأن معظم تلك الأحزاب، بحاضرها السيء وأفقها المسدود، إنما تستمد شرعيتها من ماضيها، والماضي مهما كان ناصعا، فإنه لا يكفي ليكون مصدرا وحيدا للشرعية.. هذا ينطبق على الحزب، وإلى حد بعيد على الفدائي الذي شاءت "الأقدار" تحويله الى موظف.
كما أنه ينبغي القول هنا، أن السابع من أكتوبر، قد ترك بصماته على موضوع العلاقة بين شرعيات شخصيتي المنظمة، فما جرى في ذلك التاريخ، كان عاصفة مضادة لأوسلو، استحضرت مجددا عوامل سابقة للشرعية، لها علاقة بالصمود والتضحية والإبداع، فضخًت حياة جديدة في الشخصية الأولى للمنظمة في حين كادت تجهز على "الثانية"، إن لم تفعل ذلك في واقع الأمر.
في كل مرحلة من مراحل تطور النظام الفلسطيني (م.ت.ف) بشقيه "الثائر" (القضية والحلم والتحرير)، والنظام السياسي "الواقعي" (اليومي والباحث عن الحلول)، كان التنظيم "المقاتل" يمثل الأول، وكان "المهادن" يمثل الثاني... هذا ما جرى مع فتح في السابق، وما يجري مع حماس الآن.
منظمة التحرير... فجوة تتعمق
لم يكن لجسد منظمة التحرير الذي حمل في عقده الأول (1974-1964) جوهرها الوحيد الذي يمثل القضية ويهدف للتحرير، ثم اضطر، أو (ارتأى) في العام 1974 أن يحمل جوهرا ثانيا مثّل "النظام السياسي) الذي تبنى حق تقرير المصير بشيء أو بكثير من "التصرف"، لإيجاد حلول تؤدي الى جزء (ممكن) من الحقوق وبعض من السيادة والاستقلال، لم يكن له أن يحافظ على توازن العلاقة بين الجوهرين، وبمرور الوقت وتقلب الأحداث، كان لا بد من تباعد الجوهرين وازدياد في الفجوة بينهما، وكان على الجسد الذي حملهما أن يتصف بحد أقصى من المرونة، كي يحافظ على وجودهما معا.
ولم يكن واردا، وليس بالإمكان أن يكون، جمع الجوهرين في واحد ليعود الجسد متصالحا مع نفسه، فخلف نشوء كل منهما ضرورة مختلفة، وظروف مختلفة، وأهداف مختلفة، ولكل منهما صفاته المختلفة.
الشخصية الأولى التي تمثل القضية، نقيةٌ حادةٌ واضحةٌ ومباشِرة و"متعالية" على الواقع، وهدفها التغيير الكلي و"الثوري" لذلك الواقع. ليست وظيفتها البحث عن حلول مع المشروع الصهيوني وإسرائيل، بل الحفاظ على الصراع معه حتى وصوله الى نهايته "الطبيعية" بإنهاء ذلك المشروع بالتحرر الكلي والشامل لفلسطين. هذه الشخصية من المنظمة، من المستبعد والغريب أن نجد لها معارضة بين الفلسطينيين، وفي اللحظة التي تظهر فيها مثل تلك المعارضة تكون قد تحولت تلقائيا الى الشخصية الثانية.
جوهر "المنظمة" الأول الذي بدأ معها منذ انشائها هو الذي يمكن اعتباره بكل راحة ضمير، الممثل الشرعي والوحيد للحق الفلسطيني وللقضية الفلسطينية، وللوطن الفلسطيني، وللهدف الفلسطيني الأسمى. وهي الكيان الذي مثل هوية الفلسطينيين التي كان ينبغي إعادة استحضارها بعد أن بدّدتها النكبة. ومن المفارقة أن المنظمة بقيت كذلك بشخصيتها الأولى "الوحيدة" في حينه حتى 1974، عندما ظهرت الشخصية الثانية على هيئة نظام سياسي تم اعتماده ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني.
الشخصية الثانية (النظام السياسي)، وهي التي مطلوب منها أن تعمل بالسياسة ودهاليزها، وتسير ضمن الظروف وموازين القوى ومتطلبات السياسة، وتتعامل مع الواقع وفي خضم ذلك تختلف عن الجوهر الأول، فبدل أن تغيره تمده بكل اسباب البقاء.
ينبغي للشخصية الثانية كنظام سياسي أن يكون لها معارضة، أو أن تقبل ذلك من حيث المبدأ، فمن الغريب أن لا يكون، وإذا تصرفت عكس ذلك واعتبرت أن معارضتها خروج عن الشرعية، فهي بذلك تتقمص حالة الشخصية الأولى. وفي هذه الحالة، عندما يُتّهم فلسطيني أنه ضد منظمة التحرير بشكلها الحالي يكون ذلك إسقاط للشخصية الثانية على الأولى من قِبَل أنصار الثانية بالطبع. الشخصية الأولى كما اوضحنا لا ينبغي أن يكون لها معارضة لأنها تعني أن على كل فلسطيني أن يكون فلسطينيا.
عند النظر في مسألة الموالاة والمعارضة (المَع والضد) بالنسبة لمنظمة التحرير فإننا نجد (على الأغلب) أن كليهما موجودا بداخلها، انه شكل من اشكال الاختلاف (المتفاقم حد التناقض) بين شخصيتيها، وفي هذا الإطار فإن مقولة مع منظمة التحرير أو ضدها ليست ذات معنى، إلا اذا اوضحنا عن أي شخصية منها يتم الحديث.
الشخصية (الجوهر) الأولى للمنظمة كرمز للقضية وللوطن المعنوي "الحلم" هي تطلع نحو الهدف الأسمى في التحرير والعودة، وفهم للحق على أنه عندما يكف عن كونه مطلقا يصبح تخليا.
فنحن أمام جوهرين للمنظمة يملك كل منهما فهمه الخاص للحق (الفلسطيني). الأول يرى ذلك الحق بشكله المطلق، ويعتبر أنه في الحالة الفلسطينية تختفي المسافة بين المطلق والنسبي، وبين الضروري والممكن، وأي خروج عن ذلك الحق يعتبر تخليا.
أما الجوهر الثاني، فلم يعد يرى الحق إلا في ما هو ممكن منه، فاللا ممكن من الحق لم يعد حقا، وقام بوضع ذلك "اللا ممكن" من الحق الذي لم يعد حقا من وجهة نظره، في مواجهة الممكن منه (ممكنه هو) الذي أصبح عنده كل الحق.
نحن أمام طرفين أحدهما لا يرى أي حق خارج المطلق، والثاني لا يرى الحق إلا ضمن (ممكِنِه)، وآمن أنه لا يستطيع تحقيق أي حق إلا بِرِضا عدوه وبالتوافق معه، فالتقى فهمه بفهم عدوه للحق، وما دام الأمر كذلك فلقد تطلب أن يكف عن اعتبار عدوه عدوا.
هكذا تبدو الأمور اذاً، جسدٌ (منظمة التحرير) بروحين، احدهما يرى حقه في حده الأقصى ولو بدا ذلك متجاوزا للزمن وللمعطيات، ويرى ذلك حلمه الذي لا بد أن يتحقق، والثاني اختصر حقه في لحظة أوقف عندها الزمن وربطه بوجوده هو، حيث لا زمن ولا حياة في غيابه، واعتبر أن "مرضاة" ذلك الذي قام باغتصاب حقه هو الطريق الوحيدة لاستعادة شيء منه، معتبرا أن ذلك هو حقه كاملا. الحق، أو "الشيء منه" في نظر الجوهر الثاني لا يمكنه السير إلا في اتجاه واحد (الى الخلف)، الى التراجع والتناقص، وربط اسباب تراجع الحق باستفزاز اسرائيل التي تريد ذلك الاستفزاز حتى تبرر تراجعها ذلك، فحرص على أن لا تُستفز، وهذا ما قرر شكل علاقته بالجوهر الأول الذي يراه "كمشروع" للاستفزاز لا أكثر.
اذا يشكل الموقف من اسرائيل مُقَرِرا محوريا في العلاقة بين جوهريْ المنظمة، وبالتالي في موضوع الوحدة "الوطنية" الفلسطينية. رضا اسرائيل في هذه الحالة يشكل ممرا اجباريا للوحدة الوطنية كما يراها الجوهر الثاني للمنظمة. لكن الذي قد يساعد على تجاوز ذلك هو الخصوصية الذي تتسم بها اسرائيل كحاملة للمشروع الصهيوني، فهي بتعنتها الكامل في موضوع الحقوق الفلسطينية، وعدم رؤيتها لأية حقوق للشعب الفلسطيني، تجعل الفلسطينيين بكافة اتجاهاتهم يصلون الى استنتاج، أن لا فائدة لأي حديث عن المطلق والممكن من حقوقهم ما دامت اسرائيل تتنكر لكل تلك الحقوق. بل نستطيع القول، أنه في بعض الحالات، يعتبر الحديث عن الممكن من الحق الفلسطيني أشد ازعاجا لإسرائيل من المطلق الذي يمكنها أن تستخدم المناداة به كشكل من اشكال "التطرف" الفلسطيني.
الشخصية الثانية كنظام سياسي هي وسيلة لتحقيق حقوق فلسطينية أقصاها "الدولة"، وهي بالضرورة لن تصل الى الهدف الأسمى. في هذه الحالة بالإمكان تفهم "قدسية" الشخصية الأولى للمنظمة، بينما ليس من المنطق ولا من العدل إسقاط تلك القدسية على شخصيتها الثانية.
من الواضح في ضوء ما تقدم، فإن السلطة التي نشأت إثر حيثيات اوسلو كانت نبتا (فسيلة) نشأت على جذر الشخصية الثانية لمنظمة التحرير، وليست لها أية علاقة بشخصيتها الأولى. من المهم هنا أن نتفهم العلاقة "الخاصة" للسلطة المحصورة بالشخصية الثانية للمنظمة، فهي منبثقة عنها (ابنتها)، وهي لكي تنمو تأخذ غذاءها من الأم (الشخصية الثانية)، وبقدر ما تأخذ الغذاء من أمها ويشتد عودها تُضعف الأم الى حد التلاشي... نحن هنا أمام تجسيد واضح لقانون نفي النفي لمن لا زال يهتم بالديالكتيك. في هذا السياق نفهم العلاقة غير المريحة بين السلطة وجوهر المنظمة الأول، والقول أن السلطة الفلسطينية انبثقت من منظمة التحرير هو كلام قد يكون صحيحا أو غير ذلك، اعتمادا على عن أي جوهر من جوهري المنظمة نتحدث.
هذا هو حال الشخصية الثانية لمنظمة التحرير الآن.. فرغم أن العلاقة بينها وبين السلطة هي علاقة عضوية كأم وابنتها، إلا أن الإبنة هي سبب ضعف الأم وتراجعها وموتها العملي، هي "تحبها" لكن تحب أن ترثها أيضا، وهذا يفسر ولو جزئيا الحساسية المفرطة للإبنة كلما جرى حديث حول الأم. هنا يفترض أن نكون متأكدين أن لا علاقة فعلية ومباشرة للسلطة بالشخصية الأولى للمنظمة، من حيث أنها لا تأخذ دورها كما تفعل مع الشخصية الثانية (في المفاوضات والحراك السياسي)، بل تقوم بدور يتنافى مع دورها المفترض (التحرير). مأزق السلطة هنا أنها في حين هي فعليا ابنة شرعية ووحيدة لأحد جوهري المنظمة، تريد أن تعتبر كذلك بالنسبة للجوهر الآخر، رغم تناقض دوريهما.. هي تريد أن تكون وريثا انتقائيا يرث تاريخ الأول وسمعته ويرث حاضر الثاني ودوره وهذا ما يستحيل أن يكون.
بقي أن نشير هنا الى موضوع الجمع في شخصية واحدة بين رئيس منظمة التحرير الفلسطينية (الذي يمثل الجوهر الأول لها أو هكذا يفترض)، ورئيس السلطة الفلسطينية (الذي مثل جوهرها الثاني)، والذي حدث في حالة الرئيس أبو عمار بداية، واستمر في حالة الرئيس أبو مازن. هذه التجربة لا بد أن تُناقش في ضوء ازدواجية الجوهر الذي تعيشه المنظمة، وفهم موقع السلطة ازاءها.
منذ بداية تسلمه رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية وحتى العام 1974، عندما تم الاعتراف بالمنظمة ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني، كان أبو عمار رئيسا للمنظمة ذات الجوهر الواحد، الشخصية الواحدة والهدف الواحد. كان الأمر طبيعيا حتى تم الاعتراف العربي الرسمي بوحدانية وشرعية تمثيل المنظمة الذي لم يُلغ، ولم يكن بمقدوره أن يلغي، الجوهر الذي كان وحيدا حتى ذلك التاريخ، ثم أُضيف له الجوهر الثاني (النظام السياسي). ذلك الاعتراف في الرباط أعطى المنظمة وحدانية التمثيل، لكنه في نفس الوقت جعلها ثنائية الجوهر (بشخصيتين مختلفتين وجوهرين مختلفين) في معظم الأحيان، وأصبح أبو عمار رئيسا للمنظمة ذات الجوهرين والهدفين، وكذلك بقيت مؤسسات المنظمة المختلفة على نفس صيغتها.
استمر أبو عمار في قيادة المنظمة ذات الجوهرين الذي يمثل أحدهما الحق الفلسطيني الأسمى (المطلق) ويمثل الآخر الحق الفلسطيني (الممكن). كان يعتبر الممكن خطوة نحو المطلق، لذلك لم يشعر بأي تناقض بين الجوهرين والدورين، ولم يفكر في وجود مشكلة في قيادتهما معا.
بقي ابو عمار حتى بعد اوسلو معتقدا (أو هكذا نعتقد أنه اعتقد)،أنه رغم كل التعقيدات المستجدة، فإنه سيستطيع قيادة الممكن نحو المطلق، الى أن اتضح له أن الاتفاق مع الاسرائيليين لا يعني إلا أن يكون الممكن في مواجهة المطلق وعلى حسابه، وأن ما بدا من قبولهم للممكن واعترافهم به هو أمر مؤقت لاستخدامه للقضاء على ما يمثل المطلق، هذا إن كان هناك ممكن أصلا عند التعاطي مع الاسرائيليين، فوجد نفسه يقود عربتين تسير كل منهما عكس الأخرى... وعندما تيقن أن ذلك هو المطلوب منه فضل النهاية التي نعرف.
في حالة الرئيس أبو مازن كان الأمر مختلفا، فلقد جاء الى رئاسة منظمة يدرك سلفا انها بجوهرين، وأن هذين الجوهرين متناقضان الى الحد الأقصى، فقرر أن ينحاز الى الممكن "المواجه" للمطلق، معتبرا أن المطلق عثرة في طريق الممكن، فواقع الأمر كما نرى أن الرئيس أبو مازن رأى المصلحة في التركيز على قيادة السلطة التي تُعنى أساسا بالإدارة، والاستخدام الوظيفي (بقدر ما يخدم السلطة) للجوهر الثاني للمنظمة التي تُٰعنى بالسياسة والممكن، وإدارة الظهر للجوهر الأول لها الذي يعني المطلق. هذا ما جعل الإدارة (السلطة) تأخذ مكان السياسة (المنظمة) في فلسطين، مما أدى إلى اضمحلالها (السياسة) أو شبه ذلك، وهذا ما أدى الى الوضع الهزيل الذي تشهده ليس فقط المنظمة، بل والاحزاب المنضوية تحت لوائها، اذ لا يمكن أن تكون احزاب سياسية سليمة في وضع تختفي فيه السياسة.
اصلاح المنظمة
تدرك النخبة السياسية الفلسطينية على اختلاف مشاربها عمق المعضلة التي وجدت فيها منظمة التحرير الفلسطينية نفسها بها، فهي انتقلت من حالتها البسيطة والسهلة والواضحة، كمنظمة قائدة لشعب اغتصب وطنه، لإعادة تحرير ذلك الوطن وتحرر ذلك الشعب، الى حالة في منتهى التعقيد، تحتاج لفهمها الجمع بين السياسة والاجتماع والسيكولوجيا، وبين العقل والوجدان، وبين المنطق وما بعده.
نحن أمام منظمة احتضنها شعبها بكل ما فيه من جوارح، ومنحها كل ما يستطيع من شرعية، لكن قيادتها ارتأت في مرحلة ما، أن احتضان شعبها لها لا يكفي، فسعت لاكتساب الشرعية من "الآخرين"، وبالقدر الذي كانت "تتشرعن" من الآخرين كانت تفقد معناها.
وفي طريقها للحفاظ على بعض من المعنى من جانب، واكتساب مزيد من الشرعية من الجانب الآخر، أُصيبت "بالانفصام"، ووصلت بها الأمور لأن ينافس بعضُها بعضَها، ويخاصم بعضها بعضها، وأحيانا يقاتل بعضها بعضها، لكن هؤلاء المتنافسين والمتخاصمين والمتقاتلين "احيانا"، حافظوا على أن يكون ذلك تحت نفس الإسم (اليافطة)، التي يدركون اهميتها و"قدسيتها" لدى الشعب، ذلك الذي ادركه اعداء الشعب الفلسطيني ايضا فقرروا أن من الأسهل لتمرير اهدافهم انْ لا مانع من الابقاء على ذلك الإسم ولو مؤقتا. لذلك نرى بعض التشبث بالإسم اقرب لأن يكون حق يراد به باطل عند البعض.
أوصلت اوسلو المنظمة الى قمة فقدان المعنى، وذلك بأن وضعت الجوهر الثاني للمنظمة (النظام السياسي) في مواجهة جوهرها الأول (القضية).قبل ذلك لعب "تشنج" الاسرائيليين في رفضهم المطلق للمنظمة، في الابقاء على علاقة "مقبولة" بين جوهريها، أو على الأقل، لم يكن الجوهران مضطرين لخصومة أكبر، في الوقت الذي يرفض فيه الاسرائيليون كليهما. في اوسلو ادرك (وتدارك) الاسرائيليون "عدم حكمتهم" في الرفض الكلي للمنظمة، وادركوا أن بإمكانهم القبول بإسمها وافراغها من محتواها (معناها)، وبدون أن يدرك الفلسطينيون ذلك (على الأغلب) تم الاتفاق الذي تُرجم فلسطينيا فوزا بالاحتفاظ بثلثي الإسم (المنظمة الفلسطينية) وترحيل الثلث المتبقي (التحرير) للمستقبل، وتُرجم اسرائيليا بأنه "تنازل صعب" للفلسطينيين عن الثلثين مقابل تخليهم عن الثلث الثالث. في نظام المقايضة، لا يستطيع أي طرف "الفوز" بكامل "الكعكة"، فحصل الفلسطينيون على "الإطار" وحصل الاسرائيليون على المضمون.. هذا لخصه الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في اوسلو عندما اعترف الفلسطينيون بأن الأرض (معظمها) للاسرائيليين، وبأن المنظمة (كلها) لنا.
اصلاح المنظمة والوحدة الوطنية
ليس المجال هنا للبحث في سبب ربط الفلسطينيين بين اصلاح المنظمة ووحدتهم الوطنية، تلك التي تعني لهم دخول (إدخال) حماس والجهاد اليها، رغم أن ذلك له دلالات كبيرة، فهو يعطي الانطباع أن مشكلة المنظمة (إن وجدت) هي مشكلة تقنية حلها بقبول الحركتين الاسلاميتين شروط اوسلو (شروط اسرائيل عمليا) وينتهي الأمر، ولو كان الأمر غير ذلك، بمعنى انه لو كانت المنظمة تعاني من مشاكل أخرى غير ذلك لكان بالإمكان إصلاحها، دون ربط ذلك بدخول حركات أخرى اليها.
فهم الوحدة الوطنية السائد لدى معظم النخبة الفلسطينية، أنها تكتمل بوجود الاسلاميين في المنظمة، وما عليهم إلا أن يدخلوا فيها لتتحقق الوحدة. فوجود الحركات الإسلامية والوطنية داخل إطار المنظمة، يعني أن الوحدة الوطنية قد تحققت، وأن الإصلاح قد تم، وإن كان هناك من نواقص فهي في الجوانب الإدارية وليس اكثر.
باعتقادنا أن فهم الوحدة الوطنية الفلسطينية والانقسام الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية من هذه الزاوية، لن يؤدي إلا الى مزيد من التشرذم والى مزيد من التيه. ان من لا يرى "الانقسامات" الحقيقية والجوهرية على مضمون الحق والقضية، تلك الانقسامات الفعلية والمعبرة عن "المرض" الحقيقي في الساحة الفلسطينية، ويحصرها في الجانب "التنظيمي" و"الشكلي"، إنما يريد أن يخفي انقساماته، ليس من أجل أن ينهي تلك الانقسامات، بل من أجل أن لا "يشمت" به الآخرون، والنتيجة أن نذهب الى الهاوية "موحدين".
لطالما فهم الفلسطينيون وحدتهم الوطنية، أو أرادوا أن يفهموها، على أنها تتمثل بوحدة القيادة، وأنه ما دامت جميع الحركات السياسية منضوية تحت هذه القيادة فالوحدة الوطنية قائمة. من الغريب أن أحدا من الفلسطينيين لم يتحدث (بما يكفي على الأقل)، عن ضرورة العودة لتحديد الهدف الأساس الذي شارف على الضياع، وبناء الاستراتيجية الفلسطينية في ضوء ذلك الهدف، وبعدئذ يمكن الحديث عن شكل البنية التنظيمية التي يمكنها الدفع بإتجاه تحقيق ذلك.
ان الحديث عن إدخال تنظيمات جديدة الى منظمة التحرير، في ظل "انفصام" الهدف، وغياب الاستراتيجيا، ما هي إلا وصفة لخلق المزيد من التناقضات بين القوى السياسية الفلسطينية. هذا لن يحقق الوحدة الوطنية ولا يصلح منظمة التحرير.
ما يجري في التجربة الفلسطينية الآن بخصوص الوحدة الوطنية يتم بمنطق مقلوب، فالجبهة الوطنية تعني قيادات متعددة وهدف واحد، في حين تريدها النخبة الفلسطينية قيادة واحدة، ولا بأس في تعدد الأهداف لحد التعارض احيانا وفي ظل غياب أو تغييب الهدف في احيان أخرى. ان ذلك ما هو إلا نظرة احادية الجانب، وهي للأسف تتصف بالكثير من السطحية والاستخفاف، ولا تلامس الوضع الفلسطيني المعقد للمنظمة وللحالة الفلسطينية بشكل عام.
لقد اوضحنا وجود جوهرين اصبحا متباعدين لحد التناقض داخل منظمة التحرير بشكلها الحالي، ولو تم إدخال حماس والجهاد فيها دون المتطلبات الأساسية للوحدة الوطنية المتمثلة بوحدة الهدف والاستراتيجيا، فإننا انما نهيء الأمر لمزيد من الانقسام، قد يترجم بشكل أكثر عنفا مما جرى حتى الآن.
ليس "الدمج" وصفة أبدية للوحدة كما يبدو للبعض، ففي حالة المنظمة التي يمكن وصفها الآن "بالسيامية"، حيث توأمان في جسد واحد، فإن الدمج بين الجسدين تعني قتلهما معا، في حين أن الحل للمشكلة يكون بالفصل بين جسديهما.
ان تفكير النخبة الفلسطينية الدائم بالدمج بين المختلفين، ووضع نصب الأعين فقط وحدانية القيادة، والإصرار على الامتثال للمتطلبات "الخارجية" من أجل ذلك الدمج، سوف يصطدم دائما بالتناقض الواضح بين فهمين مختلفين للوضع الفلسطيني، وسيؤدي ذلك على الأرجح الى موت "الطرفين" ووضعهما "موحدين" في تابوت واحد.
أكثر ما يتحدث الفلسطينيون عنه في حياتهم السياسية المعاصرة، هو منظمة التحرير الفلسطينية. وهم اذ يفعلون ذلك، قلما يدركون أن هذه المنظمة، وإن كانت تحمل إسما واحدا، ويرأسها رئيس واحد، و"تقودها" لجنة تنفيذية واحدة، إنما هي في واقع الأمر مزدوجة الجوهر. إنها "منظمتين" في واحدة، لكل منها "معنى" مختلفا و"هدفا" مختلفا و"فهما" مختلفا و"نهجا" مختلفا ورؤيا مختلفة لكل ما يتعلق بفلسطين، وطنا وقضية وشعبا ومواطنا وإنسانا وماضيا وحاضرا ومستقبلا.
هذا "الاثنان في واحد"، أدى الى خلط كبير في المفاهيم وفي التصورات وفي التوقعات، فرغم أن "معالم" كل "منظمة" من الاثنتين واضحة لدرجة كبيرة، إلا أن رغبة الفلسطينيين في رؤية الاثنتين واحدة، اضافة الى المشترك الإداري والشكلي بينهما يبرر و"يفسر" ذلك الخلط الذي يقع فيه الفلسطينيون فيما بينهم، بل يقع فيه الفلسطيني الفرد بينه وبين نفسه.
يحدث ذلك "الخلط" عندما يجري الحديث عن أية أمور تتعلق بمنظمة التحرير، الدور والشرعية والكفاءة والمواقف، ويحدث عند الإعجاب أو اللوم، وعند المطالبة أو الرضا، والمدح أو الذم. ويتضح ذلك الخلط اكثر، عند الحديث عن "الوحدة الوطنية" والانقسام وإصلاح منظمة التحرير.
عندما يتعامل الفلسطيني مع كل هذه الأمور، تجده يتنقل "لا اراديا" بين "المنظمتين" كأنهما واحدة، فينتصر للأولى لإنجاز قامت به الثانية، ويلوم الثانية على شيء قامت به الأولى، ويطالب واحدة بأمر ليس مطلوبا منها بل من الأخرى.
أما بالنسبة للوحدة الوطنية، فغالبا ما يجري حديث الفلسطينيين نُخَبا وشعبا حول الوحدة "الشكلية" و"الادارية"، فهناك من هو خارج الأطر الإدارية للمنظمة ما عليه إلا أن ينضم لها، حتى يكون هناك وحدة وينتهي الانقسام ويتم الاصلاح.
إن كان لا بد من حديث حول الوحدة الوطنية والانقسام وإصلاح المنظمة، فأول ما يجب أن ينظر اليه الفلسطينيون، هو الهدف والاستراتيجيا والرؤيا والأفق والقضية. ان حصر هذه الأمور العظيمة في الجانب الشكلي الإداري ما هو إلا حرث في البحر، وذهاب بالأمر الى مكان آخر، ومن يفعل ذلك فهو على الأغلب "مرتاح" للوضع الحالي، ولا يريد لا وحدة وطنية ولا إنهاء انقسام ولا إصلاح. ان الصخب الذي يحرص على ابرازه البعض من المدافعين عن شكل المنظمة على حساب مضمونها، ليس أكثر،على ما يبدو، من بحث عن شفيع لخطاياهم التي ارتكبوها بحق المنظمة وبحق فلسطين



#اياد_البرغوثي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- منظمة التحرير الفلسطينية... وحدانية الشكل وازدواجية الجوهر


المزيد.....




- بايدن يرد على الانتقادات بشأن زلات لسانه
- إيران.. النتائج الأولية للانتخابات الرئاسية تظهر تقدم -الإصل ...
- الانتخابات الإيرانية.. تقدّم بزشكيان في النتائج الأولية
- بايدن يبرر أداءه في المناظرة ويؤكد أنه -الأنسب- للفوز على تر ...
- رئيس وزراء بريطانيا يتخذ أول قرار.. إلغاء -قانون رواندا-
- أعضاء من الكنيست في -الليكود- لنتنياهو: اعزلوا غالانت وهاليف ...
- أوربان: استعدادات -الناتو- لعملية في أوكرانيا تهدد الحلف بال ...
- -كنت مريضا وانتابني شعور سيئ-.. بايدن يبرر مجددا أداءه الفاش ...
- مصر.. وزير خارجية سابق يكشف سبب خلاف والده مع السادات
- مصر.. هيئة الدواء تحظر بيع حقن مضادات حيوية من فئة محددة للص ...


المزيد.....

- فكرة تدخل الدولة في السوق عند (جون رولز) و(روبرت نوزيك) (درا ... / نجم الدين فارس
- The Unseen Flames: How World War III Has Already Begun / سامي القسيمي
- تأملات في كتاب (راتب شعبو): قصة حزب العمل الشيوعي في سوريا 1 ... / نصار يحيى
- الكتاب الأول / مقاربات ورؤى / في عرين البوتقة // في مسار الت ... / عيسى بن ضيف الله حداد
- هواجس ثقافية 188 / آرام كربيت
- قبو الثلاثين / السماح عبد الله
- والتر رودني: السلطة للشعب لا للديكتاتور / وليد الخشاب
- ورقات من دفاتر ناظم العربي - الكتاب الأول / بشير الحامدي
- ورقات من دفترناظم العربي - الكتاب الأول / بشير الحامدي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - اياد البرغوثي - منظمة التحرير الفلسطينية... وحدانية الشكل وازدواجية الجوهر