أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - حكايات من التراث حكايات موصلية طلال حسن















المزيد.....



حكايات من التراث حكايات موصلية طلال حسن


طلال حسن عبد الرحمن

الحوار المتمدن-العدد: 8027 - 2024 / 7 / 3 - 13:04
المحور: الادب والفن
    


حكايات من التراث







حكايات موصلية








طلال حسن




هذه الحكايات مستمدة من

" الحكايات الشعبية الموصلية "

التي جمعها في جزأين

الأستاذ أزهر العبيدي























وطار الديك











" 1 "
ـــــــــــــــــ
ـ كوكو .. ريكو .
وفزّ القاضي من نومه متمتماً : أعوذ بالله .
وإذا هو وجهاً لوجه ، مع من كانت يسميه ـ في سرّه طبعاً ـ تلّ اللحم ، وهي زوجته نادرة ، وتذكر بشيء من المرارة ، أنه قضّى حتى الآن " 29 " عاماً ، من محكوميته المؤبدة معها .
وحدجته نادرة بنظرة ، لا يتمناها القاضي حتى لعدوه ، وقالت : خيراً إن شاء الله .
وتلفت القاضي حوله ، وقال دون أن ينظر إليها : هذا الديك ، لا يهدأ ولا يهجع ، لعنه الله .
وأشاحت نادرة عنه بوجهها ، وهي تمصمص بشفتيها الغليظتين ، لابدّ أنه تظن أنه قد جنّ ، وهذا ليس جديداً عليها ، فهي ترى ـ رغم أنه قاض ـ أنه مجنون ، ربما منذ أن ولد .
وتمتم القاضي ، كأنما يحدث نفسه : لعن الله جابر .
والتفتت نادرة إليه ، وحدقت فيه ، ولعله أراد اتقاء عاصفة من عواصفها ، فقال : حاجبي ، حاجبي في دار القضاء ، منذ .. منذ سنين .
ونظرت إليه متسائلة ، فتابع قائلاً : إنه يقول ، وكأنه خبير في الديكة ، إن للديك ، أي ديك ، يمكن أن يكون له عشر دجاجات ..
وأشاحت نادرة بوجهها عنه ، وقالت : هذا إن كان ديكاً بحق ، وليس ..
وتمتم القاضي متذمراً ، وهو يهرب بعينيه منها : هذا اللعين ، جابر وليس الديك ، له ثلاث زوجات ، وسيتزوج الرابعة قريباً ، بإذن الله .
ورمق نادرة بنظرة سريعة ، وقال في نفسه ، المرأة في الجاهلية ، كانت متعددة الأزواج ، ليس مثنى وثلاث ورباع فقط ، وإنما يصل عددهم إلى العشرة .
طبعاً لم تسمع زوجته نادرة ما قاله في نفسه ، لكنها مع ذلك ، قالت له بحدة : انهض ، واغتسل ، وارتدي ثيابك ، واذهب إلى دار القضاء .
ونهض القاضي من فراشه ، وقال : لم تذكري شيئاً عن الفطور ، إنني جائع .
وانهمكت الزوجة نادرة بتسوية الفراش ، وهي تقول : لقد تأخرت اليوم ، افطر في دار القضاء .
ونهض القاضي ، واغتسل ، وارتدى ملابسه ، وخرج من البيت ، وبطنه الخاوية تقرقر من الجوع ، وفكر ، ماذا تعشى البارحة ؟ حاول جهده أن يتذكر ، لكن دون جدوى ، إن زوجته نادرة ، هي التي تقرر ماذا يأكل ، هذا إذا قررت ، أن يأكل ذلك المساء .
وعند الباب ، كما في كلّ صباح ، لقيه حاجبه جابر ، فأسرع إليه ، وقال : السلام عليك ، يا مولاي .
وتلفت القاضي حوله عابساً ، وتساءل : أين البغل ؟
فردّ جابر : مريض يا مولاي .
وتساءل ثانية : والبغّال ، أين هو ؟
فردّ جابر قائلاً بنفس اللهجة : إلى جانب البغل المريض ، يا مولاي .
فصاح القاضي ، وقد تذكر أنه قاض خارج البيت وليس داخله مع زوجته نادرة : أيها الأحمق ، ما حاجة البغل إليه ، حتى وهو مريض ؟
ولاذ الحاجب بالصمت لحظة ، وبدا قلقاً حائراً ثم قال : وكذلك نحن ، أقصد أنت ، يا مولاي ، لا حاجة لنا بالبغّال بدون البغل .
وتلفت القاضي حوله ، وقال : وما العمل ؟
فقال الحاجب جابر : هذا ما قدّره الله علينا هذا اليوم ، يا مولاي ..
وتمتم القاضي : لعنكَ الله .
فقال جار متردداً : نمشي .. على أقدامنا .
ولاذ القاضي بالصمت برهة ، ثم قال : ما قدر لهذ اليوم ، واضح من بدايته .. كوكو .. ريكو .
وحدق الحاجب جابر في القاضي ، وهو يقول " كوكو .. ريكو " ، ماذا جرى للقاضي المسكين اليوم ، لابدّ أن زوجته النادرة قد .. ما علينا .
وتهيأ القاضي للسير ، وهو يقول : حسناً ، فلنمشِ .

" 2 "
ــــــــــــــــ
سار القاضي مقطباً ، واتجه إلى دار القضاء ، وخلفه سار حاجبه جابر ، وهو يذبّ الناس عنه قائلاً : ابتعدوا .. القاضي العادل .. أفسحوا الطريق .
وكان الطريق يغص بالناس ، وكانوا إذا سمعوا الحاجب يصيح ، يرمقون القاضي بنظرات سريعة مترددة ، وسرعان ما يبتعدون عنه ، وأي منهم ما كان ليريد أن يقف أمام هذا " القاضي العادل " في دار القضاء .
وخلال سيره وسط الناس في الطريق ، هو القاضي العادل ، الذي يخشاه الناس جميعاً ، كان يسمع قرقرة بطنه ، ويلعن ـ في سره ـ تلّ اللحم المعسكر في بيته ، ويلعن الساعة التي اقترن بهذا التلّ ، ويرجو من الله عزّ وجلّ أن .. كوكو.. ريكو .
وتوقف القاضي ، وخلفه توقف الحاجب جابر متلفتاً حوله ، لماذا وقف القاضي ؟ مهما يكن هذا شأنه ، فإنه " القاضي العادل " ، وتمتم القاضي ، وكأنما يحدث نفسه : أشمّ رائحة .. كوكو .. ريكو .
ومال الحاجب جابر عليه ، وتساءل بصوت متردد : مولاي ؟
ورفع القاضي أنفه ، وتشمم الرائحة متلذذا! ، وقال : أشمّ رائحة ديك يُشوى .
وتلفت الحاجب جابر متشمماً ، ثم أشار بإصبعه إلى جهة اليمين ، وقال : من هنا تأتي الرائحة ، يا مولاي ، من مخبز جسّام .
وهمهم القاضي ، وهو يتبع رائحة الديك المشوي : هذا المجرم جسّام ، لم يقف أمامي بعد ، مهما يكن ، سيقف أمامي ، إن عاجلاً أو آجلاً .
وتوقف القاضي ، وخلفه حاجبه جابر ، أمام المخبز ، وإذا الخباز جسّام يُخرج من جوف مخبزه ، ديكاً روميّاً ضخماً ، يتعالى منه البخار ، فصاح : جابر .
وانتبه الخباز إليه ، فجمد في مكانه ، والصينية التي فيها الديك الروميّ ترتعش بين يديه ، ومال جابر على القاضي ، وقال : مولاي ، مرني .
وأمره القاضي قائلاً : خذ هذه الصينية .
وحدق الحاجب جابر في الصينية ، التي فيها الديك الروميّ المشوي ، ثم قال : مولاي ، هذه الصينية فيها .. ديك رومي مشوي .
فصاح القاضي به ، وعيناه الشرهتان على الديك الروميّ المشوي : أيها الأحمق ، ماذا أفعل بالصينية ، إن لم يكن فيها ، ديك روميّ مشوي ؟
وعلى الفور ، انقض الحاجب جابر على الصينية ، التي فيها ديك روميّ مشوي ، وانتزعها من بين يدي الخباز جسّام ، وهو يقول : هاتِها بأمر القاضي العادل .
وصاح الخباز ، بصوت متلجلج ، وهو يحاول استعادة الصينية : لا ، لا يا مولاي ، هذه الصينية ، والديك الرومي المشوي ، الذي فيها ، لأحد الجيران ، وقد دفع لي أجرتي ، وسيأتي بعد قليل ليأخذها .
وحدق القاضي فيه غاضباً ، وصاح : توقف ، أتعرف من أنا أيها المجرم ؟
وتوقف الخباز ، وقال متلجلجاً : مولاي ، ليس هناك أحد في المدينة لا يعرفكَ ، أنت القاضي العادل .
فقال القاضي : ما دمت تعرفني ، وتعرف أنني القاضي العادل ، قضينا بمصادرة هذا الديك الرومي المشوي اللعين ، والتنفيذ فوراً .
والتفت إلى جابر ، الذي كان يحمل الصينية ، وفيها الديك الرومي المشوي ، وقال : لقد تأخرنا قليلاً ، هيا إلى دار القضاء .
وسار القاضي مبتعداً ، يتبعه الحاجب جابر ، وبين يديه الصينية التي يتربع فيها الديك الرومي المشوي ، وخرج الخباز جسّام من مخبزه ، ولحق بالقاضي ، وحاول أن يعترضه ، وهو يقول : مولاي ، أتعرف صاحب هذا الديك الرومي المشوي ؟
وقال القاضي : ليكن من يكون ، إنه ديك روميّ مشويّ .. وهذا يكفي .
وتابع الخباز قائلاً : إنه جاري المصارع المجنون ، سيقتلني إن لم يجد ديكه الرومي المشوي ، مولاي .. ماذا أقول له ؟
فردّ القاضي ، دون أن يتوقف : قال له طار .
وتوقف الخباز مذهولاً : طار !
وواصل القاضي سيره ، وهو يقول لحاجبه جابر : اتبعني ، يا جابر ، وإلا برد الديك الرومي .
وحثّ الحاجب جابر خطاه ، وهو يحمل الصينية ، التي فيها الديك الروميّ المشوي ، والبخار مازال يتصاعد منه ، وهو يقول : حاضر سيدي .
وصاح الخباز ، وهو يكاد يبكي : سيأتي صاحب الديك ، جاري المصارع ، وسيقتلني ، ما العمل ؟
وقال القاضي ، دون أن يتوقف : لا عليك ، أنا القاضي ، القاضي العادل جئني به إلى دار القضاء ، وسأقضي بينكما بالعدل .



" 3 "
ـــــــــــــــ
جلس القاضي على كرسي القضاء ، هانئاً ، ممتلئ البطن ، مرتاحاً ، فقد سكتت أمعاؤه عن القرقرة والتذمر ، فطبطب على كرشه ، وقال : أيها الديك ، نم قرير العين في جوفي الجنة ، حتى النهاية .
وانتبه القاضي العادل ، إلى حاجبه جابر ، يتقدم منه ، ويقول له : مولاي ..
فقاطعه القاضي قائلاً : لا أريد اليوم أن أرى أحداً ، اللهم إلا الخباز جسّام ومن معه ، هذا إذا جاء الخباز ، ومن معه .. أي صاحب الديك ، اذهب .
وذهب الحاجب جابر ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، فهو يعرف القاضي جيدا ، ويعرف أنه الآن في دار القضاء ، وليس في البيتِ ، وأن عليه أن يطيعه .
وعند الضحى ، ارتفعت ضجة خارج دار القضاء ، فاعتدل القاضي فوق كرسي القضاء ، وقال : الآن يبدأ عملي ، العدل أساس الملك .
وأقبل الحاجب جابر مسرعاً مضطرباً ، وهو يصيح : مولاي ، الخباز .. و ..
ورفع القاضي يده ، مشيراً له أن يسكت ، وقال : أدخلهم ، الخباز ومن معه ، أسرع .
وخرج الحاجب جابر ، وسرعان ما عاد ، ومعه الخباز جسّام ، وقد تمزقت ملابسه ، وتورمت عيناه ، وإلى جانبه رجل مفتول العضلات ، يمسك به حارسان قويان ، وهو يصيح غاضباً : أريد حقي ، أريد العدالة .
فرفع القاضي العادل يده ، وقال : كفى ، أنت في دار العدالة ، اسكت وألا أسكتناك في الزنزانة .
وسكت الرجل ، ووقف أمام " القاضي العادل " إلى جانب الخباز ، وحاول أن يتمالك نفسه ، وقال بصوت حاول أن يكون هادئاً : مولاي ، أريد أن تنصفني ، وتأخذ حقي من هذا الخباز .
ورمق القاضي الخباز بنظرة سريعة ، ثم حدق في الرجل ، وقال : أنظر ماذا فعلت بهذا الرجل الطيب ، المسكين ، الضعيف ، لقد مزقت ثيابه ، وورمت عينيه ، وأسلت دمه البريء و .. لماذا ؟
ونظر الرجل إلى الخباز ، ثم صاح : كلا ، لم أسل قطرة من دمه ، يا مولاي .
وحدق القاضي فيه ، وقال : أجبني ، لماذا ؟ أنت تقف في دار القضاء ، وأمامي ، أنا القاضي العادل .
وتقدم الرجل قليلاً ، وقال : حسناً ، اسمعني يا مولاي ، جئت إلى هذا الخباز ، بديك رومي ضخم ..
وتنهد القاضي متمتما : آه .
وتابع الرجل قائلاً : وطلبت منه أن يشويه في مخبزه ، ودفعت له أجرته مقدماً ..
وهزّ الخباز جسّام رأسه موافقاً ، فقال الرجل : وعندما جئت في الموعد ، لآخذ الديك الرومي المشوي ، فوجئت باختفاء الديك ، ولما سألته ، أين هو ؟ أين ديكي الرومي ، أتعرف ماذا قال لي ؟
فردّ القاضي : لا ، لا أعرف ، ماذا قال لك ؟
فصاح الرجل : طار .
ولاذ القاضي بالصمت ، فتابع الرجل قائلاً : قال لي طار ، طار ديكي الرومي ، أهذا كلام يقوله عاقل ؟ ويريدني أن أصدقه ، وأعود إلى البيت ، بدون ديكي الروميّ المشويّ ، فديكي طار .
ومال القاضي عليه ، وقال له : الخباز قال لك ، الديك الرومي طار ؟
فردّ الرجل متهكماً : نعم ، يا مولاي ، قال لي طار .
واعتدل القاضي في كرسي القضاء ، وتساءل في برود : وما العجب في ذلك ؟
واتسعت عينا الرجل ، وقال : مولاي ..
وتابع القاضي كلامه قائلاً : الديك الرومي طائر له جناحان ، ومن الطبيعي والحالة هذه أن يطير ، نعم ، ديكك الرومي .. طار .
وتلفت الرجل حوله مذهولاً ، كمن يبحث عمن يُشهده على هذا الأمر ، ثم نظر إلى القاضي ، وقال : لكن الديك الروميّ ، يا مولاي ، مشوي .
وتنهد القاضي ، وتمتم : آه .
وتابع الرجل صائحاً : نعم مشوي .. مشوي .. فكيف يطير ؟ أفهمني ، يا مولاي ، فأنا .. ربما .. لا أفهم .
وهزّ القاضي رأسه ، وقال بكلّ برود : سبحان الله ، يا رجل ، أنت مؤمن .. مسلم ، أم أنك لست مسلماً .. ولا مؤمناً ، أخبرني ، أصدقني .
فقال الرجل ، أنا مسلم ، والحمد لله .
فقال له القاضي : ما دمت مسلماً ، فإنك تعرف أن الله قادر على كلّ شيء ، وهو يُحيي الموتى وهي رميم في قبورها ، أحي الله ديكك الرومي ، وهو مشوي ، هذه معجزة ، ستخرس الكفار ، ديكك الرومي اللذيذ ، أعني المشوي ، أحياه الله ، وطار .
وفغر الرجل فاه على سعته ، لا يدري ماذا يقول ، فأشار القاضي إلى الخباز جسّام ، وقال : أنظر ماذا فعلت بهذا الخباز لمسكين الطيب ، هذه وحدها جريمة بحق الإنسانية ، وضميري لن يرتاح إلا أحققتُ الحقّ ، وبذلك أحقق العدالة ، التي أمر بها الله ، فأنا هنا ، في دار القضاء ، ولابدّ أن أقيم العدل .
وصاح الحاجب : يحيا العدل .
وأشار القاضي للحارسين ، وقال بصوت هادئ : أيها الحارسان ، خذا هذا الرجل ، وضعاه في الزنزانة ، وسننظر في أمره غداً ، إن شاء الله .
وأخذ الحارسان الرجل ، واتجها به إلى الخارج ، فالتفت القاضي العادل إلى الخباز ، وقال له : أيها الرجل الطيب ، عد إلى مخبزك ، وأنصحك أن لا تشوي لأحد ديكاً رومياً ، فقد لا تسلم الجرة كما سلمت هذه المرة .
























كوكوختي













" 1 "
ـــــــــــــــــ
مالت قمر ، بربيعها السادس عشر ، على أختها شمس ، وكانت شمس في فراشها مستغرقة في النوم ، وهمست لها : شمسي ، أشرقي ، يا حبيبتي .
وتململت شمس ، دون أن تفتح عينيها البنيتين ، وردت بصوت مثقل بالنعاس : قمر ؟ دعيني أنم قليلاً ، الشمس نفسها لم تشرق بعد .
ومدت قمر يدها ، وهزت شمس مازحة ، وقالت : أنتِ شمسي ، وأريدكِ أن تشرقي عليّ .
واعتدلت شمس ، وقالت : غلبتني ، سأنهض وأمري إلى الله ، وأعد لكِ الفطور .
واعتدلت قمر ، وقالت ، أعددت الفطور ، لا تنسي ، اليوم ستذهبين بالغزل إلى السوق .
ونهضت شمس ، واحتضنت قمر ، وطبعت قبلة على خدها ، وقالت : قمر .
وتملصت قمر من بين ذراعيها ، وقالت : في رأيكِ أنتِ فقط ، يا شمس .
وهمهمت شمس مبتسمة : هم م م م .
وضربتها قمر برفق على كتفها ، وقالت : وفي نظر قاطع الطريق أيضاً ، تعالي .
وجلست قمر أمام سفرة الطعام ، فجلست شمس قبالتها ، وقالت : آه لو لم يكن قاطع طريق ، إنه شاب ، وأي شاب ، يا .. قمر .
ودست قمر لقمة في فمها ، وقالت : خذيه إذن .
وابتسمت شمس ، وهي تأكل ، وقالت : إنه يريدك أنتِ ، فأنت قمره في الصحراء .
ونظرت قمر إليها ، وقالت : لكني إذا تزوجته ، ربما لن تريني ثانية ، فأنا سأعيش في خيمة وسط الصحراء ، مع الغزلان وطيور القطا ، وقاطع الطريق .
وشهقت شمس ، وأفلتت اللقمة من يدها ، وقالت : عندئذ سأموت ، حياتي بلا قمر ، ليست حياة .
وحاولت قمر أن تبتسم ، وهي تقول : أكملي أكلكِ ، أنتِ لم تأكلي شيئاً .
ونهضت شمس ، وقالت : لقد شبعت .
ونهضت قمر بدورها ، فقالت شمس : سأدخل الغرفة ، وأغير ملابسي ، وآخذ الغزل إلى السوق ، وأعطيه للتاجر الذي نتعامل معه .
ودخلت شمس الغرفة ، وراحت تبدل ملابسها ، فوضعت قمر الغزل في زنبيل ، وقدمته لشمس ، وقالت : لا تنسي ، اشتري لي تفاحاً .
وهزت شمس رأسها مبتسمة ، وقالت : التاجر الذي نتعامل معه ، يسأل عنكِ دائماً ، ويقول لي ، تلك القمر ألم تكبر بعد ؟
ودفعت قمر الزنبيل إلى شمس ، وقالت لها مازحة : اذهبي إلى السوق ، ولا تتأخري ، ولا تنسي أن تشتري لي تفاحاً ، آه لو كنتِ تفاحة .
وخرجت شمس من الغرفة حاملة الزنبيل ، وقالت : أنا تكفيني تفاحة خدكِ .
وفتحت الباب ، وخرجت ، وهي تقول : أغلقي الباب ، وكوني حذرة ، آه يا قمري .

" 2 "
ـــــــــــــــــ
حملت شمس الغزل ، ومضت به إلى السوق ، لتوصله إلى التاجر ، الذي يبيعانه ما تغزلانه هي وأختها قمر ، ثم تشتري ما تحتاجانه ، وتعود به إلى البيت .
وانهمكت قمر في شؤون البيت ، من غسل مواعين الطعام ، وإعادة ترتيب فراشها ، وفراش أختها شمس ، وكنس الفناء ، وإعداد الصوف للغزل ، ريثما تعود أختها شمس من السوق .
قبيل منتصف النهار ، وقمر منهمكة في إعداد الصوف للغزل ، سمعت الباب يُطرق ، وهبت من مكانها ، تاركة الصوف قرب الدولاب ، لابدّ أنها شمس ، وطرق الباب ثانية ، وهي ما تزال في الفناء ، فهتفت متهللة فرحة : مهلاً ، يا شمس ، إنني قادمة .
وفتحت قمر الباب ، وعلى الفور وئدت فرحتها ، لم تكن شمس بالباب ، وإنما رجل ملثم ، مترب ، متسربل في ثياب الأعراب ، وخنجره في حزامه ، وإلى جانبه يقف حصانه ، إنه قاطع الطريق .
وتقدم قاطع الطريق منها خطوة ، وقال : قمر ..
وتمتمت قمر ، وهي تهمّ بإغلاق الباب : من !
وبسرعة خاطفة ، مدّ قاطع الطريق يده ، وأمسك بقمر ، وقال : أنا صخر .
وحاولت قمر أن تتملص منه ، وتغلق الباب ، وهي تقول بصوت خائف مضطرب : يا ويلي ، أنت اللص ، قاطع الطريق .
وسحب صخر بقوة قمراً إليه ، وهو يقول من وراء لثامه : لقد أردتك بالحسنى ، لكنك ركبتِ رأسكِ ورفضتِ ، ولم أجد سبيلاً إليكِ إلا هذا .
وفي لمح البصر ، ألفت قمر نفسها ، فوق الحصان ، وصخر يجلس خلفها ، ويشدها إليه بقوة ، وسرعان ما انطلق الحصان بهما ، ينهب الأرض نهباً ، والشرر يتطاير من حوافره .
وغاب الحصان بصخر وقمر ، وراح يعدو مسابقاً الريح ، يطير بهما إلى قلب الصحراء ، وظل باب البيت موارباً ، والريح تهزه ، وهي تئن متوجعة .
قبيل منتصف النهار ، عادت شمس من السوق ، تنوء بحمل زنبيل ، مليء بالخضر واللحم والصوف ، الذي أخذته من التاجر ، لتغزله هي وأختها قمر .
وحين اقتربت من البيت ، فوجئت بالباب موارباً ، ولا أحد يقف خلفه أو إلى جانبه ، وهذا قلما يحدث ، يا للعجب ، وخفق قلبها متوجسة ، ماذا جرى ؟
ودفعت الباب قليلاً ، وهي تتمتم : قمر ..
لم يردّ أحد عليها ، فدخلت إلى الفناء ، وأغلقت الباب ، وتلفتت حولها ، الصمت في كلّ مكان ، لكنه صمت غير مريح ، كأنه صمت القبور .
وهتفت شمس ثانية بصوت أعلى : قمر .
وهذه المرة أيضاً ، لم يردّ أحد ، ووضعت شمس الزنبيل قرب الشجرة ، التي تتوسط الفناء ، وتقدمت نحو الغرفة بهدوء ، وهي تهتف : قمر .. قمر .
وفي حالة كهذه ، كانت قمر تطل عليها من باب الغرفة ، وتهتف ضاحكة : شمس ، لقد أخفتكِ .
لكن قمر لم تطل عليها هذه المرة ، وتقدمت شمس من الغرفة ، ودخلتها بهدوء وتوجس ، وتوقفت مرعوبة ، ليس في الغرفة غير الصوف والدولاب ، ويبدو أن قمر كانت تعمل ، فأين هي ؟ وماذا جرى ؟
وقفلت شمس إلى الفناء مسرعة ، وهي تصيح بصوت مضطرب : قمر .. قمر ..
ومرة أخرى ، لا أحد ، لا قمر ، يا للويل ، لعلها خرجت ، هذا غير ممكن ، فهي لا تخرج إلا مع شمس بالذات ، أهي في السطح ؟ وماذا يمكن أن تفعل هناك ؟
وعلى الفور ، راحت شمس تصعد الدرج إلى السطح ، لكن دون جدوى ، قمر ليست موجودة هنا أيضاً ، وأطلت على أسطح الجيران ، رغم أنها تعرف أن من المحال أن تكون قمر هناك ، وتطلعت يميناً ويساراً ، دون جدوى ، إن قمر ليست في البيت ، أين هي إذن ؟
ونزلت شمس من السطح ، وفتحت باب البيت ، وأطلت منه إلى الخارج ، وراحت تتلفت حولها ، وعلى الأرض ، أمام الباب ، لمحت آثار أقدام حصان ، وخفق قلبها مصدومة ، يا للويل ، إنه قاطع الطريق .

" 3 "
ـــــــــــــــــ
توقف صخر بحصانه ، قرب خيمة كبيرة ، وسط رمال الصحراء ، وترجل عن حصانه ، ثم مدّ يديه إلى قمر ، وأنزلها برفق إلى الأرض .
وتلفتت قمر حولها ، تتملى التلال والكثبان الرملية ، ثم توقف نظرها عند الخيمة الكبيرة ، فابتسم صخر ، وقد أرخى لثامه بعض الشيء ، وقال لها : سكنك سيكون هنا ، في هذه الخيمة ، يا قمر .
ولاذت قمر بالصمت ، وقد اربدّ وجهها ، فقال صخر : خيام أعواني ، وبعض عوائلهم ، وراء تلك التلال ، أنتِ لستِ وحيدة هنا ، اطمئني .
والتفتت قمر إلى صخر ، ورمقته بنظرة سريعة ناقمة ، وقالت : لست متعودة على الحياة في الصحراء ، لقد ولدت في المدينة ، وعشت فيها ، لا أريد أن أبقى هنا ، أعدني إلى بيتي .
وهزّ صخر رأسه ، وهو يحدق فيها ، وقال : لا .. لا .. حياتك ستكون هنا ، يا قمر ، في هذه الخيمة الكبيرة ، منذ الآن وإلى النهاية .
وردت قمر : كلا ..
وقاطعها صخر قائلاً بلهجة قاطعة : ومنذ الغد ستكونين زوجتي ، وهذا ما صممت عليه ، منذ أن رأيتكِ ، سيأتي الملا إبراهيم عصر الغد ، ويعقد قراني عليكِ .
وأشاحت قمر بوجهها عنه ، وقد بدا عليها الغضب والحزن الشديد ، وقالت : هذا مستحيل ، إنني أفضل الموت على مثل هذا الزواج .
ومن بعيد ، أقبل رجل من أعوان صخر ، يحمل صينية فيها طعام يتصاعد منه البخار ، وقال مبتسماً ، وهو يقترب من صخر وقمر : هذا طعام ، أعددناه لكما ، نرجو أن يعجب ضيفتنا الكريمة .
وأخذ صخر الصينية من الرجل ، وقال له : شكراً أخي ، تحياتي للإخوان جميعاً ، وقل لهم ، زواج أخيكم صخر سيكون غداً مساء .
واستدار الرجل ، ومضى متهللاً ، وهو يقول : ألف مبارك ، هذا عيد ، وسيكون أجمل عيد في المنطقة .
والتفت صخر إلى قمر ، وهو يحمل صينية الطعام ، وقال لها : سأضع الطعام داخل الخيمة ، وسأتركك اليوم لتأكلي وحدك ، وترتاحي .
ولاذت قمر بالصمت ، ولم تتحرك من مكانها ، فاستدار صخر حاملاً صينية الطعام ، ودخل الخيمة ، وهو يقول : تعالي بسرعة ، وإلا برد الطعام .

" 4 "
ـــــــــــــــــ
في اليوم التالي ، عند الضحى ، اقترب صخر من مدخل الخيمة ، ونادى : قمر .
واعتدلت قمر في فراشها ، لكنها لم تردّ ، ونادى صخر ثانية بصوت أعلى : قمر .. قمر .
ونهضت قمر ، ووقفت وسط الخيمة ، وردت بصوت جاف قائلة : نعم .
ودخل صخر ، بدون لثام ، وخنجره في وسطه ، وقال مبتسماً : عمتِ صباحاً .
وردت قمر على مضض : أهلاً .
وتجرع صخر الردّ الجاف ، وقال : جاء ملا إبراهيم ، ومعه الشهود ، وسيعقد قراننا الآن .
ولاذت قمر بالصمت ، فقال صخر : إنه يريد أن يراكِ على انفراد ، قبل أن يعقد القران .
وحدقت قمر فيه ، وقالت : أنا أيضاً أريد أن أراه ، فلديّ ما أقوله له .
ونظر صخر إليها متشككاً ، وقال : ملا إبراهيم رجل حكيم ، وله مكانة كبيرة عندنا ، أرجو أن تكوني معه هادئة عاقلة .
وأشاحت قمر عنه ، وقد لاذت بالصمت ، فاستدار صخر ، ومضى إلى الخارج ، وهو يكتم حنقه ، وسرعان ما دخل الملا إبراهيم الخيمة ، وهو رجل في حوالي الستين ، يبدو هادئاً طيباً ، ونظر إلى قمر ، ثم قال : يبدو أنكِ لستِ من البادية ، يا ابنتي .
وردت قمر بصوت هادئ : نعم ، أنا من المدينة ، ولدت وعشت فيها كلّ حياتي ، إلى أن اختطفني صخر ، وجاء بي إلى هنا بالقوة .
ولاذ الملا إبراهيم بالصمت برهة ، كان يتملى خلالها قمر ، ثم قال بصوت هادئ : دعاني صخر ، وهو معروف هنا ، لأعقد قرانكما ..
وقاطعته قمر قائلة : يريد أن يتزوجني عنوة ، وهذا ما أرفضه ، ولا أوافق عليه .
وهزّ ملا إبراهيم رأسه ، وقال لها : لا إكراه في الزواج ، يا ابنتي ، ولن أعقد قرانه عليك إلا بموافقتك .
واقتربت قمر منه ، وتشبثت به ، وقالت : إنني ابنتك ، يا عم ، وأنت رجل دين طيب ، وليس لي غيرك هنا ، لا تتخلّ عني ، فلن أتزوجه حتى لو متّ .
فربت ملا إبراهيم على رأسها ، وقال : اطمئني ، يا ابنتي ، لن أزوجكِ له ، مهما كان الثمن .
واستدار ملا إبراهيم ، وخرج من الخيمة ، وهو يقول : أستودعكِ الله ، يا ابنتي .
فقالت له قمر بصوت تخنقه الدموع : أشكركَ ، يا عمي ، في رعاية الله .
ومن الخارج ، تناهى إلى قمر ، وهي تقف في وسط الخيمة ، حديث لا يُسمع جيداً بين صخر وملا إبراهيم ، وساد الصمت ، وسرعان ما أقبل صخر وفي يده طوق حديدي ، متصل بزنجيل من الحديد ، وحدق في قمر ، وقال بغضب مكتوم : ما دار بينكِ وبين ملا إبراهيم ، لن يجديكِ نفعاً ، سأتزوجكِ إن عاجلاً أو آجلاً ، وبكل الطرق الممكنة ، ولا تفكري لحظة واحدة ، بأنني يمك أن أعيدك يوماً إلى بيتكم في المدينة .
واستدار صخر ، وعلق الطوق والزنجيل بأحد أعمدة الخيمة ، ثم حدج قمر بنظرة غاضبة متوعدة ، ومضى إلى الخارج .
وحدقت قمر بالطوق والزنجيل ، التهديد واضح ، إما الطوق ، أو الرضوخ ، آه الطوق صعب للغاية ، لكن الرضوخ أصعب بكثير .

" 5 "
ــــــــــــــــــــ
في تلك الليلة ، رقدت قمر في الخيمة ، وكما في الليلة السابقة نام صخر خارج الخيمة ، ملتفاً بفروته الدافئة ، وحصانه مربوط إلى شجرة ، على مقربة منه .
وغفت قمر ، في ساعة متأخرة من الليل ، غفوة خفيفة قلقة ، وفي منامها رأت حمامة ، تطل عليها من النخلة ، وهي تنوح : كوكوختي .. كوكوختي .
فرفعت عينيها الغارقتين بالدموع إليها ، وقالت بصوت باكٍ : عيني .. أختي .
تساءلت الحمامة : أين أنتِ ؟
فردت قمر بصوتها الباكي : في صحراء .. بالحلة .
وتساءلت الحمامة ثانية : كيف حالك ؟
أجابت قمر : على الله .
وتساءلت الحمامة : ماذا تأكلين ؟
أجابت قمر : باقلة .
وتساءلت الحمامة : وماذا تشربين ؟
أجابت قمر : ماء الله .
ومالت الحمامة على قمر ، وقالت بصوت نائح دامع : عودي إليّ ، يا قمر ، عودي إلى أختك المحبة شمس ، عودي وإلا متّ .
وصمتت الحمامة برهة ، ثم راحت تنوح باكية : كوكوختي .. كوكوختي .. كوكوختي .
وفزتْ قمر من نومها ، وإذا هي وحيدة في الخيمة ، التي يضيئها قنديل خافت الضوء ، وشعرت بصدرها يضيق ، وأنفاسها تتردد بصعوبة في صدرها ، فنهضت من فراشها ، وخرجت من الخيمة .
وفوجئت بصخر ، يعتدل في مكانه قرب الخيمة ، والفروة على كتفيه ، ويخاطبها قائلاً : أراكِ استيقظتِ من النوم ، يا قمر ، لعلكِ تريدين ماء .
فتراجعت قمر قليلاً ، وقد أشاحت بوجهها عنه ، وردت بجفاء : كلا ، لست عطشانة .
ونهض صخر من مكانه ، ملتفاً بفروته الدافئة ، واقترب منها ، وقال : لم تأكلي هذا اليوم إلا القليل ، إن هذا يضرّ بصحتك ، يا قمر .
ورمقته قمر بنظرة ناقمة ، وقالت : لو لم أكن آمل في لقاء أختي ، لما أكلت حتى القليل هذا .
وحدق قمر فيها ملياً ، وقال بصوت مهادن : مهما يكن ، ستألفين الجو هنا ، يا قمر ، وستعودين إلى تناول الطعام بشكل طبيعي يوماً بعد يوم .
ولاذت قمر بالصمت ، فقال صقر : غداً عند الضحى ، ستزورك المرأة الحكيمة ، وستتحدث إليك ، عسى أن تثوبي إلى رشدك ، وإلا ندمت .
واستدارت قمر ، وهي تغالب غضبها ، ودخلت الخيمة مسرعة ، دون أن تردّ عليه بكلمة واحدة ، واستلقت في فراشها ، وعيناها تسحان دمعاً ، لكنها لم تنم حتى الساعات الأولى من الفجر .

" 6 "
ـــــــــــــــــ
عند شروق الشمس ، وضع صخر صينية الفطور أمام قمر ، وقال لها بلهجة آمرة : كلي ، واستعدي ، ستأتي المرأة الحكيمة بعد قليل .
وأشاحت قمر برأسها ، عن صينية الطعام ، وقالت : لن آكل اليوم ، وليكن ما يكون .
وحدق صخر فيها غاضباً ، لكنه لم يتفوه بكلمة ، ثمّ مدّ يده ، وانتزع الطوق من عمود الخيمة ، وأقترب من قمر ، وسحبها إليه ، ووضع الطوق حول عنقها .
وتملك الغضب والرعب قمر ، وحدقت في صخر ، وقالت : ما هذا !
وربط صخر الزنجيل بعمود الخيمة ، وقال : لن أنزع هذا الطوق عن عنقك ، حتى تلتقي بالمرأة الحكيمة ، وتعلني موافقتك على الزواج .
وهزت قمر رأسها ، وقالت : هذا محال .
ومضى صخر إلى الخارج غاضباً ، وهو يقول : ستأتي المرأة الحكيمة ، وسنرى .
وتناهى عند الضحى إلى قمر ، صوت امرأة تتحدث في الخارج ، وسمعت صخر يقول لها : الفتاة في داخل الخيمة ، إنها فتاة عنيدة ، أريد همتكِ .
ودخلت الخيمة امرأة في حدود الخمسين ، تبدو محنكة ، قوية الشخصية ، ذات نظرة ثابتة ذكية ، وما إن رأت قمر ، والطوق حول عنقها ، حتى تمتمت مستنكرة : يا للوحشية ، صخر هذا ينسى أنه يتعامل مع بشر .
واقتربت من قمر ، ولمست الطوق ، وحدقت فيها ، وتساءلت : منذ متى ، وأنتِ هكذا ؟
وشعرت قمر بتعاطف المرأة ، لكنها قالت بجفاء : قبل أن تأتي بقليل ، وهو نوع من التهديد .
ولاذت المرأة الحكيمة بالصمت ، وكأنها تذكرت المهمة التي انتدبت لها ، فقالت بصوت رتيب : إنه يريدكِ ، يا فتاة ، وصخر هذا ليس رجلاً عادياً ، والكثير من الفتيات يتمنين الزواج منه .
وحدقت قمر فيها ، وقالت : لست واحدة من هذه الفتيات ، ولن أكون واحدة منهن ، مهما كان الثمن .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : لقد تقدم لخطبتي ، قبل أكثر من شهر ، إنني أعيش مع أختي شمس ، ولا أستطيع أن أفارقها ، فاعتذرت ، ولم أوافق ، وبدل أن يحترم خياري ، اختطفني من بيتي ، وجاء بي إلى هنا .
ولاذت المرأة الحكيمة بالصمت ، ونظرت إلى قمر بعينين متعاطفتين ، وقالت بصوت هادئ : كنت متعاطفة معه ، إلى أن رأيتك ، والطوق في عنقك ، وسمعت منكِ ما قلته ، أنتِ أشجع مني يا فتاة .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : في شبابي ، أجبرني أبي على الزواج من شخص لا أريده ، فكرهت حياتي معه ، وحاولت الانفصال عنه دون جدوى ، فهربت من دياري ، وجئت للعيش هنا .
ومالت عليها قمر ، والطوق حول عتقها ، وهي مشدودة إلى عمود الخيمة ، وقالت لها : لدي أخت ، تكبرني بسنتين ، وهي حياتي ، ولا حياة لي من غيرها ، لا أدري ماذا جرى لها ، منذ أن اختطفني صخر من بيتي ، وجاء بي إلى هنا ، وأبعدني عنها .
واقتربت المرأة الحكيمة منها ، وقالت لها : أستطيع أن أساعدكِ ، وأجعلكِ تذهبين إلى أختكِ شمس .
ونظرت قمر إليها مذهولة ، وقالت : لكن حول عنقي طوق حديدي ، مربوط بزنجيل حديدي ، ومفتاح الطوق عند صخر ، وأنت تعرفين صخر .
واقتربت المرأة الحكيمة منها ، وقد لاحت على شفتيها ابتسامة غريبة ، وقالت : ماذا لو تحولتِ إلى حمامة ؟ وإن كان الطوق الحديدي ، سيترك أثره على عنقكِ .
واتسعت عينا قمر ، وقالت : لكن هذا محال .
واتسعت ابتسامة المرأة الحكيمة : هذا ليس محال عندي ، إنني ساحرة ، وسأحولك في الحال إلى حمامة ، وسيكون بمقدورك الذهاب إلى أختك شمس .
ولاذت قمر بالصمت غير مصدق ، ومدت المرأة الحكيمة يدها ، ولمست رأس قمر ، وإذا بها تتحول إلى حمامة مطوقة ، وأفلتت من الطوق الحديدي ، فقالت لها المرأة الحكيمة : أنتِ حرة الآن ، يا قمر ، أسرعي ، وطيري إلى أختك شمس .
وصمتت المرأة الحكيمة لحظة ، ثم قالت : وسأطير أنا بعدك حمامة ، ولن يقع لنا على أثر .
وانسلت الحمامة المطوقة من الخيمة ، دون أن ينتبه إليها صخر ، الذي كان ما يزال يقف أماما الخيمة ، وانطلقت كالسهم ، إلى أختها شمس ، وطول الطريق ، كان يتراءى لها ، كيف ستفرح شمس بلقائها ، وكيف ستأخذها فرحة في أحضانها المحبة الدافئة .

" 7 "
ـــــــــــــــــ
طارت الحمامة المطوقة ـ قمر ، ولم تبالِ لا بالجوع ، ولا بالعطش ، ولا بالتعب الشديد ، فالمهم عندها أن تصل إلى البيت ، وترى أختها شمس ، وتراها شمس ، فلابدّ أنها الآن على أحرّ من الجمر ، لرؤيتها والاطمئنان عليها ، بعد أن غابت عنها كلّ هذه المدة .
ولاحت مدينتها الحبيبة من بعيد ، فزادت من سرعة طيرانها ، رغم شعورها بالتعب ، ودققت الحمامة المطوقة ـ قمر النظر جيداً ، يا للفرح ، ذاك هو بيتهم ، وتلك هي شجرة التوت وسط الفناء ، التي تزقزق العصافير بين أغصانها ، ويهدل الحمام آمناً مطمئناً .
واقتربت من البيت ، وحامت حول الشجرة ، لعلها ترى شمس في الفناء ، تعمل أو تجلس تحت الشجرة ، لكن شمس لم تكن هناك ، لابدّ أنها إذن في الغرفة ، تعزي نفسها بغزل الصوف ، وستفاجئها بما غزلته ، وتقول لها : انظري ، يا قمر ، غزلت كلّ هذا الصوف ، كما لو كنت تعملين معي .
وهبطت الحمامة المطوقة ـ قمر في الفناء ، وسارت بقدميها الصغيرتين نحو الغرفة ، وهي تفكر بأنها ستفاجىء أختها شمس ، بهيأتها الجديدة كحمامة مطوقة ، وقد تدهش شمس من أثر الطوق على عنقها ، فتحدثها عما فعله صخر بها ، من أجل أن يجبرها على الزواج منه ، ربما ستبكي شمس ، بل ستبكي حتماً ، و ..
ودخلت الحمامة المطوقة ـ قمر إلى الغرفة ، وتوقفت مذهولة ، لا أثر لشمس هنا أيضاً ، ورأت الصوف مكوماً في طرف الغرفة ، والدولاب إلى جانبه ، ولاحظت أن فراشها وفراش أختها شمس ، مهملان ، باردان ، لا يبدو أن أحدهما قد مُسّ منذ فترة طويلة ، وخفق قلبها الصغير مرتعباً ، أين شمس ؟
وخرجت الحمامة المطوقة ـ قمر من الغرفة ، وطافت في الفناء ، ثم حلقت فوق الشجرة ، وتطلعت إلى السطح ، لا أثر لشمس أيضاً ، وحلقت حول بيوت الجيران ، لعلها ترى شمس هنا أو هناك ، لكنها لم تعثر على أثر لشمس في أي مكان .
وراحت الحمامة المطوقة ـ قمر ، تطوف حول بيوت المدينة وأحيائها ، وحدائقها وبساتينها ، وتحط فوق الأشجار ، في أية ساعة من النهار ، وتنوح دائماً : كوكوختي .. كوكوختي .. كوكوختي .
وتنصت بين حين وأخر ، وقلبها الصغير يخفق آملاً ، لعل أختها شمس ، تسمعها يوماً ، وتردّ عليها بصوتها الحبيب : عيني .. أختي .





























يا حمصة يا زبيبة










" 1 "
ـــــــــــــــــــ
تناهى صوت ، ليس من فوق الشجرة ، وإنما من أسفلها ، وليس صوت بلبل بالتأكيد ، وإنما صوت فرفور ، وهو يغط في نوم عميق ، والابتسامة تملأ وجهه ، ولمَ لا يبتسم ، وهو في جزيرة كالجنة ، تحيط به عشر جوار ، يقدمن له أشهى الطعام والشراب ، ويغنين له أجمل الأغاني ، وبأصوات كتغريد البلابل .
وتململ في نومه منزعجاً ، والحق معه ، فقد اختفت الجواري العشر ، ومعهن اختفى أشهى الطعام والشراب ، أما الأغاني فهو لم يعد يسمع أصوات الجواري ـ البلابل ، إنما صياح الديك المبحوح .. كوكو ريكو .. ، وصياح بقرة تخور بأعلى صوتها .. مووووو ..
وها هي العجوز الخرفة " حنونة " تحجل كالأطفال ، وتغني يا حمثة .. يا زثبيبة .
وتوقفت المرأة الخرفة " حنونة " ، وحدقت في فرفور الراقد تحت الشجرة ، وهي مازالت تغني " ياحمثة .. يا ثبيبة " ، فصاح بها فرفور بها : اخرسي ، ألا يكفيني صياح الديك العجوز ، وخوار البقرة ، لتنهقي أنت أيضاً بأغنية ، يا حمثة يا ثبيبة ؟ كفى .. اصمتي .
وابتسمت المرأة الخرفة " حنونة " ، بفم يكاد يكون خال من الأسنان ، ولوحت بحمصة في يدها ، وقالت : انظر ، ، يا فرفور ، حمثة .
وكتم فرفور غيضه ، وقال ساخراً : حمثة !
واقتربت منه المرأة الخرفة " حنونة " ، وهي تلوح بحمصة ، وقالت : أعطاني إياها ملا حميد .
واعتدل فرفور قليلاً ، وقال : آه .. ملا حميد .
فتابعت المرأة الخرفة قائلة : ذهبت إليه ، وهو يصلي في الجامع ، وقلت له ، يا ملا حميد ، إنني جائعة ، أريد ثدقة منك ، فأنت ملا القرية .
وهز فرفور رأسه ، وقال : وتصدق ملا حميد عليكِ بهذه الحمثة .
فمالت المرأة الخرفة عليه ، وقالت : قال لي ، خثي هذه الحمثة ، وكليها دفعة واحدة ، وثتشبعين ..
وسكتت لحظة ، ثم قالت : إنها حمثة مسحورة ومباركة ، هذا ما قاله ملا حميد .
وهنا مدّ فرفور يده ، واختطف الحمصة من يدها ، فصاحت المرأة ملتاعة : حمثتي .
وعلى الفور ، دسّ فرفور الحمصة في فمه ، ثمّ قال لها : حقاً إنها حمثة مسحورة ومباركة ..
وطبطب على بطنه ، وقال : لقد شبعت ، إنني لم أشبع هكذا منذ أشهر ، لكن حمثتك هذه ، التي أهداها إليك ملا حميد ، أشبعتني ، أشكرك .
وطبطب فرفور على بطنه ثانية ، وقال : إنها هنا الآن ، تسبح سعيدة في أمعائي .
وعبست المرأة ، وبدا وكأنها ستبكي ، وقالت : أريد حمثتي ، أريدها ، هاتها .
وتمدد فرفور تحت الشجرة ، وقال لها : ملا حميد لديه أختها ، وهي أكبر وأسمن منها ، اذهبي إليه ، وسيعطيها لك ، فهو ملا خيّر ، ويحب الصدقات .
لاذت المرأة الخرفة بالصمت ، وبدا وكأنها كانت تفكر ، فقال لها فرفور : لا تفكري طويلاً ، فقد يتصدق ملا رشيد بأخت حمثتك ، لأول جائع يسأله الصدقة ، اذهبي إليه بسرعة ، وخذي الحمثة الكبيرة والسمينة ، هذا أفضل لك ، هيا أسرعي .
وعلى الفور ، مضت المرأة الخرفة مسرعة إلى الجامع ، حيث يقيم ملا حميد ، لعلها تحظى بأخت " الحمثة " ، التي أخذها منها فرفور ، وابتلعا .
وما إن غابت المرأة الخرفة ، حتى اعتدل فرفور ، ومدّ يده في فمه ، وأخرج الحمصة منه ، وراح يتأملها ضاحكاً ، ثم صمت مفكراً ، وقال : من يدري ، فقد تكون هذه الحمصة مسحورة ومباركة فعلاً ، فتأخذني بطريقة ما ، إلى جزيرة أحلامي ، حيث الطعام والشراب والجواري ، بعيداً عن كوكوريكو ، ومووووو .


" 2 "
ــــــــــــــــ
طوال ساعات ، ظلّ فرفور يتسكع في أحياء القرية ، وهو يفكر في ما عليه أن يفعله بهذه " الحمثة " ، التي أخذها من المرأة العجوز الخرفة .
وطبعاً هو ليس مغفلاً ، أو ساذجاً لدرجة أن يعتقد ، بأن تلك " الحمثة " ، يمكن أن تكون مسحورة أو مباركة ، لكنه مع ذلك ، كان حريصاً على الاحتفاظ بها ، عسى أن ينتفع منها في خطة من خططه ، التي تكاد لا تتوقف ، في أي ساعة من ساعات الليل أو النهار .
وقبيل المساء ، كان أمام باب بيت " العمة عيشة " ، صاحبة الديك العجوز اللعين ، الذي أيقظه بصوته المبحوح ، وأخرجه من الجزيرة ـ الجنة ، التي كان يرتع فيها مع الجواري العشر .
وطرق الباب ، والحمصة في يده ، وسرعان ما جاءه صوت " العمة عيشة " ، تردّ عليه منزعجة : كفى ، أنت تكسر الباب ، إنني قادمة .
وما إن فتحت الباب ، ورأت فرفور ، حتى رسمت على وجهها الشائخ ابتسامة واسعة ، وقالت : فرفور ! يا للأسف ، لم يبض ديكي بعد .
وردّ فرفور على ابتسامتها ، بابتسامة مختصرة ، علقها على شفتيه الرطبتين ، وقال : أيتها العمة ، دعيني من ديكك الآن ، جئتك لأمر هام .
وتظاهرت " العمة عيشة " ، بأنها تصدقه ، فقالت وهي تفسح له الطريق : تفضل ادخل ، يا فرفور ، أنت وأمرك الهام على عيني ورأسي .
ودخل فرفور إلى الفناء ، وتلفت حوله ، ثم قال : لا أرى ديكك العتيد بين الدجاجات ، يا له من ديك أحمق .
فردت " العمة عيشة " قائلة : لقد ابتعد في زاوية بعيدة ، أنت تعرف أنه ديك عجوز متنسك ، ولم يعد يحتمل ثرثرة دجاجاته العشر .
وقال فرفور : آه لقد شاخ ، هذا واضح ، حتى أنه لم يعد يصيح كوكوريكو إلا في الأعياد والمناسبات الوطنية ، أو عندما أكون نائماً في مدى صوته المبحوح .
وتوقفت " العمة عيشة " ، ومالت على فرفور ، وقالت : والآن حدثني عن أمرك الهام ، الذي جئت إليّ ، في هذا الوقت ، لتسرني به ، هيا تكلم .
ورفع فرفور يده ، وفتح كفه ، وأراها الحمصة ، وقال : انظري أيتها العمة عيشة ..
ونظرت " العمة عيشة " ، وقالت : هذه حمصة ، يا فرفور ، مجرد حمصة .
فقال فرفور : كلا ، هذه ليست مجرد حمصة ..
وحدقت " العمة عيشة " في الحمصة ، وقالت : ما أراه في يدك ، يا فرفور ، مجرد حمصة .
وأدنى فرفور كفه بالحمصة من " العمة عيشة " ، وقال : إنها حمصة مسحورة ، مباركة ، باركها في ليلة مكتملة القمر ، ملا حميد نفسه .
وقالت " العمة عيشة " : آه ملا حميد ، الآن عرفت ، لماذا هي عجفاء هذه الحمصة .
ونظر فرفور إليها صامتاً ، فأضافت " العمة عيشة " قائلة : أخذت إليه عنزتي قبل شهر ليباركها ، فجف حليبها تماماً بعد يومين .
وأطبق فرفور كفه على الحمصة ، وقال : لا .. لا .. يا عمة .. أنت تظلمين ملا حميد .
فقالت " العمة عيشة " : دعنا من ملا حميد ، وحدثي عن الحمصة ، ماذا تريدني بشأنها ؟
فقال فرفور : يا عمة عيشة ، هذه الحمصة ستغنيني ، والمغني الله ، هكذا أراها ، وأخاف أن يسرقها مني أحد اللصوص ، إذا بقيت عندي ليلاً ، فخذيها ، وأبقيها عندك هذه الليلة ، وسآتي غداً عند الفجر ، وأخذها منك ، وأذهب بها إلى قرية عين الجحش .
ومدّ فرفور يده بالحمصة ، فأخذتها " العمة عيشة " ، وقالت : تقصد عين البقرة .
فقال فرفور : نعم ، عين البقرة ، تلك القرية مليئة بالبقر ، وأنا لو تعرفين ، كم أحب البقر .
وغالبت " العمة عيشة ضحكتها " ، وقالت وهي تضربه على كتفه : أنت فرفور بحق ، ولولا إنني أعرفك جيداً ، لقلتُ إنك مجنون .
واستدار فرفور ، واتجه إلى الخارج ، ولوح بيده " للعمة عيشة " ، وقال : لست مجنوناً ، يا عمة عيشة ، من يدري ، فقد أحصل على بقرة ، من قرية عين البقر .
وأغلقت " العمة عيشة " الباب وراءه ، وهي تقول : انتظرك فجر الغد ، لأرد لك أمانتك العجفاء .. الحمصة المسحورة المباركة .

"3 "
ــــــــــــــ
قبيل صباح اليوم التالي ، عند باب بيت العمة عيشة ، كان فرفور على موعد ، ليس مع مووووو ، وإنما مع كوكوريكو ، فما أن طرق الباب ، حتى هب عليه صوت الديك ، دون أن يكون فيه أثر للبحة ، يصيح .. ويصيح : كوكوريكو .. كوكوريكو .. كوكوريكو .
لم تفتح العمة عيشة الباب ، كما توقع فرفور ، فطرقه مرة ثانية ، وتراءى له النسر ، أم أنه الغراب ؟ ينقض في منامه ، ويختطف الحمصة من بين أصابع يده ، ويطير بها بعيداً .
وأفاق فرفور على الباب يُفتح بهدوء ، وتطل من ورائه العمة عيشة ، فنظر إليها فرور مستغرباً ، وقال : صباح الخير عمتي عيشة .
وتنحت العمة عيشة قليلاً عن مدخل الباب ، وقالت : أهلاً فرفور ، صباح النور .
ومع خطواته الأولى في الفناء ، واجهه الديك صائحاً بصوت مجنون كأنه يتحداه : كوكوريكو .
وفكر فرفور ، لقد جنّ الديك ، وأغلقت " العمة عيشة " الباب ، دون أن تتفوه بكلمة ، وحدق فرفور فيها ، هناك أمر غير طبيعيّ ، وارتفع صوت الديك ، وهو يقف متوتراً في مواجهته : كوكوريكو .
لم يتمالك فرفور نفسه ، فصاح بالديك : كفى .
وردّ عليه الديك غاضباً : كوكوريكو .
ونظر فرفور إلى العمة عيشة ، وقال مندهشاً : يبدو أن ديككِ الهرم قد جنّ .
فنظرت " العمة عيشة " إليه ، وقالت : إنها حمصتك المسحورة المباركة ، يا فرفور .
وتابع فرفور قائلاً ، وهو يحدق في الديك : البارحة لم أسمعه يصيح كوكوريكو إلا مرة واحدة ، وبدا لي أنه كما قلت عنه ، ناسك ، منعزل ، ملّ الدنيا وما فيها من طعام وشراب ودجاجات .
وسكت فوفو لحظة ، ثم قال : على ذكر الحمصة ، تصوري ، رأيت البارحة في المنام ، نسراً ، وربما كان غراباً ، لا أذكر بالضبط ، انقض من الظلام ، وخطف الحمصة ، وطار بها بعيداً .
لم تنبس " العمة عيشة " بكلمة واحدة ، وهز فرفور رأسه ، وقال : أضغاث أحلام .
فرمقته " العمة عيشة " بنظرة خاطفة ، وقالت : بل هي الحقيقة ، يا فرفور .
وحدق فرفور فيها صامتاً متوجساً ، والديك مازال يصيح كوكوريكو ، فقالت " العمة عيشة " : انظر إليه ، هذا ما فعلته به حمصتك المسحورة .
وتمتم فرفور مفكراً : حمصتي مسحورة !
فقالت العمة عيشة : إنه يصيح كوكوريكو ، منذ أن ابتلعها مساء البارحة حتى الآن .
وحدق فرفور في " العمة عيشة " صامتاً ، فتململت " العمة " تحت أنظاره ، ثم قالت : هذا قدره ، المسكين ، يبدو أنه سيظل يصيح كوكوريكو حتى يموت .
وسكتت " العمة عيشة " ، فقال فرفور بصوت قاطع : أريد الحمصة .
فقالت " العمة عيشة " : الحمصة الآن ، يا فرفور ، في جوف كوكوريكو .
فقال فرفور : لكني وضعتها أمانة عندكِ أنتِ .
ومالت " العمة عيشة " برأسها ، وقالت : إنه .. إنه كوكوريكو ، يا فرفور ، وهو كا تعلم ، حيوان .
ونظر فرفور إليها ، وقال : أنتِ لستِ كوكوريكو ، ما العمل ، ليس لي غير .. قرقوش .
وصمت فرفور ، فتمتمت العمة عيشة ، وقد جحظت عيناها : قرقوش !
وصمتت احظة ، ثمّ قالت : لا .. لا .. أرجوك يا فرفور .. ليس قرقوش ..
وصمتت لحظة ، ثم أشارت إلى الديك ، وقالت : خذه ، خذ الديك ، يا فرفور ، إن حمصتك في جوفه .
وعلى الفور ، صمت الديك ، وقد تجمدت عيناه ، فمدّ فرفور يديه المتلهفتين ، وأطبق عليه بقوة ، ثم قال " للعمة عيشة " : قد أعيده إليكِ ، إذا باض حمصتي المسحورة المباركة في يوم ما .




" 4 "
ــــــــــــــــ
خرج فرفور من قريته ، مع شروق الشمس ، ووصل إلى قرية " عين البقرة " بعد منتصف النهار ، وطوال هذه الفترة ، كان يُطبق بكفيه على الديك ، الذي لم يصح مرة واحدة .. كوكو ريكو .
وتوقف عند مدخل القرية ، وقد هاجمه شعور شديد بالجوع والعطش ، عندما تناهى إليه من بيت قريب ، صوت بقرة تخور : مووووو .
وتلفت حوله ، والديك صامت بين يديه ، ثم اتجه إلى البيت ، الذي صدر منه خوار البقرة ، وطرق بابه ، ووقف جانباً كأي رجل حيّي مهذب ، ينتظر بصبر جواب طرقاته الخجولة الهادئة .
وفتح الباب ، بعد دقائق قليلة ، وأطلت منه امرأة وسط ، ممتلئة الجسم ، لها عينان واسعتان متشككتان ، وحدقت فيه ملياً ، ثم تساءلت متوجسة : نعم .
ونظر فرفور إليها ، والديك بين يديه ، وقال دون تذلل أو توسل : لله يا محسنين .
وقالت له المرأة بشيء من الخشونة : لديك ديك يُشبع ضبعاً ، كله بدل أن تتسول .
وتطلع فرفور أليها بعينين هادئتين ، وقال : سمعت ، وأنا أسير قرب بيتك الجميل ، خوراً عذباً ، فاشتهيت أن أرشف شيئاً من حليب هذه البقرة المباركة .
ولاذت المرأة بالصمت ، وقد لانت ملامحها بعض الشيء ، وقالت : أنت أول متسول ، يطرق بابي ، ويطلب شيئاً من حليب بقرتي .
وتنحت قليلاً عن مدخل البيت ، وقالت : لدي قليل من الحليب ، تعال ، سأقدم لك شيئاً منه .
ودخل فرفور إلى فناء البيت ، والديك بين يديه ، وتلفت حوله في الفناء ، وقال : يبدو أنك تعيشين وحدك ، في هذا البيت الجميل .
فردت المرأة قائلة : كلا ، لست وحيدة في هذا البيت ، معي بقرتي ، وكذلك كلبي ذاك .
وزام كلب ضخم ، كان يقف إلى جانب البقرة ، فنهرته المرأة قائلة : اهدأ .
وهدأ الكلب الضخم ، وأقعى قرب البقرة ، فأشارت المرأة إلى بساط تحت شجرة وسط الفناء ، وقالت لفرفور : أطلق ديكك الهرم هذا ، واجلس هنا تحت الشجرة ، ريثما آتيك بالحليب .
ومضت المرأة إلى الغرفة ، فأطلق فرفور الديك ، ثم جلس على البساط ، وخاطب ديكه قائلاً : قف بعيداً ، وأطبق منقارك ، إياك أن تصيح كوكو ريكو .
وتراجع الديك خائفاً ، وهو يراقب الكلب الضخم بعينيه الذابلتين ، وتوقف حائراً ، متردداً ، على مقربة من البقرة ، التي حدجته بنظرة عدوانية غاضبة .
وعادت المرأة من الغرفة ، ومعها كوبين من الفخار ، في كلّ منهما شيء من الحليب ، وقدمت أحدهما لفرفور ، واحتفظت بالآخر ، وقالت : تذوقه ، إنه حليب لذيذ جداً ، لكنه للأسف قليل .
ورشفت المرأة شيئاً من الحليب ، ونظرت إلى فرفور ، وقالت : لم أكن وحيدة دائماً ، صحيح أنه لم يكن لي ولد ولا بنت ، لكن كان لي تيس وزوج .
ونظر فرفور إليها ، وهو يرتشف الحليب من كوبه ، فقالت المرأة : زوجي كان ضعيفاً بعض الشيء ، وقد نطحه التيس ذات يوم ، وقتله في الحال .
وقال فرفور : إنّا لله ، وإنا إليه راجعون .
وتابعت المرأة قائلة : لم أسامح التيس ، رغم حبي الشديد له ، بعته لقصاب لا يرحم ، بعته بثمن بخس ، وطلبت منه أن يطعمه لكلابه ، فالقصاب كان لديه الكثير من الكلاب المتوحشة الشرسة .
وصمتت المرأة لحظة ، رشفت خلالها شيئاً من الحليب ، ثم قالت : للأسف ، إن البقرة ، رغم إنها ليست كبيرة في السن ، إلا أن حليبها بدأ يشحّ .
ورشف فرفور من كوبه رشفة أخرى ، وقال : عالجيها ، حرام أن يشحّ حليبها ، وهو بهذا اللذة .
ووضعت المرأة الكوب جانباً ، بعد أن رشفت كلّ ما فيه من الحليب ، وقالت : وصفوا لي دواء مجرّباً ، لكنه لا يتوفر هنا ، وإنما عند عطار في المدينة .
وأعاد فرفور الكوب فارغاً إلى المرأة ، وقال : لا عليكِ ، يا سيدتي ، سأذهب اليوم إلى المدينة ، وآتيكِ بالدواء غداً ، هذا إذا أردتِ أنتِ .
وتهلل وجه المرأة فرحاً : هذا ما أتمناه ، إذا كان الأمر لا يُثقل عليك .
فقال فرفور : بالعكس ، يا سيدتي ، هذا يسرني .
وحدقت المرأة فيه لحظة ، وقد بدت فرحة متحمسة ، ثم قالت : لديّ طعام لذيذ ، أعددته صباح اليوم ، لنتغدّ أولاً ، فأمامك طريق طويل .
وبعد أن تناولا الغداء ، وقد كان لذيذاً فعلاً ، أعطته المرأة مبلغاً من المال ، وذكرت له اسم الدواء ، والعطار الذي يبيعه في المدينة ، فوضع فرفور المال في جيبه ، وقال للمرأة : ابقي ديكي المبارك عندك حتى أذهب إلى المدينة ، وأعود بالدواء من العطار .
وهزت المرأة رأسها ، وهي تحدق في الديك ، فقال فرفور : هذا الديك اللعين ، له مكانة كبيرة عندي ، فهو صندوق كنزي ، الذي يعادل حياتي .
ونظرت المرأة إليه متعجبة ، مستفسرة ، فأضاف قائلاً : وكنزي هو حمصة ..
وتمتمت المرأة مذهولة : حمصة !
فقال فرفور : حمصة نادرة ، حمصة مسحورة مباركة ، وهي عندي أثمن من جوهرة كبيرة .
وتنهدت المرأة ، وقالت : مهما يكن ، اطمئن ، سأحرص على ديكك ، كما أحرص على بقرتي ، التي لا أملك أعزّ وأغلى منها في الحياة .

"5 "
ـــــــــــــــ
عاد فرفور من المدينة ، قبل ظهر اليوم التالي ، ومعه الدواء الذي اشتراه من هناك ، هذا الدواء سيشفي البقرة ، ويا لها من بقرة ، كأنها ناقة فتية ، وخوارها آه من خوارها ، ما أعذبه حين تصيح : مووووو .
اطمئني ، يا بقرتي ، جئتك بالدواء ، الذي سيزيد من حليبك الحلو اللذيذ ، من يدري ، فقد يكون لي نصيب فيك ، أو في حليبك اللذيذ .
وطرق فرفور الباب ، وخيل إليه أن المرأة ، ما أن تسمع طرقاته ، حتى تهرع إليه فرحة مستبشرة ، وستجن من الفرح حين يقول لها : جئتك بالدواء .
وفتحت المرأة الباب ، لكن ليس على الفور ، وحين رأته ، وهو يلوّح بالدواء ، لم تجن من الفرح ، بل ولم يبدُ عليها شيء من الفرح ، وإنما تنحت قليلاً ، وقالت له : تفضل ، ادخل .
وتفضل فرفور ، ودخل إلى الفناء ، وقد فتر حماسه قليلاً ، وقال : جئتك بالدواء .
لم ترد المرأة بكلمة ، فتابع فرفور قائلاً : أخبرني العطار ، بأن هذا الدواء ، سيجعل زوجتك تمطر حليباً .
وضحك فرفور ، ولم تشاركه المرأة حتى بابتسامة صغيرة ، فقال فرفور : العطار الخرف ، ظنّ أن الدواء لزوجتي ، فقلت له ، هذا الدواء هو لبقرتي العزيزة ، التي لها أعذب صوت حين تصيح ، مووووو .
وصمت فرفور ، وحدق في المرأة ملياً ، ثم تلفت حوله ، وقال : لا أرى ديكي ـ الكنز .
ونظرت المرأة إليه ، دون أن تنطق بكلمة ، فقال فرفور : إنني لا أرى غير البقرة .
وفتحت المرأة فاها ، وقالت : هذه بقرة مجنونة .
وحدق فرفور فيها ، وتمتم : مجنونة !
وقالت المرأة : بل مجرمة ، تستحق القتل .
وحدق فرفور في البقرة ، وقال : آه يا سيدتي ، أشمّ رائحة دماء .
وفي تردد وخوف ، قالت المرأة : إنها دماء الديك .
واتسعت عينا فرفور ، وربما هذا ما افتله ، وقال : ديكي العزيز النادر ! الكنز ؟
فقالت المرأة مترددة : كانت البقرة نائمة ، في منتصف الليل ، وكنت أنا أيضاً نائمة ، عندما انفجر الديك كالبركان يصيح كوكو ريكو .
وسكتت المرة ، وهي تختلس النظر إلى فرفور ، الذي قال : خمنت أنها البقرة .
فقالت المرأة : نعم ، ارتكبت تلك الجريمة ، وهرسته ، وسفكت دمه ، المسكين .
ولاذ فرفور بالصمت ، فتابعت المرأة قائلة : فززتُ من نومي ، وخرجت إلى الفناء ، ورأيت البقرة المجنونة تنطح الديك ، وحاولت أن أنقذه ، وأبعد البقرة المجنونة عنه ، لكن دون جدوى .
واقترب فرفور من البقرة ، ومدّ يده ، وراح يتحسسها ، وهو يقول : أيتها البقرة المجنونة ، الجميلة ، السمينة ، المجرمة ، أنتِ لا تعرفين ما الذي فعلته ، فأنت ومهما كنتِ بقرة ، أنت لم تتورطي فقط ، وإنما ورطت معك هذه المرأة المسكينة الطيبة .
وسكت فرفور لحظة ، ثم نظر إلى المرأة ، وخاطبها قائلاً : المرحوم ديكي ، ديكي العزيز النادر ، كان صندوقي الذي فيه كنزي ، والحقيقة إنه لم يكن ديكي ، وإنما ديك امرأة طيبة مثلكِ .
ونظرت المرأة إليه دامعة العينين ، فتابع قائلاً : وضعت كنزي عندها ، فابتلعه الديك في غفلة منها .
واتسعت عينا المرأة ذهولاً ، وقالت : كنزك ! لابدّ أنه كان جوهرة ثمينة .
وهزّ فرفور رأسه ، وقال : لا ، كان حمصة .
وشهقت المرأة مندهشة ، وتساءلت : حمصة !
فقال فرفور : لم تكن حمصة عادية ، وإنما كانت حمصة مسحورة مباركة .
وامتلأت عينا المرأة بالدموع والرعب ، حين حدق فرفور فيها ، وقال : إنني أشعر بالشفقة عليك ، إذ أضطر إلى رفع قضيتي للحاكم نفسه ، قرقوش .
واتسعت عينا المرأة الغارقتان بالدموع ، وتمتمت مذعورة : ماذا ! قرقوش ؟
فتابع فرفور قائلاً : وأنت تعرفين ، أنه سيصح غاضباً ، أيها الجلاد .
وانهارت المرأة ، وتهاوت عند قدمي فرفور ، وقالت : أيها الرجل ، ما اسمكَ ؟
فردّ قائلاً : فرفور .
فقالت المرأة ، والدموع تسيل على خديها : سيد فرفور ، خذ البقرة ، فهي التي نطحت ديكك المبارك ، وهي التي هرسته ، وسفكت دمه الطاهر ، إنها هي المجرمة القاتلة ، وليس أنا .
وحدق فرفور فيها ، وتساءل : وكنزي ؟ حمصتي المسحورة المباركة ؟
وتشبثت المرأة به ، وعيناه غارقتان بالدموع ، فقال فرفور : كانت أمي تقول دائماً ، إن نقطة ضعفك هو قلبك الطيب ، هذا قدري ، سأكتفي بالبقرة ، وأذهب بعيدا عن كنزي ، عن حمصتي المسحورة المباركة .

" 6 "
ـــــــــــــــ
سار فرفور ، يقود البقرة ، بعيداً عن البيت ، ووقفت المرأة بالباب ، والكلب الضخم يقف إلى جانبها ، تشيع بقرتها بعينيها الغارقتين بالدموع ، ولعل البقرة أحست بذلك ، فقد التفتت إلى المرأة ، وخارت بصوت حزين مجروح : مووووو .
وعندما اقترب بالبقرة من القرية التالية ، وكانت قرية كبيرة مزدهرة ، تناهت إليه منها أصوات طبول ومزامير وهلاهل ، وتوقف فرفور ، وتوقفت البقرة معه ، وقال في نفسه : لابدّ أن في هذه القرية فرحاً .
وسمعته امرأة متقدمة في السن ، تحمل حزمة من الحشائش فوق ظهرها ، فتوقفت قربه ، وقالت : نعم ، فيها فرح ، وأي فرح ، زواج كبير .
والتفت فرفور ينظر إليها ، فقالت : إن أجمل فتاة في القرية ، ستتزوج هذا اليوم .
ونظر فرفور إلى القرية ، وقال في ما يشبه المزاح : ليتها تتزوجني هذه الفتاة الأجمل .
وضحكت المرأة العجوز ، وقالت : هذا محال .
ونظر فرفور إليها ، وقال : لماذا محال ؟ لديّ بقرة جميلة نادرة ، وسأبادلها بها .
وحدقت المرأة العجوز فيه مستنكرة ، فقال فرفور : هذه البقرة استبدلتها بديك عجوز ، وقد حصلت عليه باستبداله بحمصة عادية جداً .
وشدت المرأة العجوز حزمة الحشيش على ظهرها ، وتهيأت لتستأنف السير ، وقالت : لابد أن أعود إلى البيت ، وأحمل هذا الحشيش إلى الكبش ، الذي سيولمونه بمناسبة الزواج الكبير .
فقال فرفور : سيدتي ، أرجوكِ ، خذي هذه البقرة معكِ ، وأبقيها عندكم ، فأنا شخص غريب ، وأريد أن أتجول في قريتكم ، وسأستعيدها عند المساء .
وأخذت المرأة العجوز البقرة ، وقالت لفرفور : أنت ضيفنا ، تعال قبل المغرب ، إلى البيت الذي يقام فيه الفرح ، هناك وليمة كبيرة ، وستتمتع بما يقدم فيها من طعام وشراب وحلوى .
وسارت المرأة العجوز مبتعدة بالبقرة ، وهي تحمل حزمة الحشيش على ظهرها ، فخاطبها فرفور قائلاً : أشكرك ، اسمي فرفور ، سأحضر هذه الوليمة ، فأنا أحب الطعام الجيد .
واقتربت المرأة العجوز من مشارف القرية ، حين لاحظت أن امرأة وسطاً ، ومعها كلب ضخم ، تسير في أعقابها ، ويبدو أنها تتأثرها عمداً .
وعند مدخل القرية ، توقفت المرأة العجوز ، وقد لاحظت أن البقرة ، تلتفت إلى الوراء ، وتتطلع إلى المرأة الوسط ، وتخور : مووووو .
واقتربت المرأة الوسط منها ، وقالت : مرحباً .
وردت المرأة العجوز ، وهي تشد حزمة الحشيش إلى ظهرها : أهلاً ومرحباً .
ومدت المرأة يدها ، وربتت برفق على ظهر البقرة ، وقالت : أيتها العمة ، هذه البقرة لي .
واستدارت البقرة برأسها ، وتمسحت بالمرأة الوسط ، وخارت ثانية : مووووو .
ولاحظت المرأة العجوز ذلك ، فحدقت في المرأة الوسط ، وقالت : يبدو أن هذه البقرة تعرفك .
وقالت المرأة الوسط ، وهي تربت بحنان على ظهر البقرة : صدقيني ، لقد ربيتها منذ أن ولدتها أمها في بيتنا ، ليس لي ولد ، وهي بمثابة ابنة لي .
وهزت المرأة العجوز رأسها ، وقالت : لابد أنك مجنونة ، لتستبدليها بديك عجوز .
ودمعت عينا المرأة الوسط ، ونظرت إلى المرأة العجوز ، وقال : لستُ مجنونة لاستبدلها ، وما كنت لأستبدلها بكنوز العالم كلها ، لكنه هددني بالحاكم .. قرقوش ، فاضطررت إلى التخلي عنها .
وهمهمت المرأة العجوز ، وقالت : هذه البقرة أمانة عندي ، ابقي في القرية ، وتعالي مساء إلى البيت ، الذي يُقام فيه الفرح ، وأنت وحظكِ .
ومسحت المرأة دموعها ، وقال بصوت يخنقه التأثر : أشكركِ ، أشكرك ، يا سيدتي ، لتدم أفراحكم .
وسارت المرأة العجوز بالبقرة ، متوجهة إلى البيت ، الذي يقام فيه العرس ، والبقرة تسير إلى جانبها ، وتلتفت بين حين وأخر إلى المرأة وكلبها الضخم ، وتخور بأعلى صوتها : مووووو .

" 7 "
ــــــــــــــــ
طوال ساعات النهار ، لم تتوقف الطبول ، ولا الرقصات والدبكات والهلاهل ، وخاصة في بيت العريس ومحيطه ، وراح فرفور يتجول في الأحياء القريبة ، متمتعاً بأجواء الفرح ، التي تعمّ القرية .
وطبعاً لم تغب البقرة عن باله ، وراح يقلب الخطط ، التي تمكنه من الخروج من هذا الفرح بغنيمة تليق به ، فإذا كان قد بدل الحمصة بديك ، وبدل الديك ببقرة ، فبماذا يمكن أن يبدل بقرته الجميلة ؟
وقبيل العصر ، سمع فرفور البقرة تخور من بعيد ، وكأنها تقول أنا هنا : مووووو .
وعلى الفور ، اتجه إلى مصدر الصوت ، وراح يفتش عن البقرة ، لكن دون جدوى ، وقاده البحث عن البقرة ، إلى بيت العريس نفسه ، الذي كان يغص بالمحتفلين بالعرس وأهله الفرحين .
وخيل إليه ، وهو يخوض بين أمواج الناس ، أنه لمح المرأة العجوز ، التي أودع البقرة عندها ، تسير بصعوبة بين الناس المحتفلين ، وعلى الفور ، حاول أن يشق طريقه نحوها ، لكنها اختفت ، وكأنها فصّ ملح وذاب في أمواج الماء المتلاطمة .
وعند غروب الشمس ، ارتفعت الزغاريد ، وازداد التزاحم ، وارتفع أكثر من صوت متهللاً : جاءوا بالعروس .. جاءوا بالعروس
وشق فرفور طريقه بين الناس ، محاولاً الوصول إلى العروس ، ليرى إن كانت فعلاً بالجمال ، الذي وصفتها به المرأة العجوز ، وهي أم العريس نفسه .
واقترب من العروس ، المحاطة بنساء كثيرات ، وكن يتحلقن حولها متهللات مزغردات ، وحين اقترب من محيط العروس ، لمح المرأة العجوز إلى جانبها ، وقد أمسكت بيدها فرحة ، والنساء والفتيات والشباب يرقصون ويغنون حولهما بحماس وفرح .
وبهمة شديدة ، راح فرفور يشق طريقه بين الجموع ، حتى اقترب من العروس الشابة والمرأة العجوز ، فمد يده ، وأطبق على ذراع المرأة العجوز ، وكأنما عرفت من هو ، فالتفتت إليه مبتسمة ، وقالت : أهلاً فرفور ، أرجو أن تبقى ، وتحضر الوليمة الكبرى .
وتطلع فرفور إلى العروس الشابة ، وكانت تحيط بها صويحباتها الشابات ، وهن يرقصن ويزغردن ، وقال : عروسكم جميلة جداً ، لم أرَ بجمالها من قبل .
وضحكت المرأة العجوز ، وقالت : إنها قمر ، واسمها قمر أيضاً .
وضحك فرفور أيضاً ، وقال : عاشت الأقمار ، ليتني أحصل على قمر مثلها .
وضحكت المرأة العجوز ، وقالت : الأقمار مثلها نادرة ، لكن اسعَ وأنت وحظكَ .
ومال فرفور على المرأة العجوز ، وقال بصوت مرتفع : وبقرتي ؟ أرجو أن تكون في مكان آمن .
فالتفتت المرأة العجوز إليه ، وقالت : بقرتك ؟ آه ما أجملها ، وأسمنها ، إنها حقاً بقرة خيّرة مباركة ، كثيرة اللحم والشحم و ..
وتوقف فرفور ، وأوقف معه المرأة العجوز والعروس ، ومن معها من النساء ، وصاح : بقرتي ، أخشى أن يكون أحد ما ، قد مدّ يده إليها ، وسولت نفسه أن ..
فقاطعته المرأة العجوز قائلة : أيها الرجل الطيب الخيّر ، أنظر حولك ، لدينا ضيوف كثيرون ، ولابد من إطعامهم ، وبقرتك رزق جاء إلى عندهم ، بارك الله بك وببقرتك السمينة اللذيذة .
وصاح فرفور متظاهراً بالغضب ، وقلبه يزغرد فرحاً : ذبحتموها ! ذبحتم بقرتي ؟
فقالت المرأة العجوز : اطمئن ، سندفع لك ثمنها ، و ..
وقاطعها فرفور قائلاً : كلا ، لا أريد ثمنها ، حتى لو كان قنطاراً من الذهب ، أريد بقرتي نفسها .
وتوقف الناس ، نساء ورجالاً وأطفالاً حول فرفور والمرأة العجوز والعروسة ، فقالت المرأة العجوز : بقرتك ذبحناها ، وسندفع لك ما يعوضك إياها ..
وحدق فرفور في العروس الشابة الجميلة ، وقال : لن يعوضني عن بقرتي ، التي هي أجمل بقرة في العالم ، إلا شيئاً واحداً .. العروس .
والغريب أن المرأة العجوز ابتسمت ، دون أن يبدو عليها أي أثر للدهشة أو الغضب أو الاستياء ، لكنها قالت : أنت تطلب المستحيل ، يا فرفور .
وابتسم فرفور ، ربما رداً على ابتسامتها ، وقال بثقة عالية : لا مستحيل ، يا سيدتي ، مادامت العدالة موجودة ، والعدالة مجسدة في مولاي العظيم .. قرقوش .. وما أن يعرف الحقيقة حتى يصيح ، يا جلاد .
وعلى الفور ، ارتفع صوت حازم ، يردّ قائلاً : مولاي ، مرني فأنفذ في الحال .
وجمد فرفور ، حين تقدم من بين الجموع ، شاب طويل القامة ، مفتول العضل ، يتمنطق بسيف عريض ، ومدّ يده الضخمة إلى فرفور ، وشدّه إليه بقوة ، وقال : سمعتكَ تهتف ، أيها الجلاد .
ونظر فرفور إليه ، وقد بدأ يموع أمامه ، وقال : مولاي .. قرقوش .. سيصيح .. أيها الجلاد .
وقال الشاب : وأنا سأجيبه ، مولاي .
وتأت فرفور بصوت مختنق قائلاً : أتعني أنك ..
فقال الشاب : نعم أنا الجلاد ..
وأشار إلى العروس ، وقال : وهذه عروسي .
ولاذ فرفور بالصمت ، والحقيقة إنه لم يستطع أن ينطق بحرف واحد ، فشده الشاب بقوة من ياقته ، وهو يقول : أنت فرفور المحتال ..
وتمتم فرفور خائفاً : نعم سيدي ، أنا فرفور ..
وتابع الشاب قائلاً بنبرة حازمة : استبدلت حمصة بديك ، واستبدلت الديك ببقرة ، وتريد أن تستبدل البقرة بعروس ، والآن ماذا تريد ؟
ورفع فرفور عينيه المذعورتين إلى الشاب ، وقال : سيدي ، أريد الرحمة .
فقال الشاب : العدالة أولاً ، والعدالة إما أن آخذك إلى مولاي قرقوش أو ..
وقاطعه فرفور مرعوبا، متوسلاً ، وقال : لا يا سيدي ، أو .. مهما كانت ، وليس مولاي قرقوش .
فسحبه الشاب بقوة ، وأدناه من عينيه الغاضبتين ، وقال : أو .. ترحل عن هنا ، تمشي ليلاً ونهاراً ، ولا تتوقف إلا في جزيرة واق .. واق .
وكاد فرفور أن ينهار ، ويتهاوى على الأرض ، وقال بصوت متهدج : أمر سيدي .

وقال الشاب آمراً : إلى الوراء در .
واستدار فرفور ، دون أن ينبس بكلمة ، فأمره الشاب قائلاً : والآن وقوق ، وسر دون توقف .
وعلى الفور ، راح فرفور يشق طريقه بين الجموع مبتعداً ، وهو يوقوق : واق .. واق .. واق .
حتى غاب ، وتلاشى صوته تماماً .
واستمر الفرح ، الطبول والمزامير والهلاهل والدبكات ، واقتربت المرأة الوسط وكلبها الضخم إلى جانبها ، من المرأة العجوز ، وقالت لها : سيدتي .
والتفتت المرأة العجوز إليها ، وقالت لها : اطمئني يا امرأة ، بقرتك موجودة ، وهي بخير ، اقضي الليلة هنا ، وخذي بقرتك غداً ، وعودي إلى بيتك ترافقك السلامة .
فعانقتها المرأة ، وقالت لها : ليباركك الله ، وليحفظ لك ابنك ، ويوفقه ، ويرزقه بالمال والبنين .
























حسين النمنم












" 1 "
ـــــــــــــــــ
منذ صغرها ، كانت أمها السعلاة ، المعروفة بقوتها وشراستها ، وكرهها لكل ما يمت للبشر بصلة ، تقول عنها : إنها ليست سعلاة ، ولن تكون سعلاة ، وهي أقرب إلى بنت من البشر ، وليس من السعالي ، ويبدو أنني توحمت على انسان ، حين كنت حاملاً بها .
ولاحظت أمها ، وبعض ممن حولها ، أنها كانت كلما كبرت ، واشتد عودها ، ابتعدت في سلوكها ، وحتى في هيئتها ، عن أترابها من السعالي الصغيرات ، حتى أنها همست لإحدى صديقاتها مرة ، إنها لن تتزوج من ديو حين تكبر ، وإنما من إنسان .
وخلال سنينها الأولى ، طالما رأتها أمها تتجول وحدها ، وتتحدث إلى نفسها ، في التلال وشاطئ النهر ، حتى ظنّ الكثيرون أنها سعلاة غريبة الأطوار ، بل ومجنونة ، وأنها لن تكون مثل أمها ، سعلاة قوية ، جريئة ، مرهوبة الجانب ، حتى من قبل السعالي أنفسهم .
وفعلاً كانت السعلاة الصغيرة ، تتجول وحدها على الشاطئ ، وتتلصص على صيادي السمك ، وهم يرمون شباكهم في النهر ، وكانت تحلم ، أن تلتقي يوماً بإنسان في عمرها ، فتتبادل معه الصداقة والحب ، بل وتتزوجه ، نعم لماذا لا ؟ إن من حقها أن تحلم .
وأرادت السعلاة الصغيرة ، الاقتراب من حلمها ، وتعرف مدى إمكانية تحققه ، فذهبت يوماً إلى السعلاة العجوز ، شبه الكفيفة ، وما إن رأتها السعلاة العجوز ، بعينيها المتضببتين ، تقف في مدخل الكهف ، حتى قالت لها : تعالي ، يا بنيتي ، أعرف لماذا جئتِ ، تعالي ، لا تخافي ، تعالي ، تعالي .
ودخلت السعلاة الفتية مترددة ، فقالت لها السعلاة العجوز : أعطيني يدكِ .
ومدت السعلاة الفتية يدها ، فأخذتها السعلاة العجوز بين يديها ، وراحت تتحسسها ، ثم تنهدت ، وتركت يدها ، فقالت السعلاة الفتية : صارحيني ، أيتها الجدة الحكيمة ، ماذا رأيتِ في يدي ؟
فأحنت السعلاة العجوز رأسها ، وقد بدا الانفعال عليها ، وقالت لها : طريقك غريب وشائك ، لم تعرفه سعلاة من قبل ، اذهبي يا بنيتي ، وحاولي أن تكوني سعلاة مثل لداتكِ ، فأنت سعلاة وليس أي شيء آخر .
وصمتت لحظة ، ثم قالت بصوت ينذر بالخطر : بنيتي ، أمكِ في خطر ، اذهبي إليها .
وعلى الفور ، خرجت السعلاة الصغيرة من كهف السعلاة العجوز ، ومضت مسرعة إلى كهفهم ، الذي تسكن فيه هي وأمها ، بعد أن فارق أبوها الحياة ، قبل أكثر من سنتين .
وعلى مقربة من الكهف ، تناهت إليها أصوات مضطربة حزينة ، وقبل أن تصل إلى مصدر الصوت ، الذي كان قرب الكهف ، أقبلت إليها خالتها ، وأخذتها بين ذراعيها ، وقالت لها : تعالي ، يا بنيتي ، سآخذك إلى كهفي .
وتساءلت السعلاة الفتية ، والدموع تجول في عينيها : ماذا يجري ، يا خالتي ؟ أخشى أن تكون أمي قد أصيبت بما يلحق الضرر بها .
وسارت الخالة بالسعلاة الفتية نحو كهفها ، الذي يقع في مكان قريب ، وقالت لها : أمكِ عنيدة ، لقد حذرتها من التوغل في الغابة ، فهي تعج بالذئاب ، وحدث ما كنت أخشاه ، لقد هاجمها ذئب شرس ، وفتك بها .

" 2 "
ـــــــــــــــ
راحت السعلاة تكبر ، في كنف خالتها ، وسرعان ما جاء اليوم ، الذي رأت فيه نفسها قد كبرت ، وصار بإمكانها الاعتماد على نفسها ، وذات ليلة ، جلست قرب خالتها ، وقالت لها : خالتي ..
وشعرت الخالة ، بأن ابنة أختها لديها شيء له أهميته بالنسبة لها ، فالتفتت إليها ، وحدقت فيها ملياً ، ثمّ قالت : نعم ، يا بنيتي .
وقالت السعلاة الفتية : سأعود إلى كهفنا ، بعد إذنكِ .
وقالت الخالة : لكن ما زلتِ صغيرة ، يا بنيتي .
وقالت السعلاة الفتية : لم أعد صغيرة ، يا خالتي ، ثم أنت قريبة مني ، وسألجأ إليكِ عند الحاجة .
وفي اليوم التالي ، عادت السعلاة الفتية إلى الكهف ، الذي ولدت فيه ، وعاشت حياتها بين جنباته إلى جانب أمها ، قبل أن يفتك بها الذئب .
وراحت خلال النهار ، تتجول في التلال القريبة ، أو تتمشى بين الأشجار ، محاذرة أن لا تتوغل في الغابة ، مخافة أن يهاجمها ذئب من الذئاب ، ويفتك بها كما فتك بأمها قبل عدة سنوات .
وقبيل المساء من كلّ يوم ، أو في أول الليل ، كانت تتمشى على الشاطئ الرملي ، أو تجلس على المرتفع الصخري ، المطل على النهر ، تراقب الصيادين ، أو الرجال الذين يمخرون ماء النهر بأكلاكهم المحملة بالبضائع ، متجهين بها إلى المدن البعيدة .
ولاحظت أكثر من مرة ، شاباً يكبرها ببضع سنين ، يقود أحد الأكلاك وحده ، شاباً وسيماً ، ذا صوت جميل حين يغني ، ويمر من أمام المرتفع الصخري ، القريب من كهفها ، الذي تعيش الآن فيه وحدها .
ومع الأيام ، وبسبب هذا الشاب الموصلي الوسيم ، صارت تقضي معظم وقتها ، جالسة على المرتفع الصخري ، المطل على النهر ، وكانت تجنّ فرحاً ، كلما رأت كلكه مقبلاً ، ومتجهاً جنوباً مع التيار ، ويقف شابها الوسيم وراء الدفة ، ويقوده بهدوء وتمكن .
ولم يغب عنها الشاب الموصلي الوسيم ، لا ليلاً ولا نهاراً ، رغم أنها ما كانت تراه في كلكه إلا مرة واحدة كلّ حوالي الأسبوعين أو الثلاثة أسابيع ، فقد كان يعيش في أعماقها ، ويتراءى لها أنه يعيش معها ، سواء في تجوالها ، أو جلوسها على المرتفع الصخريّ ، بل وحتى حين تأوي إلى فراشها ، وتخلد إلى النوم .
وتعودت السعلاة الفتية ، أن تذهب إلى السعلاة العجوز ، بين فترة وأخرى في كهفها ، لكن الأخيرة كانت تتجنب الإسهاب في الحديث معها ، وتحاول أن تصرفها ، دون أن تسيء إليها أو تجرحها .
وهذا اليوم ، عند العصر تقريباً ، وبعد أن رأت حسين النمنم ، يمرّ بها بكلكه ، وهو يقف خلف الدفة ، ويرفع صوته بالغناء ، ذهبت إلى السعلاة العجوز ، وجلست أمامها ، وقالت بنبرة أشبه بالترجي : سيدتي العزيزة ..
وتنهدت السعلاة العجوز ، وهي لا تكاد تتبينها ، وقالت : بنيتي المسكينة ؟ آه يا بنيتي .
ومالت السعلاة الفتية عليها ، ومدت يدها إليها ، لكن الأخيرة لم تمدّ يدها ، وتتلمسها كما في المرة السابقة ، وإنما قالت لها : لا داعي ، يا بنيتي ، سيتضح لكِ الأمر تماماً ، في القريب العاجل .
ونهضت السعلاة الفتية ، وقد علا الاضطراب سحنتها ، وقالت : ما الأمر ؟ لا تقولي أنه مريض .
فهزت السعلاة العجوز رأسها ، وقالت : لا يا بنيتي ، حسين النمنم ليس مريضاً ، إنه في صحة وعافية ، وهو فرح جداً ، فهو سيتزوج قريباً .
وشهقت السعلاة الفتية ، وقالت بألم شديد ، وكأن أحداً طعنها في قلبها طعنة شديدة ، وقالت بحرقة : ماذا ؟ سيتزوج !
وحدقت السعلاة العجوز فيها ، وقالت : نعم ، سيتزوج قريباً ، من إنسانة في عمره ، وهذا أمر طبيعي ، يا بنيتي ، فهو إنسان وليس ديو .

" 3 "
ـــــــــــــــــ
استيقظ حسين النمنم ، عند الفجر ، وهذا وقت استيقاظه على الأغلب ، وخاصة عندما يكون قد قرر أن يُسافر بكلكه ، من الموصل إلى تكريت ، أو سامراء ، أو إلى العاصمة بغداد نفسها .
وارتدى ملابسه على عجل ، وتناول بعض الطعام مما أعدته له أمه العجوز ، واتجه إلى الخارج ، ولحقته أمه إلى الفناء ، وقالت له : بنيّ ، لم تأكل شيئاً .
فردّ حسين النمنم ، وهو يفتح الباب ، قائلاً : شبعت ، يا أمي ، استودعكِ الله .
وعند الباب ، قالت له أمه : ستأكل كل الطعام ، الذي ستعده لك خطيبتك ، عندما تتزوجها ، وستأتي عروسك هنا لتظيء لك البيت .
ولوح حسين النمنم لأمه ضاحكاً ، وقال : لن يطبخ أحد لي ، ألذّ مما تطبخينه أنتِ ، يا أمي .
وقالت أمه ضاحكة : ذق طبيخها أولاً ، ثم تكلم .
وسار حسين النمنم ، عبر الأزقة ، وكانت شبه مظلمة ، فالشمس لم تشرق بعد ، وخلال طريقه إلى النهر ، حيث كلكه مشدود إلى الشاطىء ، لم يصادف أحداً ، يبدو أنه استيقظ هذا اليوم مبكراً جداً ، لا بأس ، الجو دافىء ، والسفر مريح ، في مثل هذا الجو .
وصل حسين النمنم إلى الشاطئ ، وهمّ أن يصعد إلى الكلك ، لينطلق به مع التيار صوب تكريت ، لكنه فوجأ بصوت فتاة شابة تناديه : حسين ..
وتوقف حسين ، وقلبه يخفق بشدة ، رغم أنه معروف بالجرأة والشجاعة ، والتفت نحو مصدر الصوت ، وإذا فتاة متشحة بالسواد من قمة رأسها حتى قدميها ، ولا يظهر منها غير عينيها الغريبتين اللامعتين ، فحدق فيها ، وقال : نعم ، من أنتِ ؟
فاقتربت الفتاة منه ، وقالت : أنت مسافر بكلكك جنوباً ، أنا فتاة وحيدة ، لا أحد لي ، خذني معكَ ، سأنزل بعد مسافة ليست بعيدة .
وتلفت حسين النمنم حوله محرجاً ، ثم قال لها : أنت فتاة شابة ، وأنا شاب ، لا أستطيع أن آخذك معي في هذا الكلك ، ابحثي عن وسيلة أخرى للسفر .
وبصوت يشوبه الحزن ، قالت الفتاة : أمي مريضة ، وقد تموت في أية لحظة ، فلا تحرمها من رؤيتي ، في لحظاتها الأخيرة ، أرجوك .
ولاذ حسين النمنم بالصمت لحظة ، ثمّ حزم أمره ، وقال لها : اصعدي إلى الكلك ، هيا اصعدي .
وعلى الفور صعدت الفتاة ، ووقفت في طرف الكلك ، ودفع حسين النمنم الكلك ، ثم صعد إليه ، ووقف وراء الدفة ، وراح يوجهه إلى وسط النهر .
وسار الكلك مع التيار ، وحسين النمنم يقف صامتاً ، دون أن يلتفت إلى الفتاة ، التي بدت له غريبة في هيئتها ، وصوتها ، وظهورها في هذا الوقت من الليل ، لتركب معه في الكلك ، بحجة لا يعرف مدى صحتها .
وخلال هذا الوقت ، والكلك يندفع بهدوء مع التيار ، لم تتفوه الفتاة بكلمة واحدة ، بل ولم تتحرك من مكانها في طرف الكلك ، وظلت جامدة ، وعيناها ترمقان حسين النمنم بين لحظة وأخرى ، بنظرات سريعة غامضة ، لا تفصحان عن شيء واضح .
وعند مكان منعزل ، موحش ، ضفته الصخرية مرتفعة بعض الشيء عن الشاطئ ، قالت الفتاة ، والشمس لم تشرق بعد : حسين ..
وخفق قلب حسين النمنم بشدة ، فصوت الفتاة كان أشدّ غرابة هذه المرة ، وآمراً بعض الشيء ، فردّ عليها دون أن يلتفت : نعم .
فأشارت الفتاة إلى الشاطئ
، وقالت : لقد وصلت ، يا حسين ، سأنزل هنا .
وتنفس حسين النمنم الصعداء ، لقد جاء الفرج ، سيتخلص من هذه الفتاة الغامضة أخيراً ، وسيسير بعدها بالكلك إلى تكريت ، ثم يعود إلى الموصل .
واتجه بالكلك إلى الشاطئ ، وتوقف قريباً من الكثبان الرملية ، والتفت إلى الفتاة ، وقال لها : تفضلي انزلي ، واذهبي مع السلامة .
وتقدمت الفتاة إلى طرف الكلك ، القريب من الشاطئ ، ومدت يدها إلى حسين النمنم ، وقالت له : لا أستطيع النزول وحدي ، ساعدني .
ونزل حسين النمنم على مضض من الكلك ، ووقف على الشاطئ الرملي ، ثم مدّ يده ، وأمسك بيد الفتاة ، واستغرب من ملمسها الخشن ، لكنه لم يتوقف عند هذا الأمر ، وقال لها : تفضلي انزلي .
ونزلت الفتاة من الكلك ، وصعدت إلى الشاطئ ، وسحب حسين النمنم يده من يدها ، وهمّ أن يعود إلى الكلك ، ليواصل طريقه إلى تكريت ، لكن الفتاة اعترضته ، وقالت له : توقف ، يا حسين ..
والتفت حسين النمنم إليها مستغرباً : لقد أوصلتك إلى المكان الذي أردته ، وعليّ الآن أن أواصل طريقي إلى تكريت ، الشمس توشك أن تشرق .
وأخذت الفتاة تنزع عنها ثيابها السوداء ، وهي تقول : لقد وصلت أنت أيضاً ، يا حسين النمنم ، ومنذ اليوم لن تسافر إلى أي مكان بعيداً عني .
وفغر حسين النمنم فاه ، حين رأى الفتاة تتحول شيئاً فشيئاً من فتة بيضاء البشرة ، إلى مخلوق أسود البشرة ، ذا عينان حمراوان تتقادحان شرراً ، ومخالب طويلة وحادة كمخالب الضواري ، وتمتم : السعلاة !

" 4 "
ـــــــــــــــــ
صعدت السعلاة الفتية ، بحسين النمنم إلى كهفها ، في أعلى الشاطىء الصخري ، ودخلت به إلى هناك ، وقالت له : أهلاً بك في بيتك الجديد ، يا حسين .
وتوقف حسين النمنم في وسط الكهف ، ونظر إلى السعلاة ، التي عادت إلى هيئتها الأولى ، فتاة شابة جميلة ، وقال لها : لقد وثقتُ بكِ ، وقدمت لك المساعدة ، لتعودي إلى أمك ، التي قلتِ إنها مريضة .
وابتسمت السعلاة الفتية بشيء من المرارة ، وقالت : أمي ماتت منذ سنوات عديدة ، لقد أردت أن أجيء بك إلى هنا بأي ثمن ، وها قد جئت بك .
ونظر حسين النمنم إليها ، وقال بصوت حاول أن يكون هادئاً : لكن لي عملي ومستقبلي وحياتي الخاصة ، وأنت تعطلين كلّ شيء .
فردت السعلاة الفتية قائلة : انسَ كلّ شيء ، يا حسين ، عالمك الماضي انتهى ، وعفى عليه الزمن ، فهنا منذ الآن عملك ومستقبلك وحياتك .
وتراجعت السعلاة الفتية إلى مدخل الكهف ، وهي تقول : لابدّ أنك جائع الآن ، يا حسين ، سأذهب وأجيء لك بما تحتاجه من طعام .
وبدا الانفعال على حسين النمنم ، وقال لها : لا أريد طعاماً ، دعيني أخرج من هنا ، وأذهب في حال سبيلي ، إن الكلك المحمل بالبضائع ..
وقاطعته السعلاة الفتية مبتسمة ، وقالت : لا تفكر في الكلك ، لقد أخذه النهر معه ، ولن تراه ثانية ، وأنت ستبقى معي في هذا الكهف ، وستكون زوجاً لي .
وفغر حسين النمنم فاه ، وتمتم مذهولاً : ماذا !
وخرجت السعلاة الفتية من الكهف ، وسدت مدخله بصخرة كبيرة من الخارج ، ومضت تاركة حسين النمنم وحده داخل الكهف .
وعلى الفور ، اقترب حسين النمنم من الصخرة الضخمة ، التي تسد مدخل الكهف من الخارج ، وأنصت ملياً ليتأكد من ابتعاد السعلاة الفتية ، ثمّ مدّ يديه إلى الصخرة الضخمة ، وحاول جهده زعزعتها ، وإبعادها ـ ولو قليلاً ـ عن المدخل ، لكن دون جدوى .
وبعد منتصف النهار ، أزيحت الصخرة الكبيرة عن مدخل الكهف ، ودخلت السعلاة الفتية ، ومعها دجاجة مشوية وبعض الخبز الطازج ، ونظر حسين النمنم إليها ، فابتسمت له ، وقالت :جئتك بطعام ، لابد أنك تحبه ، دجاجة مشوية ، وخبز حار .
ووضعت الدجاجة المشوية ، والخبز الحار فوق سفرة على الأرض ، ونظرت إلى حسين النمنم ، وقالت : تفضل أجلس ، دعنا نأكل قبل أن يبرد الطعام .
لم يجلس حسين النمنم ، وردّ قائلاً بصوت مضطرب : لا أريد أن آكل ، أريد أن أخرج من هذا الكهف ، وأعود إلى حياتي الطبيعية .
وجلست السعلاة الفتية ، قريباً من الطعام ، وقالت لحسين النمنم : هذا لن يفيدك بشيء ، يا حسين ، وأنا أريد أن أبقى هادئة ، وطيبة معك ، فلا تغضبني .
وردّ حسين النمنم بشيء من الغضب : وأنا لا أريد أن آكل ، ولا أريد البقاء في هذا الكهف ، أريد أن أخرج ، وأعود إلى حياتي في الموصل .
وقطبت السعلاة الفتية ، وبدأت عيناها تحمرّ ، وقالت بشيء من الخشونة : اهدأ يا حسين ، واجلس وكلْ ، ولا تنسَ أنني سعلاة .
ورفع حسين صوته قليلاً ، وقال بإصرار : كلا ، أريد أن أخرج من هنا ، و ..
وصمت حسين النمنم ، حين لاحظ أن عيني السعلاة بدأتا تشعان بشواظ ملتهبة ، وأن بشرتها تتحول إلى السواد ، ومخالبها تطول ، لتصبح كمخالب الضواري ، ثم قالت من بين أنيابها المخيفة : اجلس يا حسين ، وكل ، وسأنسى ما تفوهت به الآن ، اجلس .
ووقف حسين النمنم خائفاً متردداً ، وهو يحدق في السعلاة الفتية ، وقد اتسعت عيناه ، وراح قلبه يخفق بشدة ، وجلس قبالتها ، فقالت له : كلْ .
ومدّ حسين يده ، واقتطع قطعة صغيرة من الدجاجة المشوية ، ودسها في فمه ، فابتسمت السعلاة الفتية له ، وقد بدأ شكلها الوحشيّ يتغير ، حتى عادت كما كانت من قبل ، فتاة شابة جميلة ، وقالت بصوت هادئ : هذا ما حلمت به ، يا عزيزي حسين ، أن نكون معا أنا وأنت ، وحدنا في هذا الكهف ، زوج وزوجته ، وسيكون لنا أولاد ، أريدهم أن يكونوا شبيهين بك .
ثم مالت عليه ، وقالت : حسين ، اطمئن ، لن أسمح لأحد أن يمسك بسوء ، وسأجعلك أسعد إنسان في العالم ، فقط كن طيباً معي ، وسأكون لك زوجة محبة وفية .

" 5 "
ـــــــــــــــــ
تهيـأت السعلاة الفتية ، للخروج من الكهف بعد الغداء ، وهي تخاطب حسين النمنم قائلة : الليلة ليلتنا ، التي انتظرتها ، يا حسين ، نم الآن وارتح ، فقد يمتد السهر بنا طويلاً هذه الليلة .
لم يردّ حسين عليها بشيء ، فأغلقت مدخل الكهف بالصخرة الكبيرة من الخارج ، وبقي حسين النمنم وحده في الداخل ، معزولاً عن العالم .
ودار داخل الكهف حتى تعب ، ثم جلس على فراشه ، يقلب الفكر فيما هو فيه ، لعله يهتدي إلى طريقة ، يفلت بها من هذه السعلاة ، ويعود إلى حياته الطبيعية ، مع أمه وخطيبته ، التي كان من المقرر أن يقترن بها قريباً ، لولا ما جرى له مع هذه السعلاة .
وقبل حلول الظلام ، عادت السعلاة من الخارج ، ومعها ما لذ وطاب من الطعام ، وضعته في سفرة على الأرض ، وقالت : عزيزي حسين ، أريدك أن تكون مرتاحاً وسعيداً هنا معي .
ولاذ حسين النمنم بالصمت ، ولم ينبس بكلمة واحدة ، فاقتربت السعلاة الفتية منه ، وطوقته بيديها القويتين المحبتين ، وقالت له ، وهي تتملاه فرحة : حسين ، أنت زوجي ، وليس لأي سعلاة في العالم كله ، زوجاً مثلك ، أريد أن تحبني ، وتسعدني ، وأريد .. أن يكون لنا ولد يشبهك ، وسيكون لنا ، أنا وأنت مثل هذا الولد .
وفي صباح اليوم التالي ، وأشعة الشمس تتسلل من شقوق الكهف ، أفاق حسين النمنم ، وقد نام نوماً عميقاً طول الليل ، وإذا السعلاة الفتية ، كما يراها دائماً ، فتاة شابة جميلة ، تشع عيناها بالرضا والفرح ، تجلس عند قدميه ، وتتأمله صامتة سعيدة .
واعتدل حسين النمنم في فراشه ، فابتسمت له السعلاة الفتية بفرح ، وقالت : حسين ، حبيبي ، أرجو أن تكون مرتاحاً وسعيداً .
لم يردّ حسين النمنم عليها بكلمة واحدة ، فقالت السعلاة : لقد أسعدتني ليلة البارحة ، وأرجو أن أكون قد أسعدتك أنا أيضاً ، أليس كذلك ؟
ومرة ثانية لم يردّ حسين النمنم ، فتابعت السعلاة الفتية قائلة : أعرف أن الحياة هنا جديدة عليك ، ولم تألفها بعد ، لكنك يوماً بعد يوم ، ستعتاد عليها ، وتحبها .
ثم أشارت إلى الطعام ، الذي صفته فوق السفرة ، وقالت : انظر ، يا حسين ، ماذا يريد شاب مثلك ، أكثر من هذه الأطعمة اللذيذة ، التي تقدم له ، في ثلاث أوقات من اليوم الواحد ، وبدون جهد أو عمل يذكر ؟
ثم أشارت إلى نفسها ، وأضافت قائلة : ومعه فتاة مثلي ، شابة ، وجميلة ، تحبه ، وتسعى إلى رضاه وإراحته وإسعاده ، إنها كما ترى .. الجنة .
وأطرق حسين النمنم رأسه ، دون أن يردّ هذه المرة أيضاً ، فنهضت السعلاة الفتية ، ومدت يدها إلى حسين النمنم ، وأنهضته من الفراش ، وهي تقول : انهض ، يا عزيزي ، وتناول طعم الفطور ، وعند الغداء ، سأحضر لك ما تحب وما تشتهيه نفسك .
ونهض حسين النمنم ، وجلس معها إلى سفرة الطعام ، وراح يأكل من غير شهية ، دون أن ينظر إلى السعلاة الفتية ، التي لم تحول نظرها عنه لحظة واحدة .

" 6 "
ـــــــــــــــــ
وعلى هذا المنوال ، مرت الأيام يوماً بعد يوم ، وجبات طعام دسمة ولذيذة ، وتعامل طيب من قبل السعلاة الفتية ، وتجاوب على مضض من حسين النمنم .
وطوال هذه المدة ، لم يتوقف حسين النمنم عن التفكير ، في خطة تساعده على الهرب من السعلاة ، وعالمها الرهيب الخطر ، والعودة إلى حياته الطبيعية ، أمه وخطيبته ، والنهر ، وعمله على الكلك .
ولاحظت السعلاة الفتية ، أن حسين النمنم يرمق هراوة جدها المثبتة على حائط الكهف ، أكثر من مرة ، وهما يتسامران كالعادة ، بعد العشاء ، فأشارت السعلاة إلى الهراوة ، وقالت : تلك هراوة جدي ، كان يحملها معه عندما يتجول في الغابة ، وقد وضعتها أمي هنا بعد وفاته ، ومنعت أيّاً كان من الاقتراب منها .
وصمتت لحظة ، ثم نظرت إلى حسين النمنم ، وقالت : ربما سيأتي اليوم ، الذي آخذك فيه للصيد في الغابة ، وأضع الهراوة بين يديك .
وهزّ حسين النمنم رأسه ، وقال : أشكركِ .
وتطلع عبر مدخل الكهف ، وكانت الصخرة الكبيرة مركونة على جانب ، ولاحت له رقعة صغيرة من السماء ، تتلألأ فيها النجوم البعيدة ، فقال للسعلاة الفتية : ليتنا نجلس ، وخاصة في الليالي المقمرة ، عند مدخل الكهف ، نتأمل معاً السماء ، وما فيها من نجوم متلألئة .
وتطلعت السعلاة الفتية ، إلى حيث ينظر حسين النمنم ، وبدا عليه التأثر ، فقال حسين النمنم : القمر على ما يبدو يكاد يكتمل ، ولابد أن الجو رائع ..
وسكت حسين النمنم ، وسرعان ما نهضت السعلاة الفتية ، وهي تقول : أنت محق ، يا حسين ، تعال نجلس في الخارج ، ولديّ بشرى لك .
ونهض حسين النمنم ، وقلبه يخفق فرحاً ، بشرى ! من يدري ، لعلها أشفقت عليه ، وتريد أن تطلق سراحه ، ليعود إلى أمه وخطيبته وحياته الطبيعية .
وخرجا من الكهف ، وتوقف حسين على مقربة من المدخل ، ورفع رأسه يتشمم الهواء منتعشاً ، وهو يقول : آآآه .. ما أعذب هذا الهواء .
وتوقفت السعلاة الفتية ، وقات : حقاً الهواء منعش ، انظر يا حسين ، انظر حولك ، لا أجمل من هذا المنظر ، تحت ضوء القمر .
وتطلع حسين النمنم حوله ، وركض نظره العطش إلى الفضاء ، عبر الصخور .. والشاطئ الرملي .. ثم إلى النهر .. وكانت مياهه .. التي يعرفها جيداً .. ويحن إليها .. تتلألأ تحت أشعة القمر .
وجلست السعلاة الفتية على الأرض المعشبة ، ونظرت إلى حسين النمنم ، وقالت له : حسين ، تعال اجلس هنا إلى جانبي ، تعال يا زوجي العزيز .
وجلس حسين النمنم إلى جانبها ، فالتفتت إليه ، وهمست له : حسين ..
والتفت حسين النمنم إليها ، وقلبه يخفق آملاً ، لعل ساعة الفرج قد حانت ، فقالت السعلاة الفتية ، وهي تضع يديها على بطنها : أنا حامل .
وشهق حسين النمنم ، بدون إرادة منه ، وتمتم : ماذا !
فتابعت السعلاة الفتية قائلة : حامل ، سيكون لنا صغير ، يا حسين ، صغير جميل مثلك .
ولاذ حسين النمنم بالصمت ، وسرعان ما نهض من مكانه ، ومضى باتجاه مدخل الكهف ، وهو يقول : إنني متعب ، وأشعر بالنعاس ، أريد أن أنام .
وهبت السعلاة الفتية من مكانها ، ولحقت به ، ودخلت الكهف في إثره ، وهي تقول : إنني أسعد سعلاة في الكون ، سيكون لي طفل ، طفل جميل ، من زوجي الحبيب .. حسين النمنم .

" 7 "
ـــــــــــــــــ
مرت أشهر الحمل ، شهراً بعد شهر ، والسعلاة الفتية فرحة ، وفرحها يزداد كلما اقترب موعد الوضع ، وخلال هذه الأشهر ، كان حسين النمنم ، ينتظر الفرصة للإفلات من أسر السعلاة ، الذي حوله مع الزمن ، إلى ما يشبه الوحش ، بملابسه الخلقة ، ولحيته الكثة ، وشعر رأسه الذي غدا كشعر الفتيات .
لكن السعلاة الفتية ، ورغم حملها ، لم تتأخر يوماً عن توفير ما يحتاجه حسين النمنم ، من طعام وشراب ورعاية مستمرة ، هذا من جهة ، ومن الجهة الأخرى ، وحرصاً عليه ، لم تغفل إغلاق مدخل الكهف بالصخرة الكبيرة ، كلما خرجت إلى الغابة ، مع أنها بدأت تلاحظ استكانته ، يوماً بعد يوم ، وكأنه آمن بقدره ، واستسلم للحياة التي اختارتها له ، ويبقى كلّ أملها ، أن يكون سعيداً في حياته معها ، وقد أملت ، أن يزداد تعلقاً بحياته إلى جانبها ، مع مجيء طفلهم الأول .
ومساء هذا اليوم ، بعد العشاء ، جلسا أمام مدخل الكهف ، والسعلاة الفتية متكئة على صدر حسين النمنم ، كأي زوجين شابين متحابين ، ويداها فوق بطنها المرتفعة ، وراحت تتأمل النجوم المتغامزة في عمق السماء ، وقالت بصوت حالم : حسين ..
لم يردّ حسين النمنم عليها ، فتابعت قائلة : أنظر إلى تلك النجمة المشعة ..
ونظر حسين النمنم ، حيث تنظر السعلاة الفتية ، وقال : تلك هي الزهرة على ما أعتقد .
واستطردت السعلاة الفتية قائلة بنفس الصوت الحالم : أتعرف بماذا أحلم ، يا حسين ؟
وصمتت لحظة ، ربما انتظرت رداً من حسين النمنم ، لكنه لم يرد ، فقالت : أحلم أن أعيش أنا وأنت هناك ، لا يشاركنا فيها أحد ، غير طفلنا طبعاً .
وتنهد حسين النمنم ، دون أن يرد ، فقالت : تلك النجمة ، مهما كانت كبيرة ، سأملأها بالأطفال ، آه كم أحب الأطفال ، شريطة أن يشبهوك .
وندت أنّة متوجعة عن السعلاة الفتية ، واعتدلت وهي تكتم ضحكتها ، ويداها فوق بطنها ، وقالت : طفلي ، ربما سيشرف قريباً ، إنه يرفسني .
وتحاملت على نفسها ، ونهضت واقفة ، وبطنها متدلية ، وقالت : بدأ الجو يبرد ، لندخل إلى الكهف ، أريد أن أتمدد في فراشي ، لعلي أنام قليلاً .
ونهض حسين النمنم ، وقبل أن يدخل الكهف ، توقف هنيهة ، وإلى جانبه تقف السعلاة الفتية ، وراح ينظر إلى الآفاق المعتمة البعيدة ، إنه الليل في كلّ مكان ، لكن في البعيد ، وراء تلك التلال المعتمة البعيدة ، توجد أمه وخطيبته ومدينته الحبيبة .. الموصل .
ودخل حسين النمنم الكهف ، ودخلت السعلاة الفتية في إثره ، وهي تتأوه وتتوجع ، ثم سحبت الصخرة الكبيرة ، وأغلقت بها مدخل الكهف .
وعلى ضوء القنديل الخافت ، الذي لا يضيء إلا جانباً محدوداً من الكهف ، تمددت السعلاة الفتية في فراشها ، وأغمضت عينيها المتعبتين ، وهي تقول : حسين ، يبدو أنك ستكون أباً في وقت قريب ، وسأكون بهذا الطفل ، الذي يشبهك ، أسعد سعلاة في العالم .
وتمدد حسين النمنم إلى جانبها ، كما يفعل كلّ يوم ، وأغمض عينيه ، لعله يهرب بلجوئه إلى النوم ، من عالم هذا الكهف ـ السجن ، إلى عالمه الحقيقي مع أمه وخطيبته ومدينته .. الموصل .


" 8 "
ـــــــــــــــــ
أفاق حسين النمنم ، قبيل الفجر ، على السعلاة الفتية ، تصيح متوجعة : حسين ..
وفتح حسين النمنم عينيه ، اللتين يثقلهما النعاس ، وإذا السعلاة الفتية تقف على مقربة منه ، ويديها فوق بطنها المرتفعة ، وتصيح متوجعة : يبدو أنني .. سألد قريباً .. بل آآآي .. قريباً جداً .
واعتدل حسين النمنم في فراشه ، لا يدري ماذا يفعل ، فقالت السعلاة الفتية : عليّ أن أذهب إلى المولدة العجوز ، وستساعدني على وضع الطفل ، آآآآي .
واتجهت إلى مدخل الكهف ، وراحت تبعد الصخرة الكبيرة عن المدخل ، وهي تقول متأوهة متوجعة : عد إلى فراشك ، الوقت مازال مبكراً ، ربما لن أتأخر ، سأعود بمجرد أن أضع الطفل .
وخرجت السعلاة الفتية من الكهف ، وسحبت الصخرة الكبيرة ، وأغلقت بها المدخل من الخارج ، واقترب حسين النمنم من المدخل ، وراح ينصت إلى خطوات السعلاة الفتية ، وهي تمضي مبتعدة .
والآن ، وقد ابتعدت السعلاة الفتية ، ما العمل ؟ كيف له أن يستمر في الحياة ، داخل هذا الكهف ، ومعه ربما منذ الغد ، ليس السعلاة وحدها ، وإنما مع طفلها أيضاً ؟ ومن يدري ، سيكون لها منه ، مع الأيام أكثر من طفل ، يا للجحيم ، لعل الموت أفضل ، إلا إذا ..
وراح يدور داخل الكهف ، والقنديل يوشك أن ينطفىء ، لابدّ من حلٍ ، وعليه أن يجد هذا الحلّ ، في أسرع وقت ممكن ، واقترب من الصخرة الضخمة ، التي تسدّ مدخل الكهف ، السعلاة اللعينة تزيحها بسهولة ، وهو الشاب القوي لا يستطيع زحزحتها ، فليجرب مرة أخرى .
ومدّ يديه الشابتين ، وركز قدميه في الأرض ، و يا الله ، وحاول جهده أن يزعزع الصخرة الضخمة ، ويبعدها ولو قليلاً عن المدخل ، فينفذ منها إلى الخارج ، وينطلق بعيداً ، حاول مراراً ، لكن دون جدوى ، فالصخرة الكبيرة لم تتزحزح من مكانها ولن تتزحزح ، وتوقف خائر القوى ، يلهث من التعب ، عليه أن يجد طريقة أخرى للهرب وإلا .. وتراجع قليلاً ، ثم أوى إلى فراشه ، وسرعان ما استغرق في النوم .
وتناهى إليه بكاء طفل حديث الولادة ، أهذا حلم ؟ من يدري ، وفتح عينيه المتعبتين ، وسمع بكاء الطفل يرتفع في الخارج شيئاً فشيئاً ، إنها السعلاة الفتية ، يبدو أنها ولدت ، وجاءت بوليدها إلى الكهف .
وعلى الفور ، هبّ من فراشه ، وانتزع الهراوة من مكانها ، حيث وضعتها الأم ، ووقف في زاوية الصخرة الكبيرة ، التي تسدّ المدخل من الخارج ، ورفع الهراوة بكلتا يديه ، وراح ينتظر .
وعلى الضوء الشحيح للقنديل العتيق ، الذي يوشك أن ينطفئ ، رأى الصخرة الكبيرة ، تزاح عن المدخل شيئاً فشيئاً ، ودخلت السعلاة الفتية ، وهي تحمل الوليد بين ذراعيها ، وهي تصيح فرحة : حسين ...
لم يردّ حسبن النمنم عليها ، وإنما أهوى بالهراوة ، وبكل ما يملك من قوة ، على رأسها ، وترنحت السعلاة الفتية وسط الكهف ، وقد انبثق الدم من رأسها ، وكاد الوليد أن يسقط من بين يديها ، لكنها تشبثت به ، وعالجها حسين النمنم بضربة أخرى ، أسقطتها هي والوليد على الأرض ، مضرجة بدمائها .
وألقى حسين النمنم الهراوة جانباً ، وسارع بالهرب من الكوخ ، وانطلق عبر الصخور إلى الشاطئ الرملي ، ثم ألقى نفسه في النهر ، وراح يشق الماء بسرعة إلى الضفة الأخرى .
وقبل أن يصل إلى برّ الأمان ، في الشاطئ الآخر ، هزه صوت السعلاة الفتية المجروح والغاضب ، وهي تصيح بأعلى صوتها : حسين .
وصعد حسين النمنم إلى الشاطئ ، وقد بدا هادئاً مطمئناً ، فهو يعرف أن السعالي عامة لا تقرب الماء ، والتفت إليها ، وعلى الأضواء الأولى للفجر ، رآها بهيئتها الوحشية ، سوداء البشرة ، منكوشة الشعر ، وعيناها الحمراوان تقذفان شرراَ غاضباً كالبركان ، وصاحت بأعلى صوتها : عدْ يا حسين ، أنت زوجي ، ولنا طفل ، وهو يشبهك تماماً ، تعال .. تعال .
لكن حسين النمنم ، وقد أفلت منها أخيراً ، استدار بعيداً عنها ، واتجه مسرعاً نحو مدينته الحلم ـ الموصل ، حيث أمه وخطيبته وعالمه الطبيعي .
وعادت السعلاة الفتية باكية غاضبة إلى الكهف ، وراحت تدمدم : هذا هو الإنسان ـ الرجل ، لقد أحببته ، ورعيته ، وقدمت له أعز ما أملك ، لكنه إنسان ، والإنسان كما تقول جدتي ، خائن ، وناكر للجميل .
وصرفت على أسنانها بغضب ، وراحت تدمدم : فلينتظر هذا الخائن ، سأنتقم منه شرّ انتقام ، لقد أفلت هو ، لكن طفله معي ، وسيدفع الثمن غالياً .
وعند مدخل الكهف ، تناهى إليها صوت بكاء الطفل ، وتقادحت عيناها الحمراوان ، واندفعت إلى داخل الكهف ، وعلى ضوء القنديل الخافت ، رأت الطفل يتلوى باكياً على الأرض ، إنه حقاً يشبه حسين النمنم ، سحقاً لحسين ، ومدت يديها إلى الطفل ، وقد برزت مخالبها ، وهمت أن تمزقه ، وهو مازال يبكي ، لكنها توقفت ، وراحت ملامحها الوحشية القاسية تلين شيئاً فشيئاً ، ثم ضمته إلى صدرها ، وعيناها تغرقان بالدموع .











الحمامة البيضاء










" 1 "
ـــــــــــــــــ
فتحت المربية العجوز ، باب غرفة نوم الأميرة " نور الزمان " ، ودخلت الغرفة متهللة الوجه ، وكانت الأميرة كالعادة ، مستغرقة في النوم ، كما لو كانت فراشة ، حزينة بعض الشيء ، تنام بين أوراق وردة .
واقتربت من الأميرة نور الزمان ، ومالت عليها ، وهمست لها برفق : مولاتي ..
لكن الأميرة نور الزمان لم تفتح عينيها ، وإنما تململت في فراشها ، وكأن نسمة مرت على أجفانها ، فقالت المربية العجوز : جاء الصباح ، والشمس أشرقت ، وتريد أن تحييكِ .
وفتحت نور الزمان عينيها ، لكنها لم تعتدل في فراشها ، وردت قائلة : هذا ليس صباحي ، يا مربيتي ، والشمس لا تشرق لي ، فأنا أعيش في قفص .
واعتدلت المربية العجوز ، وهي تبتسم ، وقالت للأميرة نور الزمان : انهضي ، يا مولاتي ، وانظري إلى الشمس ، وستعرفين أنها أشرقت لكِ أنتِ .
وأبعدت الأميرة نور الزمان الفراش عنها ، وتطلعت إلى النافذة ، وقالت : لن أشعر بأنها شمس حقيقية ، ما دمتُ أنظر إليها ، من وراء قضبان نافذة غرفتي .
ونظرت المربية العجوز إليها ، وقالت لها : مولاتي ، لا تقولي هذا ، القصر كله لكِ .
ونهضت الأميرة نور الزمان ، وقالت بصوت مفعم بالمرارة : القصر ، مهما كان كبيراً ، يا مربيتي ، فهو قفص لا أكثر .
واقتربت المربية العجوز من الأميرة ، وراحت تلبسها ملابسها ، وهي تقول : مولاتي ، لقد أعددت لكِ الفطور الذي تحبين ، تعالي كلي ، وتمتعي بالحياة .
وزمت الأميرة نور الزمان شفتيها ، وسارت نحو الباب ، وقالت : هيا نفطر ، ولو أن الطعام كله ، غدا ذا مذاق واحد ، تغلب عليه المرارة .
وتوقفت الأميرة قرب الباب ، ثم التفتت ، وتطلعت نحو النافذة ، وقلبها يخفق متوجسة ، وقالت : يخيل إليّ أن الحمامة البيضاء قد جاءت .
ونظرت المربية العجوز نحو النافذة ، ثمّ قالت : لا يا مولاتي ، الحمامة البيضاء لم تأتِ ، و ..
وقالت الأميرة نور الزمان بصوت آسف : منذ أيام عديدة ، والحمامة البيضاء لا تأتي ، ولا تأتيني بهديتها الوردة ، ربما تصدى لها الحراس ، الذين يقفون في حدائق القصر ، والسهام في أيديهم .
وقالت المربية العجوز : لا يا مولاتي ، لا يوجد حراس يحملون السهام في حدائق القصر ، والعصافير والحمائم تزقزق وتهدل آمنة مطمئنة .
ولاذت الأميرة نور الزمان بالصمت لحظة ، ثم قالت : الحمامة البيضاء ليست حمامة عادية ، فهي تأتيني بين فترة وأخرى ، بقرنفلة حمراء بلون الشقائق ، وكأن قرنفلتها هذه رسالة لها مغزاها .
وابتسمت المربية العجوز لها ، وقالت : مولاتي ، إنها حمامة بيضاء عادية كباقي الحمام ..
فقاطعتها الأميرة نور الزمان ، وهي تفتح باب الغرفة ، وتخرج إلى الرواق : الحمامة العادية ، مهما كانت ، يا مربيتي العجوز ، لا تأتي بقرنفلة حمراء ، وتضعها على افريز نافذتي .
ولاذت المربية العجوز بالصمت ، لا تدري ماذا تقول ، وسرعان ما خفّت وراء الأميرة نور الزمان ، المتجهة نحو غرفة الطعام .

" 2 "
ـــــــــــــــــ
جلست الأميرة نور الزمان إلى المائدة ، في غرفة الطعام الرحبة ، وراحت تتناول فطورها بدون شهية تذكر ، والمربية العجوز تقف على مقربة منها ، وتراقبها بشيء من القلق .
وأقبلت جارية شابة ، وانحت للأميرة نور الزمان ، وقالت بصوت خافت : مولاتي ..
ورفعت الأميرة نور الزمان إليها عينين متسائلتين ، دون أن تردّ عليها بكلمة واحدة ، فتابعت الجارية الشابة قائلة : مولاتي ، جلالة الملكة تنتظرك في جناحها ، حالما تفرغين من تناول فطورك .
وصرفت الأميرة نور الزمان عنها نظرها ، ولم تجبها بشيء ، وظلت الجارية الشابة تنتظر صامتة في مكانها ، ثم نظرت إلى المربية العجوز ، فقالت الأخيرة لها : اذهبي أنتِ الآن .
وخرجت الجارية الشابة مترددة من الغرفة ، وأغلقت الباب وراءها ، وتنهدت الأميرة نور الزمان ، وقد توقفت عن تناول الطعام ، فقالت المربية العجوز : مولاتي ، إن الحمامة تأكل أكثر مما أكلتِ .
ونظرت الأميرة نور الزمان إليها ، وقالت : هذا إذا كانت الحمامة خارج القفص ، وليس في داخله .
ولاذت المربية العجوز بالصمت ، فنظرت الأميرة نور الزمان إلى النافذة ، وقالت : آه إنني لم أرَ الحمامة منذ أيام ، وأخشى أن يكون قد أصابها مكروه .
وقبل أن تنتهي الأميرة نور الزمان من كلامها ، تناهت من الحديقة أصوت خافتة مرتبكة ، وهبت من مكانها ، وأسرعت نحو النافذة ، وهي تقول متوجسة : الحمامة البيضاء ، لابدّ أنها في خطر .
وأطلت من النافذة ، وراح قلبها يخفق بشدة ، فقد وقع نظرها ، على عدد من الحرس ، المدججين بالسهام والسيوف ، يتراكضون في حديقة القصر ، وما أن لمحوها في النافذة ، حتى أسرعوا بالاختباء ، بعيداً عن أنظارها الغاضبة الخائفة .
ولأمر ما شهقت الأميرة نور الزمان ، وهتفت ملتاعة : يا ويلي ، الحمامة البيضاء .
وأسرعت المربية العجوز إليها ، وقالت محاولة أن تطمئنها : مولاتي ، لا تخافي ، ربما كان هؤلاء الحراس يطاردون ثعلباً أو ..
واستدارت الأميرة نور الزمان ، ومضت مسرعة إلى غرفتها ، والمربية العجوز تهرول وراءها ، وما إن دخلت الأميرة الغرفة ، حتى لمحت زهرة قرنفل حمراء ، على إفريز النافذة ، فأسرعت إليها ، وتناولتها متلهفة بأصابع مشتاقة قلقة .
وتوقفت المربية العجوز وراء الأميرة نور الزمان ، ورأتها تحدق في الوردة ، وهي تتمتم بصوت دامع : انظري ، هناك قطرة دم فوق أوراق الزهرة .
وحدقت المربية العجوز في زهرة القرنفل ، ورأت قطرة دم تلمع فوق إحدى أوراقها ، وتابعت الأميرة نور الزمان ، بصوت أقرب إلى البكاء : إنهم الحرس ، لابدّ أن أحدهم قد أصاب الحمامة البيضاء ، قبل أن تصل النافذة ، وتضع زهرة القرنفل فوق إفريزها .
ومالت المربية العجوز عليها ، و قالت : هذا احتمال بعيد ، يا مولاتي ، ولو أن أحدهم قد أصابها ، لما استطاعت أن تصل إلى النافذة ، وتضع الزهرة على الافريز .
و التفتت الأميرة نور الزمان إليها ، وزهرة القرنفل بين يديها ، وكأنها جثة فراشة مدماة ، وقالت : انظري ، يا مربيتي ، هذه هي قطرة الدم فوق أوراقها .
ولاذت المربية العجوز بالصمت ، فمضت الأميرة نور الزمان إلى فراشها ، حاملة زهرة القرنفل ، كما لو كانت تحمل جثة الحمامة البيضاء ، وتمددت في الفراش ، وضمت زهرة القرنفل المدماة إلى صدرها .

" 3 "
ــــــــــــــــ
أسرعت الجارية الشابة إلى المربية العجوز ، التي كانت تقف على مقربة من الأميرة ، المتمددة في فراشها ، وزهرة القرنفل الحمراء ، بين كفيها وكأنها جثة فراشة قتيلة ، وهمست لها : سيدتي ، جلالة الملكة الأم قادمة الآن إلى هنا .
وتحيرت المربية العجوز ، ما العمل ؟ لكنها قالت للجارية الشابة : اخرجي أنتِ ، لكن لا تبتعدي ، ابقي قريباً من الباب .
وتمتمت الجارية الشابة ، وهي تخرج مسرعة : حاضر سيدتي ، سأكون قريباً كما تريدين .
وما إن خرجت الجارية الشابة ، حتى لاحت الملكة قادمة ، فأسرعت المربية العجوز إليها ، وانحنت لها قليلاً ، وقالت : أهلاً مولاتي ، تفضلي .
ونظرت الملكة إلى الأميرة نور الزمان ، وقالت دون أن تلتفت إلى المربية العجوز : أرجو أن تكون بنيتي الأميرة مرتاحة ، في هذا الصباح الجميل .
لم ترد الأميرة نور الزمان ، فمالت المربية على الملكة ، وقالت : كما ترينها ، يا مولاتي ، إنها وردة جوري فواحة ومتفتحة .
واقتربت الملكة من سرير الأميرة نور الزمان ، ونظرت مبتسمة إليها ، وقالت : فعلاً إنها وردة متفتحة من ورود هذا الربيع البهيج .
ورفعت الأميرة نور الزمان ، زهرة القرنفل الحمراء ، وقطرة الدم تلمع فوق إحدى أوراقها ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، فرمقت الملكة المربية العجوز بنظرة سريعة ، ثم نظرت إلى الأميرة نور الزمان ، وقالت : هذه زهرة قرنفل جميلة ، يا بنيتي .
فقالت الأميرة نور الزمان بصوت دامع ممرور : جميلة جدا، فهي مضرجة بالدم .
وحدقت الملكة في الزهرة ، ولم تتفوه بكلمة ، فقالت الأميرة نور الزمان : هذه قطرة من دماء الحمامة البيضاء ، التي اقتربت من نافذتي ، ووضعت هذه الزهرة المدماة على إفريز النافذة .
ومالت الملكة عليها ، وقالت : لعل شوكة ما أدمت الحمامة ، وهي تقطف الزهرة من الحديقة .
ونظرت الأميرة نور الزمان إليها ، وقالت بعينين دامعتين : بل أصابها سهم غادر ، من سهام أحد الحراس ، الذين يتربصون بالحمامة قرب نافذتي .
ونهضت الملكة ، ووقفت قرب السرير قالت : أنت واهمة ، يا بنيتي ، ليس هناك حرس يتربصون بأية حمامة ، لا قرب نافذتك ، ولا في الحديقة كلها .
وأطبقت الأميرة نور الزمان على الزهرة المدماة ، وقالت : اسألي أبي ، فهو يعرف الحقيقة .
ولبثت الملكة صامتة للحظة ، ثم اتجهت إلى الخارج ، وعند الباب لحقت بها المربية العجوز ، وقالت هامسة : مولاتي ..
فقاطعتها الملكة ، دون أن تتوقف : ابقي إلى جانب الأميرة ، ولا تبتعدي عنها أبداً .
وتوقفت المربية العجوز ، وانحنت قليلاً للملكة ، وقالت : أمر مولاتي .

" 4 "
ــــــــــــــــ
دخلت الملكة على الملك ، وكان في قاعة العرش ، وقبل أن تتفوه بكلمة واحدة ، قال لها : عزيزتي ، إنني مشغول الآن ، فأنا على موعد مع الكاهن الأعظم ، ولدينا موضوع هام نناقشه .
فقالت الملكة ، وقد بدا عليها التأثر والقلق : لا أهمّ من ابنتنا ، يا عزيزي .
وحدق الملك فيها ، وقال : يمكن إرجاء هذا الأمر ، مهما كان مهماً ، إلى وقت آخر .
واقتربت الملكة منه ، وقالت بصوت متهدج : إنها تبكي في غرفتها ، يا عزيزي .
واستدار الملك ، وجلس هنيهة على كرسي العرش ، وقال : أنت تعلمين ، يا عزيزتي ، إننا نرعاها ، ونحاول أن نوفر لها ، داخل القصر ، كلّ ما يمكن أن تحلم به فتاة في عمرها .
واقتربت الملكة منه ، وقالت : الأميرة تقول ، إنها تعيش في قفص ، والحراس يحيطون بها .
وهزّ الملك رأسه ، وقال : إنني أخاف عليها ، فلها وضعها الخاص ، والحراس بعيدون عنها ، وهم ضروريون لإشعارها بالأمان والاطمئنان .
ولاذت الملكة بالصمت ، فنظر الملك إليها ، وقال : الطبيب العجوز ، الذي يشرف عليها ، ويراقبها من بعيد ، كي لا يثير مخاوفها ، غير مرتاح لما ينتابها ، أو يتراءى لها ، ثم إن هناك أموراً غامضة تحدث ، وعلينا أن نراقبها ، ونفهم حدودها ، قبل فوات الأوان .
ويبدو أن هذا أثار الملكة ، فقالت بشيء من الانفعال : الأميرة لا تتخيل ما ترى ، إن أحد الحراس ، أصاب الحمامة بسهم ، وربما جرحها .
ونهض الملك عن العرش ، وقال : إننا لا نعرف حقيقة هذه الحمامة ، ولا نعرف بالضبط ، أهي موجودة حقاً ، أم أنها .. ، علينا أن نعرف الحقيقة .
وردت الملكة قائلة : إنها حقيقة ، وليس شيئاً آخر ، لقد رأت ابنتنا قطرة دم فوق ، زهرة القرنفل التي جاءت بها الحمامة ، وكان فوقها قطرة دم .
وخطا الملك بضع خطوات ، بعيداً عن كرسي العرش ، وقال : إن هذه الحمامة ، حتى لو كانت حقيقة ، فلا يمكن أن تكون حمامة عادية ، إن الحمامة ، أي حمامة ، لا تستطيع أن تفعل ما تفعله هذه الحمامة .
ولاذت الملكة بالصمت لحظة ، ثم قالت : لقد تحدثت عن هذه الحمامة ، مع الأميرة ، وكذلك مع المربية العجوز ، إنهما لا يعرفان عنها أي شيء ، أكثر من أنها تأتي بين حين وآخر ، وتضع زهرة قرنفل حمراء ، على إفريز نافذة الغرفة ، ثم تطير بعيداً .
ونظر الملك عبر النافذة ، متأملاً حدائق القصر ، وقال : لابدّ أن وراء هذه الحمامة الغامضة ، إن كانت موجودة حقيقة ، أمراً ما ، وأخشى أن يكون فيه خطر على ابنتنا الأميرة نور الزمان ، وهذا ما يقلقني ، ويجعلني أخاف عليها أشدّ الخوف .
وهنا دخل الحاجب ، وانحنى للملك ، وقال : مولاي ، إن الكاهن الأعظم بالباب .
ونظر الملك إلى الملكة ، فقالت وهي تتجه إلى الخارج ، عبر باب جانبي صغير : سأذهب ، وأتركك للكاهن الأعظم ، لكن لا تنسَ ابنتنا نور الزمان .
فقال الملك يطمئنا : لا تقلقي ، يا عزيزتي ، سأذهب إلى الأميرة ، حالما انهي اجتماعي مع الكاهن الأعظم ، فليس لدينا في الحياة أهمّ من ابنتنا نور الزمان .
وخرجت الملكة عبر الباب الجانبي الصغير ، فالتفت الملك إلى الحاجب ، وقال له : دع الكاهن الأعظم يدخل ، إنني أنتظره .
فانحنى الحاجب ، وهو يقول : أمر مولاي .

" 5 "
ــــــــــــــــ
قبيل منتصف النهار ، أقبلت المربية العجوز من الخارج ، واقتربت من الأميرة نور الزمان ، وكانت تقف على مقربة من النافذة ، المطلة على حدائق القصر ، وقالت لها بصوت خافت : مولاتي ، جلالة الملك سيأتي لزيارتك بعد قليل .
واستدارت الأميرة نور الزمان ، وأسرعت إلى فراشها ، واندست فيه ، وزهرة القرنفل الحمراء في يدها ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، فتابعت المربية العجوز قائلة : وربما ستكون جلالة الملكة بمعيته .
وبعد قليل أتى الملك ، وكانت معه الملكة ، وتقدم من الأميرة نور الزمان ، وهو ينظر إليها ، وقال مخاطباً الملكة : انظري ، ها هي ابنتنا مثل الزهرة .
وابتسمت الملكة ، وقالت : زهرة متفتحة دائماً .
ورفعت الأميرة نور الزمان زهرة القرنفل ، ومازال فوق أحدى أوراقها ، أثر واضح لقطرة الدم ، فتمتم الملك كأنما يحدث نفسه : هذا ما يجعلني في قلق وخوف مستمر عليكِ ، يا ابنتي .
ورفعت الأميرة نور الزمان عينيها إليه ، وقالت : أنت ملك عظيم ، يا أبي ، ومثلك لا تخيفه حمامة .
وتمتم الملك ثانية : هذا لو كانت حمامة .
ونظر الملك إلى الملكة ، فقالت الأخيرة : بنيتي ..
وقاطعتها الأميرة نور الزمان قائلة : إنها حمامة ، يا ماما ، وهي لا تخيفني .
ونظر الملك إليها ، وقال : أنا تخيفني ، وما يمكن أن يكون وراءها ، يخيفني أكثر .
ولاذت الأميرة نور الزمان بالصمت لحظة ، ثم قالت : مهما يكن ، أنا لا أريد أن أبقى سجينة قفصي هذا ، إنه يخنقني ، ويكاد يجهز عليّ .
وقال الملك ، وهو يتأهب لمغادرة الغرفة : ستبقين مع مربيتك ، في هذه الغرفة الآمنة ، حتى أعرف حقيقة هذه الحمامة ، وأطمئن عليكِ .
وانكفأت الأميرة نور الزمان ، على مخدتها دامعة العينين ، وهي تقول : هذه ليست حياة ، ليتني لم أكن أميرة ، في هذا البلد المليء بالأقفاص .
ومضى الملك متجهاً إلى الخارج ، دون أن يلتفت إلى الأميرة نور الزمان ، ولبثت الملكة في مكانها ، قلقة حائرة ، لا تدري ماذا تفعل ، لكنها حسمت أمرها أخيراً ، وغادرت مكانها ، وأسرعت في إثر الملك .
وأغلقت المربية العجوز باب الغرفة ، ثم عادت إلى الأميرة نور الزمان ، ودثرتها بفراشها ، وهي تقول : أنتِ متعبة ، يا مولاتي ، ليتك تنامين بعض الوقت ، وترتاحين .
ورفعت الأميرة نور الزمان ، عينيها الغارقتين بالدموع إلى المربية العجوز ، وقالت : آه يا للعذاب ، إلى متى أبقى هكذا ؟
فقالت المربية العجوز : مولاتي ، جلالة الملك يحبكِ ، ويخاف عليك من غدر الزمان ، ولعل الأيام القادمة ستطمئنه ، وعندئذ سننطلق معاً ، كما كنّا في الماضي ، ونذهب إلى أي مكان يروق لنا .
وأغمضت الأميرة نور الزمان عينيها الغارقتين بالدموع ، وقالت : تلك أيام مضت ، ولا أظنني سأراها ثانية ، في يوم من الأيام ، مهما تقلب الزمان .

" 6 "
ــــــــــــــــ
مرت أيام عديدة ، ربما أكثر من أسبوع ، مرتّ يوماً إثر يوم ، والأميرة نور الزمان في فراشها ، لا تكاد تغادره ، وزهرة القرنفل المدماة في يدها ، وقد ظلت ـ ويا للعجب ـ نظِرة ، لا يطالها الذبول .
ولبثت مربيتها العجوز إلى جانبها ، لا تغادرها إلا في الليل ، حين تغمض عينيها ، وتستغرق في النوم ، وكانت تحرص على راحتها ، وتراقبها خلسة ، وقد لاحظت أنها راحت تميل للصمت يوماً بعد يوم .
ولم تعرف المربية العجوز ـ وأنى لها أن تعرف ـ أن الأميرة نور الزمان ، كانت في أعماقها ، تتحرق شوقاً إلى رؤية الحمامة البيضاء ، لعلها تطمئن عليها ، بعد ما أصابها ، وتتمتع بهيأتها الجميلة المريحة ، التي تشيع السلام في أعماقها .
وذات يوم ، وقد غادرتها مربيتها العجوز لأمر ما ، وكانت قلما تغادرها ، نهضت من فراشها ، لا تدري لماذا ، وتوقفت على مقربة من النافذة ، وأطلت منها على الحديقة ، وإذا بها تسمع صوت امرأة غريبة ، تخاطبها من ورائها بصوت هادئ : مولاتي .
واستدارت الأميرة نور الزمان ببطء متوجسة ، وقلبها يخفق بشدة ، حين رأت امرأة غريبة ، تقف في وسط الغرفة ، ترى من أين جاءت ؟ كيف دخلت إلى الغرفة ؟ والباب مغلق تماماً ، وكذلك النافذة ، فحدقت فيها مندهشة ، وقالت : من أنت ؟
وابتسمت المرأة الغريبة ، وقالت : لا عليك ، يا مولاتي ، جئتك في أمر يهمكِ .
وتلفتت الأميرة نور الزمان حولها ، وقالت : مربيتي في الخارج ، وستأتي في أية لحظة .
فقالت المرأة الغريبة : اطمئني ، يا مولاتي ، سأبقيها في الخارج ، حتى أنتهي من مهمتي ، وحتى لو أتت ، وهذا ما لن يحدث ، فإنها لن تراني .
ولاذت الأميرة نور الزمان بالصمت مذهولة ، ثم فتحت فمها ، وهمت أن تتساءل ، إلا أن المرأة الغريبة ، مالت عليها ، وقالت : جئتك بشأن الحمامة البيضاء .
وشهقت الأميرة نور الزمان ، وتمتمت : الحمامة .. !
ومدت المرأة الغريبة يدها ، ولمست برفق ذراعها ، وقالت : اطمئني ، يا مولاتي ، الحمامة البيضاء بخير ، وهي تتماثل للشفاء من جرحها الطفيف .
واتسعت عينا الأميرة نور الزمان ، وقال ملتاعة : جرحها ؟ أين هي الآن ؟
وابتسمت المرأة الغريبة ، وقالت : في الفراش .
وتمتمت الأميرة نور الزمان مندهشة : الفراش !
وتابعت المرأة الغريبة قائلة : وحوله من يرعاه ، ويسهر على راحته ، أنت أميرة ، وهو مثلك أمير .
ولاذت الأميرة نور الزمان بالصمت ، وقد أذهلها ما سمعته ، فمالت عليها المرأة الغريبة ثانية ، وقالت : أنتِ لم تطمئني تماماً على الأمير ، ولابدّ أنك تريدين أن تريه ، وتعرفي الحقيقة ، كل الحقيقة .
وردت الأميرة نور الزمان قائلة : وحتى لو أردت ذلك ، فلن أستطيع الخروج ، حتى من هذه الغرفة ، التي أنا فيها معكِ الآن .
ونظرت المرأة الغريبة إليها ، وقالت : لو صرتِ حمامة ، يا مولاتي ، لاستطعتِ الخروج من هذه الغرفة ، والذهاب إلى حيث ينتظرك الأمير نفسه .
والتمعت عينا الأميرة نور الزمان ، كأن حلماً غريباً مستحيلاً راودها ، لكنها قالت : هذا محال ، فأنا إنسانة ، والإنسان لا يستطيع ..
وصمتت الأميرة نور الزمان ، فقالت المرأة الغريبة مبتسمة : الأمير نفسه كان يأتيك ، ويقدم لكِ زهرة قرنفل حمراء ، وهو بهيأة حمامة .
وحدقت الأميرة نور الزمان فيها صامتة ، فتابعت قائلة : أنا صيرت الأمير حمامة ، وجاء إليكِ كحمامة ، وسأجعلكِ حمامة ، يا أميرتي ، وآخذك إلى الأمير ، في الحال إذا أردتِ .
وتساءلت الأميرة نور الزمان : ومربيتي .. ؟
فقالت المرأة الغريبة : لا عليكِ ، لن أدعها تدخل غرفتكِ ، حتى تعودي بعد أن تري الأمير .


" 7 "
ـــــــــــــــــ
فتح الأمير عينيه ، اللتين أثقلهما الألم وجفاء النوم ، كأن أحداً أيقظه ، وتلفت حوله ، أين الساحرة ؟ وعلى الفور ، أبصرها أمامه قرب السرير ، فابتسمت له ، وقالت : شبيك لبيك ساحرتك بين يديك .. مولاي .
وحدق الأمير فيها ، وقال : رغم أنكِ كنت على مقربة مني ، قبل أن أغفو ، إلا أني أشعر ، أنك غبت عني لفترة ، في مكان ما ، وربما بعيداً .
اتسعت ابتسامة الساحرة ، وقالت بكلمات منغمة كأنها تعزف ناياً : أنت محق ، كنت عند من تطير إليها ، عندما تكون حمامة بيضاء .
وتمتم الأمير مندهشاً : الأميرة .. !
ومالت عليه الساحرة ، وقالت وكأنها تهمس له : إنها هنا ، لقد جاءت معي ، لتراك .
وتلفت الأمير حوله مصعوقاً ، فقالت الساحرة : مولاي ، أنت لا تريد أن تراك الأميرة هكذا ، تهيأ ، تهيأ يا مولاي ، إنها لأميرة نفسها .
واعتدل الأمير في فراشه ، وهو يحاول السيطرة على عواطفه ، وإن لم يكن واثقاً ، بأن الساحرة جادة تماماً ، فنظرت الساحرة إلى النافذة ، وهتفت بصوت هادئ : مولاتي ، تفضلي يا مولاتي .
وعلى الفور ، حطت حمامة بيضاء على إفريز النافذة ، وراحت تنظر مبهورة إلى الأمير الجالس في فراشه الوثير ، ومن جانبه حدق فيها الأمير ، وقلبه يخفق بشدة ، فأشارت الساحرة للأميرة ـ الحمامة ، وقالت : تفضلي ، يا مولاتي .
ونزلت الحمامة البيضاء من النافذة ، وإذا هي الأميرة نور الزمان نفسها ، فتمتم الأميرة مذهولاً : الأميرة ! الأميرة نور الزمان ؟
وتوقفت الأميرة نور الزمان ، تحدق فيه محرجة مذهولة ، وابتسمت الساحرة ، وقالت : ها هي الأميرة ، يا مولاي ، لقد كنت عند كلمتي .
وهمّ الأمير أن ينهض ، فاقتربت الأميرة نور الزمان ، منه ، وقالت : لا .. أرجوك ، ابقَ في مكانك ، أنت جريح ، هذا ما خمنته ، وتأكدت منه الآن .
وبقي الأمير في مكانه ، يتطلع إليها ، فقالت الأميرة نور الزمان : رأيت قطرة دم ، فوق زهرة القرنفل ، التي أتيتني بها قبل أيام ، وخمنت هذا .
ومدّ الأمير يده ، ولمس كتفه ، الذي يغطيه الضماد ، وقالت الساحرة : آه يبدو أن أحد حراس القصر ، أراد أن يصطاد الأمير ..
وقاطعها الأمير مبتسما : لعله أراد أن يقدمني هدية للأميرة نور الزمان ، وليته فعل .
وأطرقت الأميرة رأسها مترددة ، فمالت الساحرة على الأمير ، وقالت له : الأميرة جاءت معي ، لتطمئن عليك ، لقد كانت قلقة ، بعد أن رأت قطرة الدم فوق زهرة القرنفل الحمراء ، التي قدمتها لها .
ونظر الأمير إلى الأميرة نور الزمان ، وقال : هذه اللحظة كنت أحلم بها ، منذ أن رأيتكِ أول مرة ، تقفين كزهرة قرنفل في نافذة غرفتكِ .
ورفعت الأميرة نور الزمان عينيها إليه ، وقالت : عفوا ، ربما آن لي أن أعود إلى غرفتي ، بعد أن رأيتكَ بصحة جيدة ، واطمأننت عليك .
ونهض الأمير من فراشه ، وتقدم من الأميرة نور الزمان ، مغالباً تألمه من جرحه ، وضم يديها بين يديه ، وقال : لا .. أرجوكِ .. ابقي معي ..
وسحبت الأميرة نور الزمان ، يديها من بين يديه ، وقالت : أخشى أنّ مربيتي تفتقدني الآن ، وستجن إذا دخلت غرفتي ، ولم تجدني فيها .
فابتسمت الساحرة ، وقالت : لا عليكِ ، يا مولاتي ، مربيتك تغط الآن في نوم عميق ، ولن تفيق إلا إذا سمحت لها بذلك .
ونظرت الأميرة إليها ، وقالت : مهما يكن ، عليّ أن أعود الآن ، أرجوكِ .
ونظر الأمير إليها ، وقال : سأزورك في أقرب فرصة ، إذا لم تمانعي في ذلك .
فغضت الأميرة نور الزمان من نظرها ، وقالت : لكني أخاف عليك من الحراس ، وهم مدججون بالسلاح .
فقالت الساحرة : لا عليكِ ، سترينه في الوقت المناسب في غرفتك ، دون أن يراه حارس من الحراس .
ونظرت الأميرة نور الزمان إلى الأمير ، وقالت : أهلاً بك في أي وقت تشاءه .
ثم التفتت إلى الساحرة ، وقالت : هيا بنا ، لنعد .
وابتسمت الساحرة ، وقالت : ستعودين وحدك ، أنتِ تعرفين الطريق ، رافقتك السلامة .
وبعد هنيهة ، فتحت الأميرة عينيها ، وإذا هي في سريرها ، ودارت بعينيها فيما حولها مذهولة ، ترى أكانت عند الأمير حقاً ، أم أنها كانت مستغرقة في نوم عميق ، وتحلم ؟





" 8 "
ــــــــــــــــــ
فجأة فتحت المربية العجوز غينيها ، وإذا هي جالسة في فراشها ، يا للحمق ، أكانت نائمة حقاً ؟ والأميرة نور الزمان وحدها في غرفتها .
وهبت من مكانها ، وقد طاش عقلها ، وأسرعت إلى غرفة الأميرة نور الزمان ، ومدت يدها الخائفة المضطربة ، وطرقت على الباب .
وفوجئت بالأميرة نور الزمان تردّ عليها قائلة : تعالي ، أنا هنا أنتظركِ .
وتوقفت المربية العجوز خائفة مترددة ، أهذا الصوت الممتلئ ، المفعم بالحيوية ، هو صوت الأميرة نور الزمان ؟ يا للعجب ، وجاءها الصوت ثانية : أيتها المربية ، ادخلي .
وأفاقت المربية العجوز من ذهولها ، ودفعت الباب على الفور ، وتقدمت إلى الداخل بخطى مرتبكة ، وذهلت حين لم ترَ الأميرة نور الزمان في الفراش ، وإنما رأتها واقفة وسط الغرفة ، والقرنفلة الحمراء في يدها .
وحدقت الأميرة نور الزمان فيها ، وقالت : لقد تأخرت في الدخول ، وهذه ليست عادتكِ ، يخيل إليّ أنك كنتِ مستغرقة في نوم عميق .
واتسعت عينا المربية العجوز ، وقلبها الواهن يخفق بشدة ، وقالت : لا ، لا يا مولاتي ، كيف لي أن أنام ، وأنت مستيقظة في غرفتكِ ؟
وغالبت الأميرة نور الزمان ابتسامتها ، وقالت : لا أدري ، لماذا خيل إليّ ، أنكِ كنتِ نائمة .
وفغرت المربية العجوز فاها ، الذي يكاد يكون خالياً من الأسنان ، وغمغمت مرتبكة : الحقيقة .. يا مولاتي .. لا أدري ماذا عليّ أن أقول ..
وصمتت المربية العجوز ، وبدا الارتباك الشديد عليها ، فقالت الأميرة نور الزمان : لا عليكِ ، حتى لو كنت نائمة ، هذا أمر طبيعي .
وقالت المربية العجوز : لا يا مولاتي ، ربما غفوت ، لا أدري لماذا ، لكني كلما كنت أفيق ، وأهمّ بالخروج من غرفتي إلى غرفتك ، يهيب بي صوت غريب ، أن ابقي ، فينطبق جفناي ، وأغفو ثانية .
وصمتت المربية العجوز ، وتلفتت حولها ، الباب مغلق وكذلك النافذة ، فحدقت الأميرة نور الزمان فيها ، وقالت : ها .. ؟
ونظرت المربية العجوز إليها مترددة ، وقالت : لا تغضبي مني ، يا مولاتي ، هل .. ؟
وصمتت المربية العجوز ثنية ، فتساءلت الأميرة نور الزمان : هل .. ماذا ؟
وعلى الفور ، قالت المربية العجوز ، وهي تطرق برأسها نحو الأرض : هل .. هل كنتِ هنا ، طوال هذا الوقت ، يا مولاتي ؟
ولاذت الأميرة نور الزمان بالصمت ، محدقة فيها ، فهربت المربية العجوز بعينيها الشائختين منها ، وقالت : يا لحماقتي ، لماذا أهذي هكذا ؟ سامحيني ، يا مولاتي ، يبدو أنني خرفت .
واتسعت عينا المربية العجوز ذهولاً ، وكاد عقلها أن يطيش ، حين سمعت الأميرة نور الزمان تقول : أنتِ محقة ، لم أكن هنا ، حين غفوتِ في غرفتكِ ، لقد خرجت من غرفتي ، وذهبت إلى الأمير ـ الحمامة ، وقضيت بعض الوقتِ عنده ، ثمّ عدتُ .

" 9 "
ــــــــــــــــ
في الصباح ، وقد أطلت الشمس فرحة من النافذة ، طرق الباب بهدوء ، إنها المربية العجوز ، لعلها لم تنم ليلة البارحة ، بعد ما سمعته من الأميرة نور الزمان ، يا للمرأة العجوز المسكينة .
ودفع الباب برفق ، وأطلت المربية العجوز متوجسة ، وسرعان ما حاولت أن تبتسم ، وهي تقول : صباح الخير ، يا مولاتي .
وتململت الأميرة في فراشها ، وردت قائلة بصوت ناعس : صباح النور .
وتقدمت المربية العجوز نحوها ، وهي تقول : نور على نور ، تبدين مشرقة هذا الصباح ، يبدو أنكِ نمت مرتاحة جداً ، يا مولاتي .
وابتسمت الأميرة نور الزمان ، عندما تراءى لها حلمها ، أهو حلم ما رأته ؟ مهما يكن ، فقد ابتسمت للمربية العجوز ، وقالت : نعم ، وأنتِ ؟
وابتسمت المربية العجوز بدورها ، وقالت : لا أدري ما أصابني ليلة البارحة ، فقد كنت قلقة جداً .
ورمقتها الأميرة نور الزمان ، بنظرة سريعة ماكرة ، وقالت : ربما هذا بسبب ما قلته لكِ البارحة .
ولاذت المربية العجوز بالصمت لحظة ، ثم اتجهت إلى النافذة ، وهي تقول : النافذة مفتوحة ، يا مولاتي ، رغم أنني أغلقتها ليلة البارحة ، قبل أن أذهب إلى غرفتي ، وآوي إلى فراشي .
وكتمت الأميرة نور الزمان ضحكتها ، وقالت : من يدري ، ربما فتحتها ليلاً الساحرة .
وهمت المربية العجوز أن تغلق النافذة ، فقالت لها الأميرة نور الزمان : دعيها ، إن الجو اليوم دافىء .
وتوقفت المربية العجوز ، وقالت : مولاتي ..
فقاطعتها الأميرة نور الزمان قائلة : دعيها ، إنني أحب نور الشمس في غرفتي .
وابتسمت المربية العجوز ، وقالت : هذا اليوم نور ، يا مولاتي ، إنني أتمنى هذا اليوم منذ فترة طويلة .
ونهضت الأميرة نور الزمان ، وقالت : إنني جائعة ، أريد أن أفطر .
فقالت المربية العجوز : الفطور جاهز ، تفضلي ، يا مولاتي ، إلى غرفة الطعام .
وخرجت الأميرة نور الزمان نشطة من غرفتها ، والمربية العجوز تهرول جاهدة وراءها ، وعندما دخلت غرفة الطعام ، فوجئت الجواري بها ، والتففن حولها متهللات ، يهتفن : أهلاً مولاتي .. أهلاً .. أهلاً .
وابتسمت الأميرة لهن ، وقالت لهن المربية العجوز : هيا ، ضعن الطعام على المائدة ، هيا بسرعة .
وأسرعت الجواري بوضع أطباق مليئة بالطعام على المائدة ، فضحكت الأميرة نور الزمان ، وهي تشير إلى أطباق الطعام ، وهي تقول : كفى ، كفى طعاماً ، لست حوتاً ، إنني حمامة .
فمالت عليها المربية العجوز مبتسمة ، وقالت : كلي ، يا مولاتي ، فاليوم نور .
وراحت الأميرة نور الزمان ، تـأكل وهي تقول : فلآكل .. وآكل .. عسى أن يكون اليوم نورا.
وعادت الأميرة نور الزمان ، إلى غرفتها منشرحة ، بعد أن تناولت طعام الفطور ، ولحقت المربية العجوز بها ، وأغلقت باب الغرفة ، وقالت : تمددي في فراشكم ، يا مولاتي ، وارتاحي بعض الشيء .
وأطلت الأميرة نور الزمان ، وتطلعت عبرها إلى حدائق القصر ، وقالت : لن أتمدد اليم ، الجو جميل جداً ، ليتني أستطيع الخروج إلى الحدائق .
ووقفت المربية على مقربة منها ، وقالت : لنصبر قليلاً ، يا مولاتي ، سيطمئن مولاي عليك ، وربما يسمح لنا بالخروج ، حتى خارج القصر .
وتنهدت الأميرة نور الزمان ، وقالت : أخشى أن يكون هذا اليوم بعيد جداً ، إن كان سيأتي يوماً ما .
وتوقفت الأميرة نور الزمان عن الكلام ، وقد مرّت أمام ناظريها غمامة بيضاء غريبة ، وتراءت لها الحمامة البيضاء تحلق في البعيد ، ولاحظت المربية العجوز صمتها ، فخفق قلبها الواهن بشدة ، وتمتمت بصوت متحشرج : مولاتي .
وقالت الأميرة نور الزمان ، دون أن تلتفت إليها : آآآه .. أريد أن أنام .
وهمت المربية العجوز أن تسندها ، لكنها توقفت ، فاستدارت الأميرة نور الزمان ، واتجهت إلى سريرها بخطوات مهزوزة ، وقالت : دعيني ، دعيني وحدي ، أريد .. أن أنام .
وحاولت المربية العجوز ، أن تقترب منها ، وهي تتمتم قلقة : مولاتي .
لكن الأميرة نور الزمان دخلت فراشها ، وأغمضت عينها ، واستسلمت شيئاً فشيئاً لما يشبه النوم .

" 10 "
ـــــــــــــــــــ
أحست الأميرة نور الزمان ، بما يشبه النسمة القارصة ، تلمس جبهتها الساخنة ، أم أنها أنامل المربية العجوز ، تتحسس جبهتها ، أو تمسح حبات العرق عنها ؟ فتحت عينيها ، لا أحد في الغرفة ، والنافذة مغلقة ، وتناهت إليها رفرفة أجنحة ، أهو الأمير ـ الحمامة ؟
واعتدلت في فراشها ، حين رأت الحمامة تحطّ على إفريز النافذة المقفلة ، فهبت من مكانها ، وقلبها يخفق بشدة ، وهي تهتف : أميري !
واجتاز الأمير ـ الحمامة النافذة ، رغم أنها كانت مقفلة ، وهبط إلى أرض الغرفة ، وقال : صباح الخير ، يا أميرتي العزيز .
وردت الأميرة نور الزمان : صباح النور .
ومدّ الأمير يديه ، وضمّ يديها ، وقال : عفواً ، الوقت مبكر ، لكني رأيت أن أزوركِ ، قبل أن ندخل على والديك أنا ووالدتي الملكة ووالدي الملك .
والتمعت عينا الأميرة نور الزمان ، وهتفت فرحة بصوت خافت : هذا اليوم !
ورفت فوق شفتي الأمير ابتسامة فرحة ، وقال : أبوايا والحاشية على أبواب المدينة .
فهتفت الأميرة نور الزمان فرحة : أهلاً ، أهلاً ومرحباً بكم جميعاً .
وصمتت الأميرة نور الزمان ، وقد مرت بها فجأة غيمة ، غيمة سريعة ، ويبدو أن الأمير قد لاحظ ذلك ، فقال متوجساً : ما الأمر ، يا عزيزتي ؟
ونظرت الأميرة نور الزمان إليه مترددة ، وقالت : لا أدري ، أخشى أن أبي ..
وصمتت الأميرة نور الزمان ، فقال الأمير ، وقد راحت ابتسامته تتراجع ، وتنطفىء : جلالة الملك ؟
وسحبت الأميرة نور الزمان يديها ، من بين يديه ، وقالت : إنه ربما لا يريدني أن أذهب بعيداً عنه ..
قال الأمير مندهشاً : مستحيل .
فقالت الأميرة نور الزمان : أنت لا تعرف أبي .
واقتربت الأميرة نور الزمان من النافذة ، فلحق بها الأمير ، وهو يقول : أميرتي ، أنتِ لي ، وستكونين لي ، مهما كان الثمن .
وهزت الأميرة نور الزمان رأسها صامتة ، فقال الأمير : اسمعيني ، يا مولاتي ..
ورفعت الأميرة نور الزمان عينيه إليه ، فتابع الأمير قائلاً : حتى لو اعترض الملك أبوك ، هناك حلّ أخير ، وعلينا أن نلجأ إليه .
وكأنما شعرت الأميرة نور الزمان بخطورة ما سيقوله ، فتراجعت قليلاً ، وهي تتمتم : لا .. لا ..
ومدّ الأمير يديه ثانية ، وأمسك بيديها ، وقال : لنهرب ..
وراحت الأميرة نور الزمان تردد ، والريح القارصة تضربها : لا .. لا .. لا ..
وقرصتها الريح في صدرها ، ففتحت عينيها على سعتهما ، وتراءى لها أن أمها الملكة ، تقف على مقربة منها ، دامعة العينين ، ومعها الملك أبوها ، و .. من هذا الرجل العجوز ؟ لعله الطبيب ، آه نعم إنه الطبيب ، وانحنى أبوها الملك عليها ، وقال : بنيتي الحبيبة ، نحن إلى جانبكِ .
وحاولت الأميرة نور الزمان أن تبتسم ، وقالت بصوت واهن ، وهي تنطفئ شيئاً فشيئاً : أبي .. اطمئن .. دعاني الأمير .. الحمامة البيضاء .. إلى أن نطير معاً .. إلى مكان بعيد .. آمن .. لا أقفاص فيه .. نعيش فيه معاً .. أنا وهو .. لكني قلت له .. لا .
وخفت صوت الأميرة نور الزمان ، حتى صمتت تماماً ، وانكبت عليها أمها الملكة باكية ، وهي تردد : بنيتي .. بنيتي .. بنيتي .
وانحنى الملك عليها ، مغالباً دموعه ، وأبعدها برفق عن الأميرة نور الزمان ، بصوت تخنقه الدموع : تعالي ، لعلها متعبة بعض الشيء ، وتريد أن تنام .
والتفت الملك إلى الطبيب العجوز ، ونظر إليه دون أن ينبس بكلمة ، وقد استبد به القلق ، فأطرق الطبيب العجوز رأسه ، وقال بصوت خافت لا يكاد يسمع : الأميرة نور الزمان ، متعبة جداً ، يا مولاي .
وصمت لحظة ، ثم قال وكأنه يحدث نفسه : إنه قلبها ، يا مولاي ، هذا قدرها ، لقد ولدت بقلب ضعيف جداً ، لا يصمد طويلاً للحياة .
















الدجاجة











" 1 "
ـــــــــــــــــ
منذ أن عادت زهرة من بيت أختها ، وهي تبدو حزينة يائسة محبطة ، هذا ما لاحظه زوجها عليها ، وهو يفهم زوجته زهرة جيداً ، لكنه تجنب الحديث معها حول الموضوع ، فهو يعرف السبب ، ويقدر ما تعانيه زوجته ، فهو أيضاً يعاني مثلها .
وفي أول الليل ، من ذلك اليوم ، وعلى ضوء القنديل الخافت ، أحسّ حامد بزوجته زهرة تتململ ، وأنها لم تستغرق في النوم ، فربت على ظهرها ، وقال لها بصوته الهادئ : زهرة ..
وغالبت زهرة دموعها ، وهي تقول بصوت تخنقه العبرات : لو رأيت طفل أختي .. يا حامد .
فقال حامد بصوته ، الذي ينم عن طيبته : ليبارك لها الله فيه ، أختك شابة ، وهذا طفلها الأول .
وأجهشت زهرة في بكاء مكتوم ، وهي تقول : ماذا فعلتُ لأحرم من الأطفال ؟ لقد تزوجت قبلها بسنين ، وها هي تضع مولودها الأول ، ولم يمضِ على زواجها أكثر من سنة واحدة .
ومدّ حامد يده ، ومسح دموعها عن خديها ، وقال لها : لا عليكِ ، الأطفال قسمة
وقالت زهرة من بين دموعها : نعم قسمة ، وأنا قسمتي سوداء ، ولن أحظى بطفل واحد .
ومسح حامد بيده على رأسها ، وقال لها : سآخذك غداً إلى النبي يونس ، ويقال أن من تلجأ إليه من النساء ، لا يخيّب أملها ، ويعطيها مرادها .
وفي صباح اليوم التالي ، أخذ حامد زوجته زهرة إلى النبي يونس ، وصعد بها إلى تل الغفران ، حيث مرقده المقدس ، ووقفت زهرة أمام المرقد ، وزوجها حامد إلى جانبها ، وقد توضأت ، وارتدت ملابس طاهرة ، وقالت متوسلة : دخيلك يا النبي يونس ، جئتك مقهورة مكسورة ، وكلي أمل أن تعطيني مولوداً ، مهما كان نوعه ، حتى لو كان قطة أو حمامة ، أو أي شيء آخر ، فلا تخذلني يا نبي الله .
وكما قال لها زوجها حامد ، فإن النبي يونس لم يخذل زهرة ، ولم يخيب أملها ، فبعد أسابيع من زيارتها لمرقده ، استجاب لها ، وأدخل الفرحة على قلبها ، وقلب زوجها حامد ، فقد بشرت زوجها ذات ليلة ، وهما راقدان في الفراش ، وقالت له : حامد ، أبشر ، إنني حامل .
وشهق حامد فرحاً ، وقال : حامل !
فقالت زهرة ، ودموع الفرح تغرق عينيها : نعم ، لقد ذهبت اليوم إلى القابلة خجو ، وفحصتني جيداً ، وقالت لي ابشري يا زهرة ، أنتِ حامل .

" 2 "
ـــــــــــــــــ
وطوال أشهر الحمل ، التي كانت تمرّ شهراً بعد شهر ، لم تكن زهرة تتحدث إلى زوجها ، أو إلى أهله أو إلى أهلها ، إلا عن طفلها ، الذي سيولد في الموعد المحدد ، وكم ستفرح به ، سواء كان ولداً أو بنتاً .
وأكثر من مرة ، ترددت عليها القابلة العجوز ، وكانت كلما فحصتها ، تهزّ رأسها مقطبة ، فتسألها زهرة قلقة : كيف حال طفلي ؟ أرجو أن يكون بخير .
لكن القابلة العجوز تردّ عليها بكلام عام ، لا تفهم منه زهرة أي شيء محدد ، إلا أنها على العموم كانت تطمئنها ، فطفلها عطية من النبي يونس ، الذي بلعه الحوت ، ومع ذلك ظلّ حياً يرزق .
ولاحظ زوجها حامد ، أن بطنها ، رغم مرور أشهر عديدة على الحمل ، لا تنمو وترتفع كما يحدث للنساء الحوامل عادة .
ويبدو أنها هي نفسها ، رغم ثقتها بالنبي يونس ، شكتْ من أنها تكاد لا تبدو حاملاً ، وقد سألت القابلة العجوز خجو عن ذلك ، فقالت لها القابلة ، وهي تتحاشى النظر إليها : لا عليكِ ، اطمئني ، أنت حامل ، وستلدين في الموعد المحدد ، والموعد ليس بعيداً .
وحلّ الموعد ، في أواخر الشهر التاسع من الحمل ، ففي أحد الأيام ، استيقظت زهرة ، عند حوالي منتصف الليل ، وهزت زوجها حامد ، الذي كان يرقد إلى جانبها ، وقالت له ، وهي تتأوه متوجعة : حامد ، استيقظ ، بطني توجعني ، يبدو أنني سألد .
واعتدل حامد ، تنتابه مشاعر متداخلة متضاربة ، فرح من جهة ، ومن جهة أخرى قلق وخائف على زوجته زهرة ، فصاحت به زهرة متوجعة : اذهب إلى القابلة خجو ، الألم شديد ، هيا بسرعة .
وذهب حامد مسرعاً إلى القابلة خجو ، وجاء بها عبر الأزقة المظلمة ، حاملاً الفانوس أمامها ، وقبل أن يصلا البيت ، قال لها حامد : خجو ..
لم تردّ القابلة عليه ، فأضاف قائلاً : زهرة ستولد اليوم ، لكن بطنها ليست ..
وسكت حامد ، فقالت القابلة خجو ، وهي تسير في إثره ، على ضوء الفانوس : إنه مولودها الأول ، يا حامد ، وغالباً ما يكون هذا المولود صغير الحجم ، ادعُ لها أن تقوم بالسلامة ، والأمر لله .
ووصلا إلى البيت ، وأسرعت القابلة خجو ، ودخلت الغرفة التي فيها زهرة ، وكانت المسكينة تصرخ من الألم ، وأغلقت الباب وراءها .
ووقف حامداً حزيناً قلقاً بباب الغرفة ، ينتظر ساعة الفرج على أحرّ من الجمر ، وكأنه هو الذي يلد ، وليس زوجته زهرة .
وعند الفجر ، وحامد لم ينم لحظة واحدة ، تناهى إليه ما يشبه القوقأة ، واتسعت عيناه رعباً ، ما هذا ؟ وسرعان ما فتح باب الغرفة ، وخرجت القابلة خجو ، متعبة مقطبة الوجه ، واتجهت مباشرة إلى الباب الخارجي ، فلحق بها حامد ، وسألها : ها .. خجو ، ولد بنت ؟
ومضت القابلة خجو مبتعدة ، وهي تقول : لا بنتاً ولا ولداً ، وإنما .. دجاجة .

" 3 "
ــــــــــــــــ
ابنتنا دجاجة !
صُدمت زهرة ، أكثر مما صُدم حامد ، وقالت لزوجها ، والدموع تغرق عينيها : لقد خذلنا نبي الله يونس ، فبدل أن يُعطينا طفلاً أو طفلة ، أعطانا دجاجة ..
وأجهشت في البكاء ، وهي تنظر إلى فرخ الدجاجة ، الملفوف بالقماط إلى جانبها ، وهي تقول : لو ذهبت إلى النبي شيت لما أعطاني دجاجة ، وحتى لو ذهبت إلى المارحوديني ، أو حتى مار كوركيس ، لأعطياني ما يرضيني ، ولا يخجلني أمام أهلي وأهلك ، دجاجة ! وأنت الذي بلعك الحوت في البحر ، يا يونس .
وصمتت لحظة ، حاولت خلالها أن تكفكف دموعها ، لكنها سرعان ما انخرطت في البكاء ثانية ، وقالت : ماذا أقول للناس ؟ وبماذا سينادونني ؟ يا ويلي ، أم دجاجة ؟ أم دجاجة ؟ ليته ديك على الأقل .
لم يجلس حامد إلى جانبها ، حاول ذلك من أجل زوجته المسكينة ، لكنه لم يستطع ، ووقف عند مُؤخرة الفراش ، الذي تنام عليه زهرة ، وفرخ الدجاجة يرقد إلى جانبها ، مغمض العينين .
وتطلع حامد إليها متردداً ، وقال : لا عليكِ ، يا زهرة ، المولود عطية من الله ، وعلينا أن نرضى بما أعطانا ربنا الله ، ولا نكفر بالنعمة .
وكفكفت زهرة دموعها ، وهي تقول بصوت تبلله الدموع : لا إله إلا الله ، دجاجة !
وحاولت زهرة جهدها ، أن تكتم الأمر ، لكن الكثيرين من الأهل والأقارب والجيران ، عرفوا بأن المولود ليس ولد ولا بنتاً وإنما دجاجة ، لقد صدم هذا الأمر محبي زهرة ، لكن مبغضيها ، وهم قلة فزهرة امرأة طيبة ، لم تؤذِ أحداً في حياتها ، فقد تشفّوا بها ، وراحوا يتبادلون النكات عنها ، وعن مولودها .. الدجاجة .
ومع الزمن ، ألف الآخرون هذه الحقيقة ، ودعا الطيبون منهم زهرة ، أن تسلم أمرها إلى الله ، وترضى بما قسمه لها ، وترعى مولودها الدجاجة ، كما لو كان طفلاً طبيعياً ، فهي ـ مهما كان الأمر ـ من صلبهما هي وزوجها حامد ، ثمّ إنها هدية من نبي الله يونس ، ومثل هذه الهدية ، يجب الاقتناع بها على الأقل ، ومن يعرف ماذا يُخبئ القدر ، لهده المولودة .. الدجاجة ؟
ومما هدّأ زهرة ، وطيّب خاطرها بعض الشيء ، أن الدجاجة الصغيرة ، وهي تنمو وتكبر ، راحت تتكلم كما يتكلم الأطفال الصغار ، وكلما مرّ الزمن ، وكبرت الدجاجة ، ازداد تمكنها من الكلام ، وحين بلغت مبلغ الشباب ، راحت تتكلم كما لو كانت فتاة شابة .
وطالما جلست الدجاجة ، وقد غدت شابة ، إلى جانب أمها زهرة ، تتبادل الحديث معها ، وكانت زهرة تشكو لها همومها ، وتقول لها ، إنها كانت تتمنى لو أنها كانت فتاة جميلة ، وليست دجاجة ، وإن كانت تحبها كما لو كانت فتاة جميلة فعلاً .
وكانت الدجاجة ترافق أباها حامد ، إلى البستان الذي يعمل فيه ، فتتجول بين الأشجار ، وأحواض الورد الكثيرة والمتعددة الألوان ، أو تجلس على حافة البركة الهادئة ، الموجودة في طرف منعزل من البستان الكبير ، الشبيه بالغابة .

" 4 "
ـــــــــــــــــ
هذا اليوم ، الشمس مشرقة ، وأشعتها الذهبية تشيع الفرح والدفء في الجو ، وتقافزت الدجاجة الفتية فرحة مستبشرة ، وقالت لأمها زهرة : ماما ، أريد أن أذهب اليوم مع بابا ، إلى البستان .
وابتسم حامد ، وكان على مقربة منهما ، ونظرت إليه زهرة ، وقالت مبتسمة : اسمعي يا جارة .
والتفت حامد إلى الدجاجة الفتية ، وقال لها متهللاً : على الرحب والسعة ، يا بنيتي العزيزة .
وانقضت الدجاجة على أمها زهرة ، وطوقتها بجناحيها المريشين ، وقالت لها : ماما ، تعالي معنا إلى البستان ، وسنعود أنا وأنت بعد منتصف النهار .
وضحكت زهرة ، وقبلت ابنتها الدجاجة ، وقالت : اذهبي أنتِ مع أبيكِ ، وتمتعي في هذا النهار المشرق ، فأنا لدي أعمال كثيرة هنا ، وعليّ أن أنجزها .
ولاذت الدجاجة بالصمت ، وقد بدا عليها بعض الحزن والتأثر ، فمال عليها أبوها حامد ، وقال لها : لا عليكِ ، يا بنيتي ، سآخذك معي إلى البستان ، وأعود بك إلى البيت وقتما تحبين .
وأخذ حامد بجناح الدجاجة برفق ، وسار بها إلى الخارج ، ولحقت بهما زهرة ، وعند الباب ، قالت لزوجها حامد : لا تتأخرا في البستان ، فابنتنا العزيزة بحاجة إلى الطعام عند الظهر .
وسار حامد مبتعداً مع الدجاجة ، وهو يقول بنبرة مرحة : اطمئني ، يا عزيزتي ، سأعود بها إلى البيت ، عند الظهر ، أعدي لها ما تحبه من الطعام .
ووصلا إلى البستان ، ودخلاها معاً ، وتوقف حامد عند حوض فيه أزهار متفتحة ، وقال للدجاجة : بنيتي ، سأعمل هنا في هذا الحوض ، سأنظفه من الحشائش الضارة ، ولك أن تبقي إلى جانبي ، أو تتجولي في أطراف البستان ، على أن لا تبتعدي .
وتلفتت الدجاجة حولها ، ثم قالت لأبيها : سأتجول في البستان ، فالجو اليوم جميل ودافئ .
وسارت الدجاجة مبتعدة ، وهي تترنم ، فقال لها أبوها ، وهو يبتسم لترنمها : لا تبتعدي كثيراً ، يا بنيتي ، وإن كان البستان آمناً جداً .
وتجولت الدجاجة قي البستان ، متمتعة بمناظره الجميلة المنعشة ، وسارت دون أن تنتبه إلى نفسها ، حتى وصلت البركة ، وقد رأت إحدى المرات ، ابنتي صاحب البستان تستحمان وتمرحان فيها .
وتوقفت عند الحافة الرقراقة ، وراحت تحدق في مياه البركة الصافية ، وتراءى لها وكأن البركة تغريها ، وتقول لها : هيا .. يا فتاتي .. جربي السباحة .. مياهي دافئة ومنعشة .. هيا تعالي .
ووقفت مترددة ، لا .. هذا يكشف سرها ، وتلفتت حولها ، لكن لا أحد في البستان غير أبيها ، وهو يعمل في مكان بعيد عنها ، ونادتها البركة ، هيا .. تعالي .
وتلفتت حولها مرة أخرى ، ثم وعلى حين غرة ، راحت تنزع جلدها المريش ، وتقف تحت الشمس فتاة في مقتبل العمر ، غاية في الجمال ، وتناهت إليها زقزقة العصافير ، ها قد كشفت العصافير سرها ، الذي لا يعرفه أحد ، لكن لا خوف منها ، فهي قد تزقزق فرحة ، لكنها لا تكشف السرّ .
ودخلت الفتاة البركة ، وغمرت جسمها بمياهها ، وكانت المياه دافئة فعلاً ومنعشة ، آه كم تود أن تبقى هكذا ساعات وساعات ، لكن ..
وأنصتت متوجسة ، فقد تناهى إليها وقع أقدام متلصصة ، هذه ليست أقدام والدها ، أقدام من إذن ؟ ومهما يكن ، فقد خرجت الفتاة من البركة بسرعة ، وبسرعة ارتدت الجلد المريش ، وعادة دجاجة كما كانت ، وسرعان ما قفلت عائدة إلى أبيها ، وكان ما يزال منهمكاً بالعمل في تنظيف حوض الأزهار من الأعشاب الضارة .
ورفع الأب رأسه ، حين سمع وقع أقدامها ، ونظر إليها مبتسماً ، وقال : بنيتي ، أرجو أن لا تكوني قد اقتربتَ من البركة ، فمياهها الصافية مغرية لكنها خطرة .
واقتربت الدجاجة منه ، وقالت له بصوت مضطرب : بابا ، خذني إلى ماما في البيت .
ونظر أبوها إليها متعجباً ، وقال : لابد أنك جائعة ، لكن النهار لم ينتصف بعد .
فقالت الدجاجة بإلحاح : أريد أن أعود ، أرجوك يا بابا ، خذني إلى البيت ، الآن .
وأمام إلحاحها الغريب ، ألقى أبوها المسحاة من يده ، ونفض عنه الغبار ، واقترب من الدجاجة ، وقال لها : كما تشائين ، يا بنيتي ، هيا نعد إلى البيت .

" 5 "
ــــــــــــــــــ
عند المساء ، من ذلك اليوم نفسه ، طرق باب بيت البستاني حامد ، وزهرة وزوجها حامد وابنتهما الدجاجة جالسون في الغرفة ، ونهضت زهرة ، وقالت لزوجها : ابقَ أنت ، أنا سأفتح الباب .
وخرجت زهرة لتفتح الباب ، وترى من الطارق ، وسرعان ما عادت إلى الغرفة مذهولة ، فنظر إليها حامد ، وقال لها : ما الأمر ؟
فردت زهرة بصوت مضطرب : الأمير .
وشهق حامد مذهولاً : الأمير !
فقالت زهرة : يريد أن يتحدث إليكَ .
ونهض حامد ، وقد بدا القلق عليه ، وقال : سأرى ماذا يريد ، ابقي أنتِ هنا .
ورفعت الدجاجة عينيها المتوجستين القلقتين إلى أمها زهرة ، وقالت : ماما ..
وربتت الأم بيدها على رأس الدجاجة ، وقالت : الأمير ، يا بنيتي ، شاب طيب ، والكل يحبونه ويحترمونه ، لا تخافي منه على أبيك ، فأبوك إنسان مسالم .
وخرج حامد مسرعاً ، وقلبه يخفق بشدة ، وإذا الأمير نفسه يقف على مقربة من الباب ، فرحب به قائلاً : أهلاً ، أهلاً ومرحباً مولانا الأمير .
وذهل حامد ، حين اقترب منه الأمير ، وقال له : أريد منكَ .. دجاجتك .
وفغر حامد فاه مذهولاً ، وقال : ماذا ؟ دجاجتي !
فقال الأمير : نعم ، أريدها منكَ .
وتساءل حامد ، وهو ما زال مذهولاً : دجاجتي ؟ تريد أن تشتريها ، يا مولاي ؟
واتسعت عينا حامد ذهولاً ، حين مال عليه الأمير ، وقال له : لا ، أريد أن أخطبها منكَ .
ولاذ حامد بالصمت مذهولاً ، ثم تساءل حائراً : مولاي ، أتريد أن تخطب .. دجاجتي ؟
وهزّ الأمير رأسه ، وقال : نعم ، وأرجو أن توافق ، وسأعطيكَ حتى أغنيكَ .
وقال حامد : مولاي ، ليس الأمر أمر مال وغنى ، إنها .. كما تعرف .. إنها ..
وصمت حامد ، ثم قال : حسناً ، يا مولاي ، أمهلني حتى الغد ، وسأردّ عليكَ ..
فمال عليه الأمير ، وقال له بصوت خافت : كما تشاء ، سآتيك غداً ، في مثل هذا الوقت ، وأرجو أن يبقى هذا الأمر سراً بيني وبينك .

"6 "
ــــــــــــــــ
عاد حامد إلى الغرفة ، بعد أن أغلق الباب ، وقد تملكته الحيرة والقلق ، وتوقف صامتاً أمام زوجته زهرة وابنته الدجاجة ، وانتظرت الدجاجة وزوجته أن يتكلم ، لكنه ظلّ صامتاً ، فاقتربت الدجاجة منه ، وقالت متسائلة : بابا ، ماذا أراد هذا الأمير ؟
ورمق حامد الدجاجة بنظرة سريعة ، ثم نظر إلى زوجته زهرة ، دون أن يحير جواباً ، فقالت زهرة : تكلم ، يا رجل ، ماذا أراد الأمير منكَ ؟
وحدق حامد فيها ، وقال : تصوري ، يريد الدجاجة .
وشهقت الدجاجة قائلة : يريدني !
وقالت زهرة متعجبة : السوق مليئة بالدجاج ، فلماذا أراد دجاجتنا بالذات ؟
وقالت الدجاجة : بابا ..
وقاطعها حامد قائلاً : لا تقلقي ، يا عزيزتي ، أنتِ ابنتنا ، ولن نفرط بك ، مهما كان السبب .
ووضعت زهرة إصبعها على صدغها مفكرة ، وقالت : لا أعتقد أن الأمير يريد شراء دجاجتنا ، هناك سرّ وراء هذا الأمر ، وعلينا أن نعرفه .
والتمعت عينا الدجاجة ، لكنها لم تتفوه بكلمة ، فقال حامد لزوجته : ستذهلين كما ذهلتُ ، إذا عرفت لماذا يريدها ، لماذا يريد دجاجتنا ..
وسكت حامد ، فتساءلت زهرة : لماذا يريدها ؟
واستطرد حامد : يريد أن يخطبها لنفسه .
واتسعت عينا زهرة دهشة ، وتساءلت بصوت يخنقه الانفعال : يخطب دجاجتنا !
وصمتت ، وهي تنظر إلى الدجاجة ، وكأنها تبحث فيها عن سرّ لا تفهمه ، وقالت : بنيتي ، هل التقيتِ بالأمير ، في مكان ما ؟
فردت الدجاجة قائلة : ولا حتى في الحلم .
وقالت زهرة ، وهي مازالت تحدق في الدجاجة : أنتِ لم تريه ، لكن من المحتمل ، أن يكون قد رآكِ .
وتمتم حامد : لكنها دجاجة .
وتساءلت الدجاجة قائلة : أين !
فردت زهرة قائلة : من يدري ، ربما مع أبيك في البستان .
ولاذت الدجاجة بالصمت ، وقلبها يخفق بشدة ، فقد تذكرت وقع الأقدام الخافت ، التي سمعتها وهي ما تزال تستحم في البركة ، يا للويل ، ماذا لو أن الأمير قد رآها فعلاً تستحم في البركة ؟
وقال حامد لزوجته زهرة : لم ألمح الأمير يوماً ، لا في البستان ، ولا حتى في محيط البستان .
وصمت لحظة ، ثم قال : المهم أنه سيأتي غداً مساء ، وهو يريد جوابي على طلبه ، فبماذا أجيبه .
ولاذت زهرة بالصمت ، وقد بدت عليها الحيرة الشديدة ، ونظرت الدجاجة إلى أبيها حامد ، وقالت بصوت هادىء : بابا ..
وحدق حامد فيها حائراً ، وقال : الأمير يريد رداً واضحاً ، يا بنيتي .
فتابعت الدجاجة قائلة : قل له ، إنني أريد أن ألتقي به على انفراد .
وشهقت زهرة : يلتقي بكِ أنتِ !
فقالت الدجاجة بصوت حاسم أذهل زهرة وحامد : لقد طلب الأمير يدي ، وعلي أن أردّ عليه بنفسي .

" 7 "
ـــــــــــــــــ
في اليوم التالي ، عند غروب الشمس ، طرق الباب ، وكان حامد وزوجته زهرة وابنته الدجاجة ، ينتظرون في الغرفة متوترين قلقين ، والتمعت عينا زهرة ، وقالت : لابد أنه هو ، الأمير .
وتمتمت الدجاجة : نعم ، إنه هو .
وهبّ حامد من مكانه ، متجهاً إلى الخارج ، وقال : هذا موعده ، أنا سأفتح الباب .
وعلى عجل ، فتح حامد الباب ، وإذا الأمير يقف منتظراً ، فقال حامد مرحباً : أهلاً مولاي الأمير .
وردّ الأمير قائلاً : أهلاً بك .
ثم تطلع إلى حامد ، وقال : جئت في الموعد .
وتنحى حامد قليلاً ، مفسحاً الطريق للأمير ، وقال : تفضل إلى الداخل ، يا مولاي .
ودخل الأمير إلى الفناء ، فأغلق حامد الباب ، وخرجت زهرة من الغرفة ، واقتربت من الأمير ، وانحنت له قليلاً ، وقالت : مرحباً بك ، يا مولاي .
ورد الأمير قائلاً : أهلاً بكِ .
ثم التفت إلى حامد ، وقال : زوجتك ؟
فقال حامد : نعم ، يا مولاي ، زوجتي ، أم ..
وسكت حامداً مرتبكاً ، ثم أشار إلى الغرفة ، وقال للأمير بصوت مضطرب : مولاي ، تفضل ، إنها تنتظرك داخل الغرفة .
ورمق الأمير زهرة بنظرة سريعة ، ثم نظر إلى حامد ، وقال بصوت هادئ : سأدخل الغرفة ، وأتحدث إلى .. إلى ابنتكما ، انتظراني هنا ، لن أتأخر .
وتوقف حامد إلى جانب زوجته زهرة ، وقال : كما تشاء ، يا مولاي ، سننتظر هنا .
واتجه الأمير إلى الغرفة ، حيث تنتظره الدجاجة ، ووقف لحظة أمام الباب ، وحامد وزهرة يتابعانه بنظراتهما ، ثمّ مدّ يده ، ودفع الباب بهدوء ، ومضى إلى الداخل ، وأغلق الباب وراءه .
وعلى الفور ، وقع نظر الأمير على الدجاجة ، وهي تقف وسط الغرفة ، وتنظر إليه مرتبكة ، فاقترب منها ، وقال : طاب مساءكِ .
فردت الدجاجة قائلة : أهلاً بك ، يا مولاي .
ونظر الأمير إليها ، وأطال النظر ، ثمّ قال : أعتقد أنك تعرفين لماذا جئتُ إليك .
وأغضت الدجاجة نظرها ، وقالت بصوت حيي : نعم ، أخبرني بابا بذلك .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : وقد أثار هذا دهشة بابا وماما ، ولهما الحق في ذلك .
وتساءل الأمير قائلاً : وأنتِ ؟
ولاذت الدجاجة بالصمت ، ثم رفعت عينيها ، ونظرت إلى الأمير ، وقالت : إنني حائرة ، يا مولاي ، ولهذا طلبت أن نتحدث وحيدين .
وابتسم الأمير ، وقال : ها نحن وحيدين .
فقالت الدجاجة : تحدث إذن ، يا مولاي ، إنني أسمعكَ .
واقترب الأمير منها ، وقال : سأصارحك بالحقيقة ، وستعرفين كلّ شيء .
وصمت لحظة ، والدجاجة تنظر إليه ، وتنتظر ، فقال الأمير : لقد رأيتك في البركة ، داخل البستان ، ورأيت جلدك المريش على الشاطىء .
وأطرقت الدجاجة رأسها لحظة ، ثم نظرت إلى الأمير ملياً ، ثمّ قالت : هذا ما كنت أخشاه ، وأحذر منه ، يا مولاي ، وها قد عرفت الحقيقة .
فقال لها الأمير بصوت هادئ : والآن أريد أن تعرفي ، ما أريده منكِ ، يا أميرتي .
فقالت الدجاجة : عفواً ، لستُ أميرة .
وقال الأمير ثانية : أنت أميرتي .
وسكت الأمير لحظة ، ثم قال بصوته الهادئ : سأتقدم قريباً لخطبتكِ ، هذا ما وعدت به أباك ، والآن أعدكِ به أنتِ أيضاً ، وهذا فرح شديد لي .
وقالت الدجاجة : أوافق بشرط .
ولاذ الأمير بالصمت حائراً ، وهو يحدق فيها ، فقالت الدجاجة : إنني دجاجة في الظاهر ، ولست دجاجة في غير الظاهر ، شرطي الوحيد ، هو أن لا تفشي سري لأحد ، مهما كانت الظروف .
وقال الأمير حائراً : لكنكِ ستكونين زوجتي .
وقالت الدجاجة : في غرفتنا ، أنا زوجتك ، لكني مجرد دجاجة أمام الآخرين .
وهزّ الأمير رأسه على مضض ، ثم قال بصوت هادئ مشوب بالمرارة : أعدكِ .


" 8 "
ـــــــــــــــــ
تزوج الأمير بعد أقلّ من شهر ، وزفت إليه الدجاجة ، وسط معارضة والديه وذويه ، واستهجان أصدقائه ومعارفه ، أما أعداؤه فقد راحوا يسخرون منه سراً ، ويقولون عنه أنه جُنّ .
وأخيراً ..
اختلى الأمير بعروسته الدجاجة ، التي تزوجها علناً أمام الناس ، وقال لها ، في ليلتهم الأولى ، وهو يتأملها متشوقاً : أرأيت ، لقد تزوجنا ، وها أنتِ معي ، وأنا معكِ ، ولا يعرف الحقيقة غيرنا نحن الاثنين .
ونظرت الدجاجة إليه فرحة ممتنة ، وقالت له : وسنبقى معاً ، فرحين وسعيدين ، ما دمت تحتفظ بالسر، الذي لا يعرفه أحد غيرنا .
فقال الأمير : لقد وعدتك ، وسأبقى عند وعدي .
وابتسمت الدجاجة له ، ومدت جناحيها ، وراحت تنزع جلدها المريش ، ووقفت أمامه فتاة ، شابة ، غاية في الجمال ، بشرة في بياض الثلج ، وشعر كالحرير ، وعينان عسليتان واسعتان ، وفغر الأمير فاه ، وقال : أنتِ أجمل فتاة في العالم ، ليتك تبقين هكذا ، لأتباهى بك أمام الأهل والأقارب ، بل وحتى الأعداء .
وحاولت الفتاة أن تبتسم ، وإن مرت في عينيها ، غمامة من القلق ، وقالت : سأبقى هكذا دائماً لكن بيني وبينك فقط ، وليس أمام أنظار الآخرين .
ومدّ الأمير يديه نحوها ، وأخذها إلى صدره ، وتنهد بعمق ، آه لو يراه أبواه ، وأصدقاؤه ، ومحبوه ، بل الناس جميعاً ، ليعرفوا الكنز الذي يملكه .
وفي منامه ، تلك الليلة ، وهي راقدة إلى جانبه على السرير ، رآها .. رأى دجاجته الجميلة ، تتفلت من بين ذراعيه ، ومدّ يديه ، وحاول جهده أن يضمها إلى صدره ، لكنها كالضباب تتملص منه ، ولا يقوى على الإمساك بها ، ونهض من مكانه ، وحاول اللحاق بها ، لكنها تسربت إلى الخرج ، وهي دجاجة جميلة ، ومضت تحلق مبتعدة ، حتى تلاشت في زرقة السماء .

" 9 "
ــــــــــــــــ
أفاق الأمير ، والنهار يضيء الغرفة ، وتناهت إليه أصوات خافتة من داخل القصر ، ومن خارجه أيضاً ، لقد استيقظ الجميع ، ولابدّ أنهم ينتظرونه الآن ، فهذا هو الصباح الأول لزواجه .
ونظر إلى زوجته ، المستغرقة إلى جانبه في نوم عميق ، آه ما أجملها ، وما أبهاها ، وكم سيفرح أبواه ، الملك والملكة ، وكذلك أهله وأصحابه والناس جميعاً ، إذا رأوها هكذا ، فتاة متفتحة كالزهرة ، لكن .. آه .
واعتدل قليلاً ، محاذراً أن يوقظ زهرته الجميلة ، وفجأة انطفأت فرحته ، واشتعل قلبه بالمرارة والغضب ، حين وقع نظره على جلد الدجاجة المريش ، وكان موضوعاً على أريكة قرب السرير .
فنهض من مكانه بهدوء ، ومدّ يداً غاضبة إلى الجلد المريش ، وقبض عليه بكف قوية مصممة ، ونظر إلى زهرته ، وكانت ما تزال مستغرقة في نوم عميق ، فتسلل من الغرفة ، وأغلق الباب .
وأسرع الأمير في ممرات القصر ، وجلد الدجاجة المريش في يده ، وفوجئ به الحرس والخدم والخادمات ، وتابعوه بنظراتهم المذهولة ، وقد فغروا أفواههم ، ولابدّ أنهم ظنوا ، أنّ الأمير قد جُنّ .
وخرج والداه ، الملك والملكة ، من جناحهما ، على صوت خطوات الأمير المضطربة المتسارعة ، في ممرات القصر ، وأسرعت إليه أمه الملك ، حين رأته يسير مسرعاً ، وجلد الدجاجة المريش في يده ، وقالت له مذهولة قلقة : بنيّ ، ما الأمر ؟
لم يتوقف الأمير عند أمه ، وإنما اقترب من أبيه ، ورفع الجلد المريش ليريه إياه ، وقال لاهثاً منتصراً : انظر ، يا أبي ، انظر ، أنظر .
ونظر الملك إلى الجلد المريش مستغرباً، وقد فغر فاه ، وقال : ما هذا ، يا بنيّ !
واقتربت الملكة منه ، وحدقت في الجلد المريش ، وتساءلت : حقاً ، ما هذا ، يا بنيّ ؟
فرد الأمير مزهواً : هذا جلد الدجاجة .
وتمتمت الملة مذهولة : الدجاجة !
والتفت الأمير إلى أمه الملكة ، وقال : من تزوجتها ، يا أمي ، لم تكن دجاجة ، وإنما فتاة شابة ، حورية من حوريات الجنة .
والتفت إلى أبيه ، وقال له : تعال معي إلى الحديقة ، يا أبي ، سنحرق هذا الجلد علناً ، ليعرف الجميع ، أن زوجتي ليست دجاجة ، وإنما فتاة رائعة الجمال .
وفي الحديقة ، وأمام مئات الناس ، أشعل الأمير النار في الجلد المريش ، وما إن ارتفعت ألسنة النار منه ، حتى تناهت إليهم صرخة متحرقة غاضبة ، فرفع الأمير رأسه ، واستدار إلى مصدر الصرخة ، وشهق قائلاً : يا ويلي ، زوجتي .. الحورية .
وأسرع الأمير إلى غرفته ، ودفع الباب بقوة ، واندفع إلى الداخل ، وإذا زوجته في غلالة من الدخان والنار ، وحاول عبثاً الاقتاب منها ، وسرعان ما خرجت من النافذة ، وتلاشت في السماء الزرقاء .













لعبة الصبر









" 1 "
ــــــــــــــــ
توقفت سيارة القرية ، وقد علاها الغبار ، أمام باب القصر ، الذي بدا عتيقاً ، ولا غرابة فقد بني منذ فترة طويلة ، والتفت السائق مه ، الذي كان مزيجاً من الملابس المدينية والملابس الريفية المحلية ، وقال للفتاة الصغيرة التي تجلس في الحوض الخلفي : لقد وصلنا ، هذا هو قصر كريم أغا ، تفضلي .
وفتحت الفتاة باب السيارة ، ونزلت منها ، وبدت بملابسها الخفيفة ، رغم أن الصيف كان قد انقضى ، أقرب إلى الفتيان منها إلى فتاة ، في حوالي الثالثة عشرة من عمرها ، ونزل السائق بدوره ، وفتح صندوق السيارة ، وتناول منه حقيبة قديمة ، ودفعها إليها ، وقال : هذه حقيبتكِ .
وأخذت الفتاة منه الحقيبة ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، وعاد السائق إلى السيارة ، وأدار محركها ، ثم انطلق بها مبتعداً ، نحو بيوت القرية ، التي لاحت عبر الأشجار القميئة المغبرة ، وتوقفت الفتاة ، والحقيبة في يدها ، تنظر صامتة إلى القصر ، الذي بدا لها وكأنه بيت أشباح ، من عصر مضى .
ومن نافذة المطبخ داخل البيت ، أطلت الخادمة العجوز آمنة ، ثم مسحت يديها بملابسها الرثة ، وأسرعت إلى سيدة القصر خديجة ، المتشحة بالسواد من رأسها حتى قدميها ، وكانت تجلس في غرفتها ، وقالت لها : سيدتي ، جاءت نجاة ، جاء بها السائق عبد الله .
فقالت خديجة ، دون أن تنظر إليها : خذيها إلى غرفتها ، وقولي لها أن تبقى فيها ، حتى ساعة الغداء .
وخرجت آمنة ، وهي تقول : حاضر .
وطرق الباب قبل أن تصله آمنة ، فأسرعت الخالة آمنة وفتحته ، ورأت نجاة تقف على مقربة ، والحقيبة في يدها ، فنظرت إليها ، وقالت : مرحباً .
وردت الخالة آمنة ، وهي تأخذ الحقيبة من يدها : أهلاً نجاة ، تعالي معي إلى غرفتكِ .
وأغلقت الخالة آمنة الباب ، وسارت أمام نجاة في الرواق ، ثم راحت تصعد الدرج ، إلى الطابق الثاني ، وهي تقول : لقد كبرتِ ، إنني أعرفك منذ أن ولدت ، لقد ولدت هنا في هذا البيت .
وفي الطابق الثاني ، دفعت الخالة آمنة باب غرفة صغيرة معتمة ، وقالت : هذه غرفتك .
ووضعت الحقيبة جانباً ، وفتحت نافذة الغرفة ، وإذا هي غرفة صغيرة فعلاً ، ليس فيها من الأثاث غير سرير حديدي ، فوقه فرش بسيطة ، وخزانة صغيرة شبه متداعية ، وعلى الأرض بساط قديم ، والتفتت الخالة آمنة إلى نجاة ، وقالت لها : هذه الغرفة كانت لوالدتك ، وعليك أن تقومي بالعناية بها ، فالبيت كبير ، وأنا الآن امرأة عجوز ، وتكفيني أعمال المطبخ .
وقبل أن تغادر آمنة الغرفة ، وتغلق الباب ، قالت لنجاة : سأناديك عند الغداء ، فانزلي إلى غرفة الطعام .
ومضت الخالة آمنة إلى الخارج ، دون أن تنتظر من نجاة أي رد ، ووقفت نجاة قرب النافذة ، وأطلت منها على الخارج ، أراض شبه قاحلة ، وبيوت طينية قميئة رثة ، تقع على مسافة بعيدة من الأشجار المتربة ، هذا هو المنظر ، الذي كانت تراه أمها من نافذة غرفتها ، واستدارت إلى حقيبتها القديمة ، وراحت تفتح قفلها وأحزمتها العديدة .

" 2 "
ــــــــــــــــ
وقفت الخالة آمنة أسفل الدرج ، ورفعت رأسها إلى الأعلى ، وصاحت : نجاة .
واعتدلت نجاة ، وكانت متمددة في فراشها ، بعد أن انتهت من ترتيب أغراضها ، في الخزانة الصغيرة ، وخرجت من الغرفة ، وعند أعلى الدرج ، جاءها صوت الخالة آمنة ثانية : نجاة .
ورأتها الخالة آمنة تنزل الدرج ، فقالت لها : تعالي ، الغداء جاهز .
وسارت نجاة خلف الخالة آمنة ، حتى دخلت غرفة الطعام ، وتوقفت عند الباب ، إذا وقع نظرها على العمة خديجة ، تجلس متجهمة إلى المائدة ، والسواد يغطيها من رأسها حتى قدميها ، وهمست لها الخالة آمنة : ادخلي ، واجلسي إلى المائدة .
ودخلت نجاة الغرفة ، وعيناها على العمة خديجة ، وجلست إلى المائدة بعيداً عنها ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، وخاطبتها العمة خديجة ، بصوتها الخشن الجاف ، وهي تتناول طعامها : كلي .
ومدت نجاة يدها ، وراحت تأكل من طبق أمامها ما فيه من طعام ، واختلست نظرة سريعة إلى العمة خديجة ، وقالت : سيدتي ..
وقاطعتها العمة خديجة بصوتها الخشن الجاف : عندما تتكلمين إليّ ، قولي عمتي .
واستطردت نجاة قائلة ، وكأن العمة خديجة لم تقاطعها : الجدة تسلم عليكِ .
وسكتت نجاة ، فقالت العمة خديجة : شكراً للهدية التي أرسلتها لي ..
وصمتت لحظة ، ثم قالت وكأنها تحدث نفسها : لم تتحملكِ ، فأرسلتكِ لي .
وتوقفت نجاة عن تناول الطعام ، ووضعت الملعقة إلى جانب طبق الطعام ، الذي مازال ممتلئاً ، فنظرت العمة خديجة إليها ، وقالت : كلي .
وردت نجاة بصوت جاف : شبعت .
وحدقت العمة خديجة فيها ملياً ، وقالت : أنت تشبهين أمكِ .. الراحلة .
ولاذت نجاة بالصمت ، فنظرت العمة خديجة إلى الخالة آمنة ، كأنها تشهدها ، لكن الخالة آمنة أطرقت رأسها متأثرة ، ولم تتفوه بشيء .
وتوقفت العمة خديجة عن تناول الطعام ، وحدقت في نجاة ، وقالت : في هدا البيت لا يوجد دلال ، عليك أن تستيقظي صباحاً أنتِ وآمنة ، وتعملين معها في المطبخ ، وتنظيف البيت .
ونهضت نجاة من مكانها ، وهمت بالانصراف ، فحدقت فيها العمة خديجة ، وقالت بحزم : لم أنتهِ من كلامي بعد ، توقفي .
ورفعت نجاة رأسها ، وألقت عليها نظرة باردة ، خفق لها قلب الخالة آمنة ، ولم ترد بشيء ، فقالت العمة خديجة : ستبقين منذ اليوم عندي ، ولن تعودي إلى بيت الجدة في المدينة ، وعليكِ أن تعرفي ، أنني لست الجدة ، أنا ـ إنْ لم تكوني قد عرفتني ـ أنا .. خديجة .
ونهضت العمة خديجة ، كما لو كانت غيمة سوداء ، وغادرت المطبخ إلى غرفتها ، وهي تقول بصوت خشن جاف : ابقي هنا ، في المطبخ ، ونظفيه ورتبي أغراضه مع آمنة .
وتنفست الخالة آمنة الصعداء ، والتفتت إلى نجاة ، وقالت لها : ما قالته عمتك خديجة صحيح ..
وحدقت نجاة في الخالة آمنة ، التي تابعت قائلة : أنتِ تشبهين الراحلة .. المسكينة .. المظلومة .. أمكِ .
واقتربت نجاة من الخالة آمنة ، وقالت : ما أعرفه عن أمي ، أنها كانت تحبكِ .
وبدا الحزن على الخالة آمنة ، وقالت : نعم ، وكنت أحبها أنا أيضاً ، وأتعاطف معها في محنتها ، وقد بقيت إلى جانبها أرعاها ، حتى النهاية .

" 3 "
ــــــــــــــــ
مع شروق الشمس ، في اليوم التالي ، أفاقت نجاة ، وتناهت إليها أصوات خافتة من المطبخ ، لابدّ أنها الخالة آمنة ، تعد طعام الفطور ، فنهضت من فراشها ، وأسرعت تنزل الدرج إلى المطبخ .
وما إن رأت الخالة آمنة ، نجاة مقبلة عليها ، حتى قالت لها : نجاة ! ليس لك أن تنهضي في هذا الوقت ، فإعداد الفطور سهل ، ثم إن عمتكِ تفطر في غرفتها .
واقتربت نجاة منها ، وقالت : لا ، عمتي قالت لي ، أن أكون معكِ في المطبخ ..
وصمتت لحظة ، ورمقت الخالة آمنة بنظرة سريعة ، ثم قالت له إيحاءاته : حيث كانت أمي تعمل دائماً ، قبل أن يثقلها المرض .
وتمتمت الخالة آمنة بنبرات حزينة : ليرحمها الله ، لقد ارتاحت الآن .
وصبت الشاي في كوب خزفي ، ووضعته في صينية صغيرة ، مع رغيف من الخبز ، وإناء فيه لبن ، وقالت وهي تحمل الصينية : سآخذه إلى العمة ، فهي مستيقظة كالعادة منذ الفجر .
وهمت نجاة أن تأخذ الصينية من الخالة آمنة ، وقالت : دعيها لي ، يا خالتي ، أنا سآخذها إلى عمتي ، ولتكن هذه مهمتي كلّ صباح .
وقدمت الخالة آمنة الصينية إلى نجاة ، وقالت لها : كما تشائين ، يا ابنتي ، تفضلي .
وحملت نجاة الصينية ، ومضت بها إلى غرفة العمة خديجة ، وطرقت الباب ، وجاءها صوت العمة من الداخل جافاً ، خشناً ، وقالت آمرة : ادخلي .
ودخلت نجاة الغرفة حاملة الصينية ، وإذا العمة بهيئتها السوداء ، تقف وسط الغرفة ، وما إن رأت نجاة ، حتى أشارت إلى منضدة صغيرة ، وقالت بنفس الصوت الخشن الجاف الأمر : ضعيها هنا .
وألقت نجاة على العمة ، نظرة سريعة باردة ، أثارت فيها شحنة من القشعريرة ، ووضعت الصينية على المائدة الصغيرة ، فقالت العمة خديجة بصوتها الجاف الخشن الآمر : لتأتِ آمنة ، فتأخذ الصينية ، بدلاً منكِ ، بعد أن أفرغ من تناول طعام الفطور .
لم تردّ نجاة عليها ، واستدارت ببطء ، ثم اتجهت إلى الخارج ، وحدقت العمة فيها ، وهي تغادر الغرفة ، وقالت في نفسها : نعم ، إنها تشبه أمها ، لكن فيها شيئاً يختلف عنها ، يا للجدة .
وعادت نجاة إلى المطبخ ، وحدقت في الخالة آمنة ، ثم قالت : تريدِك أنتِ بالذات ، أن تعيدي الصينية إلى المطبخ ، بعد أن تفرغ من الفطور .
وهزت الخالة آمنة رأسها ، وهي تبعد عينيها الذابلتين ، فقالت نجاة : لم تضعي السكر لها في الشاي .
فردت الخالة آمنة ، دون أن تنظر إليها : إنها مثل المرحوم والدكِ ، تعاني من مرض السكر .
وصمتت الخالة آمنة لحظة ، ثم قالت : المرحوم أبوك ، كما تعرفين ، كان مزارعاً وتاجر أغنام أيضاً ، وأراد مرة أن يذهب إلى الشام ، بعد مجيء عمتكِ للعيش هنا ، فقالت له أمك ، وكانت في أولى مراحل مرضها ، أريد أن تأتيني من الشام ، بلعبة الصبر .
وحدقت نجاة فيها ، وقد التمعت عيناها الباردتان القاسيتان ، وقالت : سمعت بعض الشيء عن هذه اللعبة ، لعبة الصبر ، حدثيني أنتِ عنها .
ولاذت الخالة آمنة بالصمت لحظة ، ثم قالت : إنها على ما يبدو لعبة خطرة ، وقد جاء بها أبوكِ فعلاً ، وقدمها لأمكِ ، وبقيت لفترة عندها ، لكن أباك ، وربما بتحريض من العمة خديجة ، أخذ منها اللعبة ، وأخفاها .
وحدقت نجاة في العمة آمنة ، بعينيها الحادتين الباردتين ، وتساءلت : أين أخفى أبي هذه اللعبة ؟
وهزت الخالة آمنة رأسها ، وعيناها تهربان من عيني نجاة ، وقالت : من يدري ..
وبدا وكأنها تتذكر ، فتابعت قائلة : كنتُ أسمعها ، حين تشتد بها المعاناة والحزن ، تغني بصوت حزين متحشرج ، يا لعبة الصبر ، أنا صير وأنت صبر ، حتامَ قلبي على المصائب يصبر .
وصمتت الخالة آمنة ، وهي مازالت في أجواء ما تحكيه ، ثم نظرت إلى نجاة ، وقالت : وقد خاف أبوكِ ، على ما يبدو ، من هذه اللعبة على أمكِ ، إذ يُقال أنها في لحظة ما ، وقد انتفخت كثيراً بسبب الأحزان ، تنفجر بقوة ، وتقتل من يتحدث إليها .
وسكتت الخالة آمنة ، فاقتربت نجاة منها ، وحدقت فيها بعينيها الحادتين الجامدتين ، وقالت : لم تقولي لي ، أين أخفى أبي لعبة أمي ، لعبة الصبر .
وخفق قلب الخالة آمنة ، أمام نظرات نجاة الغريبة ، وقالت : لا أدري بالضبط أين أخفاها ، ربما في المخزن ، إن لم يكن قد أتلفها .

" 4 "
ـــــــــــــــــ
تناهت إلى العمة خديجة ، وهي راقدة في فراشها ، أصوات خافتة غامضة تصدر من الطابق الثاني ، ربما من غرفة نجاة ، أمْ أنها من المخزن ؟
وهبت معتدلة في فراشها ، وصاحت غاضبة بصوتها الجاف الخشن الآمر : آمنة .
وعلى الفور ، وكأن الخالة آمنة كانت وراء الباب ، دخلت مسرعة خائفة ، وقالت : سيدتي .
وحدقت العمة خديجة فيها بغضب ، وقالت : أسمع أصوات من الأعلى .
واتسعت عينا الخالة آمنة ، لكنها لم تستطع أن تتفوه بشيء ، فاستطردت العمة خديجة قائلة من بين أسنانها : نادي هذه البنت .. نجاة .
وخرجت الخالة آمنة مسرعة متعثرة ، وهي تقول : لحظة .. سيدتي .
وعادت الخالة آمنة بعد قليل ، وفي أعقابها تسير نجاة ، وقد تعفرت يداها ووجنتاها بالغبار ، فنظرت إليها العمة خديجة ، وقالت : أين كنتِ ؟
وحدقت نجاة فيها ، بنظرتها القاتمة الباردة ، وسرت في أعماق العمة خديجة قشعريرة غريبة ، وردت قائلة : كنتُ في المخزن .
وتمتمت العمة خديجة ، وهي تهرب مترددة من عيني نجاة : هذا ما خمنته .
ثم خاطبت نجاة ، وهي تحاول أن تتحاشى نظراتها ، وقالت : عمّ تبحثين ، في المخزن ؟
وحدقت نجاة في عمتها ، بتلك النظرة التي أثارت القشعريرة في أعماقها ، وقالت : أبحث عن لعبة لأمي الراحلة ، أنتِ تعرفينها جيداً .
وتمتمت العمة خديجة ، وقلبها يخفق بشدة : ماذا !
وقالت نجاة : لعبة الصبر .
وصاحت العمة خديجة : آمنة .
وردت الخالة آمن مضطربة : نعم سيدتي .
واستطردت العمة خديجة مضطربة ، وكأنها تخاطب نجاة وليس الخالة آمنة : ليس في هذا المخزن أية لعبة لأمك ، من هذا النوع .
وسرت القشعريرة في أعماق العمة خديجة ثانية ، عندما قالت نجاة بصوت غريب ، لا يمت لصوتها بصلة : جاءت أمي إلي ليلة البارحة ، وقالت لي ، نجاة .. اذهبي إلى المخزن ، وابحثي عني حتى تجديني ، فلديّ ما أقصه عليك لتعرفي الحقيقة .
وتراجعت العمة خديجة إلى الوراء ، بصورة لا إرادية ، وصاحت : آمنة ..
وتابعت نجاة قائلة بصوتها الغريب : وإذا لم تجديني في المخزن ، فسآتي أنا إليكِ ، وأكون معك ، أنت أنا ، يا ابنتي نجاة ، انتظريني ، إنني قادمة .
وصاحت العمة خديجة مرعوبة ، تخاطب الخالة آمنة : اذهبي ، وأغلقي المخزن ، واتيني بالمفتاح .
وتمتمت الخالة آمنة حائرة : سيدتي ..
وصاحت العمة خديجة بصوت هستيري : اخرجي .
وقبل أن تخرج الخالة آمنة مسرعة من الغرفة ، وتمضي إلى المخزن ، سمعت العمة خديجة تصيح بنجاة بصوتها الهستيري المتحشرج : أنتِ ، اخرجي ، واذهبي إلى غرفتكِ ، وابقي فيها ، حتى الغد .

" 5 "
ـــــــــــــــــ
عند المغرب ، في ذلك اليوم ، نادت العمة خديجة ، الخالة آمنة ، وهي تعاني من شعور بالوهن ، وصاحت بصوت مضطرب : آمنة .
وتناهى صوتها الخشن ، رغم ضعفه واضطرابه ، إلى نجاة ، وهي تقف جامدة في غرفتها ، على مقربة من النافذة ، فأسرعت إلى الباب ، وفتحته بهدوء وحذر ، وتسللت إلى أعلى الدرج ، ومن هناك لمحت الخالة آمنة تدخل غرفة العمة خديجة ، وسرعان ما تخرج منها ، وتتجه مسرعة إلى خارج القصر .
ترى ماذا يجري ؟
وعلى الفور ، عادت نجاة إلى غرفتها ، وأطلت من النافذة ، ورأت الخالة آمنة ، تسير مسرعة متعثرة ، نحو بيوت القرية ، والتمعت عيناها ، وخفق قلبها بشدة ، ويداها تتقبض متشنجتين ، القصر خال الآن ، والعمة خديجة وحدها في غرفتها ، ولا يستطيع أحد أن يحميها ، أو ينجدها ، مهما أصابها .
وتسللت على الفور من غرفتها ، وأغلقت بابها بهدوء ، ونزلت الدرجة إلى الطابق الأول ، يكاد لا يُسمع صوت لوقع خطواتها ، ثم اتجهت إلى غرفة العمة خديجة ، وطرقت الباب ، وجاءها صوت العمة خديجة خائفاً واهنا : من ؟ آمنة !
ودفعت نجاة الباب ، وتقدمت داخل الغرفة ، وحدقت العمة خديجة فيها خائفة متوجسة ، وقالت نجاة : رأيت الخالة آمنة ، تخرج من البيت .
وعلى الفور ، قالت العمة خديجة مدافعة عن نفسها : لن تتأخر ، ستعود بعد قليل .
وتساءلت نجاة ، وعيناها الباردتان القاسيتان ، تحدقان في عيني العمة خديجة : أين ذهبت ؟
وحاولت العمة خديجة أن تتمالك نفسها ، وقالت مرتعشة : هذا ليس شأنك ، عودي إلى غرفتكِ .
لم تتراجع نجاة ، وظلت تحدق فيها ، وقالت : أنتِ عمتي ، وعايشتِ أمي ، أمي المسكينة الراحلة ، ومهما يكن ، إذا كنتِ تريدين شيئاً ، فأنا هنا .
وأشاحت العمة خديجة عنها بعينيها الخائفتين المضطربتين ، وقالت : ابتعدي عني ، واذهبي إلى غرفتك ، هذا كلّ ما أريده .
واستدارت نجاة ببطء ، واتجهت إلى الخارج ، وهي تقول : مهما يكن ، أنتِ عمتي ، عمتي خديجة ، سأكون في الخارج ، حتى تعود الخالة آمنة .
وما إن خرجت نجاة من الغرفة ، حتى أسرعت العمة خديجة إلى الباب ، وأحكمت إغلاقه ، وأسندت جسمها الواهن عليه ، وهي تتنفس الصعداء ، وكأنها نجت من وحش كاد يفتك بها ، ويفترسها .
ولبثت نجاة برهة أمام الباب ، تتسمع إلى أنفاس العمة خديجة ، وتتخيل وجهها الخائف المربد ، ثمّ مضت إلى المطبخ ، ووقفت أمام نافذته ، المطلة على الطريق ، المؤدي إلى بيوت القرية .
وأقبلت الخالة آمنة بعد حين ، ومعها رجل في أواسط العمر ، لا يبدو أنه من أهل الفرية ، يحمل حقيبة ، بدا لنجاة أنها حقيبة طبية ، وقد عرفت فيما بعد ، أنه موظف صحي من مستوصف القرية ، ودخلت به الخالة آمنة إلى القصر ، وسرعان ما قادته إلى غرفة العمة خديجة ، وأغلقت الباب وراءهما .
ووقفت نجاة عند باب المطبخ ، ترصد باب غرفة العمة خديجة ، لعلها تعرف ما يجري ، وإن كانت قد خمنت أن الأمر ، على الأغلب ، له علاقة بصحة العمة خديجة ، وهذا ما تأكدت منه ، عندما خرج الرجل ، حاملاً حقيبته الطبية ، تتبعه الخالة آمنة .
وتراجعت قليلاً عن باب المطبخ ، وسمعت الرجل يقول للخالة آمنة ، وهو يتجه إلى الخارج : حذرتها مراراً من الانفعال ، لكنها على ما يبدو ، لم تعد تستطيع السيطرة على انفعالاتها ، وهذا خطر شديد عليها ، إن السكر مرتفع هذا اليوم ، لكنه سينخفض ، بعد هذه الحقنة ، وستستغرق في النوم ، وهذا ما سيريحها .
وقبل أن يخرج الرجل من البيت ، قال للخالة آمنة : احرصي على أن تعطيها الحقنة صباحاً ومساء ، وإلا فإن حالتها ستسوء جداً .
وأغلقت الخالة آمنة الباب الخارجي ، وفي طريقها إلى غرفة العمة خديجة ، لمحت نجاة مقبلة عليها من المطبخ ، وحين اقتربت منها ، قالت لها الخالة آمنة : نجاة ، الأفضل أن تذهبي إلى غرفتك .
فقالت نجاة ، وهي تحدجها بعينيها الجامدتين الباردتين : أريد أن أتحدث إليك .
فقالت الخالة آمنة : ليس الآن ، يا نجاة ، إنني مشغولة جداً كما ترين .
ولاذت نجاة بالصمت لحظة ، ثم قالت : حين تنام العمة خديجة ، تعالي إلى غرفتي .
واتسعت عينا الخالة آمنة ، وبدا فيهما خوف شديد ، وكما يفرّ المرء من شبح ، مضت مسرعة إلى غرفة العمة خديجة ، دون أن تردّ على نجاة بكلمة واحدة .




" 6 "
ـــــــــــــــــ
بعد العشاء ، وقد خيم الليل والصمت على القصر ، دُفع باب غرفة نجاة ببطء ، وأطلت منه الخالة آمنة ، وقد اتسعت عيناها الشائختان المرعوبتان .
ونهضت نجاة عن سريرها الحديدي بهدوء ، وعيناها بنظرتهما الثابتة القاسية تحطان على الخالة آمنة ، وهي تشير لها أن تعالي .
ودخلت الخالة آمنة ، وأغلقت الباب وراءها ، وسارت ببطء كما لو كانت منومة ، واقتربت من نجاة ، وقالت لها بصوت خافت : العمة خديجة ، نامت قبل قليل ، بعد أن أعطيتها حقنة الأنسولين .
وصمتت لحظة ، وعيناها تدوران بقلق ، ثمّ استأنفت حديثها قائلة : لا أستطيع أن أبقى معكِ غير دقائق ، فقد تستيقظ العمة خديجة ، في أية لحظة ، وتلاحظ غيابي ، ويحدث ما لا تحمد عقباه .
ومدتْ نجاة يدها ، وأمسكت يد الخالة آمنة ، وأجلستها إلى جانبها على السرير ، وقالت لها : لا تخافي ، إنها متعبة ، وتحتاج إلى .. نومة طويلة .
ولاذت الخالة آمنة بالصمت ، وقد سرت في أعماقها قشعريرة غامضة ، وهي تحدق كالمنومة في نجاة ، وبدت حائرة لا تعرف ماذا تفعل .
وربتت نجاة على يد الخالة آمنة ، وقالت لها : أيتها الخالة ، إنني لا أعرف إلا القليل عن أمي ، فالجدة وكذلك عمتي خديجة ، لا تتحدثان عنها ، وكأنها شيء لابدّ من محوه من ذاكرتي وذاكرة العائلة .
ولبثت الخالة آمنة معتصمة بالصمت ، ربما لأنها لا تعرف من أين تبدأ ، أو ما الذي عليها أن تقوله لهذه الفتاة الغريبة ، فاستطردت نجاة قائلة : لا أحد يعرف عنها أكثر منكِ ، فأنتِ كنت قريبة جداً منها ، وعايشتها يوماً بعد يوم حتى النهاية ، حدثيني عنها .
وتنهدت آمنة ، وقالت : أمكِ يا بنيتي ، من هذه القرية ، وأبوك من المدينة ، وكان يملك الكثير من الأراضي فيها ، وكذلك في القرى المجاورة ..
وتمتمت نجاة ، وهي تحدق فيها : أعرف هذا ، أعرفه ، أكملي كلامكِ ، ولا تهملي شيئاً .
وتابعت الخالة آمنة قائلة : أمكِ كانت شابة صغيرة جميلة ، عندما جاءت للعمل في هذا البيت ، وقد تعلق بها والدك منذ البداية ، ووالدك إنسان هادىء طيب محب ، وتزوجها دون رضا جدتك وعمتك خديجة .
وسكتت الخالة آمنة لحظة ، ثم قالت : وبدل أن يأخذها إلى البيت الكبير في المدينة ، حيث تعيش جدتك وعمتك خديجة ، أسكنها في هذا القصر ، الذي بناه جده منذ فترة طويلة ، ليقضي فيه بعض أشهر الربيع والصيف .
وصمتت الخالة آمنة مرة أخرى ، ثم قالت : كان أبوكِ وأمكِ في الحق سعيدين ، وكنت أنا أساعد أمكِ في إدارة شؤون البيت ، وكنت ما أزال شابة ، وقد أرسلتني جدتك للعمل هنا ، لكن سرعان ما جاءت العمة خديجة ، وقلبت الحياة هنا رأساً على عقب .
وسكتت الخالة آمنة ، فحدقت نجاة فيها ، وقالت : لا أظن أن أمي كانت مريضة ، قبل مجيء عمتي خديجة للعيش في هذا القصر .
وهزت الخالة آمنة رأسها ، وقالت : أمكِ كانت رقيقة ، حساسة ، مسكينة ، رغم أنها من القرية ، وقد بدأت تمرض ، بعد مجيء العمة خديجة .
ومالت نجاة عليها ، وقالت : ولعبة الصبر ؟
فقالت الخالة آمنة : أمكِ ، بعد مرضها النفسي ، سمعت بلعبة الصبر ، وطلبت من أبيك ، حين علمت بأنه سيسافر إلى الشام ، أن يأتيها بهذه اللعبة ، وقد جاءها باللعبة فعلاً ، وحذرها من الحديث إليها كثيراً ، لكن أمكِ وكان مرضها يزداد ، كانت تجلس أمام اللعبة ، لعبة الصبر ، وهي في الحقيقة دمية صامتة ، حزينة ، غضوبة ، وتتحدث إليها باستمرار .
وصمتت الخالة آمنة ، ثم راحت تحاكي أم نجاة ، عند حديثها إلى اللعبة ، وقالت مترنمة : يا لعبة الصبر ، أنا صبر وأنت صبر ، حتّامَ على المصائب نصبر .
وتساءلت نجاة : ماذا كانت تنتظر ؟ أمي .
وهزت الخالة آمنة رأسها ، وقالت : ربما كرهت أمكِ الحياة ، بعد أن حلت العمة خديجة في القصر ، ولم يعد أمامها ما تنتظره .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : ولاحظ أبوكِ ، أن حالتها المرضية تتفاقم ، وخاف عليها من لعبة الصبر ، فأخذها منها ، وربما خبأها في المخزن ، ووضع أمك في هذه الغرفة ، وبقيت فيها حتى النهاية .
ونهضت الخالة آمنة ، وقد اتسعت عيناها الشائختان ، وقالت : أسمع صوت العمة خديجة ، أخشى أن تكون قد أفاقت ، فلأذهب إليها .
وعلى الفور ، انطلقت الخالة آمنة نحو الباب ، وخرجت مهرولة من الغرفة ، حتى أنها لم تغلق الباب وراءها ، وجلست نجاة في فراشها ، وعيناها تشعان غضباً .

" 7 "
ــــــــــــــــــ
في هدأت الليل ، ربما عند منتصفه ، أو بعد ذلك بقليل ، فزت العمة خديجة ، على طرقات مكتومة ، لكنها ولخوفها الشديد ، لم تستطع أن تتحرك من فراشها ، أو ترفع صوتها ، وتتساءل : من ؟ من بالباب ؟
وفي غرفة الخالة آمنة ، ليس بعيداً عن غرفة العمة خديجة ، ترددت الطرقات المكتومة مرة أخرى ، حتى أن الخالة آمنة ، المعرفة بنومها الثقيل ، أفاقت تماماً ، وأنصتت ملياً ، وإن لم تفتح عينيها الشائختين ، لكنها قالت في نفسها : لعله حلم ، يا للشيطان ، وسرعان ما استغرقت ثانية في نوم عميق .
وعند الفجر ، تكررت الطرقات المكتومة ، على باب غرفة العمة خديجة ، وأفاقت العمة ، وفتحت عينيها المرعوبتين ، لكنها ظلت جامدة في فراشها ، لا تبدي حراكاً ، ولم تحاول أن تصيح على الخالة آمنة ، لتعرف من يطرق بابها في هذا الوقت من الليل .
ويبدو أن الخالة آمنة ، سمعت الطرقات المكتومة ، على باب غرفة العمة خديجة ، فتحاملت على نفسها ، وفتحت الباب ، لعلها تعرف من الطارق ، ونظرت بحذر ، إلى باب غرفة العمة خديجة ، لكنها لم تر أحداً ، وحانت منها نظرة إلى الجهة الأخرى ، وخيل إليها ، وقلبها يخفق بشدة ، أنها تلمح خيالاً غريباً يمرق فوق الدرج ، وفي الحال ، أغلقت باب غرفتها ، واندست في فراشها ، وقلبها ينتفض كعصفور خائف .
وفي الصباح ، جلست نجاة إلى المائدة في المطبخ ، تتابع بنظراتها الحادة الثابتة ، التي تثير القشعريرة ، حتى في داخل الخالة آمنة ، ما يجري حولها ، دون أن تبدي حراكاً ، أو تتفوه بكلمة واحدة .
وأعدت الخالة آمنة الشاي ، وصبت منه في كوب العمة خديجة ، ووضعته في الصينية مع اللبن ورغيف الخبز ، ثم أخذت إلى غرفة العمة خديجة ، وهي تحاذر النظر إلى المكان ، الذي تجلس فيه نجاة .
ووضعت الخالة آمنة ، صينية طعام الفطور على المائدة ، وتحاملت العمة خديجة على نفسها ، وهي تئن وتتوجع ، ونهضت من فراشها ، وجلست إلى المائدة ، ونظرت إلى الخالة آمنة ، وقالت : خيل إليّ ، ليلة البارحة ، أنّ أحدهم طرق بابي مرتين .
وتجنبت الخالة آمنة النظر إليها ، وتشاغلت بتقريب الصينية منها ، وأبعدت العمة خديجة يدها بخشونة ، وقالت لها : يبدو أنكِ لم تسمعي شيئاً كالعادة .
وهزت الخالة آمنة رأسها ، وقالت باقتضاب : أنتِ محقة ، يا سيدتي ، إنني لم أسمع شيئاً .
ورفعت العمة خديجة قدح الشاي ، ورشفت منه قليلاً ، وقالت : لم تعودي من هذا العالم ، أنتِ تتحولين إلى حجر ، لا فائدة منه ، وإلا لسمعت الطرقات على بابي في منتصف الليل ، وعند الفجر .
ولاذت الخالة آمنة بالصمت ، فدفعت العمة خديجة الصينية غاضبة ، وقالت وهي تنهض من مكانها : خذي الصينية ، واذهبي ، أنتِ تسممينني .
وأخذت الخالة آمنة الصينية ، ومضت عائدة بها إلى المطبخ ، وألفت نجاة ما زالت في مكانها ، فقالت لها : تناولي فطوركِ أنت ، يا نجاة .
ونظرت نجاة إليها ، وقالت : اجلسي أنتِ أيضاً ، ولنتناول طعام الفطور معاً .
فردت الخالة آمنة قائلة ، وهي تتشاغل بغسل بعض المواعين في المغسل : كلي أنتِ ، أنا لا أشتهي شيئاً هذا الصباح .
ونظرت نجاة إليها ، وقالت : يبدو أن عمتي ، قالت لكِ ما أزعجكِ ، يا خالتي .. آمنة .
والتفتت الخالة آمنة إليها ، وقالت لها بما يشبه الاتهام : لقد سمعت بابها يُطرق مرتين ، في منتصف الليل مرة ، ومرة عند الفجر اليوم .
وصمتت الخالة آمنة ، ثم حدقت في نجاة ، وتساءلت بلهجة ذات مغزى : وأنت يا نجاة ، هل سمعت باب غرفة العمة خديجة يُطرق ؟
لم تجب نجاة بشيء ، وبدا على شفتيها طيف ابتسامة غريبة ، فهزت الخالة آمنة رأسها ، وقالت : أنا سمعت الطرق ، سمعته مرتين .

" 8 "
ــــــــــــــــــ
رغم شعورها الشديد بالمرض ، تحاملت العمة خديجة على نفسها ، ونهضت من فراشها ، وخرجت من الغرفة ، ومضت بخطوات ثقيلة بطيئة إلى غرفة الطعام ، وجلست في مكانها المعهود .
ورفعت عينيها المضببتين ، وكأن عليهما غشاوة ، أهو مرض السكر ؟ كانت الخالة آمنة تقف متأهبة قرب الطباخ الغازي ، وقالت العمة خديجة بصوتها الجاف الآمر ، دون أن تنظر إلى نجاة : هاتي الغداء .
واستدارت الخالة آمنة نحو أطباق الطعام ، التي كانت فوق منضدة الطعام ، وقالت بصوت حاولت أن يكون هادئاً : حاضر ، يا سيدتي .
وبدأت تتناول أطباق الطعام ، وتضعها برفق أمام العمة خديجة ، ثم وضعت طبقين من الرز والخضار أمام نجاة ، التي كانت تجلس قبالة العمة خديجة ، دون أن توجه إليها كلمة واحدة .
وأخذت العمة خديجة تتناول طعامها بدون شهية ، ويبدو أن فكرها كان مشغولاً بأمور أخرى ، وتوقفت عن تناول الطعام ، حين سمعت نجاة تقول : عمتي ..
ورفعت إليها عينين مترددتين ، غاضبتين ، دون أن تردّ عليها بكلمة واحدة ، فتابعت نجاة قائلة : خيل إليّ ، أنني سمعت ليلة البارحة ، طرقاً على الباب ، في الطبق الأول ، الذي فيه غرفتكِ .
واتسعت عينا العمة خديجة ، وقد بدا فيهما شيء من القلق والخوف ، ورمقت الخالة آمنة بنظرة سريعة ، لكنها لم تردّ هذه المرة أيضاً ، فاستطردت نجاة قائلة : قالت لي الجدة مرة ، مذ سنين ، أن هذا القصر ، الذي بناه جدي ، قبل حوالي المائة سنة ، مسكون .
وقالت العمة خديجة ، وكأنما تدفع الخوف عنها : هذا كذب ، الجدة لم تقل هذا أبداً ، القصر آمن ، لا تسكنه غير الملائكة الأطهار .
وتابعت نجاة قائلة ، وهي مازالت تحدق فيها : لعلها مخطئة ، ربما لا تكون هذه الروح ، روح أمي الراحلة ، وإنما روح .. لعبة الصبر .
وتوقفت العمة خديجة عن تناول الطعام ، ورمقتها نجاة بعينيها ، اللتين تبعثان قشعريرة في أعماقها ، وقالت : ربما هذا يفسر الطرقات المكتومة ، فلعبة الصبر من قماش سميك ، وهي محشوة بالقطن و ..
وتمتمت العمة خديجة ، وصوتها يغزوه نمل الخوف : توقفي ، كفى .. كفى .
لكن نجاة لم تتوقف ، وتابعت قائلة : و.. ربما شفرات حادة ، قاطعة ، ولهذا فإنها إذا انفجرت ، فإنها ستقضي على من هو أمامها ، مهما يكن .
ونهضت العمة خديجة ، ومضت من غرفة الطعام ، متجهة إلى غرفتها ، وهي تقول : آمنة ، سأذهب إلى غرفتي ، تعالي مساء ، وجيئيني بحقنة الأنسولين .
وتبعتها الخالة آمنة حتى الباب ، وهي تردّ قائلة : لم تأكلي شيئاً ، يا سيدتي ، و ..
وقاطعتها العمة خديجة قائلة ، دون أن تتوقف : كفى ، أنتِ تسمميني .
وتوقفت عند الباب ، وقالت : حاضر ، سآتي عند المساء ، ومعي حقنة الأنسولين .
وحدقت نجاة فيها ، وقالت : لقد سممت أمي .
ولاذت الخالة آمنة بالصمت ، فتابعت نجاة قائلة : سممت حياتها ، منذ أن جاءت من المدينة ، وسكنت هنا في القصر مع أمي وأبي ، أنت لا تحدثيني عن هذ ، لكنه واضح ، وإلا لكانت أمي حية حتى الآن ، سعيدة مع أبي ، ولكنت أنا أيضاً سعيدة معهما .
وبدا التأثر على الخالة آمنة ، لكنها قاومت مشاعرها ، وحاولت أن تتمالك نفسها ، وقالت : هذه أيام مضت ، يا بنيتي ، وعمتك خديجة الآن امرأة مسنة ، ومريضة ، مريضة جداً ، ولو تأخرت حقنة واحدة من حقن الأنسولين ، التي أحقنها بها مرتين في اليوم ، لتعرضت إلى خطر شديد ، يمكن أن يودي بحياتها .
ونهضت نجاة ببطء شديد ، وقد التمعت عيناها الناريتان الملتهبتان ، وقالت : الموت حق ، كلنا سنموت ، مات أبي ، وماتت أمي مظلومة ، وكلّ منّا سيموت في يومه ، هذا ما تقوله جدتي دائماً .
واتجهت نجاة نحو الباب ، بجسدها الجامد المشدود ، وهي تقول : إنني متعبة ، يا خالتي آمنة ، ولابد لي أن أرتاح ، وسأرتاح .

" 9 "
ــــــــــــــــ
تناهت إلى الخالة آمنة ، وهي في فراشها الدافىء ، أصوات متداخلة ، مكتومة ، من غرفة نجاة مرة ، ومرة من المخزن ، ولعلها خافت أن تنتبه العمة خديجة ، وتنزعج ، وتصب نار غضبها عليها ، فنهضت من فراشها ، وتسللت إلى خارج الغرفة .
واقتربت من باب غرفة العمة خديجة ، وأنصتت ملياً ، لكنها لم تسمع أي صوت يصدر من الداخل ، لابدّ إذن أن العمة خديجة نائمة ، فتسللت إلى الدرج ، وراحت تصعد بهدوء وحذر إلى الطابق الثاني .
واقتربت من غرفة نجاة ، ومالت على الباب ، وراحت تنصت ، آه الأصوات لم تصدر من المخزن ، وإنما من هنا ، من غرفة نجاة ، وميزت صوت نجاة ، وهي تردد بنبرات متشنجة : يا لعبة الصبر ، أنتِ صبر وأنا صبر ، حتامَ على المصائب نصبر .
ولم تنتظر الخالة آمنة لحظة واحدة ، فهي تعرف مدى خطورة هذه اللعبة ، وخافت أن تنفجر عليها ، وتقتلها على الفور ، فدفعت الباب ، ودخلت إلى الغرفة ، التي لا تضيئها غير أشعة آخر النهار ، المتسربة من النافذة الصغيرة ، ووقع نظرها على نجاة ، وهي تجلس على فراشها ، تحدق أمامها ، وكأنها تحدق في شيء شاخص على مقربة منها .
والتفتت نجاة إلى الخالة آمنة ، وحدقت فيها بعينيها الثابتتين المشتعلتين ، وقالت بصوت كالفحيح : آه .. الخالة آمنة ؟
وتلفتت الخالة آمنة ، ثم نظرت إلى نجاة ، وتساءلت : سمعتكِ تتكلمين ، لكني لا أرى أحداً معكِ .
فقالت نجاة ، وصوتها مازال كالفحيح : كنت أتحدث مع .. لعبة الصبر .
وحدقت فيها الخالة آمنة مذهولة ، وقالت : لكن لا أحد معكِ هنا الآن ، يا ابنتي .
فقالت نجاة بصوتها الشبيه بالفحيح : ها هي أمامي ، يا خالتي آمنة ، لكنكِ لا ترينها ، فالروح لا تُرى كما تعرفين ، لعبة الصبر هذه ، هي روح أمي الراحلة ، المسكينة ، التي ظلمتها العمة خديجة .
وتقدمت الخالة آمنة منها ، ومدت يديها إليها ، وضمتها إلى صدرها بمحبة وحنان ، واستكانت نجاة بين ذراعيها ، وبدا جسدها النحيل وكأنه يرتعش ويختض ، أهي تبكي ؟ وقبلت الخالة آمنة رأسها ، وقالت لها بصوت أمومي دافىء : بنيتي ، أنتِ فتاة صبية في مقتبل العمر ، يكفي ما عانته أمكِ ، عيشي حياتك ، عيشيها كما تمنتها لكِ أمكِ المسكينة المحبة الطيبة .
وتململت نجاة ، وانسلت من بين ذراعيها ، وقالت بصوت كالفحيح ، وعيناها تشتعلان من جديد : لا .. لا ..لا ، أمي لم تعش الحياة التي تستحقها ، ولابدّ لمن ظلمها ، مهما كان ، أن يدفع الثمن .
وتراجعت الخالة آمنة ، وعيناها تتسعان رعباً ، وهي تقول : بنيتي ، إنني أعرف أمكِ ، وقد بقيت إلى جانبها حتى النهاية ، إنها لا تريد الانتقام من أحد ، فقد كانت طول حياتها ، إنسانة طيبة مسالمة .
وحدقت نجاة فيها بعينين تتقادحان كرهاً وغضباً ، وفحت قائلة : على الظالم أن يدفع الثمن .
وقالت الخالة آمنة : نجاة ، بنيتي ، أنتِ متعبة الآن ، نامي قليلاً ، وارتاحي ..
وتراجعت نحو الباب ، وأضافت قائلة : عليّ أن أذهب ، وأحضر الطعام ، وسأعد لك الطعام الذي تحبينه .
وأشاحت نجاة نظرها عنها ، وراحت تنظر عبر النافذة ، وقد ساد الظلام تقريباً ، وقالت بصمت يشي بمعاناتها : لم أعد أشتهي أي شيء ، اذهبي ، أريد أن أبقى وحدي ، مع .. لعبة الصبر .
وأطرقت الخالة آمنة رأسها ، ثم استدارت ، وخرجت من الغرفة ، وأغلقت الباب وراءها ، ثم نزلت الدرج ببطء ، درجة درجة ، وهي تفكر فيما رأته في غرفة نجاة ، وقبل أن تدخل غرفتها ، توقفت قليلاً ، قرب باب غرفة العمة خديجة ، وأصغت ملياً ، ثم انصرفت إلى غرفتها ، عندما بدا لها أن العمة خديجة مازالت نائمة .

" 10 "
ـــــــــــــــــــ
صاحت العمة خديجة من غرفتها ، بصوت مختنق لا يكاد يُسمع : آمنة ..
وعلى الفور ، هبت الخالة آمنة من فراشها ، آه أهو حلم ! وجاءها الصوت المختنق ثانية ، يستنجد بها ، ويستغيث : آمنة .. آمنة .
وأسرعت الخالة آمنة ، رغم ظلام الغرفة ، وفتحت بابها بصعوبة ، واندفعت نحو غرفة العمة خديجة ، ودفعت بابها ، واندفعت إلى الداخل ، وإذا العمة خديجة ، متكومة على الأرض ، قريباً من سريرها ، وما إن رأت آمنة تدخل عليها ، حتى مدت يديها إليها مستنجدة ، وهي تقول : آمنة .. الحقيني .
وأنهضتها الخالة آمنة ، بيديها المضطربتين المرتعشتين عن الأرض ، وأعادتها إلى سريرها ، وراحت العمة خديجة ترتجف وتتمتم : دثريني .. دثريني .. إنني أشعر بالوهن .. والبرد الشديد .
وانحنت الخالة آمنة عليها ، وقالت بصوت خائف مرتعش : أخشى أن يكون .. السكر .
وتمتمت العمة خديجة ، بصوت لا يكاد يُسمع : نعم .. لابدّ أنه .. السكر .. الحقيني .
ونظرت الخالة آمنة إليها ، وقالت بلهجة معاتبة : أنتِ عنيدة ، يا سيدتي ، لا أدري لماذا رفضت مساء اليوم ، أن أحقنك بحقنة الأنسولين ؟
وتشبثت العمة خديجة بيديها ، وقالت بصوت مرتعش مستغيث : دعكِ من هذا الآن ، يا آمنة ، هاتي حقنة الأنسولين ، واحقنيني بها ، هيا أسرعي .
وعلى الفور ، أسرعت الخالة آمنة إلى المطبخ ، وفتحت خزانة الأدوية المعلقة على الجدار ، وبحثت مرات ومرات ، بأصابعها المضطربة المرتعشة ، عن حقن الأنسولين ، دون جدوى .
وتوقفت الخالة آمنة عن البحث ، وقد تراءت لها نجاة ، بجسمها النحيل ، وعينيها الغاضبتين المشتعلتين ، إنها هي نجاة ، لا أحد غيرها .
وأسرعت إلى الطابق الثاني ، وفي أعلى الدرج ، كانت نجاة تقف ، وفي عينيها المشتعلتين تلك النظرة الثابتة القاتلة ، فتوقفت الخالة آمنة أمامها ، وقالت : نجاة ..
ولاحت على شفتي نجاة شبح ابتسامة ، فقالت العمة آمنة : العمة خديجة توشك على الموت ، وقد بحثت عن حقنة الأنسولين في خزانة الأدوية ، ولم أجد لها أثراً ، العمة بحاجة ماسة إليها ، أين هي ؟
وردت نجاة قائلة : اسألي .. لعبة الصبر .
وتمتمت الخالة آمنة : لعبة الصبر !
وتابعت نجاة قائلة : اسأليها ، لعلها هي التي أخذتها ، وخبأتها في مكان لا يصل إليه أحد .
وتراجعت الخالة آمنة ببطء ، ثم استدارت ، ومضت عائدة إلى العمة خديجة ، ووجدتها منطرحة في فراشها ، وهي في شبه غيبوبة ، وأنفاسها تتردد ببطء في صدرها ، فانحنت عليها ، وخاطبتها بصوت مرتعش : خديجة ..
أجيبي .. هل تسمعيني ؟
وحاولت العمة خديجة أن تفتح عينيها ، وتراءت لها الخالة آمنة منحنية عليها ، وقالت بصوت خافت : آمنة ..
ومالت عليها الخالة آمة ، حتى كادت تلامس وجهها ، وقالت : نعم ، إنني أسمعكِ .
وقالت العمة خديجة ، بصوتها الخافت الذي لا يكاد يُسمع : اسمعي .. يا آمنة ..
وردت الخالة آمنة : إنني أسمعكِ .
وتابعت العمة خديجة قائلة : غداً .. عند الفجر .. اذهبي إلى السائق عبد الله .. وقولي له أن يأتي .. ويأخذني إلى بيت الجدة .. في المدينة .
وصمتت العمة خديجة لحظة ، ثم قالت بصوت لا يكاد يُسمع : إذا قدر لي أن أبقى على قيد الحياة .. فإنني لن أعود إلى .. هذا القصر ثانية .
وأغمضت عينيها المنطفئتين ، وأنفاسها تتردد في صدرها خافتة بطيئة ، لكن الخالة آمنة سمعتها تقول : آمنة .. أنتِ واحدة منّا .. نجاة ابنة أخي .. ابقي إلى جانها هنا .. حتى النهاية .

16 / 2 / 2020



الفهرس
ــــــــــــــــــــــ

1 ـ وطار الديك 4

2 ـ كوكوختي 16

3 ـ يا حمصة يازبيبة 36

4 ـ حسين النمنم 65

5 ـ الحمامة البيضاء 92

6 ـ الدجاجة 124

7 ـ لعبة الصبر 147



#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكايات من الموصل طلال حسن
- حكايات من الموصل طلال حسن
- حكايات شعبية جنجل وجناجل
- مسرحة الموروث الشعبي -قراءة في مسرحيات (هيلا يارمانه) لطلال ...
- خمس مسرحيات من التراث الموصلي ...
- رواية للفتيان الغزالة ...
- قصص قصيرة جداً أنا الذي رأى ...
- رواية للفتيان الملكة كوبابا ط ...
- مطاردة حوت العنبر
- سيناريوهات قصيرة قيس وزينب طلال حسن
- سيناريو عرس النار طلال حسن
- علي بابا
- رواية للأطفال الثعلب العجوز ...
- رواية للأطفال بيت بين الأشجار ...
- رواية للفتيان روح الغابة طلال حسن
- مسرح صفحات مطوية من الحركة المسرحي ...
- قصص للأطفال عصافير من مخيمات نينوى ...
- رواية للفتيان شبح الاهوار ...
- مسرحية للأطفال الكبش الأحمق طلال حسن
- قصة للأطفال شيشرون ...


المزيد.....




- شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
- حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع ...
- تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو ...
- 3isk : المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بجودة HD على قناة ATV ...
- -مين يصدق-.. أشرف عبدالباقي أمام عدسة ابنته زينة السينمائية ...
- NOOR PLAY .. المؤسس عثمان الموسم السادس الحلقه 171 مترجمة HD ...
- بجودة HD مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بالعربي علي قص ...
- بجودة HD مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بالعربي علي قص ...
- حالا استقبل تردد قناة روتانا سينما Rotana Cinema الجديد 2024 ...
- ممثل أميركي يرفض كوب -ستاربكس- على المسرح ويدعو إلى المقاطعة ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - حكايات من التراث حكايات موصلية طلال حسن