|
ظاهرة -الفلتان الأمني- في فلسطين: الجذور، التجليات والنتائج
حسن شاهين
الحوار المتمدن-العدد: 1766 - 2006 / 12 / 16 - 10:57
المحور:
القضية الفلسطينية
لم يعد بالامكان اليوم الحديث عن الواقع الفلسطيني بعد مرور ستة أعوام على انطلاقة انتفاضة الأقصى دون تناول ظاهرة "الفلتان الأمني" التي تشكل متن حالة التصدع والفوضى التي يعيشها الداخل الفلسطيني. لقد تفاقمت هذه الحالة إلى الحد الذي ينذر بانهيار شامل للنظام الاجتماعي الفلسطيني، فلم يعد المواطن الفلسطيني يأمن على نفسه وأسرته وممتلكاته في ظل الفوضى الأمنية العارمة، حتى السير في الشارع أصبح نوعاً من المغامرة بالنسبة للفلسطينيين!. ففي أي لحظة قد يجد المواطن نفسه عالقاً وسط اشتباك مسلح بين قوتين متصارعتين. ولا يكاد يخلو يوم من مثل هذه الاشتباكات، فهنا اشتباك بين فتح وحماس وهناك اشتباك آخر بين عائلتين أو بين جهازين أمنيين أو تنظيم وعائلة..الخ. في وضع لم يعد للقانون أو النظام مكان فيه، وباتت الفوضى هي سمة الحياة اليومية وتشمل كافة المناحي والمجالات الحياتية، من انتظام الدراسة في المدارس والجامعات إلى البناء العشوائي ووضع اليد على أراضي الدولة وعدم التقيد بقانون المرور وأنظمته، حتى أن شاخصات المرور أصبحت لا تساوي ثمن المعدن الذي صنعت منه!. وكأن الشعب الفلسطيني لا تكفيه ممارسات الاحتلال من قتل وتدمير وضم، فيزيد سهم الفلتان على سهم الاحتلال لتكتمل معاناته!. في وقت هو أحوج ما يكون فيه للتوحد وتصليب جبهته الداخلية في مواجهة الاحتلال ومخططاته الرامية إلى تصفية الحلم الفلسطيني في الدولة المستقلة على أرضه المحتلة منذ عام 1967. وقبل الاستطراد في تناول تداعيات هذه الظاهرة وأسبابها لابد أولاً من تعريفها، فما المقصود بتعبير "الفلتان الأمني"؟. هل المقصود بالفلتان الأمني مجرد "تجاوزات أمنية" كما كان يحلو لبعض قادة أجهزة الأمن الفلسطينية توصيف الوضع؟ أم هي مسألة غياب "سيادة القانون" التي راج الحديث عنها في مرحلة ما قبل انتفاضة الأقصى؟. أعتقد أنه عندما نتحدث عن "التجاوزات الأمنية" يكون الوضع المقصود بهذا التوصيف هو شيوع استتباب الأمن بصفة عامة مع حدوث بعض الإخلالات أو التجاوزات هنا وهناك، أما غياب "سيادة القانون" فهذا معناه وجود سلطة مركزية قادرة لها أدوات قوية وفاعلة، ممسكة بزمام أمور المجتمع، لكنها تضع نفسها فوق القانون وتمتنع عن إنقاذه واحترام أحكامه، كما هو الحال في الأنظمة الدكتاتورية والقمعية التي يطغى فيها نفوذ السلطة التنفيذية على السلطتين القضائية والتشريعية، وهو الوضع الذي كان سائداً في أراضي السلطة الفلسطينية حتى ما قبل أربع سنوات. أما اليوم فلا يوجد استتباب للأمن لتكون هناك تجاوزات، ولا سلطة مركزية قادرة لتحترم القانون أو تضرب به عرض الحائط!. إن الفلتان الأمني باقتضاب هو: غياب المرجعية الأمنية الواحدة. وهذا بالضبط الواقع الفلسطيني خلال السنوات الأربع الأخيرة حيث تتزاحم المرجعيات. فالأحزاب مرجعية أمنية والأذرع العسكرية مرجعية أخرى، والعائلات والعشائر أيضاً مرجعية، والجماعات المسلحة المحلية كذلك، ناهيك عن الأجهزة الأمنية. وكل هذه الأطراف متداخلة فيما بينها، فعناصر أجهزة الأمن هم أعضاء في الأجهزة العسكرية وفي الوقت نفسه هم وسلاحهم في خدمة العائلة والعشيرة، ومنهم أيضاً تتشكل الجماعات المسلحة والعصابات المحلية!. والأمر المثير للقلق أكثر من أي شيء آخر بهذا الخصوص ليس حالة الفلتان بحد ذاتها، بل غياب الأفق لتجاوزها. فعلى الرغم من تأكيد جميع الأطراف السياسية الفاعلة على ضرورة معالجة هذه الظاهرة، لدرجة أنه لا يكاد يمر يوم دون أن نسمع نداء أو مطالبة من القوى السياسية والمجتمعية بضرورة التصدي "للفلتان الأمني"، إلا أنه لم تتخذ أي خطوة عملية لتطويقها أو للحد من آثارها ووقف تفشيها. بل على العكس من ذلك، إن "الفلتان الأمني" في حالة تصاعد مستمر كما يكشف تقرير لمركز الميزان لحقوق الإنسان نشر في 12 أيلول 2006 في الذكرى السنوية الأولى لتطبيق خطة الفصل أحادي الجانب الإسرائيلية. وبحسب التقرير فقد سقط حوالي (174) قتيلاً على خلفية الفلتان الأمني بينهم (27) طفلاً خلال عام من تطبيق الفصل، علماً بأن عدد قتلى الفلتان الأمني في العام 2003 كان (18) وارتفع إلى (57) في العام 2004، وكان عدد القتلى منذ بداية عام 2005 وحتى ما قبل الانسحاب الإسرائيلي (54) قتيلاً، وجميع هذه المعلومات بحسب التقرير المذكور أعلاه. وفي جزء آخر منه يورد التقرير أنه وخلال الفترة ذاتها سقط (1995) جريح نتيجة أحداث متعلقة بالفلتان الأمني من بينهم (165) طفلاً، وتم رصد (111) شجاراً عائلياً استخدمت فيها الأسلحة النارية، وبلغ عدد المختطفين والمحتجزين (70) شخصاً بينهم (27) أجنبياً. وأمام كل هذا التصاعد وهذه الأرقام المخيفة بالقياس إلى الحجم الصغير للمجتمع الفلسطيني، وقفت السلطة الفلسطينية ومؤسساتها عاجزة بشكل مريب. إن هذا الواقع الأسود الذي يعيشه الفلسطينيون اليوم هو نتاج تداخل عوامل متعددة، منها القريب ومنها البعيد، المباشر وغير المباشر. ومع الإقرار بأن الاحتلال وممارساته الإجرامية ومشاريعه الهادفة إلى تقويض كل مقومات إنشاء دولة فلسطينية بل وتصفية القضية الفلسطينية برمتها والهوية الوطنية للشعب الفلسطيني هو ليس فقط المستفيد الأول من حالة الفلتان الأمني والاقتتال الداخلي وضعف الكيان السياسي الفلسطيني، بل هو الفاعل الرئيسي والسبب الأساسي لهذه الحالة. وهذا اتهام ليس فيه مبالغة ولا هو إلقاء للمسؤولية على شماعة الاحتلال، فالسياسة التي اتبعها الاحتلال الإسرائيلي منذ تأسيس السلطة وحتى اليوم خلقت المناخات والأجواء المواتية لتفكك وانفلات الوضع الداخلي الفلسطيني. وباستعراض سريع لما قامت به إسرائيل من ضرب للاقتصاد الفلسطيني ومحاصرة سياسية للسلطة وعزل وحصار، ناهيك عن البطش والقمع بحق الشعب الفلسطيني وقواه السياسية ومناضليه، وهدم وتدمير مؤسسات السلطة الأمنية منها والمدنية، وتخريب البنى التحتية...الخ، إننا عبر استعراض كل هذه الممارسات الممنهجة لحكومة وجيش الاحتلال نستطيع أن نصل بسهولة إلى استنتاج أن إسرائيل لعبت دوراً أساسياً في تردي الوضع الداخلي الفلسطيني ونشوء ظاهرة "الفلتان الأمني". وهذا لا يعفي الفلسطينيين من أنهم سهلو مهمة الاحتلال، فالسياسية الإسرائيلية المتبعة تجاه الفلسطينيين لم تكن هي السبب الوحيد لما آلت إليه الأوضاع الداخلية الفلسطينية، مع الإقرار بأنها كانت عاملاً رئيسياً، بل هناك عوامل عدة يتحملها الفلسطينيون –وبشكل خاص القيادة السياسية الفلسطينية- ساهمت بشكل كبير في تردي الوضع بل وكملت سياسات الاحتلال وخدمتها بهذا الخصوص. وهذه العوامل ليست وليدة السنوات الأربع الأخيرة بل تعود جذورها إلى بدايات تأسيس السلطة الفلسطينية إثر توقيع اتفاقيات أوسلو.
"الأساس السياسي للمشكلة" بعد إقامة السلطة الفلسطينية على أساس اتفاقيات أوسلو الموقعة بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية برعاية أمريكية، تم تأسيس نظام سياسي جديد في الأراضي التي قامت عليها السلطة، وكان هذا النظام –إلى حد كبير- مرتبط بواقع سياسي واجتماعي واقتصادي جديد فرضته اتفاقات أوسلو وما تلاها، حيث أن تلك الاتفاقيات حددت دوراً وظيفياً للسلطة الفلسطينية مضمونه أن تكون هذه السلطة وكيلاً للاحتلال في المسؤولية عن الشعب المحتل دون أن تلغي هذه الاتفاقيات الوضعية القانونية للأراضي الفلسطينية التي أقيمت عليها السلطة كأراض محتلة. ومع أن قيادة السلطة حاولت التنصل من أداء هذا الدور الوظيفي وأن تنتزع تمثيلاً اعتبارياً أكبر مما تمنحها إياها الاتفاقيات الموقعة، إلا أن واقع ارتباط السلطة سياسياً واقتصادياً وتمويلياً بإسرائيل والمجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة، جعلها رغم محاولات التملص تمارس هذا الدور ولو جزئياً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الخلل المفاهيمي المبدئي والقانوني الأكبر في اتفاقيات أوسلو وما تلاها أنها قامت بقلب قاعدة المسؤولية بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، فعوضاً عن أن يتحمل الاحتلال المسؤولية عن أمن ومعيشة الشعب المُحتل، أصبح الفلسطينيون وسلطتهم الوليدة مسؤولين عن أمن الاحتلال. وبالفعل فقد مارست السلطة السلطة الفلسطينية القمع بالوكالة عن الاحتلال للمقاومة وفصائلها، خصوصاً خلال السنوات الستة الأولى بعد نشأة السلطة، وقد قامت السلطة منذ بداية تأسيسها ببناء أجهزة أمن بعداد وعدة كبيرين بالقياس للمنطقة التي تغطيها وعدد السكان القاطنين فيها، وأعطيت لهذه الأجهزة ولقادتها صلاحيات واسعة من أجل ضمان أمن نظام حكم السلطة بالمرتبة الأولى، والوفاء بالالتزامات الأمنية تجاه الاحتلال، أما ضمان أمن وأمان المواطن الفلسطيني فكان همها الأخير.
"البنية الاجتماعية للفلتان الأمني": الفساد، العشائرية، ضعف المؤسسة، قمع الحريات" لقد استبشر الكثيرون عند قيام السلطة الفلسطينية بأنها ستبني نظاماً سياسياً مغايراً في طبيعته للأنظمة السياسية القائمة في باقي البلدان العربية، وتفاءلوا بأن يكون قائماً على التنوع والتعددية واحترام الحريات، ويرسي مبادئ سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان. لكن للأسف جاء النظام السياسي للسلطة ليكون امتداداً للنمط القام في المنطقة العربية. فقمعت الحريات وسيق المئات إلى المعتقلات على خلفية النشاط السياسي أو المقاوم، وأغلقت مقرات الأحزاب وأوقفت العديد من الصحف الخاصة والحزبية لفترات طويلة بل حتى صودرت أعداد من صحف مقربة من السلطة لاحتوائها على خبر أو تعليق تجاوز الحدود الضيقة للمسموح به، وكان التوظيف في المؤسسات المدنية والأمنية على حد سواء وفق معايير حزبية معينة، حتى الاستفادة من بعض الخدمات التي تقدمها مؤسسات السلطة كان في أوقات كثيرة مرتبط بتلك المعايير. إن السلطة الفلسطينية التي كانت معقد آمال البعض بأن تكون تجسيداً لحكم المؤسسات، قد خيبت تلك الآمال، وكانت أبعد ما تكون عن هذا الوصف، فقد اختزلت فيها كل السلطات والصلاحيات بيد الرئيس ودائرة أعوانه المقربين، واستوعبت السلطة التنفيذية صلاحيات كلا السلطتين التشريعية والقضائية. وشهدت نفس الفترة انتشاراً واضحاً لظاهرة الفساد المالي والإداري على نطاق واسع، وامتدت لتشمل كافة المستويات وجميع المجالات، وتورط في قضايا الفساد والإثراء غير المشروع عدد كبير من كبار الموظفين المدنيين والأمنيين، ويمكن أن نستند في ذلك إلى تقرير هيئة الرقابة العامة الذي نشر عام 1996 بعد سنتين فقط من تأسيس السلطة، وهي هيئة تأسست وفق مرسوم رئاسي، واتهم التقرير آنذاك العديد من الوزراء ورموز السلطة النافذين بالفساد، وقد تم التحفظ على التقرير وبقي الفاسدون في مواقعهم!. ونستند أيضا إلى إقرار العديد من قيادات السلطة وفتح في تصريحات لهم أمام وسائل الإعلام وفي ندوات ولقاءات مختلفة بأن قضايا الفساد كانت العامل الأساسي في فشل الحركة في الانتخابات النيابية الأخيرة وصعود حركة حماس على حسابها، وإن كنا نختلف معهم في تقدير الوزن النسبي لموضوع الفساد في فشل حركة فتح في الانتخابات التشريعية إلا أننا نقر بأنه كان عامل مهم ومؤثر. وقد دأب العديد من الكتاب والسياسيين المعارضين لسياسات قيادة السلطة على اتهامها بممارسة سياسة فساد وإفساد ممنهجة، وأعتقد بأنهم لم يجانبوا الصواب في ذلك!. ومن نافل القول أن قيادة السلطة الفلسطينية تعمدت إضعاف السلطة القضائية ونقض مبدأ "سيادة القانون"، وكانت في ذلك تتبع أشكالاً متنوعة، منها التدخل المباشر في عمل القضاء واختيار القضاة، والتقاعس عن تنفيذ بعض أحكامه التي صدرت على عكس ما تشتهي قيادة السلطة، كما حدث في قضية الأمين العام للجبهة الشعبية "أحمد سعدات" حيث صدر حكم قضائي من المحكمة العليا يقضي بإطلاق سراحه، إلا أن قيادة السلطة امتنعت عن تنفيذ الحكم. ومن الإجراءات التي قامت بها قيادة السلطة لإضعاف القضاء، تكريس سلطة العشائر والعائلات، التي استحوذت على جزء كبير من دور القضاء والسلطة القضائية وذلك بمرسوم رئاسي صدر في 9/11/1994 أمر بتشكيل إدارة لشؤون العشائر تتبع مباشرة لمكتب الرئيس وتتفرع منها لجان إصلاح في جميع المحافظات والمناطق تتشكل من وجوه العشائر والعائلات ورجال الدين. هذا هو مشهد السلطة الفلسطينية حتى ما قبل أربع سنوات تقريباً، وقد ساهمت في تكوينه عناصر تركيبة موت شيطانية مدمرة شكلت بنية اجتماعية لظاهرة "الفلتان الأمني"، هي الفساد، المجتمع العشائري، ضعف المؤسسة، غياب سيادة القانون، وقمع الحريات. وكانت الحرب الشاملة التي شنتها إسرائيل على الشعب الفلسطيني الظرف الخارجي الذي تضافر مع هذه التركيبة لتفكيك وإضعاف الداخل الفلسطيني وانفلات الوضع الأمني فيه.
إن الاستعراض السابق لأوضاع السلطة الفلسطينية منذ تأسيسها حتى بداية انتفاضة الأقصى هو محاولة للتعرف على خلفية الواقع الفلسطيني اليوم، فالواقع الذي كان سائداً منذ تأسيس السلطة وحتى بداية الانتفاضة شكل الأرضية الخصبة لظاهرة "الفلتان الأمني" وحالة التصدع التي يعيشها الوضع الداخلي الفلسطيني اليوم. وإن كانت قيادة السلطة وحركة فتح تتحمل المسؤولية الأولى عن ذلك الواقع، فإن من يتحمل المسؤولية عن واقع اليوم بعد الاحتلال هما حركتا فتح وحماس اللتان تكادان تُضيعا القضية في سعيهما المحموم للاستئثار بالحكم والسلطة وتغليب المصالح الحزبية على مصلحة الوطن والشعب.
"أزمة فتح وحالة الفلتان الأمني" كما هو معروف ومقر به، تمر حركة فتح بأزمة حادة ومستفحلة، هي بلا مبالغة أزمة وجود. لها أسبابها التنظيمية والسياسية والتاريخية، ولسنا بمحل الخوض بتفاصيلها الآن. فما يهمنا هنا هو أثر هذه الأزمة على الوضع الداخلي الفلسطيني وارتباطها بظاهرة "الفلتان الأمني". ولنكون أكثر صراحة ومباشرين في ممارسة النقد نقول أن ضعف سيطرة القيادة المركزية للحركة والتنازع على القيادة بين مراكز القوى داخلها وسياسة الاستزلام والتجييش لهذا القائد أو ذاك وتنازع النفوذ على موارد ومقومات الحركة المادية والبشرية أدى لأن تكون فتح والجماعات المسلحة المنبثقة عنها عنصراً فاعلاً وأساسياً في ظاهرة الفلتان الأمني، بل هي المظهر الرئيسي فيها إذا أخذنا بعين الاعتبار حقيقة أن فتح هي الحزب الحاكم ونظام السياسي للسلطة بكل مساوئه ومثالبه هو بالمحصلة نظام حركة فتح. وأي مراقب متابع للوضع الفلسطيني يستطيع أن يلحظ بأن غالبية الجماعات المسلحة المحلية منبثقة من حركة فتح أو مقربة منها وتتبع لهذا المسؤول في الحركة أو ذاك، وبتنا في كل يوم نسمع عن تشكيل عسكري جديد ينسب نفسه إلى حركة فتح، وأعتقد أنه لو طلب من أعضاء اللجنة المركزية للحركة تعداد عدد وأسماء الأذرع العسكرية التابعة للحركة سيعجز معظمهم عن ذلك!. نقول هذا دون أن نغفل الدور التاريخي لحركة فتح في النضال الوطني الفلسطيني وتقديرنا له ولأن الحركة كانت منذ نشأتها حاضنة وطنية هامة استوعبت واحتضنت أجيال فلسطينية متعاقبة من الوطنيين المؤمنين بعدالة قضيتهم، وكانت حامل أساسي للمشروع الوطني الفلسطيني وكان لدورها بصمة واضحة في تاريخ قضية فلسطين. وهذا ما يزيد من حجم مسؤولية حركة فتح عن الوضع الداخلي المتدهور في الضفة والقطاع، فالانهيار المفاجئ لهذا الإطار الكبير الذي انتظم في صفوفه الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني من مختلف الأعمار والطبقات والمهن هو بالتأكيد ليس في مصلحة الشعب الفلسطيني وله آثاره المدمرة –كما نرى- على السلم الأهلي في الضفة والقطاع. "الاستخدام السياسي للفلتان الأمني" هناك أطراف سياسية عديدة دولية وإقليمية ومحلية، مستفيدة من حالة "الفلتان الأمني" وهي صاحبة مصلحة في استمرارها، وتأتي إسرائيل على رأس هذه الأطراف وهي بلا شك المستفيد الأكبر من تفاقم هذه الحالة واستمرارها، حيث كان "الفلتان الأمني" من ضمن الذرائع التي استخدمتها إسرائيل للتهرب من التزاماتها كدولة احتلال تجاه الفلسطينيين من حيث أمنهم وسلامتهم ومعيشتهم، هذا أولاً، والتنصل من التزاماتها السياسية ثانياً، واستخدمت "الفلتان الأمني" إعلامياً لتُظهر بأنه لا يوجد طرف فلسطيني واحد يمتلك السيطرة والقدرة لتتفاوض معه، وأنها عندما تواجه عصابات منفلتة لا حرج عليها إن مارست كل الأساليب العسكرية والقمعية لضمان أمنها بحسب ما تزعم. وفي الجانب الآخر عملت أطراف فلسطينية عديدة على تحقيق مكاسب سياسية باستخدام الفلتان الأمني كوسيلة. فلا يكاد يمر يوم إلا ويحمل فصلاً جديداً من فصول الحرب غير المعلنة الدائرة بين فتح وحماس، من خطف واغتيالات واشتباكات متبادلة!. فمن جهة سعت بعض الأطراف داخل فتح لوضع العراقيل أمام حكومة حماس بعدة وسائل وأدوات كان من ضمنها "الفلتان الأمني"، والسعي إلى تنظيم ما يشبه العصيان المدني عبر إضراب الموظفين المفتوح والمسيرات التي نظمها بعض منتسبي أجهزة الأمن المحسوبين على فتح. وفي المقابل، ردت حماس باستعراض للقوة يظهر جاهزيتها وقدرتها لصد أي محاولة انقلاب على حكومتها، وكان "الفلتان الأمني" مرة أخرى أداة جاهزة للاستخدام السياسي. وبعيداً عن الممارسات الميدانية التي تندرج ضمن "الفلتان الأمني"، لم تقم الحكومة الجديدة بأي عمل على صعيد وضع معالجات للبنية المجتمعية "للفلتان الأمني"، بل على العكس من ذلك لم يكن أداء حكومة حماس طوال الشهور الماضية بأفضل حال من حكومات فتح السابقة من حيث التعاطي مع موضوعات الحريات والأمن الداخلي والإصلاح الإداري، فمارست الحكومة الإرهاب الفكري بحق جميع منتقديها بغض النظر عن اتجاهاتهم السياسية أو الفكرية، وكانوا جميعاً بنظرها متساوقين مع المحاولات الإسرائيلية والدولية لإسقاطها، وكان تعاطيها مع هذا الموضوع يشير إلى أنها كانت ستتمادى في هذه السياسة وتنزلق إلى ممارسة القمع على الفكر والحريات لو كانت الظروف تسمح بدلك. وهذا الأمر ليس بمستغرب على حركة ترى أن حكومتها "الرشيدة" –كما يطلق عليها من قبل أنصار وقادة حماس- تشكل امتداداً للخلافة الإسلامية الراشدة، وسياساتها مستمدة من الشرع الحنيف، ومعارضتها في حقيقة الأمر معارضة لإنفاذ الشرع!. وإن كانوا لا يقولون ذلك جهاراً إلا أن سلوكم وطريقة تعاطيهم مع المعارضين تدل على ذلك. وعلى الصعيد الأمني لم نر من حركة حماس وحكومتها ما يختلف ويتميز إيجاباً عما رأيناه في عهد حكومات فتح، فقامت بتشكيل قوة تنفيذية تابعة لوزير الداخلية يشكل أبناء الحركة الغالبية العظمى من قوامها، وتحولت هذه القوة إلى طرف في النزاعات بين حماس وفتح عوضاً عن أن تكون قوة أمنية هدفها ضبط الأمن وإحلال النظام بحسب المبررات التي سيقت لتشكيلها. وزادت هذه القوة من حدة التوتر الداخلي، وحامت حولها شبهات تورط في العديد من عمليات الخطف والقتل على خلفية النزاع بين حماس وفتح. ومع تقديرنا للتحديات التي واجهتها الحكومة من حصار دولي، إسرائيلي، وعربي للأسف الشديد، وتواطؤ بعض الأطراف الفلسطينية مع الضغوطات الدولية المفروضة لإسقاط الحكومة، إلا أن هذا لا يعطي حركة حماس المبرر للتراجع عن أسس الإصلاح والتغيير التي حددتها في برنامجها الانتخابي والتي انتخبت على أساسها.
"تداعيات حالة الفلتان الأمني على المستقبل الفلسطيني" بالتأكيد سيكون لحالة "الفلتان الأمني" تداعيات كثيرة وخطيرة على المستقبل الفلسطيني، فالشعب الفلسطيني الذي عاش لسنوات تحت الظل الثقيل لهذه الحالة لن يستطيع أن يتجاوز آثارها وانعكاساتها على واقعه ووعيه المجتمعي بسهولة. لقد نمت في غضون السنوات الماضية ثقافة جديدة في المجتمع الفلسطيني هي "ثقافة الفلتان الأمني"، وهذه الثقافة أقرب ما تكون إلى شريعة الغاب. وانتشرت "ثقافة الفلتان الأمني" على وجه الخصوص بين الشباب والفتية، الذين تتجاذبهم النزعات العشائرية والفصائلية المقيتة، حيث انخرط الآلاف منهم بالفعل ضمن المجموعات المسلحة المحلية أو الأذرع العسكرية للفصائل، وهم كذلك عماد ميليشيات العائلات والعشائر. وأصبحوا من خلال مواقعهم داخل تلك التشكيلات تتملكهم مشاعر قوة ونفوذ تضعهم فوق القانون وفوق أي مساءلة من قبل أي جهة، سواء المدرسة أو الجامعة أو حتى العائلة. وبات انتماؤهم إلى التشكيلات المسلحة الجهوية ضمانهم عند مواجهة أية مشكلة مهما كان نوعها. إن ظاهرة "الفلتان الأمني" أنتجت وتنتج جيلاً متعطلاً متواكلاً مشوه المفاهيم والقيم، نما وترعرع في ظل "الفلتان الأمني" وثقافته السوداء. فأن يُضرب الأستاذ في مدرسته من قبل طالب أصبح أمراً عادياً ويتكرر في كل المدارس، أو أن يضطر أستاذ جامعة لمجاملة بعض من طلابه وإنجاحهم وهم لا يستحقون اتقاءً لشرهم مسألة لم تعد تستدعي الاستغراب!. كل هذا ناهيك عن فقدان المواطن لاحترامه للقانون ورجاله، والانتشار المخيف للسلاح الذي أصبح في متناول الجميع، وحالات التأثر العائلي المتزايدة التي حصدت مئات الأرواح خلال السنوات الماضية، وانهيار المؤسسة التعليمية بكل مستوياتها. إن هذه الآثار المتراكمة لحالة "الفلتان الأمني" لن يكون علاجها أمراً هيناً على الإطلاق، بل يستدعي إطلاق عملية طويلة الأمد لتطهير المجتمع الفلسطيني والمؤسسة الفلسطينية من رواسبها التي استقرت في الأعماق. وهي عملية تتجاوز إزالة مظاهر الفلتان، وتتعداها للبحث عن انعكاساتها على شخصية المجتمع وثقافته وقيمه والعمل على إزالتها، وهو أمر قد يستغرق سنوات طويلة. إلا أنه ممكن وليس مستحيل، لكن يجب أولاً أن تتوفر الإرادة الوطنية لخلق نظام سياسي ديمقراطي يحترم سيادة القانون والفصل بين السلطات وتصان فيه الحريات.
#حسن_شاهين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دراسة تحليلية حول نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية الثا
...
-
أزمة اليسار... وفرصة النهوض
-
حصاد موسم الانتخابات الفلسطينية
-
اجتياح جباليا ... تواطؤ رسمي وتبلد شعبي
-
ملامح المرحلة ... واستعداد إسرائيل لإنهاء الصراع
المزيد.....
-
لحظة لقاء أطول وأقصر سيدتين في العالم لأول مرة.. شاهد الفرق
...
-
بوتين يحذر من استهداف الدول التي تُستخدم أسلحتها ضد روسيا وي
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل جندي في معارك شمال قطاع غزة
-
هيّا نحتفل مع العالم بيوم التلفزيون، كيف تطوّرت -أم الشاشات-
...
-
نجاح غير مسبوق في التحول الرقمي.. بومي تُكرّم 5 شركاء مبدعين
...
-
أبرز ردود الفعل الدولية على مذكرتي التوقيف بحق نتنياهو وغالا
...
-
الفصل الخامس والسبعون - أمين
-
السفير الروسي في لندن: روسيا ستقيم رئاسة ترامب من خلال أفعال
...
-
رصد صواريخ -حزب الله- تحلق في أجواء نهاريا
-
مصر تعلن تمويل سد في الكونغو الديمقراطية وتتفق معها على مبدأ
...
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|