أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - علي حسين يوسف - فلسفة الخلق في النص القرآني















المزيد.....

فلسفة الخلق في النص القرآني


علي حسين يوسف
(Ali Huseein Yousif)


الحوار المتمدن-العدد: 8020 - 2024 / 6 / 26 - 23:36
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


يُبرِزُ النَّصُّ القُرآنيُّ رؤيةً متكاملةً وعميقةً لخلقِ الإنسانِ وتطوُّرِه عبرَ مراحلَ متعدِّدةٍ. هٰذه الرُّؤيةُ تُظهِرُ حكمةً إلهيَّةً في كيفيَّةِ تشكُّلِ الإنسانِ، وتدعُو إلىٰ التَّفكُّرِ في المعاني الباطنيَّةِ لهٰذه المراحلِ.
في البدايةِ، يوجَّهُ السُّؤالُ الإقراريُّ (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ) (الطّارق: ٥) ليكونَ الجوابُ مرَّةً عن مصدرِ الخلقِ (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرضِ) (هود: ٦١)، و(مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ) (طه: ٥٥)، ومرَّةً عن كيفيَّةِ الخلقِ (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ أَطْوَارًا) (نوح: ١٤)، ومرَّةً ثالثةً عن مادَّةِ الخلقِ فهي ترابٌ (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ) (الحج: ٥) أو طينٌ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا) (الأنعام: ٢)، وقد يُوصَفُ الطينُ (إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لازِبٍ) (الصافات: ١١) أو (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلصَالٍ مِّن حَمَإٍ مَّسْنُونٍ) (الحجر: ٢٦) أو (خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلصَالٍ كَالْفَخَّارِ) (الرحمن: ١٤)، ومرَّةً تكون مادَّةُ الخلقِ الماءَ أو النُّطفةَ أو العلقةَ أو المُضغةَ (خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطفَةٍ) (النحل: ٤)، و(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَرًا) (الفرقان: ٥٤)، وقد يُوصَفُ الماءُ مرَّةً بالدافقِ ومرَّةً بالمَهينِ.
بعد ذلك يصفُ القرآنُ مراحلَ تكوينِ الإنسانِ من المادَّةِ الأولى. يقولُ اللهُ تعالىٰ: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ) (المؤمنون: ١٢). هٰذه المرحلةُ تشيرُ إلى الأصلِ المادِّيِّ البسيطِ للإنسانِ، ممَّا يعكسُ فكرةَ التواضعِ والارتباطِ بالأرضِ كجزءٍ من الطَّبيعةِ الكونيَّةِ. من هٰذا المُنطلَقِ، يُمكننا رؤيةُ الإنسانِ ككائنٍ ينبثِقُ من التُّرابِ، لكنَّهُ يحملُ في طيَّاتِهِ إمكانيَّاتٍ غيرَ محدودةٍ.
ثمَّ تأتي المرحلةُ التَّاليةُ، حيثُ يتطوَّرُ هٰذا الكيانُ المادِّيُّ إلى نطفةٍ. يقولُ اللهُ تعالىٰ: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ) (المؤمنون: ١٣). هٰذه النطفةُ هي الخليةُ الأولىٰ التي تحتوي علىٰ كُلِّ المعلوماتِ الوراثيَّةِ اللازمةِ لتطوُّرِ الإنسانِ. النُّطفةُ في هٰذا السِّياقِ تمثِّلُ بذرةَ الحياةِ الأولى التي تنطوي علىٰ سرِّ الوجودِ والإبداعِ الإلهيِّ.
تتحوَّلُ النُّطفةُ بعد ذلك إلى علقةٍ، كما يقولُ اللهُ تعالىٰ: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطفَةَ عَلَقَةً) (المؤمنون: ١٤). العلقةُ هي مرحلةٌ تحوُّليَّةٌ تظهرُ بدايةَ التمايزِ والتعقيدِ في الكيانِ الإنسانيِّ. العلقةُ تتعلَّقُ بجدارِ الرَّحِمِ وتبدأُ في الحصولِ علىٰ المُغذِّياتِ، ممَّا يرمُزُ إلى الاعتمادِ المتبادلِ والتطوُّرِ المُستمرِّ.
بعد العلقةِ، تتشكَّلُ المُضغةُ، كما يقولُ اللهُ تعالىٰ: (فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً) (المؤمنون: ١٤). المُضغةُ هي قطعةٌ صغيرةٌ من اللَّحمِ تبدأُ في تشكيلِ الأعضاءِ والأنسجةِ. هٰذه المرحلةُ تشيرُ إلى البنيةِ المادِّيَّةِ التي تتَّخذُ شكلًا أكثرَ تميُّزًا وتخصُّصًا، ممَّا يعكسُ فكرةَ التشكيلِ والابتكارِ الإلهيِّ.
ثمَّ تتحوَّلُ المُضغةُ إلىٰ عظامٍ تكسوها اللحومُ، كما في قولِهِ تعالىٰ: (فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا) (المؤمنون: ١٤). هنا نرى الهيكلَ العظميَّ الذي يمنحُ الإنسانَ قوَّتَهُ وشكلَهُ المادِّيَّ، واللَّحمَ الذي يغطي العظامَ ويُكملُ هٰذا البناءَ المُعقَّدَ. هٰذا التطوُّرُ يُعبِّرُ عن دقَّةِ وتوازنِ الخلقِ الإلهيِّ في بناءِ الإنسانِ.
ثمَّ ينفُخُ اللهُ في هٰذا الكيانِ روحاً، ليُصبحَ إنسانًا كاملًا، كما يقولُ اللهُ تعالىٰ: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ) (المؤمنون: ١٤). هٰذه المرحلةُ تكونُ بإضافةِ السِّمةِ الإلهيَّةِ، الرُّوحِ (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) (ص: ٧٢) ليُعبِّرَ عن البُعدِ الرُّوحانيِّ للإنسانِ، الذي يُميِّزُهُ عن باقي المخلوقاتِ ويمنحُهُ القدرةَ علىٰ التَّفكيرِ والإبداعِ والتَّأمُّلِ في وجودِهِ وعلاقتِهِ باللهِ، فالرُّوحُ شأنٌ إلهيٌّ (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِن أَمْرِ رَبِّي) (الإسراء: ٨٥).
ثمَّ تأتي مرحلةُ التَّمكينِ (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ...)(الأعراف: ١٠).
وأخيراً مرحلةُ تحميلِهِ المسؤوليَّةِ (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) (الصافات: ٢٤).
وقد تُختَصَرُ هٰذِهِ المَراحِلُ في آيةٍ واحدةٍ (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنۢ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْـًٔاۚ) (الحج: ٥).
و(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًاۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُۖ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (غافر: ٦٧).
مِن خِلالِ هٰذِهِ المَراحِلِ، يُقَدِّمُ القُرآنُ الكَريمُ رُؤيةً فَلسَفيَّةً عَميقةً لِتَطوُّرِ الإنسانِ، تَبدأُ مِنَ المادَّةِ البَسيطَةِ وتَنتَهي بالكِيانِ الرّوحانيِّ المُعَقَّدِ. هٰذا التَّسَلسُلُ يَعكِسُ الحِكمَةَ الإلهيَّةَ في الخَلقِ ويَدعُو الإنسانَ لِلتَّفَكُّرِ في أَصلِهِ ومَكانَتِهِ في الكونِ. هٰذِهِ الرِّحلَةُ مِنَ الطِّينِ إلى الرُّوحِ تُظهِرُ التَّوازُنَ بَينَ الجَوانِبِ المادِّيَّةِ والرّوحانيَّةِ لِلوُجودِ الإنسانيِّ، مِمَّا يُعَزِّزُ فَهمَنا لأَهمِّيَّةِ التَّكامُلِ بَينَهُما في تَحقيقِ الكَمالِ الإنسانيِّ.



#علي_حسين_يوسف (هاشتاغ)       Ali_Huseein_Yousif#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجملة الثقافية، المفهوم والدلالة
- الأخ الكوني بين الواقع والخيال
- الطبيعة الإنسانيّة بين الخير والشّرّ
- الكوميديا الإلهيّة، الخيال الفائق
- الهُويّة النّقديّة واشكاليّات التّأسيس
- الرمز في الشعر العربي، التوظيف والتمثلات
- الرحلة الطلليّة في القصيدة الجاهليّة: قراءة في رمزيّة الوقوف ...
- اللغة والكتابة وسرديات الأصل
- مسيرةُ المفهوم من جزئيّات الّلغة إلى كليّات الوجود
- الفلسفة المثاليّة , شاعريَّة اللغة ووحدة الوجود
- جرير والفرزدق , صراع أدبي أم أخلاقي
- الأنساق الثقافية ، التكوّن والتّأثير
- كن حكيما
- حدود العقل
- المشاكسة بوصفها انعكاسا للصراع الطبقي
- براهين وجود الله بين الفلسفة والدين
- أدبيات كورونا
- تجربة يحيى السماوي من منظار آخر , قراءة في كتاب (مرافئُ فِي ...
- التحليل النفسي وأثره في دراسة الأدب
- اللسانيات والتحول الشامل


المزيد.....




- تحليل: رسالة وراء استخدام روسيا المحتمل لصاروخ باليستي عابر ...
- قرية في إيطاليا تعرض منازل بدولار واحد للأمريكيين الغاضبين م ...
- ضوء أخضر أمريكي لإسرائيل لمواصلة المجازر في غزة؟
- صحيفة الوطن : فرنسا تخسر سوق الجزائر لصادراتها من القمح اللي ...
- غارات إسرائيلية دامية تسفر عن عشرات القتلى في قطاع غزة
- فيديو يظهر اللحظات الأولى بعد قصف إسرائيلي على مدينة تدمر ال ...
- -ذا ناشيونال إنترست-: مناورة -أتاكمس- لبايدن يمكن أن تنفجر ف ...
- الكرملين: بوتين بحث هاتفيا مع رئيس الوزراء العراقي التوتر في ...
- صور جديدة للشمس بدقة عالية
- موسكو: قاعدة الدفاع الصاروخي الأمريكية في بولندا أصبحت على ق ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - علي حسين يوسف - فلسفة الخلق في النص القرآني