أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فتحي المسكيني - كولونيالية الكراهية















المزيد.....


كولونيالية الكراهية


فتحي المسكيني

الحوار المتمدن-العدد: 8018 - 2024 / 6 / 24 - 20:50
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


قال درويش:" إنّ الحياة هي اسم كبير لنصر صغير على موتنا" .
ولكن، كيف نخبر طفلا يجلس وحيدا مثل مخلوق أهملته الآلهة، يقفز عالياً فوق خراب ميتافيزيقي،- بأنّ الحياة لا يزال يمكنها أن تكون نصرا صغيرا على موته؟ إنّ ما سوف يمنعه عندئذ هو الاسم الكبير: الكراهية. هذا الاختراع الثقافي الفذّ للحيوان الأخير من نوعه: الذي تخطّى كلّ حيواته السابقة، حيث لا يزال كتلة متراصة من الدماء في كيس كينونة بلا وجهة، واخترع الكراهية.
الكراهية هي فن الإكراه: إكراه الحياة على موتها. كل كراهية إذن مهما كانت ضئيلة هي وعد صغير بالموت. لا نكره في أوقات فراغنا؛ بل تصيبنا الكراهية من أعماق وجودنا مثل لفعة من جحيم خاص. نَكرَه أي نعاف ونمقت ونبغض ونشمئزّ، ولكن أيضا نُكرِه أي نرغم ونجبر ونفرض ونقهر. وقد ميّز العرب بين "الكُره" أي ما أكرهت نفسك عليه، و"الكَرْه" أي ما أكرَهك غيرُك عليه.
نحن يهمّنا هنا ما سمّاه الفقهاء عندنا "الإكراه الملجئ" أو الكامل: الإكراه الذي يهدّد النفس أو عضوا من البدن. نسمّي هذا: الكراهية اللامتناهية أو كراهية الحقيقة. من يكره الحقيقة لا يحمل غيره على شيء لا يرضاه "لو ترك ونفسه"، بل يُكره نفسه على موتها. نعني: يستعمل إمكانية الموت الكامنة في نفسه أو جسمه، ضدّه. لا يأتي موتنا من خارج؛ بل يثوي فينا مثل أمانة نفسية، وعلينا أن نؤجّل استعمالها أكثر ما يمكن لبشريّ فان. ولذلك فمن يكرهنا يعدنا باستعمال موتنا قبل أوانه. هو يهدّدنا باجتياز السياج الذي وضعته الحياة على حدود موتنا، وتمزيقه مثل كمية مهدورة من الوجود المهمل من الآلهة.
لم يأت الحيوان البشري إلى جهاز الكراهية من بعيد إذن. بل هو اهتدى من الداخل إلى قدرته الفذّة على استعمال الموت. ربّما، كانت الكراهية في البداية تدريبا مفزعاً على الهروب من الحيوانات المفترسة: وحده حيوان مفترس يمكن أن يلتهم وجودك دون أيّ حاجة إلى المحبّة. الافتراس إذن هو أوّل تمرين في الكراهية؛ لكنّ البشر لم يكن ذاتاً عندئذ؛ كان عشاء شهيّاً لنوع آخر من الحيوانات المفترسة. في الأثناء تعلّم البشريّ كيف يكره المفترسين؛ ثمّ تعلّم كيف ينصب كراهيته للحيوانات الأضعف منه، التي يمكنه افتراسها بوصفها عشاءه الشهيّ هو أيضا. لا يمكن أن نفصل تاريخ الكراهية عن تاريخ الطعام. إنّ خوفنا من الافتراس يحوّلنا إلى حيوانات كارهة.
ولأنّه نجح في تمرين "الكراهية"، تعلّم الحيوان البشري كيف يحافظ على "حقيقته".
***
إنّ الطفل الذي يموت في غزّة تحت أنقاض بيته هو لم يجد الوقت البشري كي يتعلّم الهروب من الحيوانات المفترسة. لم يكن يعلم بعدُ عن كميّة الموت الكامنة في جسمه الصغير. أنّ الحيوانات البشرية في الكهوف المجاورة قد طوّرت أجهزة الكراهية إلى حدّ إقناع السماء بمساعدتها على قتله، والبحر على محاصرته، والقبيلة على هدر دمه. لم يخبره العقل البشري بعدُ أنّ الطفولة في موطنه الملعون هي تهمة مسبقة بالتخريب. أنّ ولادته هي لعنة ميتافيزيقية على شعب آخر، لم يجد له من مكان في كل أصقاع الأرض كي يجرّب فيه ألمه غير موته الوحيد.
من يمكنه، الآن، أن يخبر هذا الطفل ما بعد الإبراهيمي بأنّ كلّ الأزمنة الحديثة قد تواطأت ضد ابتسامته الصغيرة، فقط، لأنّ الإنسانية الأوروبية لم تجد قمامة سرديّة لقصّتها سوى جسمه القليل في شاطئ مهجور؟
في السابق كان الموت كهلا. لم يكن يسرق الأطفال من حلمهم لأنّه كان يعرف أنّ الكهولة في كل مكان هي اختراع الفانين من أجل حماية الحياة من موتها. أجل، في خلايا كل جسم يرقد موت ما، لا يجب إيقاظه. وكان الموت يعرف ذلك، مثلنا. كان ثمّة عقد أخلاقي يحرس خط الفصل بين وقت الرضيع وزمن العجوز. ومن أجل ذلك، تمّ بناء أجهزة كثيرة مثل "الأب" و"الملك" و"الإله"...لحماية المستقبل النائم في ضحكات الأطفال مثل لعبة صغيرة تبكي في حضن امرأة مقتولة. كان الموت يعرف أيضا أنّ النساء هنّ إلهات الحياة التي لا يستطيع أيّ موت أن يسحبها خارج العالم.
كلّ ذلك كان اتفاقا نهائيّا مع الموت. ولذلك تمّ بناء المعابد حتى يظل الخط الفاصل بين الحياة والموت محمّيا من نزوة أيّ إله ماكر أو حيوان لئيم. وحين صار مكان الإله شاغرا انتصبت الدولة الحديثة بديلا عنه وأخذت تدّعي أنّها سوف تواصل مهمّته الرسميّة: حراسة الأحياء من الموتى.
ولكن، كيف تحوّلت الكراهية إلى سلوك "كولونيالي"؟
لقد انتصبت إنسانيّة غير مسبوقة سمّت نفسها "الغرب"- استعارة جغرافية مسلّحة- دفعت بنموذج الدولة إلى أقصى مهجته: لقد تحوّل الغرب إلى دولة آكلة للدول، ومن ثمّ لأجسام الشعوب "غير الغربية" أو التي توجد "تحت خط" الغرب. ولأنّ الغرب مجرّد استعارة جغرافية فهو قد استولى على ماهية الاستعارة؛ وأفرغ النوع الإنساني من أيّ حرمة لا يمكن سرقتها. كل الجهات أصبحت قابلة للاستلاب. ليس الغرب خطّا فاصلا بين الداخل والخارج؛ بين "نحن" و"هم" بل هو فضاء هيمنة يحرس على انتهاك حدود نفسه بلا انقطاع. ومن ثمّ ليس الغرب مكانا أو جهة بل هو بُعد أو أفق مفترس للأبعاد وللآفاق. في كل قرن من قرونه الحديثة هو قد نصّب نفسه وصيّا على شكل الإنسانية الحالية وعلى حقيقتها. وهو لا يفعل ذلك بالإقصاء بل بتدمير العوالم. هو مكنة استلاب لكل شكل من الكينونة في العالم بوصفه غنيمة ميتافيزيقية لا يحتاج إلى أيّ تبرير أخلاقي كي يستولي عليها.
إنّ "الغرب"- العدوّ السياسي وليس إنسانية بعينها- هو الوريث المباشر لكل أجهزة الهيمنة ما قبل الحديثة: الفكر الذكوري والسلطة الأبوية واللغة الألفبائية والإله التوحيدي والكتاب المقدّس والميتافيزيقا اليونانية والنظام الإقطاعي، الخ...لقد استولى على النساء أوّلا ثمّ على الطبيعة ثمّ على الإنسان الأبيض ثمّ على الأسود ثمّ انتقل إلى مطاردة غير الأوروبيين بوصفهم "خارج الإنسان"، ومن ثمّ ليس فقط أنّ مجرّد وجودهم تهمة بل أنّ الاتهام قد طال هويتهم نفسها: إنّه يتّهمهم بأنّهم لا يزالون أنفسهم، وبالتالي أنّ عليهم أن يتخلّوا عن شكل أنفسهم ومصادر أنفسهم. وإنّ الوصف العالي لهذا السلوك الغربي هو أنّه "كولونيالي".
كل علاقة بالكينونة من اليونان إلى أمريكا هي علاقة كونيالية. وهذا ينسحب على الإله التوحيدي كما ينسحب على الدولة العلمانية. وهو صحيح في الأخلاق كما هو صحيح في التكنولوجيا. ومن أراد أن يكون "كينونة" نعني أن يسكن العالم بوصفه شكلا من الحياة، عليه أن يتوقع علاقة كولونيالية غربية على جسمه أو عقله أو أرضه أو لغته أو هويته. كل ما يكون هو مساحة كولونيالية لغرب معيّن، مهما كان نوعه. ليس الغرب أوروبيّا بالضرورة؛ بل هو استعارة، أي طريقة اغتصاب محسوبة لكينونة شيء ما وترجمتها في صيغة قابلة للهيمنة. لا يعني ذلك أنّ الغرب إنسانية سعيدة؛ هو فقط يجمّع أكثر ما يمكن من السلطة لأنّه خائف من فراغه. إنّ الغرب هو الإنسانية الفارغة من نفسها. لقد أفرغ الإنسانية من أجل أن يبني صدفة كولونيالية تقتل لأنّها خائفة لكنّها عاجزة عن الموت مع ضحاياها، ومن ثمّ ليس لها من حمية ضد وعيها الشقيّ سوى مزيد من القتل.
من أجل ذلك يبدو أنّ الوقت قد حان لفكّ الارتباط بين "الغرب" و"الإنسانية"، بين الحداثة والمستقبل. وثمّة خجل مزعج أخذ يخيّم على علاقتنا بأنفسنا الحديثة، بما كنّا نعوّل عليه في المرور إلى مستقبلنا: إنّ "الاستقلال" عن القوى الاستعمارية لم يكن غير هدنة إنسانية. فقط مجرد وقت مستقطع من تاريخ الهيمنة نعني من تاريخ موتنا الحديث.
إنّ أقصى أنواع الكراهية هي تلك التي تنجح في سرقة شكل الحياة من الأحياء: تلك التي تسرق "العقل" من مكانه، وتحوّله إلى عميل ميتافيزيقي لدى أمّة ما. من قال إن جهاز "العقل" (كما نصبه الغرب في أفق الإنسانية الحالية) هو مركز الحياة بالنسبة إلى جميع "السكّان" الحاليين للأرض؟ العقل الغربي هو أكبر مصيدة كولونيالية في تاريخ الحيوان البشري.
ومن ثمّة فإنّ ما تكفّلت به النخب ما بعد الكولونيالية (بعد أن غيّر الغرب من براديغم الهيمنة من الأسود إلى الأبيض) هو أن تواصل خطّة الغرب لدى غير الغربيين في شكل حداثة ناعمة يتمّ حقنها عن طريق مجموعة من الأنظمة المتضافرة: التعليم والقانون والاقتصاد- تربية "العقول"؛ وتنظيم "السلطة"؛ وتوزيع "الغذاء"- تعمل كلّها في "لعبة لغوية" موحّدة هي لغة الغرب مترجمة في الألسن المحلية الطبيعية.
نحن نتحدّث في لساننا القومي ولكن "بشكل غربي". ومن ثمّ لم تعد الترجمة عملا خطيرا بل مجرد تسويةِ وضعيةٍ للمعاني. إذْ تكون كل المعاني "الحديثة" قد تُرجمت ولم يبق إلاّ تنظيمها في شكل نص. نحن اختبار مثير للفرق بين اللغة واللسان. نتكلّم لسانا قوميّا لكنّنا نفكّر في لغة أجنبية.
لا يتعلق الأمر ببناء سردية عن الهيمنة التي تخترق الترجمات بل بكمّية الكراهية التي تتسرّب في شكل أنفسنا ما بعد الكولونيالية: كراهية مصادر أنفسنا كما كراهية الشكل الحديث أو الغربي من الإنسان. كراهية أن تكون مجرّد "ماض" لنفسك الحالية؛ كما كراهية أن تكون "مستقبلا" لم تتهيّأ له أعضاؤك تمرض به ولا تكونه. نحن لا نكون بل نمرض بوجودنا.
للكراهية عائلة متعددة الأبطال: الآخر والأنثى والأجنبي واليهودي والإفريقي والهندي الأحمر والمسلم والمثلي والغريب...وبعبارة واحدة "البربري": الذي لا يتكلّم لساننا، ومن ثمّ لا يمكن القبول به في لغة العالم الذي نسكنه. البربري ليس متوحّشا بل جار مستحيل.
ولذلك لا يمكن أن ينتصب نظام للكراهية في أيّ ثقافة إلاّ بشكل "كولونيالي": من "يكره" يستعمر "آخر" معيّنا مهما كان تعريفه. يستعمر أي يطبّق خطّة ديكارت : "أن يصبح بمثابة مالك وسيّد للطبيعة". الاستعمار هو أقصى فعل كراهية لأنّه يدفع بمطلب "الملكية" و"السيادة" إلى أقصاه. لا تعني الكراهية هنا انفعالا حزينا يشعر به هذا الشخص أو ذاك؛ بل ربّما لا تحتاج آلة الكراهية إلى أشخاص: إنّها آلة كولونيالية لا ترى إلاّ "طبيعة" أي جسماً ممتدّا هو "آخر" أو "غير" جذري لا ينتظر منّا سوى أن نتملّكه وأن نسوده. ولذلك ليست الكراهية علاقة بين "ذاتين"، أي بين كائنين متساويين في المنزلة الأنطولوجية أو الأخلاقية. هي علاقة عمودية بين "أنا" و"شيء"، وبالتالي الكراهية هي "اتجاه واحد"، علاقة لا يمكن تبادلها. "المكروه" ليس "شخصا" بل عدوّا تمّ تجريده من إنسانيته.
لذلك يبدو أنّ "الشعوب" هي آلات كراهية أكثر منها وقائع أخلاقية شخصية. لا يوجد شعب على صعيد شخصي؛ كل "شعب" هو بناء نظري اخترعه علماء القانون منذ هوبز، ثمّ أخذ يتحوّل إلى كيان "سردي" على أيدي الرومانسيين اسمه "الموطن"؛ وأخيرا، تحوّل إلى كيان "قومي" تدافع عليه الدول المسلّحة.
ماذا يعني أن يبني شعب ما هويّته على كراهية شعب آخر؟ إنّ "إسرائيل" هي النموذج الأقصى عن الطابع الاصطناعي للكيان السياسي الحديث: إنّ ما يسمّى "الشعب" الإسرائيلي هو بناء سردي مصطنع تمّ تنصيبه على منوال المفهوم الحديث "للشعب" كما تمّ اختراعه في أوروبا، لكنّه لم يحتفظ منه إلاّ بآلة الكراهية. إنّ الفكر الأوروبي منذ هوبس هو على وعي بطابعه الاصطناعي: أنّ "الشعب" هو اختراع "قانوني" وليس واقعة طبيعية؛ وأنّ "الدولة" هي "إله فان" أو "تنّين" مصنوع من الخوف المحض من الحرب اللامتناهية؛ وأنّ "السيادة" هي الواقعة السياسية الوحيدة والقصوى والتي لا يمكن استلابها.
لكنّ ما تتميّز به "الدولة" الحديثة هي أنّها هي أفضل ما فعله "المواطنون" بأنفسهم: لقد وافقوا على التحوّل إلى "شعب" بوصفه الجهاز الهووي الوحيد الذي عن طريقه يمكن الخروج من الحروب الأهلية الدينية. أمّا "إسرائيل" فهي ما يفعله شعب بشعب آخر، ما طبّقه شعب اصطناعي أجنبي بـ"سكّان أصليين" في أرضهم.
من أجل ذلك تأخذ كولونيالية الكراهية في حالة الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين سرعة سياسية قصوى كشفت الوجه المرعب من النموذج الحديث للدولة: "التملّك" و"السيادة" ولكن ليس على "الطبيعة" بل على "السكّان الأصليين". ومن ثمّ لا يتعلق الأمر حتى بالاستعمار بالمعنى الأوروبي: أي إبرام عقد "حماية" امبراطورية لشعب آخر يعاني من ضعف اقتصادي وغير قادر على الدفاع عن نفسه عسكريّا. الاحتلال ليس استعمارا: هو "استيطان" للأرض و"تشبيح" لسكّانها.
لأوّل مرة يُمارس نوع غير مسبوق من الهيمنة: لم يعد يتعلق الأمر بسلطة "استعمارية" بين دولة امبريالية ودولة ضعيفة أو مريضة؛ بل بسلطة احتلال تفرغ الأرض من سكّانها، كي تضع مكانهم شعبا اصطناعيّا مستوردا من أصقاع العالم. لقد صار السؤال هو: كيف "نفرغ" الأرض من أهلها؟ وذلك يعني: كيف نحوّل الساكن الأصلي إلى "شبح"؟
تبلغ الكراهية هنا تعريفا جديدا: هي تقنية "إفراغ" وفنّ "تشبيح". وعلينا أن نبسط هذه العلاقة الغريبة بين "الفراغ" و"الأشباح" بوصفها نوعا "غير حديث" من الانفعالات الحزينة بين "الشعوب". وعلينا أن نضع دوما مفهوم "الشعب" بين هلالين، لأنّ "إسرائيل" ليست "شعبا": كان هناك "سكّان يهود" في فلسطين؛ لكنّهم لم يكونوا "شعبا" بالمعنى القانوني الذي تحدّد منذ هوبس.
لا يمكن تأسيس حياة "شعب" ما في "إقليم" ما على عمليّة "تفريغ" لتلك الأرض من أهلها، أو على تحويل سكّانها الأصليين إلى "أشباح". ما ينتج هنا ليس "شعبا"، أي كيانا قوميّا مؤلّفا من المواطنين-الهوويين، بل كتلة بشريّة اصطناعيّة مسلّحة يمكن أن تنحلّ رابطتها "العسكرية" في أيّ لحظة. إسرائيل جيش وليس شعبا. أجل، ربّما تكون وظيفة الجيش هي إخلاء الأرض وتحويل السكّان إلى أشباح. لكنّ ذلك لا يؤلّف شعبا. وهكذا تبدو إسرائيل "دولة" أي آلة سلطة كولونيالية، ولكن "بلا شعب". هي جيش يحتلّ الأرض ولا يسكنها؛ يشبّح السكّان الأصليين، ولكن لا يصنع شكلا للحياة.
إنّ تعدّد "جنسيات" الإسرائيلي ليس ترفا هوويّا بل هو بنية انتماء: إنّ "الإسرائيلي" (من يحمل جوازا يسمّى إسرائيليا) هو مواطن دولة "أخرى". ليس هناك إسرائيلي "أصلي"؛ بل يهودي أصلي. ولأنّه ينتمي إلى دولة "أخرى" فهو مواطن "في مهمّة خاصة"، مكلّف بمهمّة، في "أوقات الفراغ". هو يفرغ هويته من انتمائها الأصلي (في بلد أوروبي أو غربي أو عربي أو افريقي..) ويضخّ فيها هوية اصطناعيّة، وظيفيّة، غالبا ما تكون "استطيانية" أو "عسكرية". إنّ "إسرائييل" هي استعمال للأجساد خارج الخدمة، في أوقات فراغها الهووي. ما تريده من استيراد "الأجساد" هو ملء الفراغ الذي نجم عن "تشبيح" السكان الأصليين، وتحويلها إلى فراغات يجب مؤلها.
كلّ "مواطن" إسرائيلي هو جسد مستورد، كتلة لحمية مستوردة من أجل ملء فراغ ساكن أصلي تمّ تفريغه من مكانه. من أجل ذلك هو "غير موجود" بشكل محض: هو لا "يوجد" هناك في فلسطين بل "لا يوجد" بشكل مكثّف، نعني: يمارس نوعا حادّا ومباشرا ومرعبا وقاتلا من "اللاّوجود" على كل ما هو أصلي، "هناك"، على كلّ "هناك" أصلي في تلك الأرض. يمارس "اللاوجود" بوصفه مهنة: هو يفرض "اللاوجود" على نفسه أوّلا (هو يتخلّى عن وجوده في بلده الأصلي) ثمّ على السكّان الأصليين (باعتبارهم "غير موجودين" في أرضهم بل مجرّد "لاجئين" بلا أرض) ثمّ على أيّ "مقاوم" لهم في أيّ مكان (بوصفهم "أغيارا" أوصى "يهوه" بتحريقهم باعتبارهم أعداء مطلقين لعهده القديم ولأبنائه المختارين).
ومن الواضح إذن أنّ "كره النوع البشري" ليس مزحة أو ادّعاء: بل هو صفة هووية يحمل نوع من الناس، سعيد تماما بالتحلي بها، مثل تمييز إلهي. هناك نوع من الناس اخترع "الكراهية" بوصفها نظاما للحقيقة. وليس مجرّد شعور شخصي. وكلّ "جماعة" تبني تاريخها السردي على نظام الكراهية- أي على عداوة نسقيّة مع "الأغيار" دون تحديد- هي ما تلبث أن تصبح "إسرائيل" معيّنة، إذْ لم تكن إسرائيل سوى الصيغة الإبراهيمية من هذا النوع من "الكولونيالية". ومن ثمّ لم يفعل "الغرب" سوى استغلال نزعة كراهية عثر عليها لدى فئة من السكّان الأوروبيين يدعون أنفسهم باليهود. الغرب مستعمل جيّد للكراهية، دون حاجة إلى إنتاجها. وهو اليوم يستعمل كراهيتنا لأنفسنا مثل سلاح ناجع ورخيص التكلفة: فليس أسهل من دفع عدوّ ضعيف إلى قتل نفسه.
صحيح أنّ الغرب قد اخترع إسرائيل كي يتخلّص من فئة مزعجة من سكّانه باعتبارهم وافدين منذ قرون (بعد 1492) لكنّهم لم يتكيّفوا بشكل جذري مع الرؤية المسيحية لأوروبا. ومن ثمّ انفجر نظام الكراهية ضد اليهود في أواخر القرن التاسع عشر وبلغ مع الحرب النازية حدّ "الهولوكوست" أو "المحرقة". من أجل ذلك كان مولد "إسرائيل" حلا علاجيّا لمرض أوروبي مزمن: إنّ "معاداة السامية" قد أقنعت الغرب بضرورة التخلّص من الجسم اليهودي وإعادته إلى الشرق: إلى "أرضه الموعودة". كلّ هذا كان يمكن أن يكون حدثا صحّيا للغرب ومفيدا للشرقيين. كان يمكن أن يكون فرصة لإرساء تمرين في "الحداثة" دون "استعمار" بل بواسطة "الضيافة". وهو ما فعله الفلسطينيون أوّل الأمر.
لكنّ "الضيافة" تحوّلت إلى كارثة: إنّ "قوانين الضيافة" التي ناقشها دريدا هي التي دمّرت مستقبل السكّان الأصليين. إذْ لا يمكن أن تقبل في بيتك بـ"ضيف" يدّعي أنّه "صاحب البيت" قبلك بتفويض الهي. لم تكن ضيافة بل خدعة حرب. لم يكن اليهودي ضيفا بل عدوّا متنكّرا في جسد "لاجئ" و"ضحية". وبمجرّد أن استقرّ له المقام أخذ يستعمل اليهود من أجل بناء "إسرائيل" أي من أجل بناء "دولة كولونيالية" على المنوال الغربي تحديدا. وكانت "الولايات المتحدة" هي النموذج النمطي لهذا النوع من "الدولة": أي دولة الإفراغ والتشبيح، وليس دولة "المواطنة".
ما يسمّى "إسرائيل" إذن ليس أداة أمريكية بل هي تجسيد رائع للبراديغم. كل أمريكي يشعر بنخوة كلبيّة عند متابعة القتل الإسرائيلي للساكن الأصلي: فهو تكرار ما بعد تاريخي لقتل الهنود الحمر. ومن ثمّ توكيد على أنّ اختراع "أمريكا" لم يكن هفوة الهية بل وصيفة مقدّسة: اخترعوا "الأمريكيات" في كل أصقاع الأرض، فهذا ليس خطأ سياسيا أو جريمة إبادة، بل تقنية بقاء مناسبة للعصور المقبلة: في العصور ما بعد الدولة القومية، لن يكون هناك سوى "الإمبراطوريات"، أي أشكال الهيمنة اللامتناهية القائمة على الإفراغ والتشبيح: "إفراغ" أيّ أرض من سكّانها الأصليين و"تشبيح" هؤلاء السكّان بواسطة فن "اللاوجود".
من أجل ذلك: فإنّ ما يقوم به "الفلسطينيون" في أرضهم – حيث تبلغ الكينونة أوْجها الأقصى في غزّة- ليس مشكلا محلّيا، أو كارثة شخصية لنوع من اللاجئين، بل بالتحديد: تدشين العصور "ما بعد القومية"، "ما بعد الدولة" السيادية بشكلها الحالي، ما بعد "الشعوب" بمدلولها القانوني الحديث، ما بعد "الفرد" الحديث، الخائف على حقوقه أو حياته الخاصة،- هم يدشّنون نوعا جديدا من الكينونة في العالم، كينونة الإنسان-الشبح، الذي حُكم عليه بأن يعيش على الأرض-الخلاء. لكنّ الكارثة هنا لا تخصّهم إلاّ عرضاً، باعتبارهم أوّل "عيّنات" بشرية للتجريب تمّ اختيارها بعناية مخبريّة، بناءً على حاجات الغرب. هي كارثة تخصّ "النوع البشري" في صيغته الحالية: باعتباره "شبه إنسانية" حلم بها فلاسفة التنوير بعد انهيار سردية الإله التوحيدي، حيث عوّضوا وصايا "أنبياء الكتاب المقدّس" بتوصيات "خبراء القانون الدولي". لكنّ "الدولة-الأمة" الأوروبية قد كان يحرّكها حلم آخر، حلم رومانسي مرعب: أن تستعمل ادّعاء" الإنسانية" بمثابة مهماز أخلاقي للسيطرة على "العالم" (ليس بوصفه "آية") بل بوصفه "أرضا" (للاستعمار).
لم تكن "إعلانات الاستقلال" إذن، في البلدان "غير الغربية"، وحتى "الغربية"،- سوى مجموعة "هدنات إنسانية"، من أجل التفرّغ لإنتاج أجسام طيّعة، سوف تحتاجها "الدول" لاحقا عند ممارسة "كولونيالية السلطة". وبهذا المعنى فإنّ الفلسطينيين قد مرّوا مباشرة، دون مرحلة "الاستقلال"، من الاستعمار الكلاسيكي إلى استعمار العصور القادمة: أي من المنوال "الأوروبي" إلى المنوال "الأمريكي". الاستعمار الأوروبي يمكن أن يمنح "استقلالا" صوريا أو أخلاقيا؛ أمّا الاستعمار الأمريكي فهو لا يمنح شيئا: إنّ يخلي الأرض ويشبّح السكّان الأصليين. ولذلك كانت "إسرائيل" هي أوّل تطبيق فقط لــ"أمركة العالم".
إنّ "أمركة العالم" هي المعادلة السياسية التي تنتج الدول في المستقبل. وهي تطبيقة نموذجية وليس حركة قومية. في أيّ مكان يمكن أن تظهر سلطة كولونيالية تريد أمركة العالم. ليست "أمريكا" قومية لأحد؛ هي مجرد نزعة في سياسة الموجود. وهي الصيغة القصوى من كولونيالية السلطة منذ الفراعنة والإله التوحيدي إلى الدولة-الأمة والدولة العالمية في شكل "الولايات المتحدة". كلّ الدول الأخرى هي تمارين جزئية على هذه الحقيقة. لذلك كلّ "مستبد" هو اليوم "أمريكي": أي يهدّدك بالتفريغ والتشبيح.
وهكذا فإنّ "المقاوم" في تلك البقعة المدمّرة من الأرض- غزة كأقصى نقطة في مستقبل الأرض- هو قد دشّن أوّل تمارين "الأحياء" في العصور القادمة: أن يستعمل "الفراغ" بوصفه تقنية وجود في العالم، وأن يلبس "الشبحيّة" بوصفها نوعا خاصا من الهوية.



#فتحي_المسكيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تحية الأحياء...تمرين مبكّر في الخلود - إلى سليم دولة
- الفلاسفة والمستقبل
- في الفرق بين القدس وأورشليم . مدخل ديكولونيالي
- كانطية الجماهير
- معلقة القدس
- هل يوجد إيمان بلا إسلام؟
- بول ريكور: الجنس والمقدّس
- وصية الشعراء
- سارّة توقظ الشهداء باكرا... لأنّ الوطن لا ينتظر
- داعش والغبراء أو نهاية الإسلام ... ؟ نصّ غضبي
- في سرقة الشهداء... أو الذاكرة الملعونة
- لماذا يجلس ذلك الأب وحيدا ؟...
- ضحك الفتيات من هيبة الدولة
- مانديلا الباسق...ينحني ليقطف الأرض،،،
- فشل الحوار بين الهويات...أو هل نحن هوية بلا ذات ؟
- قتل الطلبة أو... في هزيمة الدولة
- الثقوب السوداء
- الأمنيّون... بعد الدكتاتورية
- نداء الصامتين... أو تأريخ مشطّ لغضب لا يحبّ المؤرّخين
- مديح الغربان...أو هجاء الداخل


المزيد.....




- رجل يتفاجأ بدب ضخم عالق داخل سيارته.. فيديو صادم يصور ما فعل ...
- وسط مخاوف من تصعيد عسكري.. الأردن يدعو مواطنيه -لتجنب- السفر ...
- إردوغان: تركيا مستعدة للعمل على تطوير العلاقات مع سوريا ولا ...
- مجلس النواب الأمريكي يُصوّت لصالح إخفاء عدد القتلى في الحرب ...
- هل ما جرى في بوليفيا انقلاب أم مشهد مسرحي؟
- 4 طرق تضمن لك مفعولا مماثلا لمشروبات الطاقة دون آثار جانبية ...
- المغرب.. اكتشاف مخلوق -استثنائي- من عصور ما قبل التاريخ
- بعد انتظارها لعدة أسابيع.. ميلوني تخرج عن صمتها بشأن فضيحة ض ...
- غيتس يحذر من استغلال الذكاء الاصطناعي لأغراض كارثية
- بوناصر الطفار: كلمات لا تعرف الخوف ولا المواربة


المزيد.....

- The Unseen Flames: How World War III Has Already Begun / سامي القسيمي
- تأملات في كتاب (راتب شعبو): قصة حزب العمل الشيوعي في سوريا 1 ... / نصار يحيى
- الكتاب الأول / مقاربات ورؤى / في عرين البوتقة // في مسار الت ... / عيسى بن ضيف الله حداد
- هواجس ثقافية 188 / آرام كربيت
- قبو الثلاثين / السماح عبد الله
- والتر رودني: السلطة للشعب لا للديكتاتور / وليد الخشاب
- ورقات من دفاتر ناظم العربي - الكتاب الأول / بشير الحامدي
- ورقات من دفترناظم العربي - الكتاب الأول / بشير الحامدي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فتحي المسكيني - كولونيالية الكراهية