|
دليل الطيور
عبدالكريم كاصد
الحوار المتمدن-العدد: 1764 - 2006 / 12 / 14 - 11:03
المحور:
الادب والفن
الصدفة وحدها هي التي جعلتني أقرأ شعري مرتين في شهر واحد : المرة الأولى في ميونخ مع ثلاثة شعراء ألمان هم : أولريكه دريزدنر، وإيفيلين شراغ ، وريتشارد داف الأنجليزيّ الأصل ، والشاعر السورى عماد العوّاد الذي يكتب شعره باللغة الألمانية وشاعرتين عربيتين هما : مرام المصري ، وبروين حبيب بدعوة من صالون الشعر الألماني العربي الذي يديره الشاعر عماد العواد . والثانية بدعوة من نادي الرافدين في برلين ، وفي المرتين كان ثمة وجوه وأحداث صغيرة وانطباعات شتّى لا أدري متى سأستعيدها نصّاً أو قصيدةً أو ذكرى . من بين هذه الوجوه والأحداث وجه ذلك العراقيّ الشيخ الذي يخطو نحو الثمانين دون أن يغادره الطفل المطلّ من وجهه ذي الابتسامة الخفيفة التي لم تفارقه إلا نادراً .. ربما حين يتذكر شيئاً أو يهم بشئ . ولعلّ اسمه ( أبو سمرة ) هو الأكثر ملاءمة لشخصه الحبيب المألوف . قدم أبو سمرة إلى ألمانيا منذ أوائل الستينات برفقة أعمى ، ولكنه وهو الدليل الحاذق أبى أن يعود مع ضريره إلى بغداد ، بعد أن رافقه إلى النمسا ، ثمّ إلى موسكو ليزور ( عمّه لينين ) على حدّ تعبيره ، وأخيراً إلى ألمانيا ليزور( جدّه ماركس ) على حدّ تعبيره أيضاً ،وسط ضحك الصديق حسين الموزاني ، ومبرّره بعدم العودة بسيط جدّاً هو ما حلّ في عراقه في ما بعد. لم يعبّرلي ابو سمرة عن حبّه لشعري بكلماته فهو قليل الكلام ، مثلما لم يعبر لي عن رغبته في التعرف إليّ بأكثر من سلام عابر وجلوسٍ مهذّب ووجهٍ مرح يعبر عن رضىً بما سمعه أو رأه . لكنّه فأجأني في الليلة الأخيرة لرحيلي بإعلانه لا على لسانه بل على لسان المحتفين بي ، وقد حضر أصدقاء أعزاء : فاضل العزاوي ، كاظم حبيب ، منذر حلمي ، أنّ عشاء الليلة على حساب أبو سمرة الذي أصرّ أن يكون المحتفي الأكبر بي . وكالعادة ، باعتباري بصريّاً ، فإنّ عشاء الوليمة لابدّ أن يكون سمكاً ، لا بل سمكاً نادراً لا يعرف مكان بيعه أحدٌ غير أبو سمرة ، ولايهم أن يكون هذا المكان النادر يعرفه أحد الحاضرين ، فأبو سمرة الذي لا يزحم الآخرين لا يتصوّر أن الآخرين سيزحمونه يوماً . لم يعبر لي أبو سمرة عن ودّه بجملٍ طويلة أو قصيرة ، بل بكلمات مبعثرة .. كلمات طفل لم يتعلم الكلام بعد : " البصرة .. البصرة .. بصحة البصرة " ، ثمّ يعود إلى كأسه وسمكه طبعاً . يروي لي احد معارفه أنه بعد أن أقام في ألمانيا أوجدوا له عملاً في أحد الموانئ ومهمته تتلخص في منع الطيور من الاقتراب من أكوام القمح المكدّسة في الميناء حتى يتم نقلها إلى المستودعات ، لكن أبوسمرة حين يغادر الجميع إلى المطعم وقت الغداء ويبقى وحيداً تأبى عليه إنسانيته وحبّه للطيور أن يتركها جائعةً فيدعوها بدوره لتناول طعامها أيضاً أسوة بالبشر الذاهبين إلى المطعم . لقد أصبح دليلاً للطيور مثلما كان دليلاً للأعمى ، بينما كانو يريدونه أن يكون فزاعة طيورٍ ، وحين لمحوه صدفة من وراء شبابيك مطعمهم لم يغفروا له فعلته فطردوه. عندئذٍ تعهد أحد المهندسين العراقيين أن يعمل معه أبو سمرة ومهمته الآن جديدة تماماً تتلخص بوضع القناني الفارغة في صندوق ثم قلْب الصندوق لتمتلئ القناني بالويسكي حتى تستحيل إلى ذهبٍ لامعٍ يراها أبو سمرة فلا يطيق صبراً ، يالمهمته الصعبة ! وهو يتملظ رغبة في تناول جرعة منها لا أكثر . لم يمتنع المهندس العراقيّ المحبّ لأبي سمرة ، وهو يراه يتلمظ مسحوراً بالمنظر ، أن يمدّ إليه بواحدة من القناني ليأخذ بضع جرعات تعينه على العمل والوقوف ساعاتٍ أمام الآلاف من القناني الذهبيّة إلاّ أن أبو سمرة ، كما يبدو ، أخذته حميّا الشرب فلم تمض ساعات إلاّ وقد انقلب المصنع .. أعاليه أسفله ، وعلت الضجة فيه وتبعثرت الصناديق وجاء ربّ العمل وهو في أوج انفعاله طالباً من أبي سمرة مغادرة المصنع فوراً . كان المهندس العراقي نفسه ، الصديق صبيح الحمداني ، يروي الحادثة وهو يضحك . وحين علت ضحكاتنا معاً كان أبو سمرة يضحك أيضاً من بعيدٍ وكأنّه يحدس أنّ الحديث يعنيه هو ... كان أبو سمرة على يقين أن الآخرين سيقومون بالتعريف نيابة عنه ، غير أنه لم يكن متيقناً من شئ واحد هو معرفتي به بصفته مهندساً ، لذلك عرض عليّ جواز سفره العراقيّ وفيه مكتوب بوضوح : المهنة مهندس ، تاركاً للآخرين التعليق على ذلك . وبالفعل تبرع أكثر من واحد في التفسير وهو أن أبو سمرة الذي رفض أن يستلم أيّ جواز غير الجواز العراقيّ اشترط على موظفي السفارة في برلين أن يسجلوا مهنته مهندساً ، فكان له ما أراد كيف لا وهو الذي انقلبت على يديه كل قوانين الهندسة في مصنع الويسكيّ . كان أبو سمرة تلك الليلة في أبهى حلّة سيّداً وهو يتناول السمك بأناةٍ وبدراية من التهم أكواماً من السمك شبيهةً بأكوام القمح التي غزتها الطيور بإشاراته الملوحة لها في الميناء .
سلاماً لأبي سمرة على وليمته وشكراً لأصدقائي في نادي الرافدين
#عبدالكريم_كاصد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أيتها السعادة تعالي لنبكي
-
رحيل 1978 عبر الصحراء
-
قصيدتان عن الخريف
-
مجلة - المشاهد السياسيّ - تحاور الشاعر عبدالكريم كاصد
-
صداقة الشعر
-
تهريب
-
حوار مع الشاعر عبدالكريم كاصد
-
قصائد - أوكتافيو باث
-
عشر قصائد وتعليق
-
ما أبعد الطريق إلى بغداد
-
البصرة مدينة لا مرئية
-
عن السياب وتمثاله
-
الرحلة الثانية بعد الألف
-
قصف
-
البرج إلى عبدالكريم قاسم
-
ولائم الحداد
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|