|
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية الحلقة الثالثة
موقع 30 عشت
الحوار المتمدن-العدد: 8006 - 2024 / 6 / 12 - 13:41
المحور:
القضية الفلسطينية
بعد نشر الحلقتين الأولى والثانية من دراسة بعنوان "القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية"، يقدم موقع 30 غشت الحلقة الثالثة من هذه الدراسة. محاور الحلقة الثالثة القسم الثاني الجزء الأول ستالين ومفهوم الأمة (في الأمة، الوطنية والأممية) تقديم الفصل الأول في مفهوم الأمة 1) ماذا يعني مفهوم "الجماعة الثابتة المتشكلة تاريخيا"؟ 2) مفهوم "اعتماد الأمة على اللغة المشتركة" 3) مفهوم "امتداد الأمة على تراب مشترك" 4) مفهوم "اعتماد الأمة على الحياة الاقتصادية ضمن الأرض المشتركة" الفصل الثاني في القومية الشوفينية و شوفينية الدول الكبرى الفصل الثالث في الأممية البروليتارية والوطنية البروليتارية الفصل الرابع في الحقوق الخاصة بالأقليات القومية 1- نظام الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية: 2- نظام "الجمهورية الاشتراكية السوفياتية ذات الحكم، الذاتي" 3- نظام "المقاطعة ذات الحكم الذاتي" و "الدائرة ذات الحكم الذاتي" الجزء الثاني: مفهوم الأمة عند سمير أمين تقديم الفصل الأول تعريف الأمة عند سمير أمين الفصل الثاني المسألة القومية في طرف النظام الامبريالي الفصل الثالث التحرر القومي والاشتراكية الفصل الرابع من جديد حول النزعة الغربية المتمحورة على ذاتها
ــــــــــ ــــــــــ ــــــــــ ــــــــــ ــــــــــ ــــــــــ الحلقة الثالثة ــــــــــ ــــــــــ ــــــــــ ــــــــــ ــــــــــ ــــــــــ القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية القسم الثاني الجزء الأول ستالين ومفهوم الأمة (في الأمة، الوطنية والأممية) تقديم: تثير مسألة الأمة العديد من الإشكالات نتيجة الضبابية التي تكتنف النقاشات حول مسألة الأمة والشعب والهوية والإثنية وغيرها من المفاهيم، التي فجرت الأنثروبولوجيا الحديثة النقاش حولها، فاختلط الحابل بالنابل، وأصبحت تسود رويدا رويدا مفاهيم فوق التاريخ للعديد من هذه المفاهيم والتصورات خدمة للشوفينية والعنصرية والنزعات الامبريالية التوسعية وغيرها. وبطبيعة الحال، كل هذه المفاهيم والتصورات تعود إلى حقل المثالية التاريخية. لقد كان الماركسيون– اللينينيون سباقين إلى الإجابة على الموضوع من خلال كتابات ماركس و انجلز و لينين و ستالين، وكذلك عبر مختلف المواقف والأعمال التي دونها التاريخ، ومرة أخرى فإن المادية التاريخية، علم التاريخ الذي أسسه كارل ماركس و فردريك انجلز، هو السلاح الفعال، الذي سمح باقتحام هذا الميدان التاريخي والتأسيس له علميا، وسنرى ذلك من خلال تناول مفهوم الأمة في الفكر الماركسي– اللينيني، وتستوقفنا هنا أعمال لينين و ستالين بالدرجة الأولى، لأنهما صاغا الأجوبة الأكثر علمية في مجال الأمة، وذلك في عصر الامبريالية وانطلاق الثورات الاشتراكية وحركات التحرر الوطني. الفصل الأول في مفهوم الأمة بتوجيه من لينين وبتكليف منه، قام جوزيف ستالين بصياغة المفهوم الماركسي للأمة الأكثر شهرة، والذي لم يجد الفكر البورجوازي بدا من استعماله إلى هذا الحد أو ذاك نظرا لقيمته العلمية. هكذا قام ستالين بصياغة نصين أصبحا جزء لا يتجزأ من كلاسيكيات الفكر الماركسي وهما: "الماركسية والمسألة القومية" (1913)، "المسألة القومية واللينينية" (1929) (أضاف إليهما لاحقا كتاب "الماركسية ومسائل علم اللغة"). ولعل أشهر تعريف قدمه ستالين لمفهوم الأمة، هو ذلك الذي كتب سنة 1913 من خلال النص المذكور أعلاه، ويقول التعريف: "إن الأمة جماعة ثابتة، تشكلت تاريخيا عبر اللغة والأرض والحياة الاقتصادية والتكوين النفسي الذي يعبر عن نفسه في الثقافة المشتركة". إن هذا التعريف لذو قيمة علمية، ويعتمد على التحليل المادي التاريخي والديالكتيكي، ويجمع العناصر الخمسة الخاصة بمفهوم الأمة. 1) ماذا يعني مفهوم "الجماعة الثابتة المتشكلة تاريخيا"؟ بالعودة إلى التاريخ، سنجد أمة كالأمة الفرنسية مثلا لم تتشكل من عرق واحد أو من قبيلة واحدة أو من أقوام وحيدة، سنجد أنه، فقط الإيديولوجيين الفاشيين والعنصريين هم اللذين يبجلون الفكرة القائلة بنشوء الأمة من عرق واحد أو من عرق طاهر، يعتبرونه متفوقا كما هو الحال عند النازية، وعموما، فمثل هذه النظريات تعتبر مثالية وخاطئة، بالإضافة إلى نتائجها الإجرامية. ويعلمنا التاريخ أن الأمة الفرنسية تشكلت خلال قرون من التاريخ المشترك المعاش من طرف شعوب مختلفة وهي: الليغوريون والإيبريون والغاليون والرومان والجرمانيون والنورمانديون ... وبطبيعة الحال، فقد نشبت بين مختلف هذه المكونات صراعات ومعارك فيما بينها انتهت بإيجاد حلول مختلفة لها، سواء عبر الانتصارات أو الهزائم أو أحيانا التعايش فيما بينها، ثم استقر الأمر على ذلك. ومع ولادة الرأسمالية ظهرت الأمة الفرنسية في حدودها الحالية، واستقرت منذ القرن 19. ودائما بالعودة إلى التاريخ الفرنسي، سنجد أن بونابارت قد شكل امبراطورية تضم ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا ... ولكنها لم تشكل أمة، بل خليطا من مجموعات قومية غير مرتبطة فيما بينها، لم تعرف أي ثبات أو استقرار، وانتهى زمانها. 2) مفهوم "اعتماد الأمة على اللغة المشتركة" لقد شكلت اللغة عبر عصور التاريخ أحد أولى الناقلات لكل الأنشطة الإنسانية، وعموما ساهمت في استقرار الجماعات الإنسانية التي تعبر عن وحدتها، وبطبيعة الحال لا يمكن أن تتشكل أمة إلا عبر تجمع من الناس قادر على التفاهم فيما بينهم، بمعنى حيازة لغة مشتركة، واللغة كائن حي يغتني باستمرار خلال التطور التاريخي للأمة، وذلك عبر الإسهامات القادمة من شعوب مختلفة، تندمج بالأمة وتساهم في تشكيلها. وبالاعتماد على مثالنا السابق، فاللغة الفرنسية ذات الأصول اللاتينية تنحدر من اللغة التي كانت مستعملة في إيل دو فرانس، ستغتني وتتطور تدريجيا. إن اللغة المشتركة لذات طابع شعبي، ولا علاقة لها بتأسيس فوقي للغة رسمية للدولة. في المستعمرات أو عند الأمم المضطهدة، كانت اللغة الرسمية هي لغة المستعمر، بينما اللغة القومية، لغة السكان الأصليين ممنوعة، فمثلا، خلال الاستعمار الفرنسي في المغرب أو الجزائر، كانت اللغة الرسمية هي الفرنسية. إن وجود لغة مشتركة لأمة لا ينفي وجود استعمال لهجات أو لغات عامية أو محلية، بل حتى استمرار لغة أقلية، لكن اللذين يستعملونها يعتمدون على اللغة المشتركة مع باقي سكان الأمة. بالاعتماد على المثال السابق (حالة فرنسا) فإن الألزاسيين و البروتونيون و الكورسيون و الباسكيون و الكتالينيون ... يتكلمون اللغة الفرنسية بطلاقة رغم استعمالهم لغاتهم الأصلية في بعض المناطق أو لهجات أو عاميات محلية. 3) مفهوم "امتداد الأمة على تراب مشترك" لم يثبت التاريخ لحد الآن تشكل جماعة بشرية خارج تراب مشترك، وإلى الحدود التي ما زالت فيها الرأسمالية قائمة، فإن استقرار جماعة بشرية يظل مرتبطا بالأرض المشتركة التي يعيشون عليها. بإمكان جماعات من البشر استعمال نفس اللغة كما هو الحال بالنسبة للانجليز و أمريكا و أستراليا و نيوزيلاندا، إن هذا لا يجعل منهم يشكلون أمة واحدة، لأنهم لا يعيشون على أرض مشتركة واحدة، وكذلك بالإمكان أن تعيش جماعة من الناس على أرض مشتركة مؤقتا مع جماعة أو جماعات أخرى لا يشكلون معها جماعة تاريخية، بل حتى لا يتكلمون نفس لغتها، لكنهم لا يساهمون في تشكل أمة، وينتهي بهم الأمر بالرفض أو الطرد من خلال حرب تحرير وطنية (حالة فرنسا بالجزائر سابقا، والكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين حاليا)، لقد كانوا يمثلون السيطرة الاضطهادية للاستعمار، ومن هنا فإن الأرض المشتركة لا وجود لها إلا ظاهريا، فالأرض القومية لدى هؤلاء المعمرين هو ما كانوا يسمونه بالمتروبول بالنسبة للمعمرين الفرنسيين. 4) مفهوم "اعتماد الأمة على الحياة الاقتصادية ضمن الأرض المشتركة" إن اعتماد الأمة على الحياة الاقتصادية، يضمن الانسجام الاقتصادي بين مختلف أجزاء الأرض المشتركة، ولا توجد هذه الجماعة الاقتصادية إلا إذا وجد ارتباط اقتصادي تاريخي يلحم كل أجزاء الأرض المشتركة في كل واحد، وهذا الأمر لم يتحقق إلا مع نشوء الرأسمالية وتطورها خلال القرن 19، وقد ساهم في ذلك تطور وسائل النقل عبر مختلف المناطق من سكك حديدية وبواخر ... 5) مفهوم "اعتماد الأمة في تشكلها على التكوين النفسي المشترك" (الثقافة المشتركة) إن هذا ما يطلق عليه أحيانا الطابع القومي لأمة معينة، وهو يعبر عن أصالة ثقافة مشتركة لأمة معينة. إن هذه الثقافة المشتركة تعبر عن نفسها في الأدب والفنون ونمط الحياة والعادات والتقاليد، وفي الطابع العام للشخصية، إنه غير جامد ويتحرك باستمرار نتيجة الصراعات الطبقية وتأثير المحيط الإقليمي والدولي. ملحوظة: يجب النظر إلى هذه العناصر الخمس التي تشكل الأمة نظرة ديالكتيكية، لأن الأمة تنشأ من خلال التقاء ديالكتيكي للعناصر الخمس، حيث أن تجمعها ضروري حتى تتشكل الأمة، وغياب إحدى العناصر كاف لكيلا تكون هناك أمة. إن الأمة مقولة تاريخية، بل أكثر من هذا، إنها مقولة تاريخية ارتبط تطورها بمرحلة محددة، المرحلة التي عرفت التطور الصاعد للرأسمالية، المنتصرة على التقسيم الإقطاعي. وفي عصر الامبريالية ميز لينين بين الأمم المضطهدة (بكسر الهاء) والأمم المضطهدة (انظر "الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" 1916)، ويتعلق الأمر فيما يخص الأمم المضطهدة، وهي أمم وصلت إلى مرحلة ما من تطور الرأسمالية، لكن تمت السيطرة عليها من طرف أمم رأسمالية أقوى منها (حالة إيرلاندا)، ويتعلق الأمر كذلك بالمستعمرات وأشباه المستعمرات، التي لم تعرف بعد الوصول إلى مرحلة من التطور الرأسمالي، ومع ثورة أكتوبر ظهر نوع جديد من الأمة، إنها الأمة الاشتراكية، حيث أصبحت المستعمرات القائمة والأمم المضطهدة من طرف الامبراطورية القيصرية، أمما تنتقل من مرحلة الاضطهاد الاستعماري إلى مرحلة البناء الاشتراكي، وقد ذهبت أمم أخرى صوب الرأسمالية (فلندا و بولونيا)، وبعد انتصار الثورة البلشفية في 1917 تشكل اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية كدولة متعددة القوميات، ونفس الحال بالنسبة للصين فهي بلد متعدد القوميات. وتشكلت بعد الحرب العالمية الثانية مجموعة من البلدان المستقلة التي اتبعت طريقا معادية للإمبريالية، لكن لم تكن اشتراكية، فعلى المستوى الداخلي ظلت بنياتها ذات طابع رأسمالي، وطورت بعض القطاعات العامة أطلقت عليها اسم القطاع الاشتراكي، مثال مصر، الجزائر... وعموما فإن المسألة القومية والمسألة الاستعمارية ينتميان إلى نفس المشكل، وقد طالب ماركس و انجلز بحرية تقرير المصير لشعوب كإيرلندا و بولونيا، وقام لينين و ستالين ببلورة مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وانتقلا به من الأمم الرأسمالية المضطهدة (مثال إيرلندا التي كانت تعرف بداية تطور الرأسمالية وينتمي استعمارها من طرف بريطانيا إلى رأسمالية القرن 19 أي الرأسمالية التنافسية التي عايشها ماركس و انجلز) إلى المستعمرات وشبه المستعمرات( كالصين و الهند، أي بعدما انتقلت الرأسمالية إلى امبريالية، وتم تقسيم العالم بين مختلف الإمبرياليات، ونشأت الامبراطوريات الاستعمارية). لقد انطلق منظرو الماركسية – اللينينية في بلورة مواقفهم من المبدأ الماركسي القائل أن: "شعبا يضطهد شعبا آخر لا يمكنه أن يكون شعبا حرا". الفصل الثاني: في القومية الشوفينية و شوفينية الدول الكبرى انتقلت الدول الرأسمالية إلى المرحلة الامبريالية نهاية القرن 19، فانطلق الصراع بين الأمم المضطهدة من أجل اقتسام العالم، ومن هنا منشأ الحرب الامبريالية الأولى، ولخوض الحروب فيما بينها، جيشت البورجوازيات الامبريالية شعوبها من أجل مساندة مصالحها الامبريالية، واعتمدوا في ذلك على إيديولوجيات قومية شوفينية، و وجدوا دعما من طرف قادة الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية الخائنة، أحزاب الأممية الثانية ما عدا في روسيا، حيث قام لينين بتصنيف هؤلاء الاشتراكيين الخونة كانتهازيين سقطوا في الاشتراكوشوفينية. إن الوطنية الشوفينية كانت هي الشكل الأول للإيديولوجيا الامبريالية التي تم نشرها وسط شعوب الأمم المضطهدة، وسيحصل نوع من التطور في نفس الاتجاه بالنسبة لبعض أحزاب الأممية الثالثة، فمثلا، وقبل 1939، وتحت تأثير موريس طوريز تبنى الحزب الشيوعي الفرنسي سياسة لصالح الشركات البورجوازية الاستعمارية داخل بعض المستعمرات. بعد 1945 ازداد هذا الدعم من طرف الحزب الشيوعي الفرنسي، وتجلى ذلك فيما سمي بالاتحاد الفرنسي، و وقف الحزب الشيوعي الفرنسي إلى جانب حكومته إبان الثورة الجزائرية مطالبا بإدماج الجزائر في فرنسا. وبعد تحول الاتحاد السوفياتي إلى دولة تحريفية، ذات رأسمالية من نوع خاص، مارست الدولة الجديدة ما يطلق عليه ب شوفينية القوة العظمى، وهي من نوع الشوفينية القومية، وقد تجلى ذلك في سياساتها تجاه أوروبا الشرقية وبعض الدول الأخرى مثل كوبا. وفي بعض الأحيان قد تظهر قومية محلية بين الأقليات القومية تتصف بالشوفينية، وتعمل على ضرب وحدة القوميات في بلد واحد. الفصل الثالث: في الأممية البروليتارية والوطنية البروليتارية مقابل القومية الشوفينية و شوفينية القوة العظمى، بلور الشيوعيون ومارسوا الوطنية البروليتارية، التي لا يمكن فصلها عن الأممية البروليتارية، وسنرى الأشكال التي تأخذها حسب الحالات: - الحالة الأولى: بالنسبة لشعب ينتمي إلى أمة اشتراكية أو إلى دولة اشتراكية متعددة القوميات، تتجسد الوطنية البروليتارية في الدفاع عن الوطن الاشتراكي ضد كل هجوم كيفما كان شكله. - الحالة الثانية: بالنسبة لشعب يعيش في أمة مضطهدة (بفتح الهاء) تتجسد الوطنية البروليتارية في النضال من أجل التحرر الوطني كخطوة على طريق تحقيق الاشتراكية. - الحالة الثالثة: بالنسبة لشعب يعيش في أمة مضطهدة (أمة امبريالية أو اشتراكوامبريالية) تتجسد الوطنية البروليتارية: في رفض التعاون الطبقي مع بورجوازيته الرأسمالية الامبريالية، وفي حالة الحرب العمل من أجل هزيمة الطبقة المسيطرة والمضطهدة من أجل تعويضها بسلطة البروليتاريا، وهو الطريق الذي اتبعه لينين خلال الحرب العالمية الأولى، والذي انتهى بانتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى. - الحالة الرابعة: بالنسبة لشعب يعيش في أمة اشتراكية فتتجسد الأممية البروليتارية في عمل كل شيء لدعم الشعوب، التي تناضل من أجل التحرر الوطني، أو تساهم في النضالات الثورية البروليتارية. - الحالة الخامسة: بالنسبة لشعب يعيش في أمة مضطهدة، فتتجسد الأممية البروليتارية في رفض كل موقف شوفيني اتجاه شعب الأمة المضطهدة، الذي هو نفسه مضطهد من طرف بورجوازيته الخاصة الرأسمالية، وكمثال على ذلك، عندما كانت شعوب الهند الصينية في حرب مقاومة ضد العدوان الامبريالي الأمريكي، فقد كانت تعلن عن تضامنها مع الشعب الأمريكي الذي كان يناضل ضد السلطة الحاكمة في بلده. - الحالة السادسة: بالنسبة لشعب يعيش في أمة مضطهدة امبريالية أو اشتراكوامبريالية، فإن الأممية البروليتارية تتجسد في الدعم الكامل ضد بورجوازيته الخاصة، لكل شعب مضطهد من طرفها، والذي يخوض ضدها حرب مقاومة أو حرب تحرير وطني، الشيء الذي لم يفعله الشعب الفرنسي إلا بالنسبة لقلة خلال الثورة الجزائرية، ويجب أن يفعله الآن بالنسبة لمالي والنيجر و بوركينا فاسو و الغابون ... في زمن الردة والتراجع على كل القيم التقدمية والإنسانية غالبا ما يتناسى الناس والعديد من المثقفين أن القيم الأممية الثورية كانت عملا ملموسا مباشرا ينجزه الثوريون البروليتاريون، ونذكر هنا بالعديد من الأمثلة: 1- انتفاضة البحارة الفرنسيين اللذين تم إرسالهم إلى البحر الأسود سنة 1919 لمهاجمة الشعوب الثورية السوفياتية، وقد رفض الجنود بقيادة أندري مارتي إطلاق النار على البلاشفة. 2- الدعم العسكري الملموس بإرسال المتطوعين الصينيين إلى كوريا، التي كانت تقاتل ضد العدوان الامبريالي الأمريكي سنة 1952، وقد استشهد في هذه الحرب أحد أبناء الرفيق ماو تسي تونغ. 3- الدعم القوي والملموس الذي قدمته الصين وألبانيا لشعوب الهند الصينية، التي كانت تخوض حرب مقاومة ضد العدوان الامبريالي الأمريكي. 4 – الدعم الذي قدمته الصين للثورة الفلسطينية، والموقف المبدئي المناهض لوجود الكيان الصهيوني، الذي دافع عنه الرفيق ماو تسي تونغ سيرا على نهج الرفيق لينين. والأمثلة متعددة، ولعل من أشهرها إرسال الفيالق الثورية إلى إسبانيا إبان الحرب الأهلية الإسبانية. الفصل الرابع: في الحقوق الخاصة بالأقليات القومية في بعض الأمم المضطهدة، فإن الأقليات القومية تتعرض للاضطهاد من طرف السلطة والدولة المركزية للبورجوازية الرأسمالية، و يكون من واجب البروليتاريا الثورية أن تساند مطالب الأقليات القومية بما في ذلك حق ممارسة تقرير المصير و الانفصال عن الأمة المضطهدة، لكن هذا الموقف يبقى رهينا، بعدم نسيان من طرف الحزب الثوري للبروليتاريا، أن المسألة القومية و الاستعمارية هي في آخر التحليل هي مسألة مرتبطة بصراع الطبقات، و بالصراع بين الإيديولوجيا البروليتارية و الإيديولوجيا البورجوازية، و يجب أن تحل هذه المسألة في إطار المصلحة العامة للبروليتاريا بما فيها مصلحة الأقلية القومية و الثورة العالمية. تاريخيا، وفي سياق التجارب التي عرفتها الأمم الاشتراكية فقد حصلت الأقليات القومية على حقوقها، ونتذكر جميعا وثيقة "إعلان حقوق شعوب روسيا"، التي صدرت في أكتوبر 1917، وعلى هذه الأسس تشكل الاتحاد السوفياتي كدولة متعددة القوميات، تطبيقا للمبادئ النظرية العامة حول حق الشعوب في تقرير مصيرها، فتفرع عن ذلك ما سمي ب: 1- نظام الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية: ويضم هذا النظام: جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية ، و جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية ، و جمهورية بيلاروسيا الاشتراكية السوفياتية، وجمهورية أوزبكستان الاشتراكية السوفياتية، وجمهورية كازاخستان الاشتراكية السوفياتية، وجمهورية جورجيا الاشتراكية السوفياتية، وجمهورية أذربدجان الاشتراكية السوفياتية، وجمهورية ليتوانيا الاشتراكية السوفياتية، وجمهورية مولدافيا الاشتراكية السوفياتية، و جمهورية لاتفيا الاشتراكية السوفياتية، وجمهورية قارغزيا الاشتراكية السوفياتية، وجهورية طاجكستان الاشتراكية السوفياتية، وجمهورية أرمينيا الاشتراكية السوفياتية، وجمهورية تركمانيا الاشتراكية السوفياتية و جمهورية إستونيا الاشتراكية السوفياتية. وقد تم الاعتراف بالحقوق الكاملة لهذه الشعوب والأمم، وتحتفظ المادة 72 من دستور اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية ب "حق الخروج بحرية من اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية لكل جمهورية متحدة"، ويطلق على هذا النظام اسم "الجمهورية الاشتراكية السوفياتية المتحدة". وهناك نظام أقل درجة من هذا المستوى، ويسمى: 2- نظام "الجمهورية الاشتراكية السوفياتية ذات الحكم، الذاتي": هناك فوارق بين النظام الأول والثاني يسمح للنظام الثاني بالبث في المسائل الداخلية ضمن صلاحيتها بصورة مستقلة، خارج نطاق حقوق "اتحاد الجمهورية الاشتراكية السوفياتية" و "الجمهورية المتحدة". وينضاف إلى هذه اللائحة: 3- نظام "المقاطعة ذات الحكم الذاتي" و "الدائرة ذات الحكم الذاتي". أما في الصين، وبعد انتصار الثورة سنة 1949، فقد تشكلت دولة اشتراكية متعددة القوميات تضم أكثر من 50 أقلية قومية، تمثل6 % من مجموع سكان البلد، وقد حررت الثورة هذه الأقليات من الاضطهاد الذي كانت تتعرض له من طرف الامبريالية الأجنبية ورجعية الكومنتانغ، وقد صارع ماو تسي تونغ ما سمي ب "شوفينية الهان الكبار" وكذلك الوطنية المحلية لدى بعض الأقليات. لقد طبق نظام الحكم الذاتي القومي في كل المناطق التي يوجد فيها أقليات قومية تعيش كجماعات منسجمة، وهناك خمس مناطق من هذا النوع، وهي: - المناطق المستقلة لمانغوليا الداخلية - الإيغور في منطقة سانكيانغ - الهوي في منطقة نينغشيا - تشوانغ في الكانغ سي - منطقة تيبت وهي أكبرهم بفضل الاشتراكية، انتقلت شعوب هذه الأقليات القومية من العبودية والإقطاعية مباشرة إلى الاشتراكية. الجزء الثاني: مفهوم الأمة عند سمير أمين تقديم: خصص سمير أمين كتابه الشهير "الطبقة والأمة في التاريخ وفي المرحلة الإمبريالية"، الطبعة العربية (ترجمة هنرييت عبودي) صدرت في شتنبر 1980 عن دارالطليعة للطباعة والنشر، بيروت) لمناقشة موضوع الأمة من خلال إثارة بعض القضايا الفكرية والتاريخية والمنهجية، التي تقوم على أساس فهمه الخاص لمفهوم الإمبريالية وقانون التطور غير المتكافئ، وباستعماله بعض الاجتهادات في حقل المادية التاريخية من قبيل مفهوم " نمط الإنتاج الخراجي". إن كتاب سمير أمين يعتبر امتدادا لكتبه السابقة مثل "التطور اللامتكافئ" و"التراكم على الصعيد العالمي" وغيرها.... وبغض النظر عن مضمون مشروعه الفكري وطبيعة اجتهاداته، فنحن هنا لسنا بصدد مناقشتها، فسواء اختلفنا مع بعضها أو مجملها، فإثارة مواضيع مثل الأمة والإثنية والقومية والشعب كلها أمور تهم تاريخنا وحاضرنا، خاصة فيما يخص المفاهيم التي تروج لها الشوفينية والإسلاموية وغيرها. فمن باب العصف الفكري واستفزاز العقل من أجل إعماله في معاركنا القادمة، سنحاول هنا تلخيص بعض أفكار سمير أمين في هذا الكتاب خاصة، وأنه، من القلائل الذين اهتموا بهذا الموضوع الشائك. الفصل الأول: تعريف الأمة عند سمير أمين: يقول سمير أمين حول مفهوم الأمة: "لقد اقترحنا في "التطور اللامتكافئ" وطبقنا في "الأمة العربية" (كتاب لسمير أمين) مفهوما للأمة يتعارض مع مفهوم الإثنية – اللغة هي القاسم المشترك بين الأمة والإثنية– آخذين بعين الاعتبار وجود أو عدم وجود مركزة على مستوى الدولة، و وجود أو عدم وجود فائض اقتصادي من جراء تدخل الدولة. وهكذا لم يعد بالمستطاع فصل الظاهرة القومية عن تحليل الدولة، وهذا من دون أن يكون ثمة تطابق وتراكب بين الدولة والأمة. و قد اقترحنا فيما بعد، و على أساس هذه القاعدة أيضا، رصدا منهجيا للواقعة القومية عبر التاريخ، و تتجلى الأمة بوضوح خاص في المجتمعات الخراجية المكتملة من جهة، حيث تمركز الدولة الخراج، و حيث تكون الطبقة الخراجية دولانية (الصين، مصر) خلافا للمجتمعات الخراجية غير المكتملة (المجتمعات الإقطاعية الأوروبية على سبيل المثال) حيث يظل الخراج مجزئ، وفي الرأسمالية، من جهة أخرى، حيث يدار تزاحم الرساميل، مع ما ينجم عنه من تعادل في الأرباح، وحراك العمل بتدخل من الدولة (تشريعات، نظام نقدي، سياسة الدولة الاقتصادية). وقد فسرنا، بالشروط الملازمة لأوروبا (غياب الأمم في العصر الإقطاعي، الولادة المتزامنة للأمة والرأسمالية) التشويه الذي ألحقه المذهب الأوروبي المتمحور على ذاته بالمفهوم العام للأمة (المفهوم الستاليني، و أيضا الماركسي – الانجليزي و اللينيني." ويرى سمير أمين أنه: "يتجلى مفهوم الأمة بوضوح في المجتمعات المكتملة، سواء أكانت خراجية (الصين، مصر) أم رأسمالية (الأمم الأوروبية للرأسمالية المركزية). أما في ظل أنماط الإنتاج غير المكتملة، الطرفية، فإن الواقع الاجتماعي الإثني أكثر ضبابية واختلاطا من أن ينعت بقومي. تلك كانت الحال في أوروبا الإقطاعية، إذ أن النمط الإقطاعي ليس سوى نمط خراجي غير مكتمل. وتلك هي الحال أيضا في الأطراف الرأسمالية المعاصرة. ويختفي كذلك التطابق بين المجتمع والأمة في الفترات الانتقالية." الفصل الثاني: المسألة القومية في طرف النظام الامبريالي يقول سمير أمين: "1- إن المسألة القومية التي كانت في القرن 19 مسألة الأمم الأوروبية المضطهدة بشكل رئيسي، قد انتقلت في القرن العشرين إلى آسيا وإفريقيا حيث أصبحت هي المسألة الكولونيالية. ولم يكن هذا الانتقال جغرافيا فحسب، فبما أنه لازم تكوين النظام الامبريالي، فقد استتبع تغييرا في طبيعة المسألة القومية بالذات. فالمسألة القديمة، مسألة القوميات الأوروبية المضطهدة (بفتح الهاء) من قبل أنظمة إقطاعية ملكية مستبدة، تندرج في عداد الثورة البورجوازية غير المكتملة. أما الجديدة، أي مسألة الشعوب المضطهدة (بفتح الهاء) من قبل الرأسمالية الامبريالية، فهي تشكل جزءا من الثورة الاشتراكية الصاعدة. إنها بتعبير أدق، مطلب من تلك المطالب ذات الهوية "البورجوازية الديموقراطية" (نظير المطالبة الفلاحية بالإصلاح الزراعي)، والتي لا يمكن أن تلبى إلا خلال المرحلة البورجوازية من ثورة متواصلة ترودها البروليتاريا. إذن فالمحور الرئيسي للمسألة القومية الجديدة يتحدد بطابعها المناهض للإمبريالية. وسوف ننكب هنا على دراسة طبيعة الأمم المضطهدة (بفتح الهاء) اليوم من قبل الامبريالية، ودراسة سماتها المميزة بالتعارض مع السمات التي كانت تحدد في الأمس أمم أوروبا المضطهدة (بفتح الهاء). 2-لا يكفي أن نؤكد بأن التطور الرأسمالي يتمخض بالضرورة عن تحول الإثنيات إلى أمم (ولا سيما أن هذه السيرورة لم تكن الطريق الوحيد إلى تكوين الأمم)، بل ينبغي أن نوضح أن تكون الرأسمالية المركزية كفيل وحده بأن يتيح للتشكيلة القومية فرصة التبلور. بالمقابل، فإن التطور الرأسمالي في أشكاله الطرفية يحكم على المجتمع بالتفكك والتحلل، ويحول دون تبلوره المرتقب في صورة أمة. وعلة ذلك أن هذه الرأسمالية لا تقوم على أساس الدعم للسوق المحلية للبضائع، وللرأسمال والعمل، كمحور لتطورها، الذي هو تطور متمحور على ذاته. فالاندماج بالنظام الدولي على أساس تقسيم دولي لا متكافئ للعمل، وعلى أساس الطابع المتجه نحو الخارج للاقتصاد، المحدث (بتشديد الدال) بدءا من قطاعاته التصديرية الجديدة، هذا الاندماج لا يخلق سوقا داخلية حاسمة. وبقدر ما يمكن لهذه السوق أن تتشكل، تغدو قاعدة لصناعة بديلة عن الاستيراد، متمحورة على طلب الطبقات المستغلة، وعليه وحده. أما الإنتاج المعد لتلبية حاجات الجماهير العريضة فهو يظل، في معظمه، منظما في إطار الاكتفاء الذاتي الفلاحي، بحكم كيفيات السيطرة الشكلية السائدة. إن السيطرة الساحقة للرأسمال الأجنبي، تفرغ عبارة "سوق الرساميل" من مضمونها: فالرأسمال المحلي، المفتت والتابع، يعجز عن بلوغ الجمهور اللازم لتكوين مثل هذه السوق، ويظل النظام النقدي والمالي هو الآخر متجها إلى الخارج، جزئيا، ومحدودا في وظائفه. وتحول أخيرا هيمنة الرأسمال الأجنبي الشكلية دون إمكانية الكلام عن سوق معممة لقوة العمل، على الرغم من الأهمية النسبية للجيش الاحتياطي للبطالة المدينية .... وتدعي الأطروحة الأكثر تطرفا في هذا المجال، أن الدولة في الطرف لا تعدو أن تكون جهازا إداريا، استطالة للدولة الامبريالية المهيمنة، وأنه لا يجوز بالتالي أن نطبق عليها التحليل الماركسي الكلاسيكي، الذي يعرف الدولة بدءا من الكتلة المهيمنة والمؤلفة من الطبقات المحلية المستغلة (بكسر الغين). لكن هذه الأطروحة لا تتيح لنا أن نفهم نقاط التباين والخلاف التي تفصل الدولة الإقطاعية – الكمبرادورية (الدولة الامبراطورية الصينية على سبيل المثال) عن الدولة البورجوازية التابعة (مصر الحديثة)، أو تفصل الدولة الكولونيالية الجديدة (التي تحكمها بيروقراطية كومبرادورية قريبة من الإدارة الكولونيالية) عن الدولة الشعبوية، القومية، الخ. فهي تستعيض عن تحليل التحالفات (ما بين الرأسمال الامبريالي المهيمن والطبقات المستغلة (بكسر الغين) المحلية التابعة والمؤدية دور أداة الوصل) المتحولة (بالأمس، التحالف الإقطاعي – الكومبرادوري، واليوم التحالف مع البورجوازية التابعة) بتحليل آخر، مصطلحه الأساسي هو "العمالة للخارج". لكن لهذه الأطروحة، رغم ذلك، الفضل في لفت الانتباه إلى خضوع الطبقات المستغلة (بكسر الغين) في التحالف الدولي وإلى تمثيلها المباشر لمصالح الطبقات الأجنبية. يتعين على الأطروحة الصحيحة بصدد وظيفة الدولة في الرأسمالية الطرفية المعاصرة، أن تنطلق من التحليل العيني للكتلة المحلية المهيمنة، والقائمة بدور صلة الوصل للهيمنة الامبريالية. ولأن هذه الكتلة ثانوية وتابعة، فإن بلدان الطرف تشكل الحلقة الضعيفة في السلسلة الامبريالية. وهذا ما ييسر تشكيل التحالف الثوري ويسهل عليه أن يعقد، في إطار الاستراتيجية العامة للثورة المستمرة على مراحل، تحالفات تكتيكية فعالة، قمينة بأن تضعف وتفتت التحالف المسيطر." 3- من جملة السمات المميزة التي يتجلى من خلالها غياب البناء القومي الهوية الأجنبية لثقافة البورجوازية المحلية. فهذه الطبقات المسيطرة، التي فقدت قوميتها وثقافتها، تكتسب بالتدريج ملامح الغرباء في ديارها بالذات، بسبب طراز حياتها اليومية، المنسوخ عن طراز حياة الإنسان المستهلك العام. وفي الحالات القصوى نجد أنفسنا أمام كاريكاتور ازدواجية اللغة: فالطبقة الحاكمة تستخدم لغة السادة المستعمرين القدامى، بينما يثابر الشعب على استخدام لغته الأصلية. فكيف يمكننا أن نتكلم، في مثل هذه الشروط، عن أمة وعن ثقافة قومية؟ 4- أن شعوب الطرف، التي تفصل بينها حدود هي في كثير من الأحيان اعتباطية واصطناعية، لا تشكل إذن، في إطار غالبية الدول التي تحدد وجودها الدولي، لا أمة واحدة ولا عدة أمم. إنها تتألف من إثنية واحدة أو من عدة إثنيات، متقاربة تارة (على صعيد اللغة على سبيل المثال) ومتباعدة طورا، منفصلة جغرافيا عن بعضها بعضا أحيانا، ومتشابكة ومتعايشة في اتحاد وثيق أحيانا أخرى (مثال على ذلك: المزارعون ومربو المواشي المنتمون إلى إثنيات مختلفة والمتعايشون فوق أرض واحدة)، علاوة على أنها متفاوتة أشد التفاوت أيضا من حيث تعدادها البشري. وقد حافظ بعض هذه الإثنيات على أشكال من التنظيم الاجتماعي متفاوتة في قدمها (تنظيمات عشائرية أو قبلية)، في حين تحول بعضها الآخر إلى إثنيات ما قبل رأسمالية خراجية متقدمة (أي إلى أشباه أمم). إن كيفيات مختلفة من الاضطهاد، عائدة إلى عهود قديمة أو حديثة، تسم بميسمها العلاقات بين هذه الإثنيات. فهنالك الشعوب الفاتحة والشعوب المقهورة المتحدرة من العصور السابقة، شعوب تمثل الغالبية وأخرى الأقلية، شعوب استفادت من التطور الرأسمالي الطرفي وأخرى تضررت منه، شعوب تستأثر بالنخبة المدينية وأخرى مقصية عنها، الخ. وتخلق هذه الوقائع مجتمعة شروطا غير مواتية لنضوج الوعي الطبقي، فكثيرا ما تفصح الصراعات الطبقية عن نفسها في صورة صراعات إثنية، وهذا ما يجعلها قابلة لأن تتلاعب بها من الداخل ومن الخارج الطبقات الرجعية والقوى الامبريالية. 5- كثيرا ما تكون حركة التحرر القومي في هذه الشروط حركة قومية من دون أمة. ومن المحقق أن وحدة الطبقات المناهضة للإمبريالية قد توفر، في مرحلة من المراحل، الوسيلة للتغلب على هذه الانقسامات. ومذهب نكروما في الوحدة الإفريقية، الذي انبثقت عنه "منظمة الوحدة الإفريقية"، و وحدة عموم الهند، أو بالعكس وحدة باكستان المصطنعة، تشهد جميعها على هذه الإمكانية. بيد أن هذا النوع من الوحدة القومية، أو شبه القومية، يستمر بصعوبة بعد زوال الظروف التي سمحت به في فترة من الفترات. فبعد الحصول على الاستقلال، ترجح من جديد كفة التناقضات الداخلية. وتستأهل دراسة هذه التناقضات قدرا من الاهتمام أكبر من ذاك الذي حازت عليه حتى الآن: انفجار باكستان وتشظيها، الخطر الدائم الذي يتهدد الهند في وحدتها، حروب الكونغو الأهلية في الستينات الأخيرة، الحرب الأهلية في نيجيريا، أحداث القرن الإفريقي والصحراء الغربية، الانتفاضات القبلية (في جنوب السودان على سبيل المثال)، هذه الأحداث جميعها تدل على هشاشة هذه الوحدات الدولانية، لا القومية. لكن أي موقف يتعين على الطليعة الشعبية أن تتبناه، في مثل هذه الشروط، إزاء مسائل القوميات؟ إنها لا تستطيع بكل تأكيد أن تنفي وجودها، إسوة بالعديد من المواقف الرسمية. كما أنه لا يجوز لها أن تكتفي بالمطالبة بالقضاء على الاستغلال الطبقي: بل هي مدعوة لأن تدرج في برنامجها، على نحو واضح وصريح، النضال الفعال والمباشر ضد جميع أشكال التمييز، والتفاوت، والاضطهاد، القائمة على الإثنية، أو اللغة، أو الدين، أو العادات. لكن هل يتعين عليها أن تذهب إلى حد المناداة بحق الأمم كافة في حرية تقرير مصيرها، ولو أدى ذلك إلى الانفصال؟ ثمة مبدآن يطرحان نفسيهما هنا (المبدأ الأول أعلاه): أما المبدأ الثاني فيتلخص في استبعاد هذا الانفصال وعدم القبول به إلا في حال فشل سائر الحلول الأخرى، أي في حال فشل الطليعة في حمل الجماهير المستغلة على النضال من أجل استقلال ذاتي محلي حقيقي في إطار دولة موحدة واسعة إلى أقصى ما يمكن، ذلك أن الكفاح المناهض للإمبريالية لن يستفيد بتاتا من إضعاف دول الأطراف عن طريق البلقنة، أن يكن لها من بداية فقد لا يكون لها من نهاية. الشيء الأكيد على كل حال، أنه لا يجوز لنا أن نطلق قبليا على أي جماعة اجتماعية - إثنية أسم "قومية" أو "لا قومية"، لنعمد بعد ذلك إلى تحديد حقوقها استنادا إلى هذه التسمية. فهل لغير المعنيين بالأمر الحق في منح هذا الاعتراف؟ إن النضال من أجل القضاء على الاستغلال الطبقي يقتضي مناهضة جميع أشكال الاضطهاد أيا كانت، فالاشتراكية تعني ديموقراطية جماهيرية فعلية، أي ديموقراطية لا ممركزة إلى أقصى حد مستطاع في كل مرحلة من مراحل تطورها. 6 - ... وقد يكون ماضي هذه الدول ماضي أمم، أو شبه أمم خراجية، أو إثنيات قوية التلاحم، وقد يكون ماضي تفتت قبلي بلا وحدة تاريخية ولغوية. وقد تتكون الكتلة الحاكمة تارة حول طبقة كبار الملاكين الزراعيين، التي ترسي جذورها البعيدة في التاريخ القومي ما قبل الكولونيالي، وطورا حول بورجوازية صناعية واضحة التكوين وإن كانت حديثة، وقد تتشكل تارة ثالثة بصورة شبه حصرية من شريحة بيروقراطية كومبرادورية لا وزن لها ولا جذور، شريحة هي من صنع المستعمر. = إن الاقتران بين التفتت الإثني والسلطة البيروقراطية الكومبرادورية يحدد نمطا دولانيا يتسم على وجه الخصوص بعدم الثبات وعدم الاستقرار. 7- إن حركة التحرر القومي قد انطلقت وكافحت أحيانا في وضع مختلف، في إطار أمم ما قبل رأسمالية حقيقية (خراجية مكتملة) أو أشباه أمم من هذا القبيل، تتسم بالقوة والتجانس. 8- إن المساجلات الماركسية بصدد المسألة الكولونيالية والقومية لا تزال محدودة النطاق، فوجهات النظر التي أفصح عنها ماركس و انجلز لا تؤلف في الواقع وحدة متكاملة يمكن أن نستخلص منها اليوم استنتاجات مفيدة (الأبحاث الجديدة تثبت العكس: تذكير من طرفنا (انظر كتاب "ماركس في الهامش"). أما وجهات النظر التي عرضت و طورت لاحقا في مؤتمرات الأممية الثانية و الثالثة من قبل روزا لوكسمبورغ، لينين، تروتسكي و ستالين، فقد تناولت سلسلتين من المسائل: المسائل المتعلقة بأنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية. (....) وقد جاءت المساجلات الأولى مخيبة للآمال في معظم الأحيان، إذ أن المعنيين بها مباشرة، أي شعوب آسيا وإفريقيا، كانوا شبه غائبين عنها، فتأويل بعض نصوص ماركس و انجلز إلى ما لا نهاية ("المقدمة في نقد الاقتصاد السياسي" و بعض المقالات الصحفية و المراسلات)، لم يكن كافيا على الإطلاق. أما المساجلات الثانية، فقد زودت الأممية الثالثة بإطار عام لينيني صحيح بالإجمال، لكنها لم تسد النقص في التحاليل العينية. 9- إن الوضع اليوم يقتضي دراسة عينية ومنهجية لتمفصل الصراعات الطبقية والصراعات القومية، ويفترض في هذه الدراسة أن تقوم على المبادئ الخمسة التالية: ا- أن النضال من أجل الاشتراكية في طرف النظام الامبريالي ليس غريبا عن النضال من أجل التحرر القومي، ولا يتعارض معه بأي حال. إن الواقعة الامبريالية تحتم فهم الانتقال إلى الاشتراكية على أنه محصلة التلاحم التاريخي لأهداف التحرر الاجتماعي مع أهداف التحرر القومي. ب- إن التحالف الشعبي، الذي تروده إيديولوجيا البروليتاريا كفيل وحده بأن يقود هذا النضال المزدوج إلى تحقيق أهدافه. وينبغي توكيد الاستقلال الذاتي للاستراتيجية الشعبية على الصعيدين النظري والعملي. فهذا الاستقلال يضمن النجاح المرتقب لاستراتيجية الثورة المتواصلة على مراحل. وفي حال غيابه ينحصر دور القوى الشعبية في مساندة الاستراتيجيات البورجوازية التي لا تؤدي إلا إلى المآزق والطرق المسدودة. ج – يتعين على التحالف الشعبي أن يبذل قصاراه من أجل التغلب على التناقضات القومية في صفوف الشعب، مع محافظته على أوسع إطار ممكن للدولة. د – يدعى هذا التحالف أيضا إلى تبني تكتيك مرن قائم على تحليل معمق لطبيعة التحالف المحلي المهيمن على الدولة، ولنقاط ضعفه وللتناقضات التي تعتمل فيه، وعليه أن يتحين الفرص لإضعاف هذا التحالف. ه – على التحالف الشعبي أخيرا أن يكون متنبها ومتيقظا إزاء الدول الأجنبية. ففي كل مرة تهمل فيها، إن نظريا أو عمليا، المبادئ الخمسة الآنفة الذكر، تتحول الحركات القومية، وحتى الشعبية منها موضوعيا إلى ألعوبة بين الدولتين العظميين. الفصل الثالث: التحرر القومي والاشتراكية "... لقد أدى هذا الانتشار العالمي للرأسمالية في طورها الامبريالي إلى تحولات جوهرية فيما بعد. وهنا على وجه التحديد تكمن النقطة الساخنة في النقاش: النقطة المتعلقة بمكان مختلف الطبقات الاجتماعية في المركز وفي الأطراف. هذه التحولات في العلاقات القائمة بين الطبقات الاجتماعية داخل المركز وفي الأطراف، والمكان الذي تحتله مختلف الطبقات الاجتماعية في الصراع الطبقي، لا يمكن أن تصبح في متناول الإدراك إذا ما نظرنا إلى كل قطر بمنأى عن الآخر، إمبرياليا أو واقعا تحت سيطرة الامبريالية، لا يسعنا أن ندركها إلا في علاقاتها العالمية، ومن خلال استراتيجية شاملة. ... لكن الإقرار بهذه الحقيقة المبتذلة – مبتذلة بالنسبة إلينا، وليس بالنسبة إلى اللذين ينكرونها - لا يعني على الإطلاق الاتفاق على الاستراتيجية: أي تحديد العلاقات القائمة بين شتى البروليتاريات وبين شتى البورجوازيات والطبقات الأخرى الخاضعة للإمبريالية، إن في المركز أو في الأطراف – و في الأطراف بدالة أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية – و تحديد الكيفية التي تتواجه بها هذه الطبقات كلها من خلال استراتيجية ثورية شاملة." "فمع دخول الرأسمالية طور الامبريالية، تحدث تحولات هامة يمكننا تلخيصها باختصار على النحو التالي: انتقال مركز ثقل الاستغلال الرأسمالي من مكان إلى آخر، نتيجة تنامي الكتلة النسبية لفائض القيمة الممركزة لصالح احتكارات الدول الامبريالية، ففائض القيمة بات يتأتى أكثر فأكثر من استغلال شعوب الأطراف، وفائض القيمة هذا يتولد مباشرة عن بروليتاريا الأطراف، وإما – وحجمه هنا يكون أكبر- عن الفوائض الناتجة عن أنماط إنتاجية متنوعة وعن استغلال طبقات متباينة، وعلى الأخص جماهير الفلاحين الواسعة في ظل سيادة أنماط إنتاج ما قبل رأسمالية، فلاحية أو إقطاعية، الخ. وانتقال مركز الثقل على هذا النحو لا ينجم عن القياس الكمي لكتلة فائض القيمة المولدة هنا أو هناك، وفي داخل النظام برمته، إذ أن كتلة فائض القيمة لا تزال، على الصعيد الكمي، تتولد في المركز أكثر منها في الأطراف. بيد أن مركز الثقل، النقطة الحساسة، هو الذي ينتقل باتجاه استثمار الأطراف واستغلالها. على هذا النحو استطاعت رأسمالية الاحتكارات أن تقدم قاعدة موضوعية لهيمنة الاشتراكية – الديموقراطية في أوساط الطبقات العاملة في الغرب. وقد أدان لينين هذه الهيمنة، الجلية والتي لا جدال فيها في الأممية الثانية، بدالة ارتباطها بالظاهرة الامبريالية على وجه التحديد. وانتشار الرأسمالية الامبريالية على صعيد الكرة الأرضية يؤدي، علاوة على ذلك، إلى قطع طريق انتشار الرأسمالية بواسطة ثورات بورجوازية في الأقطار المتأخرة. إن البورجوازية ما عادت تنمو في الأطراف إلا في ركاب الامبريالية، وقد أمست عاجزة عن قيادة ثورة بورجوازية تتميز بالجذرية، بيد أن هذا لا يعني بالطبع أن النظام الرأسمالي يكف عن التطور والنمو، فهو يتطور، وإنما في الإطار الامبريالي. أما الحركة الفلاحية التي كانت تاريخيا في المركز جزءا من الثورة البورجوازية، فتصبح في الأطراف جزءا من الثورة الاشتراكية. المطالب الفلاحية لن تقود إذن إلى ثورات بورجوازية، بل هي مطالبة موضوعيا بأن تصبح جزءا من الثورة الاشتراكية على الصعيد العالمي. هذا لا يعني أنها تقود إليها، أي إلى الثورة الاشتراكية، بصورة آلية، فكي يتحقق ذلك ينبغي أن تكون هنالك قيادة بروليتارية، ومنظور مفتوح على هذا الاتجاه. وبعابرة أخرى، أن تطور الرأسمالية في الأطراف، في ركاب الامبريالية، وصعود حركة التحرر القومي لا يحتلان مكانهما في منظور نمو الرأسمالية والبورجوازية، وإنما في منظور أزمتهما." أما بالنسبة: "لتحديد المعسكرين الأساسيين للقوى الاجتماعية، و معرفة من ثمة ما هو أساسي و ما هو ثانوي ، من زاوية هذه الأطروحة، لا يكفي أن نذكر بأن بروليتاريات المركز (حتى في ظل هيمنة الاشتراكية – الديموقراطية) و الأطراف و الطبقة الفلاحية المستغلة في الأطراف تقف إلى جانب القوى الاشتراكية، في حين يتواجد في الطرف الآخر، في معسكر قوى الرأسمالية، رأسمال الاحتكارات و سائر البورجوازيات التابعة و الطبقات الاستغلالية الحليفة في الأطراف، بل ينبغي أن نضيف أن رأس حربة قوى الاشتراكية قد انتقل، في هذا التحالف الطبقي على الصعيد العالمي، من البروليتاريا في الغرب إلى الأنوية البروليتارية في الأطراف، توازيا مع الظاهرة الامبريالية، من هنا كانت هيمنة الاشتراكية–الديموقراطية لدى البروليتاريا في الغرب، ومن هنا أيضا كانت إمكانية قيام تحالف ثوري عمالي–فلاحي في الأطراف. إن حجة اللذين يذكروننا باستمرار بالتناقض الجوهري بين البورجوازية والبروليتاريا، لا تفيدنا بشيء في هذا الجدال: فالبروليتاريا موجودة هنا وهناك على الصعيد العالمي. والحال أنه في برهة محددة من التاريخ تكون بعض قطاعات البروليتاريا أكثر تقدما من غيرها. والاستشهاد بماركس لن يفيدنا في شيء ما دامت ظاهرة الامبريالية قد رأت النور بعده، وقد يفيدنا الاستشهاد بلينين بعض الشيء، ما دام هو أول من حلل الامبريالية جذريا ... غير أنه توفي منذ عام 1924 ... وقد استمر النظام من بعده، وتطورت الصراعات، وتبدلت الأمور، كما أن لينين كان مهتما بالدرجة الأولى بالصراع ضد النزعة التحريفية داخل الأممية الثانية، وبالتهيئة للثورة الروسية، وقد وضع التحريفية في إطار صحيح هو إطار الامبريالية، غير أنه لم يعط جوابا لكل ما حصل في عصره، فبالأحرى لما بعده. ..... أود هنا أن أتجنب التباسا إضافيا: إن التنبؤ بمجرى التاريخ أمر مستحيل، كل ما في الأمر أنه يتوجب علينا أن نشدد على علاقة جدلية بين الصراعات في المركز والصراعات في الأطراف. ففي ظرف محدد، أي من، من هذه الصراعات يكون هو الرئيسي؟ وأيها يكون هو الثانوي؟ بتعبير آخر، من منها يؤثر نوعيا على الآخر؟ لقد كان الميل الأساسي حتى الآن (أي بين 1870 و 1979) كما يلي : إن صراعات التحرر القومي بدرجاتها المختلفة – من أعلى درجاتها المتمثلة بقبض البروليتاريا على زمام الأمور و بالقطيعة مع الامبريالية، إلى أضعف تلك الدرجات المتمثلة بسيطرة البورجوازية و بانتزاعها بعض التنازلات التي يجري استردادها عن طريق التكيف المتجدد للنظام الامبريالي – هي محرك التاريخ المعاصر، إذن فتوسع القاعدة الموضوعية للاشتراكية – الديموقراطية في المركز، أو تقلصها، كان منوطا في جوهره بنضالات التحرر هذه على امتداد قرن من الزمن، بما رافقها، بطبيعة الحال، من حركات مد و جزر، و ذلك ما دامت هذه المقاومات و هذه الصراعات لم تتطور وفق خط مستقيم، بل كانت تحرز الانتصارات تارة، و تمنى بالهزائم طورا، سواء أكانت بقيادة البروليتاريا أم بقيادة البورجوازية.
2) لكن هل حركة التحرر القومي هي فعلا ما أدعيه: محرك التاريخ، والقوة الرئيسية لبزوغ الاشتراكية؟ ... فمنذ عام 1880 باتت الواقعة الامبريالية تتحكم بسائر الأحداث الهامة، وتثقل بوطأتها على سائر المواجهات، وتعين حلولها. ومنذ عام 1880 أيضا، برز نضال التحرر القومي وراح يكتسب بالتدريج وزنا وأهمية. في طور اول، من1880 إلى 1914، لم يكن نضال التحرر القومي قد أصبح بعد المحرك المباشر للتاريخ، غير أن ثورة الطبقة العاملة في مركز النظام كانت قد كفت عن أن تكون كذلك، أعني محرك التاريخ المباشر. لهذا السبب كان هذا الطور "العصر الذهبي" للإمبريالية. فقد خضعت الطبقات العاملة لبورجوازياتها الامبريالية، وإن كان المدى المأساوي لهذا الخضوع لم يتضح إلا في عام 1914. .... وكانت حركات التحرر قد دخلت طور التكون، غير أنها لم تكن قد خرجت بعد من الطور ما قبل الرأسمالي، فقد كانت تلح على "مقاومة العدوان" أكثر من إلحاحها على "التحرير". لهذا السبب انفردت التناقضات ما بين الدول الامبريالية باحتلال واجهة الأحداث في تلك الحقبة الزمنية: إنه العصر الذي أسمته البورجوازية ب "العصر الجميل"، حيث كانت دبلوماسية الدول العظمى هي المحرك المباشر للتاريخ. وقد اختتمت هذه الحقبة بالحرب العظمى، وبالثورة الروسية، وبحركة 4 مايو في الصين، وبكمال أتاتورك، وبإنشاء حزب الوفد المصري، وحزب المؤتمر الهندي، الخ.
بين عامي 1918 و1945: لم تعد التناقضات ما بين الدول الامبريالية، التي كانت لا تزال قائمة بين المنتصرين والمهزومين في عام 1918، لم تعد هذه التناقضات تنفرد باحتلال واجهة الأحداث، فقد انشغل هذا العصر أيضا بصعود الثورة الروسية، ثم بمراوحتها مكانها وتراجعها، وبصعود الثورة الصينية، وبصعود حركات التحرر في القارات الثلاث (النزعة الشعبوية الأمريكية – اللاتينية، الفتن والثورات الاستقلالية الحديثة المقموعة في آسيا وإفريقيا). ... وجاءت أزمات ما بعد الحرب، ثم أزمات 1930 لتدفع بهذه التناقضات الاجتماعية إلى المقدمة. وقد انتهت هذه المرحلة بالحرب العالمية الثانية، التي سجلت نهاية الصعود الجديد للحركة العمالية الغربية، في حين استمر تطور القوى الأخرى، قوى الاتحاد السوفياتي وقوى التحرر القومي. بعد عام 1945 بدأت مرحلة ثالثة، تأكد خلالها رجحان كفة حركة التحرر القومي، واحتلالها واجهة الأحداث. فقدت التناقضات بين الدول الإمبريالية الكثير من حدتها، نتيجة الهيمنة الأمريكية – إلى حد أن الأطروحة الاقتصادوية القائلة بوجود "الامبريالية العليا" تبدو وكأنها ثبتت صحتها: فالدولة تصبح أداة طيعة للشركات المتعددة الجنسيات التي تجبل العالم على صورتها. ونلاحظ في الوقت نفسه أن الحركة العمالية الغربية قد عجزت عن تجاوز هزيمة الثلاثينات والأربعينات وتخطيها: فتبعيتها ليست أقل مما كانت عليه قبل عام 1914. أما الاتحاد السوفياتي – المحصور داخل حدود منطقة نفوذه – فهو لا يظهر على الحلبة الدولية إلا بالاتصال مع حركة التحرر القومي، ولا يكتسب بعدا عالميا إلا بالتحالفات التي يعقدها معها. وخلال ربع القرن من الزمن هذا اكتمل التحرر القومي في آسيا الشرقية وفي كوبا، مفسحا المجال أمام انتقالات اشتراكية ممكنة، في حين لم تحقق حركة التحرر في مناطق أخرى سوى هدفها الأول – الاستقلال السياسي – من دون أن تفسح المجال أمام مثل هذه الانتقالات. هل إنجاز هذا الهدف – أي الاستقلال السياسي – من شأنه أن يضع حدا لحركة التحرر القومي ولطاقاتها الكامنة على إحداث تحول اشتراكي؟ تلك هي أطروحة جيرار شاليان ... لكن هذه الأطروحة خاطئة في نظري، إذ أنها تجعل هدف التحرر القومي مقتصرا على الاستقلال، والحال أن الاستقلال لا يحل تناقضات رأسمالية الأطراف ... ("نمط الإنتاج الكولونيالي") ... ("نمط الإنتاج الكولونيالي الجديد") ... لهذه الأسباب يفترض شاليان أن زمن حركة التحرر قد ولى، ويقترح إطلاق اسم "الصراع الطبقي الداخلي". ... والخطأ هنا يكمن في التعامي عن أن هذا الصراع الطبقي يدور في إطار التحرر القومي الذي لم يكتمل بعد، وبورجوازيات العالم الثالث تحاول "الاستمرار" بهذا النضال – نضال التحرر القومي – مع احتفاظها بقيادته، ولا يسع الطبقات الشعبية أن تتجاهل هذا النضال، تماما كما لم يسعها في الماضي أن تتجاهل هدف الاستقلال. لكن عليها، بفضل استقلالية حركتها، أن تفرض قيادتها له، وأن تفسح بالتالي المجال أمام الانتقال إلى الاشتراكية. أجل، إن التحرر القومي لا يزال يشغل مقدمة الأحداث، والتاريخ –التاريخ وحده (لا "النظرية"، فبالأحرى "الماركسولوجية") - هو الذي سيقول إن كان التحرر القومي سيتوافق مع نهوض جديد للحركة العمالية في الغرب. 3) تأخذ المناقشات حول استراتيجية المرحلة الجديدة للتحرر القومي أهمية عملية عندما يعاد وضعها في هذا الإطار، إطار الثورة المتواصلة والمتدرجة مرحليا. إن الطابع التناقضي للتحرر القومي يفصح عن نفسه من خلال هذه الواقعة المزدوجة: فمن جهة أولى يخلق كل انتصار جزئي شروط تعمق جديد في تطور الرأسمالية، وهذا التطور عينه، من جهة أخرى، باعتباره تطور الرأسمالية الطرفية التابعة، لا يخفف من حدة التناقضات بين الجماهير الشعبية، وبين الامبريالية وحلفائها، وإنما بالعكس فهو يزيده حدة. على صعيد آخر، فإن مقاومة الأطراف المظفرة قد أدت إلى تسارع هبوط معدل أرباح احتكارات المركز، وإلى نقل التناقض إلى الطبقات العاملة في المركز، وإلى رسم سياسة اقتصادية هادفة إلى إعادة إنشاء جيش احتياطي في المركز، ولو جزئيا على الأقل. وقد عمدت الامبريالية في نفس الوقت إلى رص صفوفها: فالبورجوازيات الامبريالية المتروبولية الثانوية انضوت من جديد تحت لواء الشطر الأمريكي المسيطر، بغية تشكيل جبهة مشتركة تسمح بالحد ما أمكن من انتصارات حركات التحرر القومي في الأطراف، وبالتالي، التخفيف من حدة التناقضات في المركز. ... فخلال قرن من الزمن كان الميل الرئيسي هو أداء نضال التحرر القومي دور محرك التاريخ. وهذا يعني أن سائر النضالات الأخرى، بما فيها النضالات في المركز، قد تحددت بالارتباط بهذا النضال الرئيسي في النظام الرأسمالي العالمي وبالنسبة إليه. لا ريب في أن نضالا طبقيا على هذا الصعيد لا يمكن أن يفهم على أنه مجرد تجميع لجملة من الصراعات الطبقية في بلدان مختلفة، ولأنماط إنتاج مختلفة، الخ، لا تربط بينها سوى علاقات عابرة أو ناجمة عن المصادفة، بل هذه الصراعات منظمة قياسا إلى تحالف طبقات على مستوى عالمي، و وفق موقع مختلف أجزاء الطبقات في هذا التحالف العالمي، الذي يحدد ما هي الأقسام الطليعية، و ما هو "سواد الجيش"، و العدو الرئيسي، الخ. لكن هناك رؤية ثانية للأمور، تقف على طرفي نقيض من سابقتها، فتؤكد أن التناقض بين البروليتاريا والبورجوازية في مركز النظام لا يزال التناقض الرئيسي للنظام برمته، وهذه الأطروحة تعتبر أيضا أن حركة التحرر القومي تشكل جزءا لا يتجزأ من الثورة البورجوازية العالمية. وهذه الأطروحة السائدة علنا، لا داخل التيارات العمالية الاشتراكية – الديموقراطية فحسب، وإنما أيضا داخل تيارات الشيوعية التحريفية، بل كذلك داخل المعارضة "اليسارية" في الغرب ضمنيا، إنما تشهد على الهيمنة الإيديولوجية الاشتراكية – الديموقراطية، ولقد كانت في الماضي هي أطروحة الأممية الثانية، التي كانت تبرر على هذا النحو انحيازها إلى الإيديولوجيا الامبريالية. وكان من المفروض أن يكون لينين قد حرر منها الحركات التي تقف "على يسار" الاشتراكية – الديموقراطية: لكن ذلك لم يحصل على الإطلاق. وسوف يظل أنصار هذه الأطروحة مغمضين أعينهم عن تطور رأسمالية الأطراف، وهم لا يرون – ما دامت أطروحتهم مطالبة بإنكار الامبريالية– أن رأسمالية الأطراف رأسمالية تابعة وعاجزة عن تحقيق هدف التحرر القومي، وغير قادرة بالتالي على تحريك سائر الطاقات الكامنة للثورة الاشتراكية. بالمقابل فإنهم يصرون على عزو هيمنة الاشتراكية – الديموقراطية في الغرب إلى عوامل ذاتية وظرفية. لهذا السبب أزعم أن هذه الرؤية الثانية تطور صيغة من الإيديولوجيا الامبريالية، قد تأخذ أشكالا "يسراوية" بل "يسراوية" متطرفة.
الفصل الرابع: من جديد حول النزعة الغربية المتمحورة على ذاتها
1- إن النزعة الغربية المتمحورة على ذاتها هي من نتاج الرأسمالية ... وتتجلى هذه النزعة على نحو مباشر في انعدام كل اهتمام بالمجتمعات غير الغربية، الأمر الذي يلحق تشويها خطيرا بتاريخ الغرب نفسه، ذلك أنه يتعذر فهم الغرب من دون العودة إلى الشرق، إن في الماضي، في العصر المركنتيلي، وإن اليوم، في العصر الامبريالي. فالمكاسب التي تحققها شعوب الغرب من وراء استغلال الأطراف، في الإطار الامبريالي، تشكل القاعدة الموضوعية لتوغل النزعة الغربية المتمحورة على ذاتها داخل صفوف الحركة العمالية، مفسحة بالتالي المجال أمام إيديولوجيا البورجوازية كي تصبح إيديولوجيا المجتمع بأكمله، الأمر الذي لم تكن قد تمكنت من تحقيقه تماما قبل المرحلة الامبريالية. لقد غدت الأمم الغربية أمما لبورجوازيات أصغر فأصغر، بمعنى أنه تتركز فيها شرائح متوسطة يتعذر فهم وظائفها بمعزل عن اشتغال النظام العالمي بأكمله، كما أوضح ذلك بولانتزاس. إن تضخم القطاع الثالث الذي غدا غير منتج، واحتمال تركز القطاع الرابع في حال حصول تقسيم دولي جديد يحيل بعض الصناعات إلى الأطراف، يقابلان بتركز تولد فائض القيمة في الأطراف من جراء الاستغلال المباشر بمعدلات أكثر ارتفاعا لفائض القيمة، والسيطرة الشكلية على القطاعات ما قبل الرأسمالية ونهب الموارد الطبيعية إلخ. إن إعادة البناء التي يقتضيها الانتقال الاشتراكي بالنسبة إلى المجتمعات المركزية، ستخلق، في مثل هذه الشروط، مصاعب جمة. إن الالتباسات التي تحيط بمواقف الحركات الشعبية والعمالية في الغرب تفضح تراجعها الانتهازي أمام هذه المشكلات. فالسؤال الذي يطرح نفسه في الواقع، يتلخص في معرفة من سيتحمل في النهاية فاتورة فائض أرباح الاحتكارات ...؟ إننا نرى اليسار الغربي يقف، بلا تردد إلى جانب الامبريالية ... وقد عرفت البورجوازية الغربية تماما كيف تستغل نقطة الضعف هذه، فقد توصلت، دون مواجهة صعوبة تذكر، إلى ترويج فكرة مفادها أن للأمم الغربية الحق في ثروات العالم الطبيعية، وأنه لا يتعين على شعوب البلدان المتقدمة أن تكابد من أطماع مشايخ الطرف و بيروقراطيته. إن النزعة الغربية المتمحورة على ذاتها تلحق بالماركسية تشويها شاملا."
يقول سمير أمين:
"أن عطاء اللينينية يتلخص قبل كل شيء في نظرنا في تطبيقها المنهج الماركسي على شروط العصر الامبريالي الجديد. وقد سمح هذا الإطار للينين بأن يحلل تحليلا سليما تحريفية الأممية الثانية، بردها إلى أساسها الموضوعي، وبأن يصوغ، انطلاقا من هذا الموقف، استراتيجية الثورة الاشتراكية وفق الشروط الجديدة للتطور اللامتكافئ داخل النظام الإمبريالي. أما عطاء الماوية فهو يتلخص في المقام الأول في استخدام المنهج الماركسي لتحليل شروط الصراع الطبقي في المرحلة الانتقالية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يتبع بحلقة رابعة توجد الحلقة الثالثة من هذه الدراسة بصيغة بدف على موقع 30 غشت http://www.30aout.info
#موقع_30_عشت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية
-
الحزب الماركسي ـ اللينيني الثوري في خط منظمة -إلى الأمام-
-
حول كومونة باريس وما بعدها التجربة والدروس
-
بصدد العدوان الدموي التصفوي الصهيوني على الشعب الفلسطيني
-
كلمة الموقع في هول الكارثة الزلزال
-
تحت أعواد المشنقة ـــ يوليوس فوتشيك
-
الثورة الفرنسية ــ إعلان حقوق الإنسان والمواطن 26 غشت 1789 و
...
-
كتاب: -الأقدام العارية ـــ الشيوعيون المصريون: 5 سنوات في ال
...
-
موقف البلاشفة أمام القضاة البلاشفة في الاستنطاقات وأمام الن
...
-
إصدار جديد: محاكمة ماركس ورفاقه في -عصبة الشيوعيين- محاكمة
...
-
بيان هام: جواز تلقيح أم إبادة جماعية
-
إصدار جديد لموقع 30 غشت: -أزمة الرأسمالية العالمية والصراع ا
...
-
إصدار جديد لموقع 30 غشت: -ما يجب أن يعرفه كل ثوري عن القمع-
-
في الذكرى 51 لتأسيس المنظمة الماركسية اللينينية المغربية -إل
...
-
أزمة الرأسمالية العالمية والصراع الطبقي البكتيريولوجي - وجهة
...
-
- ما يجب أن يعرفه كل ثوري عن القمع - فيكتور سيرج - الحلقة ال
...
-
الحلقة الخامسة: - ما يجب أن يعرفه كل ثوري عن القمع - فيكتور
...
-
الحلقة السادسة والأخيرة: منظمة -إلى الأمام- الماركسية الليني
...
المزيد.....
-
الجيش الأوكراني يتهم روسيا بشن هجوم بصاروخ باليستي عابر للقا
...
-
شاهد.. رجل يربط مئات العناكب والحشرات حول جسده لتهريبها
-
استبعاد نجم منتخب فرنسا ستالوارت ألدرت من الاختبار أمام الأر
...
-
لبنان يريد -دولة عربية-.. لماذا تشكّل -آلية المراقبة- عقبة أ
...
-
ملك وملكة إسبانيا يعودان إلى تشيفا: من الغضب إلى الترحيب
-
قصف إسرائيلي في شمال غزة يسفر عن عشرات القتلى بينهم نساء وأط
...
-
رشوة بملايين الدولارات.. ماذا تكشف الاتهامات الأمريكية ضد مج
...
-
-حزب الله- يعلن استهداف تجمعات للجيش الإسرائيلي
-
قائد الجيش اللبناني: لا نزال منتشرين في الجنوب ولن نتركه
-
استخبارات كييف وأجهزتها العسكرية تتدرب على جمع -أدلة الهجوم
...
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|