|
الشئ الذي لم أشبع منه طول عمري !
حبيب تومي
الحوار المتمدن-العدد: 1763 - 2006 / 12 / 13 - 11:02
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
اليوم ارتأيت ان اكتب مقالاً بعيداً عن السياسية والهموم اليومية لشعبنا ، وكان الأختيار على موضوع شخصي لازمني طيلة حياتي على مدار ستة عقود ونيف ، ونطرح من هذه الفترة حقبة الطفولــة وقليلاً من فترة الشــباب المفعمة بالحيوية والمثابرة والزاخرة بالعمل والأقدام والمغامرات . لقد توصلت الى قناعة مفادها : ان كثير من اهتمامات الحياة بمباهجها وأحزانها ، لها حدود ويمكن ان يبلغ المرء معها تخوم الأشباع وقد يصل الأمر الى التبرم والملل . لقد انخرطت في العمل السياسي منذ فترة الشباب بقناعتي الشخصية الكاملة ، واعتقد لم يكن هنالك قوة على الأرض كانت تستطيع ان تثنيني عن عزمي وإرادتي في اختياراتي السياسية . ويوم افتراقي من هذا العمل كان بمحض أرادتي وبقناعتي الشخصية دون ان اهتم بعوامل الضغط او اساليب الأضطهادات التي كانت تمارسها السلطات بحق العاملين في هذا المجال . لقد توصلت بيني وبين نفسي الى سدّ منيع يمنعني من الأستمرار بهذا الطريق لعدم جدواه وهذه كانت قناعة شخصية لم يمليها علي شخص او جهة معينة . ثم كان العمل الوظيفي حيث كنت اجد فيه متعة لما فيه من سفر وترحال بين الموانئ والعمل البحري ، والصيد في اعالي البحار وما كان يصادفنا من غرائب المخلوقات البحرية وما يعتري الحياة في هذا المحيط من مصاعب وغرائب ومخاطر ، فكنت أجد في كل ذلك متعة وأرى فيها ديناميكية للحياة . لكن بعد نشوب الحرب مع ايران وتحولنا الى موظفين حكوميين عاديين ، سئمت الحياة الوظيفية لما فيها من روتين غير متجدد يبعث على الممل ، مما دفعني الى الأستقالة رغم ما ترتب علي من مبالغ جراء هذه الأستقالة . ثم كان هنالك الأنخراط بالأعمال التجارية ، في هذا العمل استطعت ان احقق نتائج مالية مهمة بالعمل في مجال المشروبات الروحية ، لكنني طلقت العمل وبما فيه من أرباح بسبب هيمنة الجهات الأمنية على هذا القطاع والنظرة الدونية الخاطئة للعاملين في هذا القطاع فارتأيت ان اهجر هذا العمل مع أرباحه الى غير رجعة . وقع اختياري هذه المرة على العمل في قطاع البناء وتجارة الأراضي وتشييد البيوت والعمارات والمتاجرة بها ، ورغم خبرتي القليلة في اعمال البناء ، لكن رغبتي الشديدة وتعلقي بهذه المهنة كان وراء الألمام بدقائق الأمور في هذا القطاع الحيوي الذي يحتاجه وطننا ، إن العمل الشاق والتعب المضني لم يمنعاني من ألأستمرارية والمثابرة . لقد كان يستهويني أن أجلب الخبز والتمر والطماطة والجبن الأبيض كغذاء للعمال ونفترش الأرض وأتربع معهم ونبدأ بالأكل واعتبر هذا الخبز والتمر والجبن اطيب وألذ طعام على الكرة الأرضية . لقد كانت تغمرني السعادة حينما أنتهي من تسقيف الدار بالصبة الكونكريتية ، وكنت في اليوم التالي أقف على السطح وأقول كم هو عملي مهماً ، لقد خلقت من قطعة ارض خالية مسكناً رائعاً وكنت أعتبر ذلك انجازاً كبيراً في الحياة . اليس العمران منهج لتقدم الحياة في كل المراحل التاريخية للتطور البشري ؟ وهنا تكون الرياح أيضاً قد هبت بما لا تشتهي السفن ، فكان قراراً حكومياً يحصر امتلاك العقار في بغداد لمن له سجل في تسجيل عام 1957 فحسب ، وهذا القرار وضع حداً لأعمالنا العمرانية ولطموحاتنا الشخصية . لم أتخيل في ذهني في يوم من الأيام فكرة الهجرة من العراق ، وكان لي في ذلك الوقت نصيب كبير في الحصول على الهجرة لأية دولة اختارها دون صعوبات كبيرة ، لكن بعد الظروف التي ألمت بالعراق بدأت فكرة الهجرة تختمر في ذهني ، وهنالك من يقول : ان الوطن حيث تكون كرامتي محفوظة وليس بالضرورة حيث نشأ ودفن أجدادي . المهم تجرعت سم فكرة الهجرة راضياً بعدما حل بالوطن ما حل والى اليوم . في سلسلة طويلة من الأعمال والمفارقات ولحظات الأفراح والأتراح ، كان معي دائماً صديقاً حميماً لا يفارقني أبداً ، وهذا الصديق الوفي هو الكتاب ، وهذا الكتاب هو قرين الفكر والأبداع . فإن كنت في كل مرحلة عمرية ، او ظروف عائلية او ضرورات معيشية كنت أتحول من نشاط الى آخر لكن ثمة امراً او شأنا او شيئاً واحداً بقيت متعلقاً بأذياله لا استطيع الأنفصام عنه ، واعتبرته عضواً مهماً من جسمي وكياني وشخصيتي ، وهذا الشئ هو كالغذاء او الهواء او الماء لا استطيع مفارقته او الأستغناء عنه ، إنه ببساطة " الفكر " الفكر هو الكتابة هو القراءة هو الحوار هو الرأي ، لكن واحة الفكر هذه تبقى جرداء كئيبة ما لم يداعب نباتاتها وأشجارها وأغصانها وأورادها ، نسيم الحرية . كلما أقرا كتاباً أشعر بأن ثمة امامي مزيداً من الكتب علي قراءتها ، لا بل إنني بحاجة ماسة اليها ، وكلما كتبت شيئاً أشعر ان هنالك اشياء كثيرة تنتظرني لأكتب عنها . وهكذا يطلقني الفكر ويتركني سارحاً في طريق يمتد نحو اللانهاية . يرى سبينوزا في الناس الحكماء بأنهم صالحون بفضل عقولهم ، إنهم رجال يسترشدون العقل في البحث عما ينفعهم ويحبون لأنفسهم ما يحبون لغيرهم . أما فولتير الذي كان انتاجه الفكري أعظم انتاج في عصره فيقول : ان من لا يعمل لا قيمة لحياته ، وكل الناس أخيار إلا الكسالى . وتقول سكرتيرته انه لم يكن بخيلاً بشئ سوى بوقته وهو يقول : كلما تقدمت في العمر أكثر شعرت بضرورة العمل اكثر واصبح العمل لذتي الكبرى .. وإن أردت ألا ترتكب الأنتحار فأوجد لنفسك عملاً . هكذا إذن الحياة هي السيرورة في العمل ، لكن يأتي العمل الفكري تاجاً مهيباً لكل هذه الأعمال وللحياة نفسها
#حبيب_تومي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
يا عقلاء الأسلام صافحوا هذا الرجل إنه إنسان عظيم
-
حكومتنا .. لأنها تؤمن بالديمقراطية فعليها ان تستقيل
-
لماذا يسكت عقلاء الأسلام على ذبح الأقليات الدينية العراقية ؟
-
الأستاذ مسعود البارزاني واستراتيجية إقامة الدولة الكردية 4
-
يشوع مجيد هداية شهيد الوطن العراقي
-
حتى أنت يا قس عمانوئيل يوخنا!
-
نعم نعم لوحدة شعبنا ولمشروع الحكم الذاتي
-
منصور أودا استاذ في الرياضيات والتراث الألقوشي
-
مسعود البارزاني واستراتيجية إقامة الدولة الكردية -3
-
أحبائي الشيعة .. الأسلام السياسي الشيعي فشل في حكم العراق
-
وبعد مبايعة كنائسنا للسيد سركيس آغاجان .. ما العمل ؟
-
الأستاذ مسعود البارزاني واستراتيجية إقامة الدولة الكردية الح
...
-
الأب يوسف حبي وعظمة بابل
-
الأستاذ مسعود البارزاني واستراتيجية إقامة الدولة الكردية / ا
...
-
معذرة استاذ سركيس آغاجان دمج تسمياتنا يفقدها إصالتها التاريخ
...
-
ابن القوش .. ابن العراق الشهيد فلاح زرا .. لماذا يقتل ؟
-
قراءة نقدية لثلاث محطات من برنامج الحزب الشيوعي العراقي
-
قداسة البابا والعالم الأسلامي وجدلية حرية الفكر
-
حكومتا العراق وأقليم كردستان معنيتان بمنح الحكم الذاتي لمسيح
...
-
تسييس الدين وأخطار الحكم الثيوقراطي في العراق
المزيد.....
-
ترامب يهدد بفرض رسوم جمركية.. كيف يؤثر ذلك على المستهلك؟
-
تيم حسن بمسلسل -تحت سابع أرض- في رمضان
-
السيسي يهنئ أحمد الشرع على توليه رئاسة سوريا.. ماذا قال؟
-
-الثوب والغترة أو الشماغ-.. إلزام طلاب المدارس الثانوية السع
...
-
تظاهرات شعبية قبالة معبر رفح المصري
-
اختراق خطير تكشفه -واتساب-: برنامج قرصنة إسرائيلي استهدف هوا
...
-
البرلمان الألماني يرفض قانون الهجرة وسط جدلٍ سياسيٍ حاد
-
الرئيس المصري: نهنئ أحمد الشرع لتوليه رئاسة سوريا خلال الم
...
-
إسرائيل.. تخلي حماس عن السلاح أو الحرب
-
زكريا الزبيدي يتحدث لـRT عن ظروف اعتقاله
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|