|
أحذية ومقامات
نبال شمس
الحوار المتمدن-العدد: 1764 - 2006 / 12 / 14 - 10:43
المحور:
الادب والفن
لست متأكدة تماما أن أحدا من قبلي كان قد فكر بكّم القوانين الهائل، الذي يرافق انتعال وخلع الأحذية، فلكل حذاء مقام. أذكر أحذية ضيوف أمي, فقد كان لها زاوية خاصة في بيتنا ممنوع الاقتراب منها، حتى فضولي لانتعال تلك الأحذية كان نهايته عقابا، لعلي كسرت كعب احداهن أو طقطقت على مسمع ضيوفها. وقتها لم أكن أفهم معنى الطبقية وربما اكتشافي كان متأخرا للطبقية في المجتمع وحتى في أحذيتنا، فلماذا كانت أحذية صديقاتي تركن دائما في الخارج على استراحة الدرج وأحذية الضيوف بجانب السجادة وأحيانا عليها؟
هذه المرة الأولى التي أفكر بها في موضوع الأحذية ومقاماتها وربما السبب هو كتابتي لنصي هذا، عندما كنا سبعة أشخاص داخل الصف، والثامن كعادته كان متأخرا عن الدوام, ليس كسلا بل تمردا على القانون الذي يحاصرنا حتى ونحن في أمّس الحاجة للتحرر منه. فقد نشأت اكره القانون وأحب الفوضى التي حرمت منها مرارا عندما كنت صغيرة، لهذا كان تأخر الطلاب لا يزعجني بل لا أعيره اهتمامي, و أحيانا كثيرة لا أعقب عليه، لكن رعبا من القانون الذي علمونا الخوف منه، أحاول أن أكون صارمة مع طلابي بالحفاظ على قوانين المدرسة، متناسية صرامتي مع ذاتي أولا.
ذلك اليوم كان آخر أيام حزيران قبل خروج الطلاب للعطلة الصيفية التي أحبها من اجلي, وأكرهها من اجلهم، لأنهم سيكبرون سنة دراسية أخرى وسيعانون مرة أخرى من القانون ومن اللباس الموحد والوظائف البيتية على حساب طاقتهم المخزونة التي لا يفرغها سوى القفز والنط. هم كذلك طلابي ذوو اعسار تعليمية وحركة زائدة، عسر تعليمي؟! أي كفر وأي عيب هذه الكلمات.؟
جمعتهم حولي على شكل دائرة، رسمت لهم حقيبة وقلت لهم:
فكروا بثلاثة أشياء، تريدون أخذها معكم في هذه الحقيبة للمرحلة الإعدادية. ما هذا الهراء الذي اطلبه منهم؟
لو كنت مكانهم لما ذهبت إلى الإعدادية ولما كبرت سنة أخرى وتعلمت تاريخ امة أخرى، واضطررت لحل مسائل الرياضيات. لو كنت مكانهم, لبقيت أصغر طفلة بالابتدائية.
فجأة، فتح الباب وإذا بالثامن يدخل الصف مدخلا معه الضجة، لكن تلك الضجة كنا معتادين عليها ولم لو تحدث يوميا، لمّر اليوم بغير ما تعودنا عليه. دعَوته للجلوس في دائرتنا السحرية وشرحت له ماذا نفعل، لكني أيقنت أن ما نفعله لم يثر اهتمامه. بعد أن انتهت الضجة وجلس مكانه، أعطيتهم الوقت الإضافي للتفكير، بعد لحظات فوجئت ا به يتسلل خلفي ظنا منه أني لا أراه، أردت أن اعرف ماذا سيفعل، لهذا تجاهلت أمر تسلله. بعد ثوان عاد إلى مكانه ومعه حذائي الذي خلعته عندما كنت جالسة مع باقي الطلاب في الدائرة.
أين طار الحذاء؟؟ هل طار مع الهواء أم أن أحدكم وضعه في حقيبته؟؟ من يريد أن يأخذه معه للمرحلة الإعدادية؟؟ ضحك الطلاب كثيرا على الجملة الأخيرة، فقلت لهم إنها لفكرة رائعة أن نأخذ معنا حذاء معلمتنا كي نحذو حذوها في الحياة. تعالوا نفكر ونحن حافيي الأقدام متحررين من كل قانون.
سنفكر الآن ونحن حافيي الأقدام. سنفكر ونحن في موضع التمرد على القانون. ما أروعك يا ريان، يا ملهمي لأفكار جنونية. ليتك سرقت حذائي في بداية السنة لكانت حصصنا أروع وأقصر. أحسست أن طاقتهم سوف تنفجر وحركتهم الزائدة سوف تجدي نفعا.
خرجنا واحدا تلو الآخر من الصف باتجاه الهواء الطلق. تسللنا بهدوء تام لئلا يرانا أحدا من الإدارة. ذهبنا نبحث عن حقيبة أخرى غير الحقيبة التي على اللوح. حقيبة لا نضع فيها شيئا, بل نتركها فارغة لتمتلئ وحدها بعيوبنا، بصدماتنا، بأخطائنا وبطهرنا، دون أن نجهد أنفسنا.
خرجنا حافين, وبدأنا نطوي المسافات خلفنا، فكل مسافة صغيرة كانت عبارة عن حقبة زمنية طويلة، فلم نعرف إلى أين نذهب والى أين سنصل. ظننا أننا نسير نحو عالم آخر. نحو طبيعة أخرى غامضة، ليست كالطبيعة التي أعتدنا عليها، لتلك الطبيعة رائحة أثارت في نفسنا رائحة الانعزال في كوخ يبن الثلوج، بعيدا عن البشر وعن مدائنهم التي يحكمها القانون. تلك الطبيعة جعلتني أحرر طلابي من أحذيتهم وقوانينها.
كم أردت أن أضع الطبيعة في حقيبتي كي أبقى اكتب وأبقى مصغية لذاتي. كم أردت أن أترك طلابي وحدهم يرجعون وأبقى هناك حافية القدمين, بعيدا عن المقامات وعن القوانين وعن أحذية الضيوف.
رائد أراد وضع الحصة في حقيبته. حصة الجنون والتمرد على القانون. سهير أرادت أن تضع الفوضى التي حدثت اليوم. ريان أراد اخذ كل حقائبنا بما فيها. هدى التي سوف لن تذهب إلى الإعدادية أرادت جمع جميع الأحذية لتحتفظ بها ذكرى من أصدقاءها الخارجين.
حقائبنا كانت كبيرة أردنا أن نبني بها مدرسة, دون معلمين دون قانون. أردنا أن نبني بها فوضى جميلة داخل الصفوف، تلك الحادثة التي جعلتنا نهرب من الصف إلى السماء ونعود من السماء إلى الصف مع حقائب ممتلئة فوضى وجنون وتمرد على مقامات الأحذية.
#نبال_شمس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العودة من ارض النور
-
كيف سأعاقب أمي؟
-
برؤية مغايرة -Remorse-
-
وجوهي التسعة
-
رسائل إلى شخص ليس هو , الى برجر سلاين
-
تقمص كائن شتوي
-
ريتا
-
فراشه مجنونة
-
بانتظار الصياد
-
طيف ريمورا
-
نجيب محفوظ : كفرنا بك مرتين
-
صعود اخر
-
حلقات الضوء
-
لغز اليد الممدودة
-
نساء من نبيذ ونار
-
مزامير ثقافية
-
حفر في التعري,قبل قدوم البحر
-
-جوانب أخرى للمرأة في أدب -زياد خداش
-
عري القناديل: امرأة, قصيده ووطن
-
النرجس لا ينبت في نيسان
المزيد.....
-
خريطة التمثيل السياسي تترقب نتائج التعداد السكاني.. هل ترتفع
...
-
كيف ثارت مصر على الإستعمار في فيلم وائل شوقي؟
-
Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي
...
-
واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با
...
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
-
-هاري-الأمير المفقود-.. وثائقي جديد يثير الجدل قبل عرضه في أ
...
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|