أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مالك ابوعليا - المراكز المدينية في المُجتمع الطبقي الباكر















المزيد.....

المراكز المدينية في المُجتمع الطبقي الباكر


مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)


الحوار المتمدن-العدد: 8001 - 2024 / 6 / 7 - 15:26
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


مؤلف المقال: فاديم ميخايلوفيتش ماسون*

ترجمة مالك أبوعليا

الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم

ان أحد السمات التي تُميّز مدرسة طشقند، هي دراستها لأركيولوجيا المُدن القديمة، تضاريسها وبُنيتها الداخلية كما هي مُنعكسة في سمات التنظيم المديني والفردي لتطورها التاريخي. ألقى مُؤلف هذه المقالة عدد من المُحاضرات والدروس المنهجية حول الطوبوغرافية التاريخية للمراكز المدينية الكُبرى في آسيا الوسطى، أي سمرقند وبُخارى وطشقند والعديد من المُدُن الأُخرى، وأُلقِيَت هذه المُحاضرات الدروس في قسم الأركيولوجيا في جامعة طشقند الحكومية. ابتُكِرَت منهجيات مُتعددة لدراسة مُدُن آسيا الوسطى بهدف تحليل البيانات المحفوظة لأغراض اعادة بناء تلك المُدُن نظرياً. ومن أهم سمات هذه المدرسة، هو منهجها الابداعي في دراسة المعالِم الدقيقة للمواقع الأثرية ودراسة اللُقى الأثرية التي تعكس بشكلٍ خاص، عناصر المدينة، من الجُدران والشوارع والساحات والمباني الكبيرة التي كانت موجودةً فوق سطح الأرض. ووفقاً لهذه المنهجية، فإن دراسة طبيعة التُربة نفسها، التي غذَّت أنوعاً مُختلفةً من النباتات، كانت ذو أهميةً كبيرة. وعلى أساس هذه المنهجيات، وَضَعَ مؤلف هذه المقالة، الخطوط العريضة لدراسة المُدُن المهجورة، والتي عَكَسَت بُنية أكبر المُستوطنات المدينية في جنوب تركمانستان. ويبدو أن اتباع هذه المنهجية، هو الأكثر فاعليةً لدراسة المراكز المدينية، وخاصةً تلك التي تعود الى العصور القديمة.
أصبَحَت دراسة هذه المسألة أكثرَ أهميةً في وقتنا الحاضر، لأن العلماء في مؤخراً، قد استرعاهم الانتباه الى مسألة النظر للعضويات المدينية القديمة بوصفها نوعاً من نواة أقدم التشكيلات الطبقية، والتي تُسمى أحياناً دولة المُدُن. تطوَّرَت المراكز المدينية الكبيرة التي كانت موطناً يؤول كثافةً سكانية مُرتفعة، من ظروفٍ قائمةٍ على اقتصادٍ زراعيٍّ مُستقر وكثافةٍ سُكانيةٍ في المناطق الريفية أو الواحات، وأصبَحَت هذه المراكز مخازن لمُختَلف المُنتجات، ومناطق تتركزُّ فيها الأنشطة الحِرَفية والمعابد وأجهزة السُلطة. الى حدٍّ كبير، كانت هذه الوظائف معنية بتنظيم الأنشطة الزراعية الريفية لتي كان لها تأثير هائل على كُلٍ من الزراعة المروية في الشرق الأدنى، وزراعة القطع والحرق التي كانت تُمارَس في أمريكا الوسطى من قِبَل المُجتمعات الزراعية ما قبل الأزتيك في القارة الوسطى الأمريكية. أدّت ضرورة تنظيم حياة المُجتمع في مناطق وسعة الى تشكّل نظام مُعقّد لإدارة الاقتصاد والمُجتمع، والذي أدّى بدوره الى ظهور نظام جديد نوعياً لحفظ المعلومات والخبرات ونقلها الى الأجيال اللاحقة: الكتابة. شجّعَ تعقُّد أنظمة الكتابة الباكرة على تشكّل شريحة خاصة من الكَتَبَة المُحترفين الذين أصبحوا جُزءاً من النظام الاداري الجديد، والذي غيّرَ بشكلٍ تدريجي، أجهزة وطُرُق الادارة الذاتية البدائية. وبهذه الطريقة، كانت هذه المراكز المدينية هي حاملة التقدم الاجتماعي في ذلك العصر. ومع ذلك، استمرت عناصر التشكيلة الاجتماعية البدائية في لِعِبِ دورٍ هام في هذه المُجتمعات الطبقية الباكرة. وهكذا تَلعَبُ دراسة طبيعة وبُنية المراكز المدينية الأولى دوراً حاسماً في تحليل المُجتمعات الطبقية الباكرة.
هناك دراسات كثيرة للغاية خُصِّصَت لهذه المسائل. لقد أولى ايغور ميخايلوفيتش دياكونوف Igor Mikhailovich Diakonoff ومدرسته أهميةً كبيرةً للبُنية الداخلية لمدينة الشرق الأدنى القديمة والتي فسّروها على أساس المصادر المكتوبة. أجرَت مجموعة روبرت ماك آدامز Robert McCormick Adams دراساتٍ مُستفيضة حول تصنيف المستوطنات المدينية الباكرة في بلاد ما بين النهرين وديناميكيات تطورها على أساس الخرائط الأركيولوجية وحسابات الأبعاد المساحية لمواقع مُحددة. نُوقِشَ عدد كبير من المسائل العامة المُتعلقة بالمراكز المدينية الباكرة في مؤتمر لندن والذي خُصص لمسائل الاستيطان والبشر والمُدن. كان اتجاه هذا المؤتمر، في التحليل النهائي، هو دراسة المدينة باعتبارها ظاهرةً مُجردة معزولة من مُحيطها التاريخي العياني، كما لو أنها موجودةً في فراغٍ غير مُرتبط بسياقها. على النقيض من ذلك، يدرُس الباحثون السوفييت المدينة والعمليات المُصاحبة للتطور المديني باعتبارها أحد جوانب تطور المُجتمع.
وقبل أن ننتقل الى أحد الأمثلة التي تُمثّل بحثاً أركيولوجياً في علم التاريخ، دعونا نتأمل مسألتين ذات طابعٍ عام: مسألة تعريف مفهوم "المدينة" القديمة، ومسألة تصنيف المُستوطنات المدينية القديمة. يُمكن تعريف المُدن القديمة، من منظور اجتماعي-اقتصادي، على أنها عُقَد كبيرة أو أماكن يتركز فيها السُكان وأدوات الانتاج، والامكانات الثقافية، حيث تجري فيها الأنشطة التنظيمية والحِرَفية والتجارية الأساسية. ان السمات الشكلية الخارجية للمدينة، التي تتميز قبل كُل شيء بالبناء المُتراص وتطوّر الهندسة المعمارية الأثرية، هي انعكاس للمدينة، بوصفها نُقطةٍ تتركز فيها الأنشطة. من المعروف أنه في بداية المراحل الأولى من تطور المُجتمعات الطبقية الباكرة، صُمِّمَت شرائع خاصة لإقامة مباني الفئات الحاكمة، حيث كانت المعابد والقصور، على سبيل المثال، تقع عادةً في مراكز المُدُن. ويرتبط التحديد الكمّي للكثافة السكانية حسب طبيعة البُنى الاقتصادية، وخاصةً الزراعية المُتنوعة. ومن المعروف أيضاً أن غوردون تشايلد اقترَحَ معياراً للتمييز بين المُدُن والقُرى من خلال حساب عدد السكان، حيث تتكون المُدُن من حوالي 5000 شخص كحدٍّ أدنى. أي أننا اذا أخذنا الرقم المقبول عموماً لكثافة سُكان مُدن الشرق الأدنى القديمة بحوالي 400-500 نسمة لكُل هكتار، أي لكُل 10 آلاف متر مُربع، فإن المدينة كحد أدنى يجب أن تُغطي من 10-12 هكتار، أي 100 ألف الى 120 ألف متر مُربع. ومع ذلك، فإن موقع نوسوس Knossos في كريت، والذي أدّى بوضوح وظائف مدينية، لم تَكُن مساحته تزيد عن 3.5 هكتار، وهذا ينطبق أيضاً على المستوطنات المدينية الصغيرة في آسيا الصُغرى. الى جانب هذه المؤشرات الكمية الخارجية، تُعار أهميةً خاصةً للتغيرات النوعية الداخلية التي سمَحَت بوصف فئة سُكانية خاصة بأنها مدينية.
ينبغي على المرء أن يُحدد أنواع المستوطنات المدينية التي كانت موجودةً في الفترات الأولى من تطورها. يُمكن للوظائف التي كانت تؤديها المراكز المدينية أن تكون بمثابة أساس التصنيف. وهكذا يُمكن تقسيم المُدُن الى مراكز لإدارة المناطق الريفية، ومناطق حِرَفية وتجارية، ومواقع للأنشطة العسكرية والادارية والثقافية والايديولوجية. في كل حالة من هذه، يُجمَع بين عدة وظائف مُختلفة. لم تكن المُدُن القديمة تؤدي وظائف مُحددة وحسب، بل كانت أيضاً عضويات اجتماعية-اقتصادية مُعقدة شكَّلَت جُزءاً اساسياً من تشكيلة اجتماعية اقتصادية. لقد كانت تجسيداً ملموساً وواضحاً لسمات التشكيلة الأساسية. وكما يؤدي استقطاب القُوى الطبقية الى تغاير أساليب وأنماط الحياة على أساس طبقي، فيُمكن للمرء أن يُعيد بناء خارطة التجمعات الطبقية لمناطق مدينية ما، من خلال تحليل أنواع المباني، وعلامات أُخرى في السجل الأركيولوجي الخاص بها.
ولا بُدَّ من الاشارة الى أن منهجية تحليل المُدُن التي ابتكرتها مدرسة طشقند الأركيولوجية، تُفسِح المجال لإعادة البناء النظري لبُناها التحتية. أجريَ هذا النوع من التحليل لموقع التين ديب Altyn-depe المديني، الواقع بالقُرب من قرية مينا Meana في جنوب تركمانستان، حيث وفّرَت لنا المواد التي كُشِفَت على سطح الموقع ومُستوياته العُليا صورةً عن حياة مركز سكاني كبير يُمكن تأريخه حتى نهاية الألف الثالث وبداية الألف الثاني ق.م، أي الى فترة نامازغا 5. كان العمَل المنهجي الذي أجرته في الموقع، الفرقة الرابعة عشرة من البعثة الأثرية التابعة للمُجمع التركماني الجنوبي وبعثة كارا كوم التابعة لمعهد الأركيولوجيا في أكاديمية العلوم السوفييتية في لينينغراد، مُتوجهاً لحل هذه المهمة(أ).
إن التحليل التفصيلي الدقيق لهذا المركز المديني بالتزامن مع الحفريات الأثرية واتساع نطاقه، سَمَحَ لنا بتسجيل العديد من السمات الأساسية للبُنية الداخلية لهذه المُستوطنة. بعد التنقيب والبحث، تم تعيين إحدى المناطق على أنها الميدان المركزي Central Square، والذي كان، على ما يبدو، ذو أهمية بُنيوية، على الأقل في المرحلة الأخيرة من وجود المدينة.
والى الجنوب، يوجد، على ما يبدو، ما كان موقع مدخل أو بوابة قديمة. ولكن كان التحقق من هذا الموقع عن طريق الحفريات الأثرية، أمراً مُعقداً للغاية. لم يتم انتقاء مكان التنقيب الا بعد إجراء تحليل دقيق للتضاريس وطبيعة خراب الطبقات الثقافية القديمة. أما في الغرب، كانت مُنحدرات التل القصير تجعلنا نأمل في تحقيق المزيد من النتائج المُثمرة. كَشَفَت التنقيبات التي أُجرِيَت على هذا المُنحدر الغربي عام 1969 عن بقايا جدار مُحصّن من الفترة المتأخرة وبُرج في زاويته يُحيط بمدخله. كانت جميع هذه الأبنية ذات تخطيطات غير مُتبلورة، ولم تكن تقع على قمة التل، بل في أسفل المُنحدر، وهي سمة يُمكن تفسيرها بالتآكل الشديد. وبعد الاستمرار في التنقيب في المواسم التالية، تم الكشف عن مدخل سابق مُبكر يعود تاريخه الى زمن نامازغا 4 واستمر في وجوه حتى بدايات نامازغا 5. وفي المُقابل، لم يُستَبدَل هذا المدخل الا في فترة انحلال المدينة. ويبدو أن المدخل كان مُحاطاً ببرجين ضخمين، أبعاد كُلٍ منهما x6.2 3 متر، وزُيِّنا بأعمدة مُستطيلة. كان عرض المدخل نفسه 15 متراً، وعلى طوله جُدران تفصل ما يُشبه الطريق الرئيسي، الذي كان عرضه 4-5 أمتار ومُصمم على ما يبدو لسير العربات بعجلات عليه، ويتقاطع مع شارعين أضيق بعرض 1.5-2 متر.
عُثِرَ عند التنقيب، على حوالي 60 من أفران للخَزف ceramic kilns، وهُناك أفران أُخرى عُثِرَ عليها لاحقاً، وكان هُناك أماكن مُخصصة لها في جُزءٍ من المُستوطنة، حيث يبدو أنه كان مركز انتاج كبير للخزف.
بعد التنقيب لفترةٍ طويلة، تم الكشف عن بناء ضخم يمتد بطول 55 متراً. يتكون جُزءٌ من هذا المُجمع من بُرج مُكون من أربع مُستويات أُعيد بناؤه مرتين، وهي تُشبه أبنية الزقورة(ب) ziggurat القديمة في بلاد ما بين النهرين. في عام 1972، عندما وَصَلَ التنقيب عن هذا المُجمّع الى مُستواه الثالث، تم الكشف عن قبر للكهنة الذين دُفِنوا مع هدايا ثمينة في طقوسٍ مُعقدة، وكان بين بين هذه الهدايا رأس ثور ذهبي بقرون مقوّسة مُرصّع بجوهرة فيروزية على جبهته سمَحَ لنا تحليل المواد بتحديد هذا المٌجمّع على أنه مكان عبادة مُخصص لإله القمر، وهو إله يُرمَز له على شكل ثور. وهكذا تم الكشف عن عُنصر يُميّز المُستوطنة، وهو مركز ايديولوجي ضخم.
أظهَرَت هذه البيانات، وبيانات أُخرى كثيرة، أننا لسنا نتعامل في التين ديب مع قريةٍ عادية أو مُستوطنة بدائية تحوي عدداً من المنازل مُتعددة الغُرَف، بل أننا ننظر الى موقعٍ لهُ بُنيةٌ داخليةٌ مُعقدة، مما يسمح لنا بتوصيفه بأنه مركز مديني باكر.
ومن الطبيعي أن يُطرَح السؤال حول بُنية المُجتمع الذي تَرَكَ هذا الموقع، وعن الأوساط الطبقية التي قسّمَت أراضيه المدينية. كَشَفَت التنقيبات 5 و10 عن نوعين من الأبنية المحلية. يُمثّل النوع الأول منازل مُتعددة الغُرَف، ذات طابع يعود الى العصر الحجري الحديث، أما النوع الثاني فيُمثّل منازل للعائلات الفردية. أدَّت الدراسات والحفريات، مدعومةً بدراسة الغطاء النباتي، الى الكشف عن مبنى كبير شبه مُستطيل مُخطط بعناية، أطلقنا عليه اسم "بين الكاهن" the house of the priest (شكل رقم 5). أظهَرَت المزيد من التنقيبات من عام 1973-1975 أن هناك جُزءاً مليئاً بالمنازل الكبيرة، مما أتاحَ لنا أن نُطلق عليه تسميه "حي النُخبة". ارتبطت الأنواع الثلاثة من المنازل بالمستويات الثلاثة لتوزيع الثروة، التي كان يُمكن تتبعها من خلال جرد المواد والقِطَع التي وُجِدَت في القبور التي تقع على مقربة مباشرة من كُل نوعٍ من أنواع تلك المنازل. لقد أتاحت لنا هذه المواد أن نؤكّد أن تخطيطات مدينة التين ديب الباكرة تعكس انقسام المُجتمع الى مجموعات لديها كميات مُختلفة من المُمتلكات ولها مكانة اجتماعية مُتباينة، وأقامت في أحاء مُنفصلة نسبياً.
يسمح لنا تحليل البُنية الداخلية لألتين ديب والمواد التي عُثِرَ عليها أثناء أعمال التنقيب، بالتوصل الى استنتاجات مُعينة حول وظائف المراكز المدينية القديمة التي اكتُشِفَت في الاتحاد السوفييتي. تَبرُز التين ديب، بوضوح، كمركزٍ كبير لاستهلاك مُنتجات الاقتصاد الزراعي. عُثِرَ على حجارة الطحن الدوّارة وأفران الخَبز في كُلٍّ من المُجمعات السكنية. ومع ذلك، لم تكن هُناك مساحة كبيرة لتخزين الحبوب في أيٍّ من المنازل. كُشِفَ عن مُجمّع مُستودعات خاص يتكون من غُرَف صغيرة حول فناءٍ كبيرٍ مُستطيل أثناء التنقيب، وكان يُمثّل نوعاً من مخزن الحبوب العام، وربما كان تحت سيطرة زُعماء المدينة. وكانت مُنتجات تربية الحيوانات مُتناثرةً في مناطق مُتنوعة من المدينة. أكّدَت عالمة الحيوان السوفييتية ن. م. ارمولوفا أن هذه الحيوانات ذُبِحَت بطريقة تؤدي الى تحطيم العظام الكبيرة، وتُشير الى أن الناس ربما لم يكونوا على دراية بتشريح الحيوانات. ومن الواضح أن الرُعاة المُحترفين، الذين نَسيَ المُستهلكون المدينيون مهاراتهم، كانوا يَرعون القُطعان بأنفسهم، على الرغم من أن المواطنين قد يكونوا شاركوا الى حدٍّ ما في هذه الأنشطة. على أيه حال، عُثِرَ على منجل من البرونز في أحد المنازل. في ضوء هذه المُعطيات، يتضح أن التين ديب كانت مُستهلكةً لمُنتجات زراعية واسعة، ومُخزّنةً لها، ومُنظمةً لإنتاجها. إن تطوّر وسائل النقل، أي العربات ذات العجلات التي يجرها جمل أو اثنان قد سهَّلَ هذا النوع من النشاط. عُثِرَ على نماذج مُصغَّرَة لهذه العربات أثناء أعمال التنقيب في التين ديب. تَظهَر الأنشطة الحِرَفية في التين ديب بوضوحٍ استثنائي. صَنَع الخزّافون ما يصل الى ثلاثين نوعاً من الأواني المُوحّدة القياس. كانت المنطقة الكبيرة التي يعمل فيها الحِرَفيون بمثابة ضاحية صناعية مُلبَّدة بدخان عشرات من أفران الفخّار. أظهَرَت الدراسات التي أجرتها ناتاليا نيكولاييفنا تيريخوفا Natalia Nikolaevna Terekhova أن صناعة المعدن، في فترة نامازغا 5، تميّزَت باستخدام سبائك مُتنوعة قام بتحضيرها مُتخصصين حِرَفيين تم تكليفهم بهذه المهام، فمثلاً، حضّروا السبائك في قوالب محشوة بالشمع، وهي قوالب جاهزة على أشكال الحيوانات مثلاً. ويُمكن للمرء أن يتحدث عن تطور التجارة بدرجةٍ أقل، حيث كانت القِطَع العاجية التي جُلِبَت من حضارة هارابان القديمة Harappan، زينةً شائعةً تستخدمها الطبقات الثرية في المُجتمع.
يُشار الى أن التحصينات كانت ضعيفة التطور، وهو ما يتوافق بشكلٍ عام مع ضُعف تطور الشؤون العسكرية عند المُجتمعات التي كانت تتطور سلمياً على أطراف العالَم الأكثر تقدماً، أي بعيدةً عن الصرعات السياسية والمواجهات العسكرية التي كانت تعصف ببلاد ما بين النهرين والشرق الأوسط عموماً. في الواقع، نادراً ما عُثِرَ على أسلحة في التين ديب، ولا تُظهِرُ مئات الهياكل العظمية التي قامت تاتيانا بيتروفنا كياتكينا Tatyana Petrovna Kiyatkina بتحليلها، أي دليلٍ على الجروح والكسور الناجمة عن المعارك.
وهكذا، تقف التين ديب أمامنا كعضويةٍ مدينيةٍ باكرة، ذات بُنية داخلية مُحددة ومُنقسمة مناطقياً على أساسٍ طبقي، مدينة تلعب دور مركز اقتصادٍ زراعي وأنشطة حِرَفية وايديولوجية. على الرغم من أن التين ديب تمتلك سمات تطورت في المراكز المدينية الباكرة في الشرق القديم، الا أنها تطوّرَت بشكلٍ طبيعي من قاعدتها الزراعية المحلية. تم تحصيل هذه النتائج بفضل الأعمال الأثرية المُخططة للموقع وتحليل بُنية المدينة، على أساس المنهج الذي ابتكرته مدرسة طشقند الأركيولوجية.

* فاديم ميخايلوفيتش ماسون 1929-2010 أنثروبولوجي ماركسي ودكتور في العلوم التاريخية ورئيس معهد تاريخ الثقافة المادية في أكاديمية العلوم السوفييتية-الروسية 1982-1998. تخرّج من القسم الاركيولوجي لمعهد التاريخ في جامعة وسط آسيا الحكومية. دافَعَ عام 1954 عن اطروحته في الدكتوراه المُعنونة (الثقافة القديمة لداغستان- مسائل تاريخية وأركيولوجية). وفي عام 1962 دافع عن اطروحة الدكتوراة (التاريخ القديم لوسط آسيا-منذ نشوء الزراعة وحتى حملات الاسكندر الأكبر)، وبعد هذا عمِلَ في القسم القوقازي لمعهد تاريخ الثقافة المادية السوفييتي وصار رئيساً لهذا القسم عام 1968. ألّفَ ماسون لوحده أو بالتعاون مع علماء آخرين أكثر من 32 كتاباً و500 مقالة نُشِرَت في الاتحاد السوفييتي وبريطانيا وألمانيا الديمقراطية والغربية واليابان وايطاليا. ومن أعماله: (وسط آسيا والشرق القديم) 1964، (دولة الألف مدينة) 1966، (وسط آسيا في العصرين الحديدي والبرونزي) 1966، (نشوء وتطور الزراعة) 1967، (ثقافة شعوب الشرق: المواد والبحث) 1976، (أولى الحضارات) 1989.

أ- تحتوي هذه المقال على تفاصيل دقيقة وكثيرة لعمليات التنقيب التي قامت بها البعثات السوفييتية، والتي سنقوم باختصارها قدر الإمكان، والاقتصار على ترجمة النتائج العامة التي تحتويها المقال.
ب- الزقورة، وهي معابِد مُتدرجة ذات مُستويات، كانت تُبنى في بلاد ما بين النهرين.

ترجمة لمقال:
V. M. Masson (1981) Urban Centers of Early Class Society, Soviet Anthropology and Archeology, 19:1-2, 135-148



#مالك_ابوعليا (هاشتاغ)       Malik_Abu_Alia#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تاريخ الري الزراعي في جنوب تركمانستان
- الشروط الايكولوجية لنشوء الزراعة في جنوب تركمانستان
- سوسيولوجيا الدين الانجلو أمريكية المُعاصرة: مُشكلاتها واتجاه ...
- الرد الثاني لسيرجي توكاريف على ستيفن دَن
- بعض الأفكار في طُرُق دراسة الدين البدائي- رد على سيرجي توكار ...
- الرد الأول لسيرجي توكاريف الأول على مُراجعة ستيفن دن لكتابيه ...
- مراجعة ستيفن بورتر دن لكُتب سيرجي توكاريف
- مبادئ تصنيف الأديان 2
- مسألة أصل ثقافة العصر البرونزي الباكر في جنوب تركمانستان
- مبادئ تصنيف الأديان 1
- تاريخ انتاج المعادن عند القبائل الزراعية في جنوب تركمانستان
- ردّاً على نُقادي فيما يخص مقالة -حول الدين كظاهرةٍ اجتماعية ...
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين
- بصدد الفهم الماركسي للدين
- حول جوهر الدين
- حول مفهوم -الشرق القديم-
- حول الدين كظاهرةٍ اجتماعية (أفكار عالِم إثنوغرافيا)
- في ذكرى سيرجي الكساندروفيتش توكاريف
- فريدريك انجلز حول نشأة المسيحية
- اليسار الجديد: الأفكار المواقف


المزيد.....




- وصف ترامب مجددا بـ-قط الزقاق-.. بايدن يهاجم خصمه ويعترف: لم ...
- أوباما يرد على انتقادات بشأن أداء بايدن في المناظرة.. والأخي ...
- هل يؤثر عُمر الحكام على مستقبل الدول سياسياً؟
- الكرملين: قرارات التوظيف العليا في الاتحاد الأوروبي -سيئة- ل ...
- الإيرانيون يدلون بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية
- الجالية العراقية في كاليفورنيا: موسى مشكور (أبو نضال).. وداع ...
- غضب جديد في مصر بسبب -حلايب وشلاتين-
- مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق يعلق على عبارة ترفضها إسرا ...
- بايدن أم ترامب.. من الأحق بالرئاسة؟
- إجراءات روسية جديدة بمنطقة البحر الأسود


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مالك ابوعليا - المراكز المدينية في المُجتمع الطبقي الباكر