|
ديوان لنكتب عن السويد قصة الناجين من موت محتم
فرزند عمر
طبيب قلبية ـ ناقد أدبي ـ باحث في قضايا السلام
(Farzand Omar)
الحوار المتمدن-العدد: 8001 - 2024 / 6 / 7 - 02:50
المحور:
الادب والفن
صدر مؤخراً ديوان للشاعر خلف علي الخلف بعنوان لنكتب عن السويد عن دار جدار للثقافة والنشر. الكتاب ـ كما أحبُ أن أسميه بدلاً من تسميته ديواناً شعرياً كما أراد المؤلف ـ جاء مكملاً لتجربة سابقة بعنوان "قصائد بفردة حذاء واحدة" صدرت في عام 2009، ضمن نفس المسار التكويني الكتابي، أو ما أسميته حينها بالمقال الشعري، فالكاتب غني عن التعريف على أنه كاتب مقالة ساخر، تلك السخرية التشيخوفية أو ما تم التعارف عليه بالسخرية السوداء، التي لاقت الرواج ضمن الثقافة الشرقية، السخرية التي تتكئ على تقنيات المفارقات المضحكة كأحد الأعمدة الرئيسية، والتي تحمل معها الكثير من التوتر المفضل استخدامها في الشعر، خاصة قصيدة النثر. الكاتب كما في "قصائد بفردة حذاء واحدة" استخدم تقنيات السخرية المريرة، المضحكة في الوقت ذاته، كأحد التقنيات المهمة في الكتابة، تلك التي تقوم على تقديم صورة مبنية على اتحاد ضدين، كما في صورة لوريل وهاردي، باحتواء شخص سمين بجوار شخص نحيل، وكما استخدمها أشهر الممثلين المسرحيين في العالم، فقد كررها سمير غانم في مسرحياته كثيراً، حيث حاول سمير غانم إبراز المتناقضات بطريقة الفرجة التصويرية التي تبعث على الضحك، فاجتماع الأضداد في الصورة يولد حالة يسمح من خلالها نقل الحالة الحسية بشكل أسهل، عدا عن المعنى المتولد من اتحاد الأضداد، هذا الإحساس الواجب ايصاله إلى المتلقي عبر أدوات فنية كما هو الشعر، الشعر الذي يهتم بإيصال الحالة الحسية أكثر بكثير من إيصال الحالة الإخبارية. من هنا تم تصنيف الكتابة إلى صنف أدبي وآخر لا أدبي أو علمي، فالكتابة الأدبية بكليتها ككتابة في ماهيتها تختلف اختلافاً بيٍّناً عن الكتابة العلمية، الكتابة الأدبية تختص بنقل الحس و تتعامل معه، ففي حدها الأدنى تحمل الكتابة الأدبية ولو شيئاً زهيداً من الإحساس، أي أن وظيفة الكتابة الأدبية الأساس هي التعامل مع النطاق الحسي، مثله في ذاك مثل كل الفنون الأخرى، والكتابة الأدبية بهذا التعريف تكون أداة لنقل الإحساس من الكاتب إلى المتلقي، بينما الكتابة العلمية وظيفياً تختص بالإخبار، فيكون هدف الكتابة العلمية هو نقل الخبر كما هو دون الحاجة لنقل إحساس الكاتب لحظة الكتابة. الكتابة الأدبية طيف واسع يصل حده الأعلى عبر الشعر، بما يمتلكه من أدوات مهمة تسهل عليها نقل الحالة الحسية بين الكاتب و المتلقي، الشعر ينقل الإحساس من خلال اتكائه على الإيقاع، الإيقاع الذي هو اللغة الوحيدة التي يفهمها الدماغ البيني الذي يحوي مركز الذكاء العاطفي، الإيقاع الذي لا يكون بدونه الشعر، بينما في الحد الأدنى للكتابة الأدبية نجد صنفاً أقرب إلى الكتابة العلمية منه للكتابة الأدبية وهو ما اصطلح عليه بفن المقالة، المقالة التي تتخذ وظيفة الاخبار كأساس حركي ديناميكي بين طرفي المعادلة الكتابية (كاتب | متلقي)، مقترباً في ذلك ومتناهياً أحياناً ضمن الكتابة العلمية الإخبارية التي تنعدم تقريباً فيها وظيفة نقل الإحساس. في هذا الكتاب كما في كتابه السابق قصائد بفردة حذاء واحدة يزاوج الكاتب بين تقنيات كتابة الشعر و تقنيات كتابة المقالة، فالكاتب يحاول كتابة المقالة بأدوات الشعر، ويحاول كتابة الشعر مستفيداً من تقنيات المقالة مشكلاً ربما صنفاً جديداً ضمن طيف الكتابة الأدبية، ما أسميه أنا بالمقالة الشعرية، وبهذا الشكل يمكن تصوير الحالة على أن الكاتب يحاول المزاوجة بين أطراف الكتابة الأدبية، كأنه يطوي هذا الفضاء الكتابي ويحاول الاستحواذ على الكل. يحاول الكاتب في هذا الكتاب سرقة الفضاء الأدبي، إنه جشع الجائعين، الجائعين للكتابة، يجتمع فيه أنانية الشاعر وخبث كاتب المقال في محاولة خوض تجربة جديدة، نقل الإحساس بحده الأعلى عن طريق أداة إخبارية، كذلك اخبارنا بدقة عن الحدث بأدوات تختص بنقل الاحساس، انه يُسخِّر أدوات اللغة بكليَّتها، فالكاتب مدرك للحظة الراهنة التي نعيشها و التي تقول أن البشر الذين يعيشون تحت سقف الحضارة العقلانية باتو مدمنين للغة الأرقام و المعادلات الحسابية على حساب تقهقر لغة الإحساس، و من هنا كان لزاماً عليه استخدام الشائع و المتداول للتعامل مع الفضاء الحسي. هكذا يحاول الكاتب في هذا الكتاب نقل ما يود نقله إلى المتلقي من (إحساس | إخبار) متكئاً على تقنيات تبدو للوهلة الأولى متناقضة ومتنافرة، لكن السؤال الأهم في كل ما سبق هل نجح الكاتب في مبتغاه، وهذا ما سنحاول الإجابة عنه فيما سيأتي. الكتاب جاء في 140 صفحة من القطع المتوسط، في الصفحات الأولى نقرأ مقدمة يسلط الكاتب الضوء فيها على ذاته وغرضه من الكتابة بعنوان "لماذا أكتب عن السويد"، و نرى أن هذه المقدمة كانت ضرورية للولوج إلى فضاءات الكتاب لأن الكاتب هنا يبدو أنه جزء لا يتجزأ من الحكاية، فهي أقرب إلى المذكرات اليومية المعاشة ضمن فترة زمنية محددة جيدًا بنقطة بداية و نهاية، و هذا ما يتناقض مع الشعر الذي لا يأبه بالزمن، فالكتابة الشعرية أبدية كونها تختص بالنطاق الحسي الذي يهتم بنقل الهالة الحسية التي رافقت الحدث و ليس بالحدث ذاته و كيفية حدوثه ضمن نطاق زمني محدد بدقة، ويوضح الكاتب نفسه هذه المعضلة اذ يقول ضمن هذه المقدمة: "ليست غايتي كتابة الشعر؛ اكتب اوجاعي، أكتب عن الجروح التي خلفتها العنصرية الناضجة في جسدي، وأيامي؛ بلغة مباشرة خالية من المجاز مليئة بالحقائق التي يعبدها السويدي الأبيض المتحضر." وهذا يؤكد ما تم تأكيده من قبلنا سابقاً على أن الكاتب غايته ليست الشعر انما نقل احاسيسه التي أرهقته، لكن هل من بديل أفضل من الشعر في نقل تلك الأحاسيس؟ فيما بعد المقدمة نبدأ بالولوج الى ما تم وضعه تحت عنوان المحتوى والذي ينقسم إلى ثمان أجزاء أو عناوين أو فصول، جاءت مرتبة زمنياً، ربما ليس في زمنها الكتابي إنما في زمنها الروائي، على عكس "قصائد بفردة حذاء واحدة" التي جاءت متناثرة عبثية غير مرتبة زمنياً إلا من حيث زمنها الكتابي، أولى تلك العناوين كانت "وطن على عكاز" - وطن على عكاز تحت هذا العنوان يطالعنا بنص معنون بـ "اغتيال" حيث ينقلنا الكاتب إلى تلك اللحظة التي أُعلن فيها عن تشييع جثة وطن، وطنٍ عاجز يمشي على عكاز، وكلمة اغتيال كعنوان افتتاحي يؤسس لمشهدية قاتمة، فإن أضيف له عنوان وطن على عكاز كعنوان فصلي تصبح المشهدية أكثر قتامة، من هو ذاك الذي يغتال كياناً عاجزاً؟ أهو مجرد حادث عابر؟ هكذا يفتتح الكاتب ستائر الفرجة على مشهدية مأساوية باحتمالية اغتيال لعاجز يمشي على عكاز، مشهدية الموت التي بالكاد ستفارقنا فيما بعد ضمن النصوص التي ستتوالى ضمن الكتاب، الموت الذي سيشكل الفضاء المنتج من النصوص وهو ذاته المنبع الذي ينسج منه الكاتب نصوصه. مع متابعة القراءة نفاجئ أن الذي قام بالاغتيال ومن تم اغتياله متقاطعين بشكل كبير، كأنها أقرب للانتحار منه الى جريمة اعتيادية تحمل بين طياتها قاتل ومقتول، فهو يقول:
"البلاد التي جئنا منها أعني البلاد التي قذفتنا للمنافي أعني الطغاة الذين يملكون تلك البلاد"
هذا الارتباك في التوصيف، هذه المشهدية المؤسسة على اللاأدرية التي يختلط فيها القاتل بالمقتول تدخل المتلقي في حالة من القلق الضروري لاستقبال الإحساس المرسل من قبل الكاتب، كذلك يؤسس ذلك إلى تقليل التعاطف مع ذاك الكيان العاجز الذي يمشي على عكاز، فاحتمالية كون الضحية نفسها هي الجاني تقلل من نسبة التعاطف مع حدثية الموت، هذه المشهدية تؤدي إلى تأسيس فضاء من التساؤلات وأكثر منها إجابات مشوهة لا يمكن امساك حدودها إلا من خلال الذكاء العاطفي الذي يفهم لغة الإيقاع | الشعر.
الكاتب ضمن هذا الجزء يدرج خمسة نصوص يبدأها بـ " اغتيال " وينهيها بـ "تخيلات لا تخالف القانون"؛ القانون الذي سيصبح مصدر الألم في وطنه الجديد المفترض، حتى أنه أقسى من الألم الذي كان يسببه له وطنه القديم العاجز الذي يمشي على عكاز، هنا يستحضرني ما كتبه سيغموند فرويد في كتابه "قلق في الحضارة" عندما كتب بما معناه أن كمية الألم لدى الانسان تبقى ثابتة بعكس ما يتصوره البشر في أن الحضارة تقدم حلولاً للتخفيف من الألم البشري، و يؤكد فرويد أن مصادر الألم لدى الانسان هي ثلاث؛ قوة الطبيعة، الشيخوخة و كثرة القوانين، و يستطرد فرويد في شرحه إذ يقول أنه من سوء الحظ لا يمكن السيطرة على مصار الألم الطبيعية و التي هي قوى الطبيعة و الشيخوخة إلا بكثرة القوانين، و بهذا الشكل تقوم الحضارة فقط بالتبديل بين مصادر الألم، فهي تخفف الألم من المصدرين الأولين الطبيعيين و هما قوة الطبيعة و الشيخوخة فيما تزيد كمية الألم المتأتية من المصدر الثالث المصطنع ألا وهو كثرة القوانين، و يستخلص فرويد فيما يستخلصه في كتابه عن الحضارة، أن الحضارة لا تقدم للبشرية سوى وهم السيطرة على مصادر الألم الطبيعية. فالقانون الذي سيجبر الكاتب على الطلب من نادلة المقهى أن توقع على تنازل رسمي عن حقها في صورة عفوية ظهرت فيها بينما الكاتب يحاول أخذ صورة لكأس نبيذ، فحسب القوانين السويدية تستطيع تلك الفتاة التي ظهرت صدفة في الصورة محاكمة الكاتب أمام المحاكم لأنه تم تصويرها دون أخذ الأذن، وهذا ما يقوله الكاتب في النص المعنون بـ "صورة لكأس نبيذ في بار سويدي" هذا النص الذي سيؤسس للجزء الثاني أو العنوان الثاني والذي جاء بعنوان "وحيداً أتلقى الطعنات في الظلام"
- وحيداً أتلقى الطعنات في الظلام ضمن هذا الجزء أو الفصل الكتابي يندرج ثمان نصوص، تبدأ بنص معنون بـ "أرواح هاربة من العتمة" وتنتهي بنص معنون بـ "رصاصة طائشة لمكافحة الإرهاب". هذه النصوص تنقل الينا معاناة الكاتب مع وطنه البديل، المختلف شكلياً عن وطنه القديم الذي اغُتيل وكان عاجزاً يمشي على عكاز، فهو وطن مرسوم بدقة كصور الفوتوشوب كما سوف يخبرنا الكاتب فيما بعد. هذا الجزء في مجمله يروي بداية المشوار في السويد التي كُتٍبتْ النصوص فيها ولأجلها في مجملها، لتسلط الضوء على معاناة الكاتب و ما يختلجه من مشاعر بدءًا من تلك الأرواح الهاربة من العتمة انتهاءًا بالرصاصة الطائشة، حيث ينقل لنا الكاتب إحساسه بالعتمة و الظلمة، العتمة التي تخيم على أجواء الدول الإسكندنافية خاصة في الشتاء، العتمة التي تحاصر الكاتب في مسيرته ضمن هذا البلد الجديد، فهو لا يجيد لغتها، لا يفهم قوانينها، فالطعنات تأتي في العتمة، و بذلك يبدو الكاتب منزوع من أبسط أنواع الدفاع، فهو لا يرى طاعنيه لأنه يسبح في بحر من الظلام، يتلقى الطعنات دون أن يدرك لماذا و لا حتى يستطيع توقع الطعنة، هذه الطعنات التي تم ترقيمها من 1 الى 10، في إثبات للشاعر أنه ملم بلغة الأرقام التي يفهمها السويديون، هذا الترتيب الذي سرعان ما يتلاشى كإيقاع شكلاني في النصوص الأخيرة لتتحول في النص الأخير إلى سرد أقرب للكتابة الإخبارية. هذا التلاشي للتراتبية المرقمة والشعرية اللذان جاءا في النصين الأوليين يتلاشيان تماماً في النص الأخير المعنون برصاصة طائشة لمكافحة الإرهاب، كأن الكاتب يود اخبارنا أن امتلاكه المنطق الحسابي لم تقه من تلك الرصاصة الطائشة، لذلك جاء النص الأخير اخبارياً تماماً، اذ يخلو من أي شعرية محتملة الا من خلال الصورة الكلية للنص.
في هذا الجزء يحاول الكاتب تنويع أدواته في إيصال الإحساس | الفكرة، فالنص الأول من خلال الترقيم والتنسيق أضفى على النص ايقاعاً رياضياً منطقياً على عكس المحتوى الذي كان مليئاً بالصور الشعرية، فهو يقول: في الطعنة المرقمة [2]
"وصلنا إلى السويد، من بلادٍ تختلط بالسراب حالمين بوطن حقيقي وطناً صالحاً للعيش كي نشتمه"
هنا نجد الروح الشعرية طاغية من خلال الإيقاع المتشكل بين لحظات الحركة و السكون، بدءًا من الأحداث المرتبة فراداً ضمن السطر الواحد، التي تشكل تواتراً حدثياً يحده الصمت في بداية السطر ونهايته، فكل سطر ينقل للمتلقي صورة حدثية واحدة فقط إلى أن تأتي آخر كلمة "نشتمه" لتفجر المعنى، هذه الكلمة التي مُهٍّد لها بكثير من الصمت من خلال كلمة كي التي جاءت وحدها ضمن سطر كامل دون أي حدث، هذا ما جعلها امتداداً للصمت الذي انتهت به الجملة التي سبقته، القفلة التي جاءت تحمل تناقضاً حسياً واضحاً عما قبلها من كلمات (بلاد ـ حلم ـ وطن ـ حقيقة ـ صالح ـ عيش) فهي كلمات تحمل مدلولاً إيجابياً، بينما كلمة نشتمه التي جاءت وحدها متربعة في السطر الأخير، تحمل الكثير من المدلولات السلبية. هذا الترتيب والإيقاع بين السكون و الحركة، مع تصاعد السكون الذي جاء كهدوء قبل العاصفة أدى إلى ما نسميه بالكسر العاطفي، هذه العاصفة الحسية المتولدة التي نسفت كل ما سبق من حالة حسية تم بناؤها بعناية و ترتيب، هذا التوتر الناجم بشكل أساس عن جمع الأضداد ينقل للمتلقي توتراً و قلقاً نتيجة ضياع المعنى، هذا القلق الضروري لفتح بوابات التلقي الحسي، فالإنسان في حالة الخوف والقلق يتخلى عن تفكيره المنطقي لصالح الدماغ البيني حيث يقع مركز الذكاء العاطفي الذي يهتم بالمشاعر والإحساس والتي هي غاية الفن بالعموم، الكتابة الأدبية من ضمن تلك الفنون و الذي يمثله الشعر كحد أعلى كأداة ناقلة للحالة الحسية بين الشاعر و المتلقي.
الكاتب ضمن هذا الجزء يبدأ بنص مليء بالإيقاعات الشعرية ضمن إطار رقمي، الشعرية التي يفهمها العقل العاطفي بينما الاطار الرقمي يفهمه العقل المنطقي، ثم ينهيها بنص لا يحمل الكثير من الشعرية، بل كما أوضحت سابقاً أنه تمت حياكته بطريقة تخدم الإخبارية كوظيفة، حتى أنها تخلو من أي شعرية محتملة الا من خلال الصورة الكلية للنص، هذه التراتبية الايقاعية الكلية للجزء المعنون بـ "وحيداً أتلقى الطعنات في الظلام" تنقل الينا حالة إخبارية بأدوات محض شعرية، فالجزء بكليته هنا مبني بطريقة الموجة، اذ تكون الشعرية في أوجها في البداية، لتخبو رويداً رويداً حتى درجة التلاشي في النهاية، كأنها موجة تتكسر على شاطئ مهجور. وكما نوهنا أن الشعر والإيقاع متلازمان كون الإيقاع من أهم الأدوات التي تنقل الإحساس، فالدماغ البيني يفهم فقط لغة الإيقاع، هذه التواترية الموجية للنصوص التي ستستمر في الجزأين التاليين المهتمين في توصيف السويد تخدم معنىً اخبارياً مع أنه جاء وفق ترتيب شعري، كأن الشاعر يخبرنا في الأجزاء التي تتناول وصف السويد شيئاً ما من خلال هذه التراتبية الموحية السابق شرحها، كأنه يقول أن الشعرية في هذه البلاد تتلاشى مع الزمن، و هذا ما عنيناه في مقدمتنا أن الكاتب يحاول كتابة المقالة بأدوات الشعر، كما يحاول كتابة الشعر بأدوات المقالة، فالكاتب يستخدم تقنيات مخصصة بشكل كلي لنقل الإحساس بينما الغرض اخباري، بالإضافة لذلك تضاف بنية ايقاعية جديدة يحتاجها النص الشعري كأداة لإيصال الفضاء الحسي للكاتب لحظة الكتابة. إنها تنقل إلينا صورة جديدة تخبرنا عن تكسُّر تلك الأمواج الشعرية، إنها اغتيال للشاعرية والحالة الحسية، فهذه الرصاصة الطائشة لمكافحة الإرهاب التي عنون بها النص الأخير قامت في الحقيقة باغتيال للشعرية في المقام الأول، حيث جاء النص الأخير اخبارياً دون الكثير من الشعرية. هذا التشكيل الايقاعي الذي يتماشى مع روح الكتاب ككل، يتماشى أيضاً مع خيبة الأمل التي تلقاها الكاتب في التقائه الأول مع هذا الوطن الجديد المرسوم بدقة وأناقة، خيبة الأمل الواضحة ضمن نصوص هذا الجزء خاصة والكتاب ككل بشكل عام، فيقول الكاتب في الطعنة المرقمة ب 8:
"من هذه النافذة التي بلا دلالات خاصة في الطابق السادس، وأنت تنظر للمدينة بكل جمالها الجاف والناعم، عليك ملاطفة الهزيمة!" هذه الهزيمة التي ستقود الكاتب إلى التقوقع والحنين، حيث نقرأ في النص الثالث من هذا الجزء تحت عنوان "الحنين الذي لا يفهمه الديموقراطيون"
"لا يصدق السويدي حنينك حنينك لتلك البلاد الفقيرة والخربة والمدمرة التي يحكمها الطغاة.. لا يصدق رغبتك بالعودة تاركاً هذي البلاد الديموقراطية الجميلة التي تزدهر فيها العنصرية الملونة كحقول التوليب دون سماد كيماوي."
هذا النص الذي جاء كجسر يربط بين الشعري والاخباري، لكنه ما زال يحمل شحنة حسية فائقة، كيف لا وهي التي تحكي عن الوطن السابق العاجز الهزيل الذي في حضنه مارس الكاتب شعريته، هذا التقوقع والانكفاء على الذات سيقود الكاتب إلى رؤية السويد كما هي عليه في الواقع لا كما كانت تقبع في حلمه، السويد عارية بدون ألوان، وهنا تحديداَ يأخذنا الكاتب في رحلته التالية مع الجزء الثالث المعنون بـ "السويد بصورٍ غير ملونة"
- السويد بصور غير ملونة يعود الكاتب في هذا الجزء للتشكيل الشعري في البداية ضمن إطار رقمي كما فعل في الجزء الثاني معنوناً النص الأول بـ "البلاد التي نسيتها الحياة" ناقلاً إلينا عشر صور تلخص حقيقة السويد التي توصل إليها الكاتب بعد أن جردها من الألوان البراقة التي كانت تستر حقيقتها فهو يقول في الصورة المرقمة بـ [5]
"في السويد؛ كل شيء يبدو جميلاً، كأنه رسم بدقة عبر برنامج الفوتوشوب؛ الطبيعة الأشجار الشوارع البيوت النساء العواطف الابتسامات العنصرية أيضاً"
يعقب هذا النص المكون من عشر صور نصين يشرحان ويخبران ما أراده في النص الأول، ضمن نصوص أقرب للإخبارية منها للشعرية وكأنه يؤكد ما تم شرحه سلفاً أن السويد مقبرة الشعرية والإحساس، إذا يبدأ بنص يعج بالشعرية وينهي الجزء بنص أميل للإخبارية كما هي المقالة وبذلك يشكل موجة ايقاعية ثانية تخدم الكتاب ككل، كما تم شرحه سابقاً.
هذا الجزء مقارنة بالأجزاء الأخرى من الكتاب يأتي مختصراً من حيث عدد النصوص وكأن الكاتب لا يود الغوص في نقل تلك السلبية المكتشفة بعد تجريد السويد من الألوان كي يتحاشى عدم النزاهة كما نوه في مقدمته حيث يقول الكاتب:
"سأكتب عنها بنزاهة، وربما أتجنب العدل والانصاف"
ربما هنا يتساءل سائل أن الكتاب كله جاء ليوطد بشكل أو بآخر صورة سلبية عن السويد والسويديين، هذا صحيح إلى حد كبير لكن ضمن هذا الجزء الكاتب ينقل احساسه ورؤيته عن السويد كبلد بكليتها وهذا ما يقود بشكل أو بآخر إلى التعميم وإطلاق الأحكام المطلقة، الذي سيؤدي فيما يؤديه لعدم النزاهة، فالسويد كبلد يضم تحت سقفه الكثير من البشر، من بينهم ابنة الكاتب نفسها التي تم اهداء الكتاب لها. بعد هذا الوصف المختصر للسويد كبلد بشكله العمومي ينتقل الكاتب لرواية تجربته مع السويديين الذين يشكلون أحد أطراف الألم الذي يعاني منه الكاتب، هنا يأتي الجزء الرابع المعنون بـ "سويديون في مجاز العبرات" وصفاً للسويدي ككائن بشري
- سويديون في مجاز العبرات هنا أيضاً يأتي النص الأول كما في الجزء الثاني والثالث عبر تشكيل ايقاعي شعري مرقم ضمن عشرة أرقام، يحاول فيها الكاتب نقل تجربته الحسية والادراكية مع السويديين ويبدأ المتلقي في فهم من هو السويدي من وجهة نظر الكاتب، فهم مدربون على اللطف، ولا يستخدمون التعابير السلبية، يكرهون أن تنتقدهم، يحبون المديح، وشاة بطبيعتهم، هم باطنيون ولا يحبون الوضوح، يبتسمون دائماً حتى حين طعنك واغتيالك، فيقول الكاتب في الفقرة التي عنونت بالرقم [10]
"السويدي لا يواجهك كمحارب يتربص بك كعميل استخباراتٍ من الـ كي جي بي. يخطط لاغتيالك دون أن يترك خلفه أثراً دون أن يترك نقطة دم تشير إليه."
كلمة اغتيال هنا تُجبر المتلقي للرجوع إلى افتتاحية الكتاب التي كانت عبر نص يحمل ذات العنوان "اغتيال" وهنا يدخل المتلقي باتجاه التأويلات المتعددة المضافة الممكن توليدها كلما تَقَدَم المتلقي في القراءة، هل من اغتال ذاك البلد العاجز الذي يمشي على عكاز هم السويديون؟ خاصة كما يخبرنا الكاتب أنه لا يترك وراءه أي أثر، وسبق أن شرحنا ذاك الارباك الدلالي الذي جاء في نص "اغتيال" وعدم إمكانية معرفة القاتل. هذه التساؤلات التي يمكن طرحها كلما تَعمقتَ في قراءة الكتاب تُولِدُ تأويلات لا نهائية، هذه التأويلات وحدها القادرة على الالمام بشغف المتلقي، هذه التأويلات التي تجعل من المتلقي جزءاً من الحركة الإبداعية للنص المكتوب.
فيما بعد ينتقل الكاتب ليتعمق في تبيان السويدي بخصائصه التي تؤرق الكاتب في النصوص الثلاث المتبقية التي تشكل هذا الجزء، فهو يمتاز بخصائص عصية على الفهم، إلى درجة أن الكاتب ينبهر بها ويعتبرها خصائص خارقة للطبيعة كما جاء على لسان الكاتب في النص الأخير المعنون بـ "قدرات خارقة" حيث يكتب:
"يا لقدرة الناس في هذي البلاد قادرين على الحركة في العدم كأنه أمر طبيعي كأنهم يتحركون في الحياة كيف امتلكوا هذه القدرة الخارقة!"
مع هذا التساؤل الذي يضع الكاتب في حيرة من أمره ينتهي الجزء الرابع لينقلنا نحو الجزء الخامس الذي خصصه لنقل احساسه ورؤيته للفضاء الذي يعيش فيه السويديون، ويعنون هذا الجزء بـ "سيرة لاتجاهات الريح في السويد"
- سيرة لاتجاهات الريح في السويد هذا الجزء يأتي سلساً، مائلاً للإخبارية، وكأن الكاتب يريد إيصال ما في هذا الجزء كحالة واقعية إخبارية أكثر منها حسية شعرية، ففي هذا الجزء يأخذنا الكاتب في جولة تصف القوانين التي تحكم المجتمع، كذلك نمط العلاقات في المجتمع، لكن التسليط الأكبر يتم من خلال منظور الثنائية سويدي | لاجئ. في هذا الجزء يبدو أن الكاتب يصف تلك اللحظات التي كانت حاسمة في مسيرته ضمن هذا البلد التي انتهت بالهجران، وهذا ما سنلتقيه في الجزء الأخير من الكتاب المعنون بـ "تذكرة باتجاه واحد لمغادرة ما صار وطناً" النصوص في هذا الجزء تروي سيرة الفضاء الذي تصارعت فيها القوى التي أدت إلى اتخاذ الكاتب قرار الرحيل، القوى الناجمة عن الصراع بين حاجيات الفرد ومقدار تحمله الألم، هذه القوى التي تم الترميز إليها بالرياح، الرياح التي كانت توجه الكاتب نحو النهاية المحتومة لرجل بسحنة شرق أوسطية لا يمكن تقبلها في هذا الوطن الجديد، هذه السحنة المحملة مسبقاً بآثام متراكمة في المخيال الجمعي السويدي، إذ يقول الكاتب في أحد النصوص المعنونة بـ "فيلم قصير بمشاهد داكنة لحياتي هنا" في الجزء الثاني الذي مر ذكره.
"... لاجئ وصل البِّر الأوربي دون جروح جسدية بليغة خلفتها الحروب نجى من الغرق في البحر وأصبح لاجئاً في شمال العالم لاجئاً بسحنة شرق أوسطية دائمة يطارده السويدي الأبيض ليغرقه في اليابسة"
الرياح التي أكدت للكاتب أن العنصرية متجذرة في هذه البلاد لدرجة أنها تفسر على أنها مجرد حرية للتعبير، هذه الحرية التي تداس بمجرد أن يكون الموضوع متعلقاً بأحد اللاجئين، فهو يكتب في الجزء المعنون ب " السويد بصورٍ غير ملونة " ضمن النص الأول في الصورة المرقمة بـ [8]
"... لكن السويديين عموماً يعبدون القانون بكامل حروفه و علامات ترقيمه؛ غير أنه عندما يميل لصالح لاجئ يصبح ”رجساً من عمل الشيطان“ يجب التحايل عليه."
هذه الرياح التي قادت الكاتب الى مصيره، الرياح التي كانت محملة بالعنصرية، هذه الرياح التي قادت الكاتب لأن يأخذنا في جولته السادسة عبر الجزء الذي يعنونه بـ "عنصرية تغني لحرية التعبير"
- عنصرية تغني لحرية التعبير ضمن هذا الجزء يواصل الكاتب انتقاده و سخريته من تلك المزركشات والألوان التي تغطي الحقيقة، مسلطاً الضوء أكثر فأكثر على أس المشكلة، ألا وهي العنصرية، إذ يشرح الكاتب لنا ما يقبع وراء تلك الألوان الساطعة التي تم الترويج لها على أنها حقيقة لا يمكن نقضها، الألوان التي أخفت عنصرية تلك البلاد التي عانى الكاتب تحت سقفها شتى أنواع الألم، فهو يشرح لنا في أحد النصوص التي جاءت تحت عنوان "جنة المثليين التي في الخطابات" حيث يسخر من تلك الخطابات التي تدعو إلى حماية المثليين بينما على أرض الواقع ما زالوا مرفوضين و منبوذين، و يعرض لنا حادثة تعرضت لها فتاة أفصحت عن ميولها المثلية في الجامعة فكانت النتيجة أن تم نبذها من المجموع الموسوم على أنه يمثل المتن إلى مجموعة اللاجئين الذين يمثلون الهامش، وهنا نجد أن المهاجرين الذين يتم نبذهم على أساس من العنصرية المحضة ينضم إليهم المنبوذين من الأصلاء، فالعنصري يرفض الآخر لمجرد أنه آخر، لا فرق بين أصيل أو مهاجر، لكن اللاجئين والمهاجرين هم الأكثر وضوحاً في الاختلاف، فهم يحملون سحناتهم فوق أكتافهم كما يوضح الكاتب لنا في هذا الكتاب.
الكاتب في هذا الجزء إنما يعيد التأكيد على ما تم تأكيده مسبقاً، أن تلك البلاد التي لا تتكئ على عكاز، والمرسومة بعناية، وتسبق الابتسامة وجوه ساكنيها، تلك الابتسامة التي لا تحميك من الطعنات، الطعنات التي تأتيك من كل حدب وصوب، و فوق هذا وذاك يكون اللاجئ أو المهاجر منزوعاً من أي أداة دفاعية، فاللاجئ الذي يسبح في فضاء من الظلام، لا يسمح له حتى برؤية طاعنيه، فهو لا يستطيع توقع الطعنة، و بعد كل هذا الطعنة لا تترك أي أثر.
إنها العنصرية التي بدأت تنتفض من تحت الرماد وتنتشر كالنار في الهشيم خاصة في السنوات الأخيرة في بلد تم التعارف عليه على أنه يشكل المرجعية لقوانين حماية الانسان، هذه العنصرية التي هي أس الخراب، الخراب الذي أدى إلى تهميش الكاتب و الملايين من اللاجئين أو المهاجرين الذين لا يحملون سحنة مشابه للسكان الأصليين، فحتى الذين حصدوا أعلى درجات الشهرة كاللاعب العالمي زلاتان إبراهيموفيتش لم يسلموا من غضب العنصريين، فقد تم تحطيم تمثاله في مالمو مراراً كما يوردها لنا الكاتب كأحد أهم الأحداث التي تؤكد رؤيته عن العنصرية التي تمشي عارية في الشوارع، فهو يقول في النص المعنون بـ "عنصرية وطنية لا تستثني زلاتان"
"من نحن حتى نتذمر من العنصرية! أمام لاعب محترف من يحبونه يساوون خمسين ضعفاً على الأقل لسكان السويد ومع ذلك خرَّب الوطنيون العنصريون تمثاله عدة مرات في مدينة مالمو، وتبولوا عليه"
إنها العنصرية التي يؤكد عليها الكاتب في هذا الجزء عبر تسع نصوص يفرش لها الكثير من الكلام الانسيابي الاخباري دون أن ينسى استخدام التقنيات الشعرية و التي يبدو أهمها تقنية السخرية التي تبعث على الضحك التي سبق و أن نوهنا إليها، تقنية السخرية المضحكة التي برأينا تكوٍّن التقنية الأساس للربط بين ما هو شعري حسي و ما هو إخباري في هذا الكتاب، فالسخرية المبنية أساساً على تقنية الإضحاك من خلال اجتماع الأضداد يخلق صوراً كاريكاتيرية، كما لاحظنا في النص الذي تناول موضوع المثلية بين ما هو في الخطابات و الواقع، هذه السخرية السوداء التي تبدو ضرورية لتحمل بين طياتها كماً لا متناهياً من الألم، فهي تحمل لحظات مشحونة لدرجة الامتلاء من القسوة والظلم.
اجتماع الأضداد كما تم توضيحه مسبقاً يخلق فضاءً من التشتت الدلالي الذي يوقع المتلقي فريسة للقلق الذي بدوره يفتح الطريق باتجاه الدماغ البيني المسؤول المباشر عن استقبال الإحساس وتفسيره، بينما السخرية الناجمة عن تصادم الأضداد تضيف لهذا القلق المتولد اتزاناً ضرورياً كي لا يغيب الحدث الإخباري عن الذهن، فالإخبارية كما نوهنا سابقاً و نؤكد عليه الآن هي من الأهمية بمكان لدى الكاتب كما هو الإحساس، مع تأكيدنا على أن الميل الأكثر هو باتجاه النقل الحسي، و ربما هنا ندرك لماذا أحب الكاتب تسمية هذا الكتاب على أنه شعر رغم أن الكاتب ذاته يوضح لنا بكلمات لا لبس فيها أنه ليس معنياً بكتابة الشعر، بل إنه فقط وسيلة لشرح آلامه و معاناته في تلك البلاد المطعونة بالعنصرية، كذلك الكاتب على سبيل المثال لا ينسى أن يضيف عنوانا فرعياً شارحاً لعنوان كتابه "رحلة الألم والظلام" الذي جاء على غلاف الكتاب، فهو يبدو منذ البداية شارحاً لما سيأتي. بعد هذه الصدمة الاستكشافية من قبل الكاتب إن جاز التعبير، عبر تيقنه من استيطان العنصرية في هذه البلاد يذهب الكاتب بعيداً أكثر عبر نبش الماضي كي يجد لتلك العنصرية جذوراً لها في ماض هذه البلاد عبر الجزء ما قبل الأخير و المعنون بـ ”نوبل أو جوائز تاجر الموت"
- نوبل أو جوائز تاجر الموت هذا الجزء يحاول الغوص في الماضي من خلال الطعن بأهم الرموز التي تشكل الهوية السويدية عبر ثلاث نصوص، يبدي خلاله الكاتب انتقاده للجائزة ومانحيها ومتلقيها على حد سواء، وهنا ربما أقف قليلا على مسافة من الكاتب لأن الغوص في الماضي هي أهم الآليات التي يتبعها الفكر العنصري الإقصائي لنفي الآخرين، وبذلك يمكن أن ينجر الكاتب بسهولة باتجاهٍ هو نفسه من أشد منتقديها. جاءت النصوص في مجملها إخبارية عبر شحن عاطفي من خلال تقنية السخرية المضحكة واجتماع الأضداد السابق ذكرها، ولن أستفيض كثيراً في قراءة هذا الجزء اذ أن هذا الجزء ومن خلال رؤية جد شخصية كنت أتمنى أن يُحذف، حتى أن الكتاب بكليته سوف يحمل سبعة أجزاء بدلاً من ثمانية وبذلك يضيف رقماً له دلالاته المطلقة لارتباطه الوثيق بالميثولوجيا الدينية، وأقول هنا لربما ذلك سيخدم الكاتب، فالرقم سبعة كحامل لنقل الفضاء الحسي يبدو لي أكثر جدوى من الرقم ثمانية.
- الجزء الأخير المعنون بـ "تذكرة باتجاه واحد لمغادرة ما صار وطناً" جزء متوقع لا يشكل أي صدمة إخبارية، فبعد كل هذا الألم الذي تمت صياغته عبر قنوات متعددة و مستويات مختلفة التقنية لا بد و أن تكون النتيجة الهروب، الهروب لأنه الخيار الوحيد، فمن هو الكاتب مقارنة بزلاتان إبراهيموفيتش، إنه مجرد حصاة ملقاة على شاطئ تتقاذفه أمواج العنصرية التي رسمها لنا الكاتب بدقة و احترافية من خلال البنية العامة للكتاب و الأجزاء و النصوص كما تم توضيحه سابقاً، كيف لا وهو الذي هرب من صحراء قاحلة إلى خواء انساني أشد ألماً من تلك الصحراء القاسية والوطن الذي يمشي على عكاز، فبالرغم من اختلافهما الشكلاني إلا أن الألم بقي في مستوياتها الأعلى، بل أكثر بكثير مما كانت تسببه قوى الطبيعة و الشيخوخة في وطنه السابق، السويد التي تعج بالغابات المرسومة بدقة متناهية كما أخبرنا بذلك الشاعر نفسه، يبدو أنها تعاني من خواء يمتد عميقاً ضمن النفس البشرية التي لا تقبل المختلف لمجرد أنه مختلف، فالقوانين التي صممت للتقليل من مستويات الألم الناجمة عن مصادرها الطبيعية تختفي بوجود لاجئٍ أو مهاجر، القوانين التي هي في أساسها تعتبر أحد مصادر الألم، هذا المصدر المخفف للألم المتأتي من المصادر الأخرى يختفي عندما يكون أحد الأطراف مهاجراً، و بذلك يكون الكاتب في مواجهة مفتوحة مع مصادر الألم، دون وجود أي حماية نتيجة تعطيل القوانين من قبل العنصرية، بل بالعكس تماماُ، الكاتب هنا يتلقى الألم المضاف من المصدر المصطنع و هو كثرة القوانين حسب ما جاء على لسان سيغمويند فرويد في كتابه "قلق في الحضارة".
هذا الاختلاف الذي لا يحمل الكاتب فيه أي ذنب، هو الذي وصل إلى السويد دون جروح أو تشوهات، كان ما يميزه فقط هو سحنته الشرق أوسطية التي لا ذنب له في امتلاكها، هذا الألم الذي لم يعد يطاق، لذلك كان لا بد من اتخاذ القرار بأن يحوذ الكاتب على تذكرة باتجاه واحد لمغادرة ما صار وطناً، وفي معرض حديثه ضمن النص الأول في هذا الجزء و المعنون بـ "القدر الذي ضل طريقه" مهدياً النص إلى سعد الياسري الشاعر العراقي الذي أتى لاجئاً السويد و انتهى به المطاف كما حال كاتبنا إلى مغادرتها دون رجعة، يقول الكاتب مخاطباً الشاعر سعد الياسري:
"حين وصلتُ السويد بخطى منهكة كنتَ عدتَ إلى الصحراء. لم أفهم ذلك؛ كيف يعود شاعر إلى الصحراء من بلدان الغابات التي تمنح الإنسان القدرة على تجاهل الزمن والضوضاء.
لكن لماذا لم تقل لي: لا تأتِ إلى هذي البلاد!"
هذه الحتمية التي يؤكدها الكاتب، مستنداً إلى تجارب سابقة في تجربته، حتى أنه يتجه معاتباً صديقه الذي لم يخبره بالحقيقة في المقطع السابق. في هذا الجزء يعود الكاتب منضداً كلماته بكثير من الشعرية على حساب النمط الاخباري ضمن ست نصوص يبدأ كما تم ذكره سابقاً بالنص المعنون بـ "القدر الذي ضل طريقه" الى خاتمة النصوص الذي عنون بـ "لعنة"، فمن حيث الاطار الشكلاني جاءت النصوص أكثر قرباً للشعرية، مستخدماً في النص الثالث تقنية تجزيء النص إلى أرقام كما فعل في الجزء الثاني و الثالث و الرابع، لكنها هنا جاءت متوسطة النصوص، على عكس الأجزاء الأولى، اذ جاءت النصوص المرقمة في المقدمة، تلك النصوص التي حملت الكثير من الشعرية و التي كانت تتلاشى فيما بعد لصالح الفضاء الاخباري، كأن الكاتب هنا يحاول حمايتها من التلاشي فيضعها في وسط نصوص أخرى تحمل الكثير من الشعرية، كأن الكاتب من بين ما يحزمه من الأغراض و يصر على أخذها معه في رحلته هو الشعر و تقنياته، الشعر الذي نجى من خلاله من طعنات العنصرية، الشعر الذي كان أداته لإفراغ الألم باتجاه المتلقي.
بمثابة الخاتمة كتاب "لنكتب عن السويد" لكاتبه خلف علي الخلف جاء ليلامس عميقاً تلك الأحاسيس التي تتملك أغلب اللاجئين والمهاجرين في بلد اتُفق على أنه المنبع الأساس لحقوق الانسان وتقبل المختلف، ساهمت قدرة الكاتب كثيراً في إيصال تلك الأحاسيس من خلال انسيابية ايقاعية مركبة على مستويات مختلفة، كذلك الإخبارية التي جاءت متصاعدة في تراتبية روائية واضحة، تأخذ بيد المتلقي بدءًا من المشهدية القاسية التي افتتح بها الكتاب من خلال نص "اغتيال" الذي جاء معبراً تماماً عما حدث في الوطن الأم للكاتب سوريا، هذا التوهان في إدراك القاتل الذي يتماشى تماماً مع ما حدث فعلياً في سوريا، هذه الإخبارية الدقيقة من خلال أدوات لنقل الإحساس تحسب للكاتب، كذلك ما أشرنا إليه من خلال البنائية الكلية للكتاب حيث ايقاعية الأجزاء تنبئ بوضوح إخبارية معينة أشرنا اليها فيما سبق. هذا الكم من التضاد والتأويلات اللامتناهية التي تفتح أفاقاً لقراءات متناقضة، حتى أن القراءة العميقة للنصوص المكتوبة بتواتريتها التي جاءت في الكتاب تحيل القارئ إلى ركن مغاير للمعنى السطحي المعطى، الذي ينبئ بكراهية بيِّنة للسويد، أو على الأقل سلبية تجاهها، بينما القراءة العميقة تنبئ بالنقيض تماماً، فلو دققنا قليلاً كيف فرش الكاتب تساؤلاته التي تبدأ بالسويد كمكان جغرافي، ثم يتناول العنصر البشري كتشريح حسي، لينتقل إلى البيئة الحاضنة، ليصل إلى أس المشكلة وهي العنصرية، التي أخبرنا عنها بوضوح أنها موجهة باتجاه المختلف، فهي تحمل بنيتها الرافضة في ذاتها، فحتى الأصلاء المختلفين لا مكان لهم، وبذلك ندرك أن خصومة الكاتب ليست مع السويديين والسويد بل مع العنصرية كمفهوم اقصائي، و قراره بالهجران جاء نتيجة ألامه التي تخطت درجة التحمل، كونه واضح الاختلاف في ملامحه الشرق أوسطية و بالتالي يشكل دريئة واضحة لطعنات العنصرية. هذا الكتاب الذي لامس وجداني عميقاً، أنا الذي أعيش التجربة ذاتها في بلاد قاسية بكل معالمها، قاسية إلى درجة الألم غير المحتمل، أنا الذي أِنجزَ في هذي البلاد ما يصعب إنجازه، لكني بين الفينة والأخرى أشعر بنفس المستوى من الألم الذي نقله خلف في كتابه، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على النزاهة التي أشار الكاتب إليها في البداية، إذ أنها ليست مجرد نرفزات أو نظرة للانتقام الشخصي أو الثأر وإلا كيف وصلت إلي؟ أنا المخالف واقعياً لدرجة التناقض مع مسيرة الكاتب، فبغض النظر عن مستويات الاندماج، يعاني اللاجئ أو المهاجر في هذه البلاد من العنصرية التي لم تعد تطاق في الآونة الأخيرة. هذه القدرة لنقل الإحساس الذي هو هدف الفنون، هذا الإحساس الذي لامس عميقاً ذاتي، ما هو إلا أحد إشارات للنجاح الذي يُكتب للكاتب، هذا النجاح الذي حاولنا تسليط بعض الضوء على كيفية صناعته عبر كتابة فنية تحمل الكثير من التناقضات، هذه التناقضات التي كانت الأساس في المزيد من التوليد الدلالي، التعدد الدلالي الذي يعتبر الأساس والمدخل لما تم التنظير له من موت المؤلف ومشاركة المتلقي لإبداعية الكاتب، هذه المشاركة التي تعطي مساحة شاسعة من حرية التأويل لدى المتلقي، تلك الحرية التي باتت من أشد المبتغيات.
#فرزند_عمر (هاشتاغ)
Farzand_Omar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لماذا انقرض انسان النياندرتال
-
بوريس جونسون و معضلة الانتخابات البريطانية
-
مجرد حلم
-
رسالة إلى كاك مسعود وملك السعودية ورئيس وزرائها القائد محمد
...
-
هزائم روسيا اليوم وذاكرة سقوط بغداد
-
عن السويد وأزمة الديمقراطية في العالم الغربي
-
نظرة على المشهد السويدي والأوربي الآن
-
هل تستطيع المحكمة الجنائية الدولية اثبات الحكاية الأمريكية ك
...
-
هل تستطيع البشرية قول كلمتها ضمن مسار حل المعضلة الأوكرانية
-
هل يكون التاريخ شاهداً في المحاكمة العلنية لأمريكا ضمن مسيرة
...
-
هل تسقط كرة البسبول الأمريكية الصنع ضمن مجريات حل المعضلة ال
...
-
السويد تختطف أم تحمي الطفولة
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|