أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - سعيد لحدو - المضامين الإنسانية في ملحمة كلكامش















المزيد.....

المضامين الإنسانية في ملحمة كلكامش


سعيد لحدو

الحوار المتمدن-العدد: 7999 - 2024 / 6 / 5 - 16:26
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


مَلحَمة كلكامش هي مَلحَمة شِعرية من آداب حضارة بِلاد الرافِدَين القديمة، وتعود أحداثها إلى أواسط الألفية الثالثة قبل الميلاد. وهي من أقدم الأعمال الأدبية العظيمة في التاريخ.
بطل هذه الملحمة هو كلكامش ملك مدينة أوروك السومرية، يُعتقد أنه حكم في الفترة بين 2800 و2500 قبل الميلاد، وتحوَّل إلى بطل مهم في أساطير بلاد ما بين النهرين القديمة والشَخصية الرئيسية في ملحمة كلكامش.
خلال حكم سلالة أور الثالثة (2112 - 2004 ق. م) تحوَّل كلكامش إلى شخصيةً هامة في الأساطير السومرية وتمت نسبته إلى الآلهة، ورُويت حكايات عن مآثره البطولية في خمس قصائد سومرية وصلتنا منقوشة باللغة الأكدية. وتُعد قصيدة «جلجامش وإنكيدو والعالم الأسفل» المُتبقية من تلك الفترة أهمها، لما تضمنته من قصص وأحداث ووقائع اتخذت شكل الأساطير، وتركت تأثيراتها الواضحة في التراث الديني الرافديني بكل تجلياته، بما فيها بعض قصص التوراة. والفكر الديني اللاحق.
كانت دهشة العالم عظيمة حين أُعلنَ عن اكتشاف هذه الملحمة في مابين النهرين، لما حملته من معانٍ وأفكار إنسانية سامية، دُوّنت بأسلوب شعري رائع، فاقت بروعتها كل ماسبقها وما تلاها من أساطير وملاحم حتى عصور متأخرة جداً.
وعلى الرغم أنها سبقت الإلياذة والأوديسة بأكثر من ألف عام، إلا أنها تتفوق بكثير على هاتين الملحمتين بمقوماتها الجمالية ومضامينها الإنسانية العميقة. فقد تم تقديمها بأسلوب أدبي وفنّي رائع. ولا عجب في هذه الحالة أن تُعَد من قبل الدارسين لها، من أروع الآثار الأدبية والملحمية التي وصلتنا من التاريخ القديم على الإطلاق. وتبقى نكهتها الفريدة حاضرة لقارئها اليوم حتى بعد مرور أكثر من أربعة آلاف عام على كتابتها. فنجد فيها تلك اللذة الجمالية التي تحملنا إلى عوالم الروح السامية والمغزى العميق... وما زالت تلك المضامين الإنسانية التي تحضرها لنا الملحمة، تدغدغ أحاسيسنا ومشاعرنا، وتعطينا صورة واضحة عن حياة وتفكير سكان ما بين النهرين في تلك الفترة من التاريخ القديم ونظرتهم إلى الحياة الإنسانية، وكيف يجب أن تسير. ومن هذه الأفكار:
- كل ما هو شرير ، نزيحه من العالم
- ياصديقي... من يسقط في المعركة، هو الخالد
فنجد هنا كيف تزيّن الملحمة الإنسان بالقيم الأخلاقية العالية، وتشحنه للنضال ضد الشر والانحطاط الأخلاقي، أينما كان. ثم نجدها تتطرق إلى موضوع هام وأساسي، ألا وهو فكرة نشوء الإنسان من الحيوان، وانتقاله إلى عالم التمدن والحضارة. فأنكيدو الذي نشأ في حياة التوحش، كما تصفه الملحمة:
- مع الظباء يأكل الأعشاب
- مع الحيوان يستقي من مورد الماء
- ويطيب لبه عند ضجيج الحيوان في مورد الماء
هذا الإنسان المتوحش لا يلبث أن يلتقي بالوسيلة التي ترشده إلى طريق الحضارة، وكانت البغي هي تلك الوسيلة. فهي بالنسبة لأنكيدو كبروميثيوس للبشرية في الأساطير اليونانية. إنها الأرض التي تحتضن بذرة الحضارة، عندما علمته أكل الخبز وشرب الخمر وارتداء الملابس. فيهجر عالم التوحش الذي نشأ فيه لينتقل إلى عالم الإنسان والحضارة التي سيساهم بدوره فيها:
- تحسس جسده المشعر
- مسحه بالزيت، وبالبشر اقتدى
- وملابس ارتدى، وصار يشبه الرجل
هكذا ترك أنكيدو الغريزة الوحشية، وصار إنساناً ، عالماً، مدركاً، حكيماً، ممتلئاً ذكاءَ وحكمة. ليدرك للمرة الأولى في حياته أنه جميل، وأنه يشبه الآلهة. وهذا هو المنطلق والأساس الذي يجعل الجمال يدخل حياة الإنسان ويساهم في عملية تطور مداركه كقوة عظيمة دافعة لتحويل كينونته شبه الحيوانية إلى كيان إنساني باحث عن الحضارة والمعرفة والتطور.
إن هذا التحول العظيم في حياة أنكيدو، ما هو إلا تعبير عن انتقال البشرية جمعاء من بدائيتها المتوحشة، إلى عالم التمدن والتحضر الإنساني. ولم يقتصر سرد الملحمة على هذا المضمون العميق، وإن كان الأهم، لكنه ينتقل إلى جوانب أخرى في الحياة الإنسانية ومنها "تمجيد العمل"، حيث تسند الملحمة لهذا العامل دوراً رئيسياً في عملية التطور البشري، وتسخير الطبيعة لصالح الإنسان وخدمته. فالعمل هو الشاهد على قوة وجبروت الجمال الإنساني. ومن خلال العمل يدرك الإنسان الطبيعة بكل ما فيها، ويتعامل معها من هذا المفهوم. فكلكامش الإنسان نجده قوياً وشجاعاً. وهو الذي "رأى كل شيء"، "العالِم بكل شيء"، "المدرك للحكمة".. إلخ. وهو الذي استطاع مساعدة أنكيدو للتحول إلى إنسان مدرك، وبمساعدته وبصفاته تلك تمكن من أن يتجاوز الآلهة بالعقل والحكمة والدهاء:
- نحن الذين بغضبنا انتصرنا على الثور السماوي
- فلم تستطع الآلهة تحقيق رغبتها
- ورغبتنا فقد هي التي تحققت
ولعل موضوع الصداقة، ونموذج تعامل الصديق مع صديقه لم يوَفَّ حقه عبر التاريخ أكثر مما قدمته ملحمة كلكامش عندما تقول على لسان كلكامش:
- في اتحادنا معاً، نصنع الذي لا يُنسى بعد الموت
فباتحاد الإنسان مع أخيه الإنسان، وبمصادقته، يستطيع أن يعرف الكثير، ويدرك الكثير، ويفعل الكثير من الخير لنفسه ولبني جنسه. ومن هذا المنطلق كان تمجيد الصداقة في الملحمة أمراً أساسياً وهاماً ورائعاً، كون الصداقة هي أساس النضال ضد الشر الكائن في "خمبابا". وهي الصداقة التي لا يمكن أن تُخذَل، لأنها قائمة على الرغبة في الاندفاع لتحقيق كل ما هو سامٍ وعظيم. فصداقة كلكامش وأنكيدو لم تكن صداقة عابرة، كما لم تكن بغير أهمية. بل هي ضرورة حتمية لمواجهة واقع الحياة المتضمن الكثير من الأخطار التي تهدد حياة الناس، والقضاء على الشرور أينما كانت. وهي في هذه الحال نتيجة دافع أخلاقي نبيل. وعند تجسدها واقعاً، يتم التحول الجذري في حياة الإنسان وسلوكياته، ليبحث عما هو عظيم ونافع لخدمة الإنسانية.
وهنا لا يمكن الاستغناء أو التغافل، بأي حال، عن هذه الصداقة التي حملت في مضمونها أسمى المعاني الإنسانية وأجلها. وهذا الأمر لانراه في الإلياذة بين آخيل وباتروكلوس وصداقتهما العابرة، التي لا يُشار إليها في الملحمة إلا بصورة عرضية لا تقترب من عمق الصداقة ومضامينها السامية بين كلكامش وأنكيدو بأي حال.
الصديق الحق هو ذلك الذي يتألم لآلام صديقه. فحين يمرض أنكيدو، يتعذب كلكامش كثيراً، ويحزن لعذاب صديقه. وعندما يموت أنكيدو، يدعو كلكامش جميع أهل أوروك وعظمائها، والطبيعة بجبالها وأنهارها وحيواناتها، لكي تحزن وتنوح على اين الطبيعة الأرقى... إنه الإنسان بجماله وروعته وحكمته، وإدراكه ومعرفته قد مات....
- إنني أبكي صديقي أنكيدو
- أنوح عليه نواح الندابات
- ليبكيك شيوخ أوروك ذات الجدران القوية
- كل شعب أوروك
- الحمار الوحشي والغزال
- يبكون من أجلك
- النهر الذي تعودنا أن نمشي عليه
- يبكي من أجلك
إن هذا الإشراك الشامل للطبيعة، وكل عناصرها، بالحزن على أنكيدو يُظهر ضخامة المصيبة التي مُنيَت بها الإنسانية بهذا الحدث الرهيب... موت الإنسان.
من هنا تبرز الأهمية الكبرى للمضامين التي طرحتها الملحمة، وفي مقدمتها مصير الإنسان النهائي المتوَّج بالموت، لتأتِ مسألة البحث عن الخلود كحاجة جوهرية للوجود الإنساني الذي لا يوفَّق بأي حال بالحصول على النتيجة المرجوَّة، "ميزة الخلود"، التي اختصت بها الآلهة وحدها دون غيرها.
هذه النتيجة المخيبة لجهود الإنسان في بحثه عن الخلود غير الممكن، كانت حافزه الأكبر للعمل على الخلود الرمزي بأعماله الخيّرة وسلوكه النافع لأخيه الإنسان، وجهوده الدائمة لمقاومة الشر بكل أشكاله. فكانت تلك النتيجة المقنعة لكلكامش وبني جنسه لبناء فكرة الخلود البشري لهم ولتاريخم عبر تقديمهم ما أمكنهم من خير وفائدة في حياة الأفراد القصيرة هذه.
إنها العبرة التي لايمكن التغاضي عنها إذا أراد الإنسان الخلود الحقيقي عبر استمرارية الحياة البشرية، من خلال تلك الأعمال التي مجدتها الملحمة.



#سعيد_لحدو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السريان الآشوريون: القدر التاريخيّ وثورات الحاضر
- المطران المُغيَّب في عيد ميلاده الـ75
- سؤال المصير ورؤية برهان غليون في مناهج الحداثة والممانعة وال ...
- البطريك لويس ساكو... إن لا ماصت تاوت ككوا...!!
- معارضة البيانات والترقيع في ظلال ربيع التطبيع
- عندما يغادرنا مبدعٌ كالموسيقار جورج جاجان
- كلمة ورد غطاها
- حكاية حفار القبور وابنه والوضع السوري
- المعارضة السورية وفقدان البوصلة
- أمير المؤمنين بشار بن أبيه يتحدث....
- الحرب العالمية الجديدة
- خطاب الكراهية وسبل مواجهته
- عودة الحاج رامي مخلوف
- عطب الذات أم عطب المنظومة...؟ قراءة في كتاب الدكتور برهان غل ...
- كردستان التي تأخرت مائة عام
- (غودو) الحل السوري
- الحرية طليقة والأحرار معتقلون
- العرس في فيينا والطبل في حرستا
- الدب الروسي في معرض الزجاج السوري
- قلق العالم هو مايقلق السوريين


المزيد.....




- -حزب الله- اللبناني يؤكد مقتل القيادي البارز إبراهيم عقيل
- غارة إسرائيلية دامية على ضاحية بيروت: تل أبيب تعلن اغتيال قا ...
- إدانة أممية لتفجيرات البيجر وإسرائيل تعلن قتل قياديين بحزب ا ...
- من هو إبراهيم عقيل الشخصية العسكرية الكبيرة في حزب الله التي ...
- المغرب.. التحقيق في ملف -مجموعة الخير- متواصل والقضاء يستمع ...
- حزب الله يصدر بيانا عن مقتل قائد -قوة الرضوان- إبراهيم عقيل ...
- مصر.. مساع لحظر تطبيقات المراهنات بعد تسجيل حالات انتحار ووص ...
- ظهور خطوط دقيقة بارزة على قدم صبي تخفي سببا -مقززا-
- وزير الخارجية الهنغاري: أوروبا تواصل العمليات التجارية مع رو ...
- حميميم: -التحالف الدولي- ينتهك بروتوكولات عدم التصادم في سور ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - سعيد لحدو - المضامين الإنسانية في ملحمة كلكامش