|
رفقا بالبحرين الجميلة
عبدالله المدني
الحوار المتمدن-العدد: 1762 - 2006 / 12 / 12 - 11:34
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية
قدر البحرين أن تكون وسط خليج طافح بالثروات فيما هي لا تملك منها سوى اقل القليل. لكن القدر أيضا وهبها مجتمعا متميزا بالانفتاح و التسامح و عشق الحياة، و مسلحا بالإرادة والتصميم، ومتمسكا في الوقت نفسه من دون تزمت بالقيم و الأعراف و التقاليد المتوارثة، الأمر الذي مكنها في فترة قصيرة من أن تصبح صنوا لجاراتها، بل و متفوقة عليهن في بعض المجالات التنموية.
لقد اندفع أبناء هذه الجزيرة رجالا و نساء يعملون من اجل بناء وطن متميز و مجتمع عصري آمن مستقر، فأقاموا من البنى التحتية و المؤسسات و المشاريع و مظاهر الحياة العصرية و قادوا من الأنشطة و الفعاليات المختلفة ما يمكن الافتخار والزهو به أمام جيران أكثر ثراء و أعظم موارد وأوسع مساحة و اكبر شأنا. و فيما كانت عملية التنمية و البناء تتواصل، كان شباب البحرين وفتياتها ممن ابتعثوا إلى الخارج يعودون بعدما أكملوا تخصصاتهم الأكاديمية، و لاسيما من إحدى أفضل واعرق جامعات الوطن العربي.. في بلد كان يمثل يوما ما جنة الشرق الأوسط وزهرتها الفواحة .. ليسكبوا في وطنهم الصغير عصارة علومهم و زكي تجاربهم ، حالمين بصرح اقتصادي يماثل ذلك الصرح الذي هوى فجأة في ذروة مجده و عنفوانه كنتيجة للحماقات الإيديولوجية والعنتريات السياسية والمطالب التعجيزية والملوثات الطائفية البغيضة.
على أكتاف هذه الثلة المتنورة و المسلحة بالعزيمة و الإرادة وعشق الوطن، كبرت البحرين، وصارت نموذجا تنمويا زاهيا، رغم كل الاحتقانات الداخلية و كل ما شهدته المنطقة من تجاذبات وأزمات و حروب خلال العقود التالية للاستقلال. صحيح انه في غمار هذه العملية التنموية طفح على السطح من الطفيليات ما لا يمكن إنكاره، و حدثت تجاوزات وخروقات مسببة للإحباط في ظل الغياب الطويل لدولة المؤسسات الرقابية، غير أن البحرين حسبها أن تلك الإشكاليات و الهنات عادة ما ترافق التحولات النهضوية الكبيرة، ولا تغيب إلا في حالات السكون و الانقطاع عن الحراك والعمل الخلاق، بل حسبها أن كل ذلك صار اليوم جزءا من الماضي.
سئل زعيم آسيوي حقق لوطنه معجزة اقتصادية فذة ذات مرة عما يقال عن استشراء الأخطاء والتجاوزات في دوائر بلاده الرسمية، فلم ينف الأمر لكنه قال " لا تتوقعوا انتفاء هذه الحالات طالما أننا نعمل و نتحرك إلى الأمام" مضيفا " أولئك الذين لا يعملون هم وحدهم الذين لا يخطئون". ونحن هنا لا نبرر للأخطاء بقدر ما نشير إلى تجربة واقعية كان من شأنها أن تفوق ذلك البلد الآسيوي الفقير في موارده الطبيعية بمئات المرات على جارته الأقرب، رغم سباحة الأخيرة في بحر من الثروات النفطية.
و بإطلاق الملك حمد لمشروعه الإصلاحي قبل خمس سنوات، واصلت البحرين مسيرتها التنموية في أجواء أكثر استقرارا و انفتاحا و تصالحا، بل تحولت إلى ورشة ضخمة للعمل و النشاط والإبداع على مختلف الصعد ، وسط آمال كبيرة بأن ما تم تشييده من صروح اقتصادية و ما حققه المجتمع من تراكمات حضارية في العقود الماضية يمكن اليوم البناء فوقها و تعزيزها و رفدها بما يتناغم مع ظروف العصر وتحولاته المثيرة ضمن اطر أكثر شفافية و عدالة. غير أن البعض غير القليل ممن أوصلهم الشعب إلى مجلس النواب لم يتفهموا المغزى الحقيقي لمشروع الملك الإصلاحي الذي جاء ليوسع دائرة الحريات و الحقوق و يعزز مكتسبات الوطن وصورته الحضارية. فراح في ظاهرة غير مسبوقة برلمانيا يقيد حريات المواطن، بدلا من الذود عنها وتوسيع رقعتها، عبر اقتراح تشريعات موغلة في السذاجة و السطحية و البؤس، بل متصادمة مع مواد حقوقية نص عليها الدستور الذي اقسم النائب على احترامه. الأسوأ من هذا هو أن هذا البعض في غمرة حماسه لتفعيل أجنداته الإيديولوجية نسي دوره كمعبر عن طموحات المواطن في حياة كريمة أسمى و وضع معيشي أفضل أو كمراقب للأداء الحكومي و كمدقق للموازنة العامة، فراح يتقمص دور الواعظ الديني أو الوصي على السلوكيات الشخصية و خيارات الناس، غير مفرق ما بين منبر البرلمان و منبر المسجد.
وهكذا فلئن ساهمت أجندات بعض القوى السياسية المتشددة من تلك التي تمثلت في البرلمان السابق في تباطيء المسيرة النهضوية و تراجع الزخم الاستثماري و بروز قلق غير مسبوق في كل تاريخ البحرين الحديث على الحريات الاجتماعية، فان مما يخشى معه اليوم و قد صارت تلك القوى و مثيلاتها مهيمنة على البرلمان الجديد بالكامل، في ظل فشل قوى التنوير و الحداثة في إيصال ممثليها إلى المؤسسة التشريعية، أن تتعرقل المسيرة أكثر و تفقد البحرين المزيد مما تميزت به على مدى تاريخها الطويل كوطن مفعم بالحياة و الحراك والفرح، و حاضن لمختلف الأفكار و الأعراق و الثقافات و المذاهب، و مركز إقليمي للمال و الأعمال و الاستثمارات الاجنبية.
ومع ذلك فان الشريحة الأوسع من رجال و نساء و اسر البحرين، ممن بنوا هذا الوطن و تحملوا في سبيل استقلاله و نهضته و ازدهاره و تأكيد عروبته الكثير، و قبل أن يخرج رموز التشدد الديني الحالي إلى الدنيا ليرسموا صورة الوطن و يقرروا لونها و مقاييسها، ليسوا بمتشائمين. فهم رغم كل ما حدث لا يزالون يعولون على حكمة القيادة و عقلانية البعض داخل غرفتي البرلمان في صد الأجندات الهادفة إلى سلخ البحرين عن قيمتها الحضارية و دورها الإشعاعي في المنطقة، و في مواجهة الطروحات المتشددة التي لئن صلحت لبعض المجتمعات القريبة فإنها غير صالحة البتة لمجتمع مدني تعددي كمجتمع البحرين.
نقول هذا، و أمامنا سيل من الرسائل الهاتفية القبيحة و التصريحات الحادة و الخطب الملتهبة لبعض من فازوا حديثا أو أعيد انتخابهم في الانتخابات الأخيرة، و كلها تكاد من فرط تعسفها وتحجرها و تهديدها "بقطع الرقاب" و "السيف البتار" أن تشعل حريقا وانقساما و توترا لا يقوى مجتمع البحرين الصغير على تحمله. بل أمامنا أيضا تجارب مرة كالعلقم لأوطان عربية بدت موعودة ذات يوم، بل و قطعت أشواطا إلى الأمام في مسيرة التحديث و النهضة والرخاء، لكنها فقدت البوصلة فجأة بفضل أجندات وبرامج متخشبة لقوى متشددة من تلك التي يجمعها ومثيلاتها في البحرين نفس المدارس الحركية و المرجعيات الإيديولوجية. فكان أن انتكس كل شيء في تلك الأوطان الواعدة لتتحول إلى أماكن تعشش فيها الغربان و يلفها السواد و صمت القبور، فيما اقتصادياتها في الحضيض وشعوبها تبحث عن لقمة العيش و بهجة الحياة خارج الحدود، ورجال أعمالها يفرون برؤوس أموالهم إلى المجتمعات غير المأزومة بالشعارات الفارغة والاصطفافات المذهبية والطائفية.
فرفقا بهذا الوطن الذي مهما كانت نواقصه و مشاكله و هناته، فانه لا يزال جميلا و واعدا و آمنا بالمقارنة مع أوطان أخرى نخرتها الانقسامات و الاغتيالات و المعارك العبثية، و انتهكت فيها كرامات الناس و حرمات أسرهم و خصوصيات حياتهم بأفظع الصور على أيدي ميليشيات ومتحزبين و رجال حسبة، فصار أهلها يبيتون ليلهم و هم لا يعلمون إن كانت شمس اليوم التالي ستطلع عليهم وعلى أطفالهم أم لا.
#عبدالله_المدني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نحو شراكة خليجية – يابانية شاملة
-
في فيتنام .. لا وقت لاجترار الماضي
-
الخليج .. فيما لو حدث - تشيرنوبل- إيراني
-
أخيرا، وجدت الهند من يشغل حقيبة الخارجية!
-
سنغافورة .. دور جديد في الألفية الثالثة
-
محمد يونس .. يستحق أكثر من نوبل
-
أفغانستان .. التحدي الكبير للناتو
-
لماذا أختير -سورايود- زعيما لتايلاند؟
-
وظائف شاغرة في الصين
-
-عبدالله- يستولي على السلطة في تايلاند
-
آسيا .. ما بين عقلانية وسطها و راديكالية أطرافها
-
في وداع - كويزومي-.. و استقبال - شينزو أبي-
-
نحو دولة طالبانية في -أتشيه- الاندونيسية!
-
هذا الهندي الموهوب هو الأجدر بقيادة الأمم المتحدة
-
صواريخ حزب الله الإيرانية: فتش عن الدور الصيني
-
-جزار كمبوديا الأعرج- يرحل دون قصاص
-
طالبان قد تستفيد مما يجري في الشرق الأوسط
-
نهاية الإرث السياسي لآل باندرنيكا
-
باعاشير طليقا!
-
لماذا ننادي بعلمانية الدولة
المزيد.....
-
سفير الإمارات لدى أمريكا يُعلق على مقتل الحاخام الإسرائيلي:
...
-
أول تعليق من البيت الأبيض على مقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ
...
-
حركة اجتماعية ألمانية تطالب كييف بتعويضات عن تفجير -السيل ال
...
-
-أكسيوس-: إسرائيل ولبنان على أعتاب اتفاق لوقف إطلاق النار
-
متى يصبح السعي إلى -الكمالية- خطرا على صحتنا؟!
-
الدولة الأمريكية العميقة في خطر!
-
الصعود النووي للصين
-
الإمارات تعلن القبض على متورطين بمقتل الحاخام الإسرائيلي تسف
...
-
-وال ستريت جورنال-: ترامب يبحث تعيين رجل أعمال في منصب نائب
...
-
تاس: خسائر قوات كييف في خاركوف بلغت 64.7 ألف فرد منذ مايو
المزيد.....
-
واقع الصحافة الملتزمة، و مصير الإعلام الجاد ... !!!
/ محمد الحنفي
-
احداث نوفمبر محرم 1979 في السعودية
/ منشورات الحزب الشيوعي في السعودية
-
محنة اليسار البحريني
/ حميد خنجي
-
شيئ من تاريخ الحركة الشيوعية واليسارية في البحرين والخليج ال
...
/ فاضل الحليبي
-
الاسلاميين في اليمن ... براغماتية سياسية وجمود ايدولوجي ..؟
/ فؤاد الصلاحي
-
مراجعات في أزمة اليسار في البحرين
/ كمال الذيب
-
اليسار الجديد وثورات الربيع العربي ..مقاربة منهجية..؟
/ فؤاد الصلاحي
-
الشباب البحريني وأفق المشاركة السياسية
/ خليل بوهزّاع
-
إعادة بناء منظومة الفضيلة في المجتمع السعودي(1)
/ حمزه القزاز
-
أنصار الله من هم ,,وماهي أهدافه وعقيدتهم
/ محمد النعماني
المزيد.....
|