أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - عادل العمري - وضع الانتليجينسيا فى البناء الاجتماعى المصرى الحديث















المزيد.....



وضع الانتليجينسيا فى البناء الاجتماعى المصرى الحديث


عادل العمري
كاتب وباحث غير متخصص

(Adil Elemary)


الحوار المتمدن-العدد: 529 - 2003 / 6 / 30 - 00:42
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


                                                           ( ُنشرت عام 1996)
                   
                                                                           
                                                                              
     "عندما يتداخل عصران وثقافتان وديانتان تتحول الحياة البشرية إلى معاناة حقيقية . . إلى جحيم . .  فهناك أوقات ُيحشر فيها جيل كامل فى ذلك الطريق الواقع بين عصرين و أسلوبين للحياة، فتكون نتيجة ذلك أن يفقد كل قدرته على فهم نفسه و يفتقد المعايير و الأمل و بساطة الرضا"

                          هيرمان هيس                                         
 


قبل محمد على شملت الانتليجينسيا [1] المصرية رجال الدين بشكل أساسى ، الذين بجانب نشاطهم كرجال دين قدم بعضهم مساهمات أخرى كالتعليم مثلا .  يضاف إليهم قليلون من أصحاب المهن كالكتبة.
و مع تكون نظام محمد على و فى سياق إعادة بناء الدولة فى مواجهة محاولات الغزو الاستعمارى ، بدأت عملية تحديث بغرض تطوير القدرات الدفاعية للبلاد و النهوض بالاقتصاد لتوفير الفائض اللازم لتمويل عملية إعادة بناء الامبراطورية العثمانية تحت قيادته.  و لكن لأسباب اجتماعية- تاريخية معقدة لم تكن هذه العملية كاملة و لا متسقة، بل تم تحديث جزئى للبنية الاجتماعية – الاقتصادية الإقطاعية ..  و فى النهاية لم ينجح محمد على لا فى تحقيق أهدافه و لا حتى فى المحافظة على التطور المستقل للبلاد، فاضطر إلى الاستسلام أمام الغرب فى 1838-1840.
 
     و مع هيمنة الغرب و إدماج مصر فى السوق الدولى قسرا استمرت عملية تحديث البلاد و التى تمحورت منذئذ حول إدماج و إعادة إدماج مصر فى السوق الدولى لصالح الأخير ، و لذلك لم تصل عملية التحديث المذكور إلى نهايتها أبدا.  إذ تم التحديث بالشكل و فى الحدود التى تجعل من مصر مستعمرة مفيدة للغرب – و فى السياق- خدمت طبقة كبار الملاك و التجار المحليين.  فتم فى النهاية تكون بنية اجتماعية – اقتصادية متخلفة تتميز بنمو ذو طابع مركب.

و يمكننا إيجاز عملية التحول الاجتماعى - الاقتصادى التى تمت منذ هزيمة محمد على بأنه قد تم الانتقال من نظام الإقطاع الشرقى إلى حالة وسط بين الإقطاع و الرأسمالية  و بمعنى أصح لم يكن الانتقال إلى الرأسمالية حاسما.  بل وقفت مصر عند حالة يمكن أن ُتسمى ب"الانتقال المحتجز" (بتعبير سمير أمين) ، و لكنها مع ذلك ليست عملية انتقال ، بل حالة انتقالية مستقرة، نسميها "بنية التخلف" [2].
تضمنت عملية التحديث المذكورة بناء كوادر جديدة ضرورية للقيام بدور فى البناء الاجتماعى الجديد ؛ "الرأسمالوى"capitalistic  .  فكان لابد من إدخال التعليم الحديث و نشر العلوم الفيزيائية و إدخال نظم قانونية جديدة وضعية.  و كان من المنطقى بالتالى أن يظهر النمو المركب على مستوى جماعات الانتليجينسيا، فالانتلجينسيا الدينية لم تنته لا ككتلة متميزة و لا كفكر، بل ظل فكرها متغلغلا فى وعى الانتليجينسيا الحديثة كذلك.  إذ رغم إدخال العلم و أشكال التنظيم الحديثة لم يتم نشر و ترسيخ مبادىء عقلانية فى الفكر النظرى إلا على نطاق محدود.
لقد كان التصنيع فى عهد محمد على و توسيع الجيش و تزويده بالمعدات الحديثة و تطوير الزراعة و الرى يستلزم إنتاج كوادر تستطيع التعامل مع الصناعة الحديثة و المعدات العسكرية المتطورة: ضباط- مهندسين- مدرسين- مديرين. . .  و مع استمرار عملية التحديث فى عهد الاحتلال و ما بعد الاحتلال كان لابد من إدخال نظم قضائية أكثر تعقيدا تلائم التكوين الجديد لمصر الحديثة.  و كان من الطبيعى أن تظهر قيم جديدة تلائم أولا التنظيم الاجتماعى الجديد ، و تلائم ثانيا ثقافة الأفراد المندمجين فى أو المكونين لهذا النظام الحديث.  و لكن التحديث لم يكن كاملا و لا منسجما أبدا. فالنمو الصناعى لم ينف التأخر الشديد فى الزراعة (رغم تحسين نظام الرى) ، و ظهور أساليب التنظيم الرأسمالى لم ينف استمرار و نمو أساليب التنظيم قبل الرأسمالى ،بل و ظهرت و نمت باستمرار أشكال من التنظيم تتسم بطابع مركب: رأسمالى و قبل رأسمالى ، على صعيد كل من الإنتاج و التبادل.
و هذا النمو المركب يعنى أول ما يعنى أن عملية التحديث لا تسير فى اتجاه إحلال النظام الرأسمالى المعقلن إلى حد ما محل النظام الإقطاعى القديم ، بل نشأ نظام هجين ؛ رأسمالوى. ..  مما يعنى أن القوى الاجتماعية المختلفة قد تأثرت بدرجات متباينة بهذه العملية.  فهناك تحديث و إعادة تحديث على كافة الأصعدة و هناك استمرار نمو لأنماط العمل و التنظيم و القيم القديمة. .  و هناك من ثم أشكال و درجات متباينة من اندماج الجماعات و الأفراد فى مختلف عناصر النظام "الرأسمالوى". مما يعنى أن تناقضات الجماعات المختلفة و الأفراد قد باتت أشد تعقيدا. .  فهناك فئات مرتبطة تماما ببنية التخلف كما هى ، و هناك فئات ُتعد أعلى نتاج لعملية التحديث و تعانى من حالة التخلف ، و هناك فئات لم تستفد شيئا بل خسرت كثيرا، و هناك فى الوسط درجات مختلفة من القبول و الرفض لهذا العنصر أو ذاك من عناصر بنية التخلف.
لقد تم توجيه ضربات قاتلة للمجتمع القديم دون إحلال مجتمع رأسمالى بالكامل محله . و قد تفاوتت درجات حالة الانتقال الناتجة على مستوى الأصعدة المختلفة: الاقتصاد بمختلف أقسامه ،البناء الفوقى بمختلف مكوناته : بنية القيم – الأفكار – التقاليد- جهاز الدولة . . الخ
و كان من الطبيعى أن يحدث تغيير تدريجى ملموس على صعيد البناء الفوقى كنتيجة لتغيرات البناء التحتى.  فقد كان من الضرورى ظهور قيم و أفكار و دعوات تناسب الاوضاع الجديدة من جهة و تناسب تكوين أصحاب المهن الحديثة و أصحاب مهن قديمة فى مواجهة بنية التخلف الجديدة هذه. كذلك كانت التبعية على الصعيد المادى عاملا ساهم بقوة فى انتقال كثيرمن الافكارو العادات و أشكال التنظيم من الغرب.
إذن لم يتم على الصعيد المادى تحويل المجتمع المصرى إلى مجتمع رأسمالى حقيقى. و بالتالى لم يتم على صعيد البناء الفوقى هدم و إعادة بناء متسقة تتجاوز البناء القديم.
و قد أدى النمو المركب فى مصر إلى إعادة تكوين الطبقات المسيطرة دون أن تشهد صفوفها صراعا  تاريخيا بين " البورجوازية " و "الإقطاع"، بل حدث تحول تدريجى للطبقة المسيطرة القديمة: المشايخ- كبار الملاك- كبار رجال الدولة، إلى ملاك كبار و رجال أعمال من نوع مختلف، دون حرب طبقية تذكر، بغض النظر عن الصراع المعتاد بين مختلف كتل الطبقة المالكة.  كذلك أفرز التحديث " طبقة"- مجازا- من عمال الصناعة ، و هى ليست طبقة عاملة بحق ، بل تضم نسبة طاغية من أنصاف العمال.  كذلك ظهرت "طبقة"من عمال الزراعة المأجورين أوسع نسبيا من "طبقة"عمال الصناعة.

   و لكن كانت أبرز نتائج نمو التخلف فى مصر هى تهميش أعداد ضخمة و متزايدة من الجماهير بتحويلها إلى "حثالة بروليتاريا". .  تعيش على هامش عملية الإنتاج.  كذلك كان ظهور فئات وسيطة من الانتليجينسيا كبيرة العدد للغاية قياسا إلى مجمل عدد السكان، تعد أقصى نتاج للتحديث، تحمل مختلف ألوان المعرفة الحديثة و خبرات التنظيم و الإدارة.
 
  و تعود ضخامة كل من الفئات شبه البروليتارية و الانتليجينسيا إلى الطابع العام لنمو التخلف، حيث يتحقق باستمرار نمو أكبر فى القطاعات الثالثية للاقتصاد و يجرى هدم المجتمع القديم بمعدل أعلى من معدل بناء المجتمع المحَدث. و ينتج عن الميل الأول تضخم مستمر فى نسبة أفراد الفئات الوسطى شاملة الانتليجينسيا، بينما ينتج عن الميل الثانى اتساع أعداد حثالة البروليتاريا، و يدعم الانفجار السكانى الظاهرة الأخيرة، و الذى ُيعد أحد نواتج نمو التخلف.
و قد حملت الانتليجينسيا المذكورة ثقافة مركبة؛حديثة علمانية و قديمة دينية.  فهى لم تقد أبدا عملية تنوير حقيقية، و لم تشهر سلاح العقل فى وجه الأيديولوجيا القديمة[3]. .  ذلك أن عملية الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية ظلت محتجزة. .  أو – بمعنى أصح- ظلت الحالة الانتقالية قائمة و مستقرة بما هى كذلك .
فالنمو المركب على الصعيد المادى قد أنتج نموا مركبا على صعيد الوعى كذلك ، فنشأت الانتليجينسيا الحديثة بجانب الانتليجينسيا الدينية ، و الفكر العلمانى بجانب الفكر الدينى ، بدون صراع تاريخى ، حيث صودر الصراع منذ بداية التحول على صعيد الطبقة المسيطرة ( فى البناء التحتى) و التى تحولت سلميا كما ذكرنا من قبل . كما كان الفصل بين الدين و الدولة غير كامل ، بل و كان عنصر الوئام بينهما يغلب أحيانا على عنصر الصراع .  فرغم حاجة الدولة المحدثة و الطبقة الحاكمة الجديدة إلى فكر جديد ، ظل للأيديولوجيا القديمة دور هام للغاية بالنسبة لها ، بفضل حالة الانتقال المحتجز بالذات ؛ المتضمن لاستمرار التأخر و عدم خضوع قطاعات واسعة من السكان لآليات الحداثة الاجتماعية عموما و الإنتاجية خصوصا . .  و نخص بالذات التأثير الخاص لإعادة الإنتاج الموسع للفئات المهمشة [4] ، تلك التى فقدت ارتباطها المادى المباشر بالمجتمع القديم دون أن ُتدمج جيدا فى النظام الاجتماعى الجديد .  و لذلك ظل للأيديولوجيا القديمة مكانة هامة لديها.  لذلك ظلت هذه الأيديولوجيا قابلة للاستخدام كسلاح جيد فى أيدى الطبقة المسيطرة لإحكام قبضتها على الجماهير شبه البروليتارية تلك.  و لا يوجد انفصال مطلق بين الانتليجينسيا و الفئات المهمشة ، لا على صعيد الواقع المادى و لا أيضا على صعيد الفكر .  فالمهمشون ليسوا مجرد صفر ، بل يتعيشون على بنية التخلف نفسها .  و من هذه الزاوية فقط يرتبطون جزئيا بعملية التحديث القائمة.
أما الانتليجينسيا فلم تشكل قطاعا يستقل بالعمل فى إطار نظام حديث محضpure  ، بل هى أيضا تعمل فى إطار بنية التخلف ؛الازدواج البنيوى .  لهذا السبب لم تتبن أيديولوجيا بورجوازية بالكامل ، و لم تصبح علمانية بحق . لذلك ظلت الإشكالية المعروفة بمسألة العلاقة بين الأصالة و المعاصرة قائمة طوال تاريخ مصر الحديث .
و يمكننا أن نصف الانتليجينسيا المصرية عموما بأنها مثل بنية التخلف التى تنتمى إليها ؛ تتضمن حالة انتقال ، أو حل وسط ("تاريخى" بمعنى ما) بين الأيديولوجيا الدينية القديمة (تاريخيا) و الفكر العقلانى الحديث .  و هى حالة تتضمن كلا من السلام و الحرب ، و لكن فقط حرب خنادق، بدون اشتباك حقيقى ، فكل طرف يكتفى بكشف تناقضات الآخر و نقاط ضعفه دون أن يقدم مبررا لنفسه سوى مجرد وجوده. .  إنه وضع يعكس فى -النهاية – حالة البنية الاجتماعية المصرية نفسها. فالطبقات المسيطرة ظلت منسجمة مع بعضها على المستوى التاريخى العام ( طبعا هذا لا ينفى وجود خلافات جزئية و صراعات على توزيع الفائض) ، و فى نفس الوقت لم يفرز نمو التخلف طبقة ثورية جديدة ، إذ لم تكن عملية التحديث فى مصر حادة تماما ( مقارنة مثلا بروسيا القيصرية) ، فلم تنشأ فى مصر مراكز صناعية متطورة ، و تركز التحديث على قطاع الخدمات اللازمة لإقامة اقتصاد تصديرى لسلعة واحدة أساسا ( القطن أولا ثم البترول حديثا) و لإقامة صناعات حالة محل الواردات و كذلك لتقوية قبضة الدولة على المجتمع المدنى .  و لهذا كله شهدت ساحة الأيديولوجيا موقفا سلبيا من ِقبل العقلانية الحديثة فى مواجهة الفكر الدينى . و لم نرصد فى تاريخ مصر الحديث صراعا أيديولوجيا حاسما و تاريخيا . ..  بل ساد الحل الوسط و الانتقاء حتى من قبل الإسلاميين الأصوليين . .  و من الملاحظ أنه نتيجة حالة النمو المركب على صعيد الفكر لم تصبح الثقافة المصرية متماهية و لم تشهد انتصارا نهائيا لأحد قطبيها : الإسلام و العلمانية ، و كنتيجة - فى رأينا- لطبيعة الطبقة المسيطرة الجديدة – القديمة التى سبقت الإشارة إليها ، إذ لم تتطلع هذه أبدا إلى إنهاء نفوذ الدين على المجتمع المدنى و الدولة و تحويله إلى مسألة شخصية و فردية.  و لنتذكر – للمقارنة- أن البورجوازية فى الغرب قد حققت هذا تقريبا، استنادا إلى إنجازاتها الاجتماعية -الاقتصادية الكبيرة.  و فى المقابل نجد أن "طبقتنا" المذكورة لم تحقق أية ثورة بورجوازية بالمعنى المفهوم للكلمة ، كما أنه لم تتكون طبقة بديلة يمكن أن تحفز ظهور و انتشار ثقافة علمانية-عقلانية.
فى ظل هذه الوضعية تحركت الانتليجينسيا جيدة التعليم.
 
و نظرا لغياب الحاجة الموضوعية لتصفية الفكر القديم و تحقيق نصر نهائى للعقلانية فإن الابداع الفكرى لم يبرز فى مصر أبدا .  فبلوغ الحالة الانتقالية بيسر ، و التى لم يقاومها الفكر الإسلامى نفسه مقاومة حادة، ( بل ساهم مفكرون إسلاميون كبارفى عملية تكييف الإسلام مع عملية التحديث الجزئى: محمد عبده و رشيد رضا مثلا) ، لم تتطلب إنجازات فكرية ضخمة. لذلك لم تشهد مصر حركة تنوير واسعة ، مقارنة بأوربا الغربية و روسيا أو حتى الصين الشعبية.

  و ضمن السمات الرئيسية للبنية الاجتماعية لمصر الحديثة تقف التبعية، و التى ُنعدها جوهر هذه البنية ، سواء بعنصرها البورجوازى أو قبل البورجوازى  ، و قد ساعدت التبعية الاقتصادية على حفز أشكال من التبعية الثقافية العامة ، و حتى الأيديولوجية. و قد ساهمت هذه النزعة فى عرقلة(وليس منع) الابداع الفكرى فى مصر.  و من الضرورى فى رأينا ملاحظة أن عملية إنتاج و إعادة إنتاج التخلف فى مصر لم تتم وفقا لآليات داخلية محضة ، بل لعبت و تلعب الضغوط و الحواجز و الحوافز الخارجية الدور الرئيسى، و هذا الحفز الخارجى يترك بصماته على تحولات الثقافة، سواء بشكل مباشر( تأثير مباشر فى الثقافة السائدة) أو غير مباشر(خلق و إعادة خلق البناء التحتى) .  و ربما يفسر لنا هذا التأثير الكبير للفكر الأوربى الحديث على نشوء و تطور الفكر المصرى الحديث، بدءا من تأثير أعضاء بعثات محمد على (الطهطاوى خاصة) .  و هذا لا ينفى أيضا أهمية الابداع المحلى.  إلا أن هذا الابداع نفسه ، علاوة على أنه لم يكن دوره حاسما فى تطور الفكر المصرى الحديث ،كان كذلك يتم فى إطار الثقافة الواردة من الخارج بشكل أساسى.  و حتى "الإبداع " داخل الفكر الدينى قد مثل رد فعل عابر (وليس تطورا ذاتيا) فى مواجهة ما اعتبره الإسلاميون غزوا فكريا من الغرب ، تمثل فى الأفكار الليبرالية و القومية والاشتراكية.  و ما نقصده هنا هو أن الفكر المصرى الحديث لم يكن نتيجة حركة واسعة لإنتاج  الفكر بقدر ما مثل استجابة محلية لدور أجنبى مباشر و غير مباشر.  فالليبرالية و القومية و الاشتراكية لم تظهر كنتيجة لتناقضات الفكر المحلى القديم ،بل كانت قبولا محليا(مع تكييف ما) لفكر ُنِقل نقلا من الغرب.  و هذا لا يعنى أنه لم توجد أسس محلية لانتشار مثل هذه المبادىء ، بل ُوجدت بالتأكيد هذه الأسس و بقوة.  فتناقض الفكر القديم مع الواقع هو حقيقة برزت بوضوح فى عجزه عن التصرف فى مشكلة التبعية-التخلف. .  و اتضاح قلة حيلته أمام الفكر المدجج بالسلاح و القوة الاقتصادية و النموذج المؤسساتى الأوربى .  و لكن تلك الاسس المحلية تتضمن كذلك عوامل ذاتية مثل نزعة تقليد الغرب و الإعجاب بالسادة الأوربيين و بقيمهم،تلك العوامل الناتجة عن قوة و نجاحات التنظيم الرأسمالى - الأوربى للمجتمع ووضوح تفوقه على الأنظمة الشرقية التقليدية ، هذا التفوق الذى ساندته القيم الأوربية الحديثة فى مجملها.  و إن هذا كله يعنى أن نشوء الفكر المصرى الحديث لم يكن نابعا- كعملية تحول- من الذات.  فمثلما كان نشوء بنية التخلف فى مصر عملية قصرية إلى هذا الحد أو ذاك ، أو على الأقل ُمحفزة بشدة من الخارج ، كان كذلك نشوء الفكر المصرى الحديث. إذ لم يوجد إطلاقا عنصر انتقال فى مصر القرن التاسع عشر يبرر التحول(الذاتى) من القنانة ( المعممة و غير المعممة) إلى نظام السوق والتطور المركب ، و لا من الإسلام السلفى إلى الإسلام المعقلن و الفكر العلمانى . فالعامل الخارجى هنا حاسم تماما ، فلا يُتصور أن ينشأ نظام تابع بدون وجود و فعالية الطرف الخارجى إلى أقصى حد.

   و نحن لا نشير إلى دور التأثير الخارجى ( السائد) لإظهار النقائص ، بل لإبراز عدم تماهى الفكر المصرى الحديث و التباين القائم بين الفكر الموجود بالفعل و الإمكانيات المحلية لإنتاج الفكر.
و نود أن نشير إلى ظاهرة جد بارزة تخص الانتليجينسيا المصرية . فلقد تميز نمو التخلف فى مصر بتضخم حجم الانتليجينسيا باستمرار بمعدل كبير بحيث باتت تشكل منذ منتصف هذا القرن قطاعا عريضا فى المجتمع. و هى الحقل الأهم على الاطلاق إن لم يكن الوحيد لإنتاج وتلقى و انتشار الفكر النظرى بالمعنى المفهوم.  و قد قابل هذا الحجم الضخم ضعف بالغ لكل الطبقات كتكوين .  فالطبقة المسيطرة من رجال أعمال و كبار ملاك هشة للغاية و عاجزة عن إحداث تغيرات جذرية سريعة و تقدمية بحيث تقيم بناء اجتماعيا ُمحدثا بشكل ناجز.  أما "الطبقة العاملة" فهى ليست طبقة حقيقية بأية حال ، فعلاوة على صغر حجمها بالنسبة لمجمل السكان و تبعثرها ، يرتبط كثير من أفرادها بأنشطة أخرى بخلاف العمل المأجور ، و هى لا تملك أدوات نضالية فعالة و لا تقاليد متماسكة فى النضال حتى الاقتصادى، و يضاف لذلك غيابها السياسى بالكامل باستثناء فترات بالغة القصر فى تاريخ مصر الحديث .  و بخصوص طبقة الفلاحين فقد ظلت طوال تاريخ مصر الحديث غير واعية بمصالحها الجماعية و لم تشكل قط جماعة ضغط فاعلة و هى على العموم لا تملك آفاقا تقدمية.  لهذا و ذاك وجدنا الانتليجينسيا تملك دائما المبادرة إزاء النظام القائم ( عدا لحظات نادرة) و تقود نظريا و عمليا كل "الطبقات"الأدنى ، بما فيها عمال الصناعة ( نؤكد أننا نقصد بالانتليجينسيا أصحاب العمل الذهنى عموما).  فكافة الأشكال السياسية غير المعبرة عن الطبقات المسيطرة قد تكونت من مثقفين بشكل أساسى( المنظمات "الشيوعية"- حزب مصر الفتاة- الإخوان المسلمين- الطليعة الوفدية- الناصريون بعد سقوط الناصرية- أحزاب العمل و التجمع . . إلخ . . ) و من الطبيعى أن يقود المثقفون ( بالمعنى الضيق للكلمة) الطبقات المختلفة ، و لكننا لا نقصد هنا القادة الأفراد بل المثقفين بالمعنى العريض؛ المتعلمين ككتلة اجتماعية . ..  أى جمهورهم العريض ككل.  و على هذا يمكننا تحديد أن الصراع السياسى فى مصر الحديثة قد تركز بين الدولة( و الطبقة المسيطرة) و الانتليجينسيا ، التى وقف وراءها أحيانا بعض العمال و قلة من الفلاحين، سواء قبل 1952 أو أثناء العهد الناصرى أو بعده و حتى اليوم.  بل و لعبت الدور الأكبر فى الكفاح الوطنى أثناء الاحتلال .  و نلفت النظر إلى أن دورا جوهريا قد قامت به الجماهير المهمشة فى الصراع الاجتماعى ، يتلوهم العمال و الفلاحون ، و لكن فى لحظات محددة، من أهمها انتفاضة يناير 1977.  بخلاف ذلك كانت المعارضة دائما فى أيدى الانتليجينسيا و كانت فعاليتها هى الأكثر تأثيرا فى مسار الصراع الاجتماعى و السياسى .
و من الأمور الجديرة بالملاحظة أن الانتليجينسيا المصرية فى مجملها و المعارضة منها بالأخص قد حثت دائما على زيادة دور الدولة و تغلغلها فى حياة المجتمع المدنى و تنظيمه سواء فى اتجاه مزيد من التحديث أو تطبيق الشريعة أو التنظيم بوجه عام.  و كل هذه المسائل تحتاج إلى مواهب الانتليجينسيا ، مما يمنحها فرصة للهيمنة و تحقيق النفوذ، كما أنه أمر ُيشبع تطلعاتها النخبوية .  لذلك ظلت العلاقة بين الانتليجينسيا و الدولة قوية للغاية رغم الخلافات و الصراعات و حتى العنف المتبادل أحيانا.
و نحن نقصد بإثارة هذه النقاط التنبيه إلى عقم تلك الطريقة الشائعة فى تحليل الصراع الاجتماعى  و التى تعد كل حزب معبرا عن طبقة اجتماعية محددة : عمال – فلاحون- بورجوازية كبيرة- بورجوازية صغيرة . . إلخ .  فلا يمكن مثلا اعتبار "الإخوان المسلمين" مجرد معبرين عن البورجوازية الصغيرة [5]، تلك الطبقة الهزيلة جدا فى مصر ، كما لا يمكن اعتبار "الحزب الشيوعى المصرى" معبرا عن عمال الصناعة بحال من الأحوال .  فكل منهما يتشكل أساسا من متعلمين و يعمل وسطهم و بطريقة تلائمهم.

   و أخيرا نود أن نلقى بعض الضوء على التكوين الداخلى للانتلجينسيا المصرية:

   تحتكر هذه الفئات شيئا بالغ الاهمية و هو العلم، سواء العلم الفيزيائى أو العلوم الاجتماعية النظرية و التطبيقية، و كذلك الفكر و فهم الأيديولوجيا( شاملة الفكر الدينى).  و يتشكل قطاعها العريض من انتليجينسيا حديثة ، أما الانتليجينسيا الدينية فلا تشكل سوى كسر بسيط من جمهورها الغفير.
 
تحمل إذن هذه الفئات سلاح العلم الحديث  و هى تتلقى العلم من الخارج مباشرة: كل العلوم الفيزيائية ، و حتى العلوم الاجتماعية.  فإذا كان للإبداع المحلى دور فى إنتاج الأيديولوجيا فإن دوره الفعلى فى إنتاج العلم لا يذكر.  و لنمد هذا ا لكلام على استقامته: هناك تناقض معين بين العلم الوارد من الخارج ، أو على الأقل بين منهج هذا العلم و بين الأيديولوجيات السائدة ، نصف العقلانية فى أحسن الأحوال. و يضيف هذا التناقض مزيدا من العمق لازدواجية الفكر المصرى الحديث و التمزق بين "الأصالة" و "المعاصرة".
       
  إذن قطعت الانتليجينسيا المصرية خطوات ملموسة على صعيد العلم،فهى متعلمة بشكل متماسك إلى حد ما، و لكنها لم تقطع الشوط نفسه على صعيد عقلنة الفكر. فالتحديث فى مجال العلم كان كاملا،و لكن على صعيد الفكر لم يصل إلا إلى منتصف الطريق فى أحسن الأحوال.  و يضاف إلى عامل التمزق هذا عامل آخر: فالتعليم النظرى يصل إلى قمته، و لكن تطبيقه، بمعنى عقلنة النظام الاجتماعى قد توقفت عند منتصف الطريق أو أقل .  و تخلق هذه الوضعية إشكالات كثيرة للمثقفين. و لنتخيل ماذا يتيح المجتمع المصرى لعالم فيزياء كبير أو لمهندس كيميائى نابغ أو لطبيب متفوق. . . فقط يتيح لهم مأزقا خطيرا(هذا أحد دوافع هجرة العقول). و كثير من هذه النماذج ُينتج فى مصر بالجملة. و بالتالى يكون ضمن مشاكل المثقفين عدم الانسجام بين طاقاتهم و بين ما يستطيع النظام الاجتماعى أن يستوعبه منها. هذه نقطة، و هناك قضية أخرى: فهذه الانتليجينسيا المتعلمة جيدا تجد نفسها عاجزة عن تجاوز الفكر اللاعقلانى الموروث. فقد تكونت فى إطار ثقافى مزدوج و لا يوجد أساس اجتماعى مادى لتجاوزه مما يضعها أمام إشكالات عديدة تتلخص فى التناقض بين منطق العلم و "منطق" الأيديولوجيا الازدواجية التى تحملها ، و حتى بين هذا كله مجتمعا و بين قيم وتقاليد المجتمع السائدة؛ القديمة- الجديدة. و لنتصور وضع باحثة فى الفيزياء لا يعطيها المجتمع حق الانتخاب (قبل 1956) أو حريتها فى الملبس و الإقامة بمفردها و حق الطلاق أو الانفصال عن زوجها.  فهناك مشكلة إذا هى تطلعت إلى هذه الحقوق ، اما إذا لم تفكر فيها فهذا يدل على وجود مشكلة أعمق.
المفاهيم و النزعات المتأصلة لدى أفراد الانتليجينسيا المصرية هى إذن بين الفكر التقليدى القديم المرتبط أساس بالدين، خصوصا الإسلام و الفكر العقلانى الحديث. ووفقا للتباينات العديدة داخل كافة مكونات البنية الاجتماعية تختلف درجة هذا الخليط لدى أفراد و جماعات الانتليجينسيا المصرية اختلافا شديدا.
و نأتى الآن إلى المصالح المادية للمثقفين.  لقد تربت الانتليجينسيا المصرية فى حضن الدولة منذ محمد على( تعليم مجانى أو رخيص- وظائف حكومية مضمونة للغالبية العظمى، حتى للكتاب و الأدباء و المفكرين و الباحثين).  و قد استطاعت الدولة أن تشترى بشكل نهائى عددا محدودا من "المفكرين" و الكتاب من خلال دمجهم تماما فى مصالحها و آليات عملها.  و لكنها لا تستطيع قط أن تشترى الجميع إلا أنها تضطر إلى إنتاجهم بالجملة كحد أدنى من الرشوة (فى صورة عملية التعليم نفسها) لأبناء الطبقات الأدنى (هذه الظاهرة واضحة تماما منذ ثلاثينيات هذا القرن).  و رغم الضمانات المذكورة فإن المصالح المادية للمثقفين لا تتحق فى ظل النظام القائم بشكل متماثل، بل توجد درجات عديدة من الارتباط المصلحى بينهم وبين الدولة(و بين الطبقة المسيطرة)، بل إن البعض قد نُقل من طبقته أو فئته الأصلية إلى مصاف المتعلمين دون أن يحصل على أية ميزة مادية إضافية.  فالانتلجينسيا لا تنتمى فى مجملها إلى الصفوة ،بل إنها تعرف البطالة و الفقر و الإفقار أيضا مثلما تعرف امتيازات متعددة بالإضافة إلى الوجاهة الاجتماعية طبعا.  كذلك تتفاوت مصالح الأفراد حسب موقعهم فى عملية التحديث المستمرة و معدلها المتغير.
كذلك تأتى مسألة النظام السياسى ضمن المسائل التى تهم الانتليجينسيا.  فقد تطلع دائما هؤلاء المتعلمون إلى دور خاص فى إدارة البلاد، بحكم شعورهم بكفاءتهم و تفوقهم.  فإن لهم طموحات نابعة من تكوينهم كمثقفين فى بلد "غير مثقف" ككل، كما أن لهم مصالح مادية و معنوية مرتبطة بطريقة ومعدل عملية التحديث القائمة.  و لنتذكر أنهم يتطلعون (عادة) إلى وضع نظرائهم فى أوربا،كما لا ُيغفل الوضع المميز لنظرائهم السابقين على التحديث فى مصر(رجال الدين أساسا).  و رغم أنه قد بُدء فى تحديث جهاز الدولة منذ محمد على وُقطعت خطوات فعالة على هذا الطريق، فإن النظام السياسى بما هو كذلك لم يتغير إلا تغيرا شكليا بشكل أساسى، فالطغيان و الحكم الفردى و الإدارة الغاشمة ظلت موجودة.  و لنتأمل كيف يكون شعور مئات الألوف من المدرسين و المحامين و الأطباء و هم يستمعون إلى قرار بإلغاء الدستور أو بحل البرلمان دون مشورتهم، أو بنقل الصحفيين إلى إدارات الدولة، وإلى طرد القضاة. . إلخ. .  و هذا لا علاقة له بكون الانتليجينسيا المصرية ليبرالية أم لا ، بل هى تريد أن تشارك فى إدارة النظام بشكل أو بآخر.  فمشاركتها تمنحها ضمانات ما بتحقيق أوضاع تنسجم بقدر أو آخر مع ثقافتها ومصالحها المادية. و لا شك أن عددا من المثقفين يشكل النخبة السياسية كتابعين مباشرة للنظام السياسى و الطبقة المسيطرة بالطبع ، إلا أن الجمهور العريض من هؤلاء لا يتمتع بوضع مناسب إزاء النظام السياسى.  و لا شك أن الأخير قد أصبح أكثر مرونة مع سقوط نظام محمد على، إلا أنه لم يصبح مرنا للدرجة التى تستوعب تطلعات الانتليجينسيا، بل و يشهد فترات طويلة من التصلب و الشراسة. . لذلك ظلت الانتليجينسيا تنتج حركات المعارضة.
و يمكننا إيجاز المصالح المشتركة لأفراد الانتليجينسيا المصرية فيما يلى:
1- خلق مناخ اجتماعى- اقتصادى يلائم مهاراتهم العلمية و العملية العالية.
2- تعديل النظام السياسى بحيث يمنحهم فرصة كافية للمشاركة فى إدارة النظام الاجتماعى بحيث يصبح بالصورة الملائمة لاستخدام طاقاتهم مع تقديم قدر ملموس من الامتيازات المادية لهم.
و هذا لا يعنى أن الانتليجينسيا تشكل طبقة اجتماعية، فهى لا تشارك فى نمط إنتاج معين ، بل إن مصالح أفرادها ليست واحدة تماما إلا فى الاطار العام للغاية المذكور أعلاه. و قد وجدنا المثقفين المصريين يختلفون بشدة حول طبيعة التغيير المطلوب فى النظام القائم. و قد أشرنا من قبل- و نؤكد هنا- أن المثقفين يندمجون فى النظام المذكور بدرجات متباينة ، فمصالحهم ( الاقتصادية و الثقافية) و إن كانت تتفق فى النقطتين المذكورتين، تتباين بشدة داخل هذا الاطار، و إلى الحد الذى أدى إلى تبنيهم لأيديولوجيات و شعارات سياسية متعددة بل و متناقضة(نظريا على الأقل).
 
    و الانتليجينسيا لا تملك مشروعا سياسيا يخصها على وجه التحديد لإعادة بناء المجتمع و هى لا تتطلع- بما هى كذلك- إلى مصادرة النظام لحسابها. فالجماعات المختلفة من المثقفين لم تتحدث على الصعيد الأيديولوجى أو السياسى باسم المثقفين، بل باسم الشعب أو الكادحين أو العمال أو المسلمين أو مصر. . إلخ.  أى أنها احتاجت دائما إلى قوة من خارجها تصلح لتمثيل الإطار الكلى الذى يلائمها.  فهى لا تحمل- موضوعيا- نظاما اجتماعيا كاملا( مثلما تحمل البورجوازية –مثلا – النظام الرأسمالى)، و لكنها تتطلع إلى هيكل عام يخص قوة اجتماعية أساسية أو على الأقل تفترض هى أو تتخيل هذه العلاقة ، و لكن لها فيه موضع قدم مناسب . و لأن عملها الذهنى منفصل إلى حد كبير و متميز و غير متلائم كإمكانية مع البناء الاجتماعى المتخلف، ترى فى نفسها العقل الأوحد فى المجتمع. . أى أنها تراه جسدا يجب إصلاحه ، فعلاقتها به – من وجهة نظرها- هى علاقة  ذات بموضوع .  و من ثم تجد فى نفسها صاحبة رسالة. .  فليس المهم هو الإمكانيات الكامنة فى الجسد الاجتماعى ككل – شاملا الانتليجينسيا نفسها- بل ترى أن المهم هو موقفها هى . .  رأيها الخاص. .  و من هنا تأتى مشاريعها؛ الليبرالية- الاشتراكية- الدولة الإسلامية . . إلخ،  معبرة عن رغبتها و طموحاتها الخاصة ، لا عن مصالح موضوعية حقيقية لقوى اجتماعية قادرة على التغيير الجذرى.  لذلك تتعامل مع الأيديولوجيا و المشاريع السياسية باعتبارها اختيارا محضا؛ الرأى الأصوب عموما، أو المبدأ الصحيح، محاولة تكييف الواقع معه دون محاولة حقيقية لتكييفه مع الإمكانيات الموضوعية ، باحثة فى الوقت نفسه عن قوة اجتماعية تصلح – من وجهة نظرها- لتبنى ذلك المذهب. .  بل وقد تعلن أن هذا المذهب يخص الله نفسه.
و لنلاحظ أن الطبقة التى كانت طوال تاريخ مصر الحديث أقوى و أقدر( نظريا على الأقل)على تبنى مشروع اجتماعى شامل هى الطبقة المسيطرة نفسها أو أحزابها على الأقل( الوفد مثلا قبل 1952) .  مما يفسر لنا جزئيا على الأقل تفكك و هزال حركات المعارضة، الجذرية بالذات.

و رغم وجود مصالح عامة للانتليجينسيا الحديثة فى مصر ، إلا أنها قد تشرزمت سياسيا و أيديولوجيًا طوال تاريخها.  و يمكن تحديد عدة عوامل لعبت أدوارا متباينة فى هذا التشرزم:

1- اختلاف الأصول الاجتماعية للمثقفين؛ فهناك أبناء مثقفين و أبناء فلاحين و مدينيين من طبقات مختلفة.
 
2- انقسام المثقفين أنفسهم إلى شرائح اجتماعية عديدة.

3- وجود اختلافات فى درجات الاندماج فى كل من النظام السياسى و النظام الاجتماعى.

4- اختلاف المهن: تكنوقراط- ضباط- باحثون- علماء- كتبة . . إلخ.  و بالتالى اختلاف مناهج التفكير فى حدود تأثير المهنة فى منهج التفكير.
 
5- تباين المصالح الجزئية تجاه حالة التبعية.
 
لهذه الأسباب و ربما لأسباب إضافية تباينت الطرق التى تبنتها جماعات الانتليجينسيا المصرية لتحقيق تطلعاتها العامة المذكورة.
 
**********************
             
 


[1] نقصد بالانتلجينسيا الأفراد الذين يتخصصون فى العمل الذهنى ؛ أى المتعلمين : الأطباء – المهندسين – المحامين – المديرين – المحاسبين – الصحفيين – العلماء – الباحثين – الكتاب – الفنانين – الأدباء – رجال السياسة – رجال الإعلام – الضباط – رجال الدين ..إلخ .
 
[2] ألقينا الضوء على هذه الظاهرة فى : الراية العربية، كتاب غير دورى ، الكتاب الأول و الكتاب الثانى ،نوفمبر  1986 ، سبتمبر  1988.
 
[3] بالاطلاع على ما يسمى بعصر التنوير العربى( القرن التاسع عشر) نجد ثلاثة تيارات رئيسية : التيار الدينى المحافظ ، المتمسك بالثقافة التقليدية و المعادى لأية نزعة تغريبية أو تبدو كذلك . و التيارالعلمانى المتأورب ( مثله أساسا المفكرون المسيحيون الشوام و الذين انتقل بعضهم إلى مصر). أما الاتجاه الثالث و هو الغالب، فيشمل المجددين الإسلاميين ، الذين حاولوا تطويع الإسلام التقليدى للمتغيرات الحديثة و مزجه بالعقلانية الأوربية . و فى رأينا لم تعبر التيارات الثلاثة عن حركة تنوير حقيقية ، فالأول معاد للتنوير مباشرة كما هو واضح ، و الثانى ؛ التنويرى ( بالمعنى الأوربى )  لم يتعرض إطلاقا للأيديولوجيا السائدة  و لم يمسها تقريبا و اكتفى بنقل بعض الأفكارالعلمانية و العقلانية من أوربا كما هى، و لم يجد استجابة ملموسة من جمهور الانتليجينسيا. أما الاتجاه الثالث ، الرئيسى ؛ النهضوى - بالمعنى الأوربى- فقد جذب أغلبية الانتليجينسيا و كان مهتما بتطويع الفكر الإسلامى مع عملية التحديث مع الاحتفاظ بنفس الأسس المعرفية. و من الملاحظ أن العلمانيين و المجددين قد ركزوا جل اهتمامهم لا على الفكر النظرى بل على الفكر الاجتماعى- السياسى، فاهتموا بقضية المرأة والحريات الشخصية و فوق ذلك اهتموا أكثر مااهتموا بإقامة نظام برلمانى و حكم دستورى و نظام قضاء حديث، دون تجاوز الشريعة الإسلامية . مقابل هذا لم نلاحظ اتجاها واضحا لنقد الابستمولوجيا القديمة.
   و قد عبر الاتجاه الثالث عن أقصى طموحات الطبقة المسيطرة . و رغم الخلافات و الصدامات المحدودة التى جرت بين الدولة و بين بعض عناصر المجددين ظل هو الاتجاه "الرسمى " للدولة دون أى نبذ أو تصفية للاتجاه الأول بالطبع ، المتركز فى الأزهر و الذى لجأ هو الآخر إلى  تجديد جزئى.
 
[4] من الملاحظ أنه فى فترة متأخرة من نمو التخلف فى مصرُأضيف للفئات المهمشة بعض عناصر الانتليجينسيا نفسها، خصوصا فى أربعينيات ثم فى سبعينيات هذا القرن ، فصار هناك متعلمون عاطلون تماما،كذلك تحول بعض المتعلمين إلى الأعمال الرثة( حثالة بروليتاريا) و لكننا نفصل هنا بين الانتليجينسيا و الفئات المهمشة على أساس أن عنصر الاندماج بينهما محدود للغاية ، و تظل حثالة البروليتاريا تشمل نسبة صغيرة للغاية من المتعلمين و ترادف – تقريبا – بالتالى مفهوم الفئات المهمشة .
 
[5] يستخدم أغلب الكتاب المصريين تعبير " البورجوازية الصغيرة" للدلالة على الفئات الوسطى عموما ، شاملين حتى صغار الضباط و المثقفين و أصحاب الدكاكين الصغيرة و تجار الشنطة ..الخ . و نحن نرى أن هناك فرقا جوهريا بين صغار المنتجين السلعيين ، أى البورجوازية الصغيرة بحق و بين الفئات الوسطى ( الانتليجينسيا وصغار التجار . إلخ ..). فالبورجوازية الصغيرة لها نمط إنتاج" بورجوازى صغير" ، و هذه هى سمتها الجوهرية ، و هو نمط الإنتاج العائلى فى حالته المفككة.أما الفئات الوسطى فليس لها نمط إنتاج أصلا، لذلك لا تدخل ضمن طبقات المجتمع. و هذا التميييز ضرورى للمحافظة على دقة التحليل.



#عادل_العمري (هاشتاغ)       Adil_Elemary#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الناصرية فى الثورة المضادة
- مشروع لتحديث مصر
- تحليل عام للحركة الشيوعية المصرية


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - عادل العمري - وضع الانتليجينسيا فى البناء الاجتماعى المصرى الحديث