|
تزييف الوعي
هويدا صالح
روائية ومترجمة وأكاديمية مصرية
(Howaida Saleh)
الحوار المتمدن-العدد: 1762 - 2006 / 12 / 12 - 11:33
المحور:
الادب والفن
حين يجد المشاهد نفسه أمام برنامج منوعات ، وضع له معده سياسة تجمع بين الترفيه وتقريب الثقافة السينمائية لذهن المشاهد العربي ، فإن المشاهد تلوح لذهنه على الفور أسئلةٌ يتوقع من المقدمة أن توفرَ لها جواباً ، من هذه الأسئلة السؤالُ كيف فهم المقدم ُ الذي اًُختير لتقديم البرنامج سياسة البرنامج ؟ هل يتفق البرنامج مع الثقافة السائدة ؟ ولماذا يرشحه للمشاهد دون غيره من البرامج ؟ ، وما أهميته في اللحظة الراهنة من تاريخ الثقافة والسينما في بلادنا ؟ ، و المشاهد معذور إذا أحس أن فلسفة البرنامج لا قيمة لها تُذْكَرُ، ما لم توفر له جواباً لكل سؤالٍ من هذه الأسئلة ؟ ، فعلي مقدم البرنامج أن يحقق رؤية المعد ، وأحسب أني أشارك هذا المشاهد العام ـ الذي أفترضه افتراضاً ـ توقعاته ، وأريد من هذا البرنامج أن يوفرَ الإجابات قدرَ ما يستطيع ، أو قدر ما يستطيع معده ، و مقدمه ومخرجه ، والمأزق الذي يقع فيه فريق العمل ، وهو أمرٌ شائعٌ في بلادنا يصدر عن مصادر عدة : منها " الفرقعة " الإعلامية التي يبحث عنها الإعلام بصفة عامة ، وبرامج المنوعات بصفة خاصة ، و انصراف المشاهد عن البرامج الجادة ذات الرؤى المنطقية ، والأيدلوجية التي تعبر عن وجهة نظر أصحابها ، ومنها الكسلُ العقلي الذي يؤثر الوقوعَ في أسر الأحكام المسبقة بلا مراجعةٍ ، ويتعجل إبرام الأحكام النهائية القاطعة والتشبث بها ، والتنعم براحة اليقين التي تُوهِمُ بها ، وأنا ، إزاء هذه القراءة المنتقصَةِ عندي ، لا أضنّ على المشاهد ـ وعلى البرنامج ـ بصفة النقد الفني متحققة كاملةً ، ؛ وكلنا يعرف أن الإنسان ـ ذكراً كان أو أنثى ـ الذي يمارس فناً من الفنون ، لا يستطيع أن يحقق تميزه واختلافَه إلا بنظرةٍ نقديةٍ يوجهها إلى عمل الآخرين ويتفاداها في عمله باختياراتٍ جماليةٍ مخالفةٍ ، ولا يستطيع ، كذلك ، أن يُنْضِجَ عمله الفنيّ إلا بنظرةٍ نقديةٍ يراجع بها عمله نوعٌ من السير الشاق على صراطٍ مرهف ، أو على أعرافٍ حادةٍ ، بين خطابٍ نقديٍّ محايد وعلمي و ممنهج ، وبين رؤية شخصية وأيدلوجية تفضل نوعاً من البرامج علي آخر ، أو ، ترفض مقدم برنامج عن آخر . ولئن كان الإعلام يلعب دوراً هاماً في تشكيل وعي الناس ، فإن التلفزيون بصفة خاصة يلعب دوراً شديد الأهمية في تشكيل قطاع عريض من المجتمع ، يشكل مستقبل هذا الوطن ألا وهو الشباب ، فبرامج التلفزيون تقوم بدور خطير في تزييف وعي الشباب ، والترسيخ لكل ما هو سطحي وتافه علي حساب الحقيقي والجاد ، و حتي لا يبدو الأمر أننا نغرق في الحس التآمري ، وأن وراء كل شيء مؤامرة تستهدف وعينا وشبابنا ، وتسعي لتغييبنا ، و انطلاقاً من النقاط التي تمّ طرحها سابقاً سوف أتعرض بالنقد والتحليل لبرنامج منوعات هو " هالة شو " أو " السينما والناس " و قبل أن ندخل إلي البرنامج علينا أن نبدأ بما يسمي في مصطلحات النقد الأدبي بـ " عتبات النص " 1 ـ أولي هذه العتبات هو: " تتر" البرنامج الذي يمر سريعاً ولا يعطي الفرصة للمشاهدين بقراءة أسماء فريق العمل . 2 ـ ثاني عتبة من عتبات النص هي : مقدمة البرنامج الدكتورة هالة سرحان ، وقد بلغت هيمنتها علي البرنامج درجة كبيرة جعلت البرنامج يسمي باسمها " هالة شو " . قد تحول دور المذيع في كثير من البرامج فلم يعد مجرد مقدم حيادي بل صار جزءاً من فلسفة البرنامج ، جزءاً من العرض ، وبالتالي أصبح تركيز الكاميرا كاملاً عليه ، أصبحت هالة سرحان جزءاً من العرض ، بل هي كل العرض غالباً ، فلابد أن تجسد ملابسها و مكياجها وطريقة كلامها فلسفة العرض ، فهي تفوق بقية المذيعات المصريات ـ بشكل خاص ، والعربيات بشكل عام ـ في الاستعراض والسباق المحموم باللعب بالجسد وتعرية أكبر قدر منه ـ رغم أنها كادت أن تبلغ من العمر أرذله ، وقامت بكثير من عمليات التجميل لتبدو في تلك الهيئة ـ إلا أنها فاقت الجميع في استعراض الجسد ، فظهرت بملابس لا تليق أبداً بسنها ، هذا بالإضافة إلي طريقتها المستفزة والتي تتسم بالسوقية فهي يمكن أن نطلق علي أدائها ـ بلغة شباب هذا العصر ـ " بيئة أو فالجر " ، فهي لا تراعي قواعد الذوق واللياقة في الكلام وحركات اليدين والوجه ، كل خلجة من خلجات وجهها تنطق بالهياج والشهوانية التي لا تليق أن تُعرض أمام ملايين المشاهدين في بيئة محافظة كبيئتنا العربية . كما أنها كانت تخطئ في نطق التصريحات الصحفية التي كانت تقرأها من جرائد سبق نشرها وتهاجم الأوبريت ، وتتهمه بأنه يقدم الأغنية الوطنية بطريقة سطحية ، ليس فيها ثقل أو حماس الأغنية الوطنية التقليدية ، كما استعرضت التصريحات التي تناصره وتدافع عنه باعتباره نموذجاً للأغنية الوطنية العصرية . 3 ـ الإضاءة لعب بها المخرج بشكل يفوق العادي فهي موزعة بشكل جيد ، أرضية الأستوديو مضاءة بألوان مختلفة ، بل تسقط الأضواء بألوان متعددة وصاخبة من أعلي ، وفي الأركان ثُبتت كشافات ، تعطي إضاءة زرقاء توحي بالهدوء والرومانسية وسط هذا الضجيج من ألوان الإضاءة المختلفة الساقطة من أعلي والمنبعثة من أرضية مكان التصوير . 4 ـ الديكور : هناك ديكور واقعي مجموعة من الكراسي وسط الأستوديو وأمام الجمهور مباشرة يجلس ضيوف البرنامج ، كما أن في الخلفية شاشات تلفزيون تظهر عليها هالة في كادرات متعددة . 5 ـ مضمون الحلقة : عبارة عن استضافة فريق عمل أوبريت " مصر اللي بتضمنا " وهم مدحت العدل ومجموعة من المطربين يقومون بمناقشة الأوبريت وفكرة الأغاني الوطنية والتعرض لأنواع الأناشيد الوطنية منذ الثورة و حتي اللحظة الراهنة ، كما أنها حرصت علي قراءة بعض تصريحات النقاد في الجرائد والمجلات التي تؤيد الأوبريت ، وتلك التي تناهضه ، وركزت المذيعة علي تصريحات الفنان والمطرب محمد نوح وحرصت وهي تقرأها علي أن تقوم بحركات بعينيها وفمها لا تليق بل وتثير فريق العمل الذي استنكر مهاجمة محمد نوح لهم . 6 ـ التصوير : قام المصور بجهد غير عادي في اللعب بالكاميرا وتقريبها من وجه هالة ، ثم يبعد الكادر بسرعة مع موسيقي مصاحبة توحي بالإثارة . كما أخذت الكاميرا كادرات اتسمت بالسرعة الحيوية وتنقلت بين وجوه الضيوف حين كانت تقرأ هالة آراء الموسيقيين والنقاد المهاجمة للبرنامج وركزت بشكل كبير علي وجه مدحت العدل المنتج أثناء قراءتها لرأي محمد نوح . 7 ـ الموسيقي : وضعت خصيصاً للبرنامج وهي موسيقي صاخبة توحي بالإثارة والبهجة وهي تناسب برنامج منوعات ترفيهي يعتمد علي قدر كبير من الإثارة. 8 ـ الفواصل ( التي كانت تقوم بها ) بين الفقرة و الأخري : لعب فيها الجرافيك دوراً كبيراً، فبين كل فقرة وأخري يظهر عمود مركب عليه مربع من الشاشات الفضية التلفزيونية تشبه الشاشات المثبتة في الخلفية ، وقد ظهر وجه هالة سرحان في كادرات مختلفة وهذا العمود مثبت عليه شاشات كثيرة تتكون من عدة طبقات . كما أنها كانت تقدم في كل فاصل جزءاً من الأوبريت موضوع الحلقة أو جزءاً من أغنية وطنية قديمة ، أو حتي جزءاً من فيلم . 9 ـ الثقافة السائدة هي : الإعلاء من شأن كل ما هو سطحي وتافه وإظهاره للجمهور باعتباره هو القيمة الحقيقية التي يجب أن نسير وراءها جميعاً ، ونسلم بقيمته دون مناقشة ، بل تحولنا الميديا إلي كائنات سلبية تتلقي فقط ، توافق ، بل تتأثر تأثيراً سلبياً وبالفعل هذا ما قامت به المذيعة ، اختارت للحلقة موضوعاً يناسب برنامجها الاستهلاكي ، موضوع الأوبريت ، وبالطبع لم يفتها أن تستضيف مدحت العدل والمطربين الشباب الذي غنوا الأوبريت ، ولم يفتها أن تسخر بشكل واضح وملحوظ من النقد الفني الذي وجه للأوبريت ، ولننظر كيف قامت بقراءة التعليقات النقدية بشكل ساخر ومفرط في السخرية ، قرأت نقداً للفنان محمد نوح وبدأت تحرك شفتيها يميناً ويساراً استنكاراً لما تقرأه ، لأن الفنان محمد نوح هاجم العمل وهي لم يفتها أن تسخر بشكل لا يليق وهي تنقل لفريق العمل ـ وعلي رأسهم مدحت العدل ـ الانتقاد ، وهذا أثار مدحت العدل فسخر بدوره من أعمال محمد نوح ووصفها بأنها ثورية ( عبيطة ) لا تناسب هذا الزمن ، وأن مثل هذه الأعمال متحفية ، ولا تناسب عصر العولمة ، ذلك العصر ـ في رأيه ـ الذي لا وقت لديه للحب الرومانسي حتي لو كان للوطن ، ورفض تحويل مصر لرمز ، ولحبيبة افتراضية . إذن أصبح البرنامج وسيلة لتصفية الحسابات أمام المشاهد مباشرة . 10 ـ مدي صلاحية أن يقدم البرنامج في التلفزيون أم أنه يصلح لأن يقدم من خلال الإذاعة : لا يمكن تقديم مثل هذا البرنامج إلا في التلفزيون لأنه يناقش السينما وما يتصل بها من قضايا فلا يمكن تقديمه إلا من خلال شاشة التلفزيون وخاصة أنه يعرض بعضا من الأفلام أو الأعمال الفنية التي يتمّ مناقشتها وهذا ما لا تتيحه الإذاعة مثلاً . 11 ـ تتر النهاية وقع في نفس إشكال تتر المقدمة من حيث السرعة الشديدة التي لا تتيح للمشاهدين قراءة أسماء الفريق الذي أعد البرنامج للعرض . في النهاية لو علم أولئك القائمون علي رأس وسائل الإعلام في مصر والعالم العربي ما يمكن أن تحدثه هذه الوسائل في تغيير أفكار الناس ما تعاملوا مع الميديا بهذا الاستهتار وهذه السطحية ، أنا لا أميل إلي بعض الآراء التي تقول أن وراء هذا التسطيح وهذه المبالغة في نشر اللامبالاة والسخرية مؤامرة غربية لإفساد شبابنا ، أعتقد أن المؤامرة نحيكها نحن ضد أنفسنا بوضع فريق من الإعلاميين الجهلاء الذي لا يشعرون بخطورة مواقعهم ، وأهمية تأثيرهم في الكبير والصغير ، لو علموا خطورة هذا الدور لتعاملوا معه بشكل عميق واهتموا بتأثير ما يقدمونه للمشاهدين .
#هويدا_صالح (هاشتاغ)
Howaida_Saleh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الواقف في مفرق التيه
-
جل أسطوري
-
نجيب محفوظ بين الرمز الفني والواقعي
-
انعتاق
-
نهاية الأضداد وبداية الإعلام غير المحايد
-
الأستاذ منصور
-
الموسيقي الكلاسيكية / عصر الباروك
-
هو يحب الموسيقي ، لكنه ليس حالما تماما
-
المرأة الحزينة
-
عادل السيوي يمارس لعبة المرايا المتقابلة
-
ريهام
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|