لماذا عرقل الأمريكيون دواليب خارطة الطريق بنزولهم عند الشروط الشارونية الأربعة عشر ؟ ولماذا تبنوا الخط الإسرائيلي الذي يقوّض الأسس التي قامت عليها ؟ . شارون بما هو معروف عنه من براغماتية عالية، والمسكون بهاجس الأمن كما تصفه الصحافة الإسرائيلية انطلق في مخطط تلغيمه لمسالك الخارطة الوعرة من فهمه لحدود هامش المناورة المتاحة أمام إدارة بوش، التي يسيطر عليها صقور اليمين البروتستانتي (المسيحي) الأمريكي، الذين تتطابق مواقفهم مع مواقف الليكود الصهيوني، وخلاصة الرأي عندهم ما لم يأخذه العرب بالحرب وبالقوة لا يحق لهم المطالبة به كثمن للسكوت عن "هزائمهم" والقبول بنتائجها، ولا يخفي الأمريكيون بأن ما جرى من احتلال للعراق لن يكون آخرها، والمطلوب من كل العرب وخاصة عرب المشرق استكمال دفع فاتورة الهزيمة الأخيرة في العراق، رغم التسهيلات والقواعد البرية والبحرية والجوية التي اندفعت منها القوات الأمريكية والبريطانية في الحرب على العراق.
رسميات دول عربية تنفست الصعداء، فلقد مضت عاصفة احتلال العراق بهدوء، ولم تنغص من صفو علاقاتها مع الحليفة أمريكا أية تحركات جماهيرية ذات وزن، فلقد غابت الشعوب العربية من البحر إلى البحر عن الفعل المؤثر على مسار الحدث ـ الزلزال ـ، وزاد من هذا الغياب وقع الهزيمة التي أسقطت مع انهيار النظام الدكتاتوري التوتاليتاري باختفاء صدام حسين آخر لبنات التضامن الرسمي العربي، رغم ما كان عليه هذا التضامن من عجز وضعف شديدين.
كان لأمريكا الفعل الوافر في قمة شرم الشيخ، حيث تم تشريع الاحتلال الأمريكي للعراق، ولحق بنتائج القمة أغلبية صامتة لم تحضر، وصادقوا على شطب العراق عن خارطة الدول العربية المستقلة لسنوات تطول ـ ولا نقول ذات سيادة ـ وتساوقوا مع الموقف الأمريكي الداعي إلى محاربة الانتفاضة والفصائل الفلسطينية التي تمارس المقاومة المسلحة، مع قطع التزام بمنع كل أشكال الدعم الرسمي والشعبي العربي عن مقاومة شعب فلسطين وانتفاضته الباسلة للخلاص من زحف الاستيطان والاحتلال، وهذا يمثل سابقة خطيرة في آلية العمل الرسمي العربي، حيث تم القفز عن قرارات القمم العربية بقرار أمريكي - عربي ( يمكن أن نخص بالذكر هنا قمة القاهرة 21 أكتوبر/ تشرين أول 2000 التي خرجت بقرارات مالية وسياسية لدعم الانتفاضة والمقاومة شعبياً ورسمياً وكان هذا أحد تأثيرات الانتفاضة)، وتم كل هذا تحت رايـات الشعار المضلل الذي رفعته إدارة بوش بعـد أحداث 11 سبتمبـر/ أيلول 2001 ( مكافحة الإرهاب)، شعار أعمى لا يفرق بين الإرهاب والمقاومة المشروعة للاحتلال الاستعماري والصهيوني.
في قمة العقبة أخذ شارون بدوره ما أراد بل وأكثر من ذلك، وجاء الخطاب السلطوي الفلسطيني في القمة متهالكاً، وأستنسخ صيغة وحتى مفردات الخطاب السياسي والفكري والثقافي الإسرائيلي الشاروني والأمريكي في تقديمه " الموقف من المقاومة المسلحة"، و"إدانة أي عمل مسلح ضد الإسرائيليين أينما كانوا"، وفي عرضه "لعذابات اليهود في أوروبا" وربطها بسياق فلسطيني، وفي هذا تسليم بنظرية "الحق التاريخي والأخلاقي الصهيوني في فلسطين"، وبالمقابل سكوته عن الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني ولمقومات الحل الشامل المتوازن، هذه الصيغة حملت دلالات أخطر بكثير من تلك المغالطات التي صرّح بها الخطاب، حيث وصْمِهِ للمقاومة الفلسطينية المسلّحة المشروعة في المناطق الفلسطينية المحتلة بالإرهاب، وانقلابه على التاريخ النضالي الوطني الفلسطيني بحديثه عن عذابات اليهود على مر التاريخ، وقوله بأنه آن الأوان لوقفها. وهنا نقول لصاحب كتاب "الصهيونية بداية ونهاية" بأن اليهودي الصهيوني المظلوم والمُضْطَهد في أوروبا جاء إلى بلادنا غازياً ومحتلاً، ولم يتوقف خلال ما يقارب قرن عن قتل أبناء شعبنا ونهب أراضينا وحقنا في وطن مستقل. إن التضامن مع اليهود لا يكون إلا بمساعدتهم على الخروج من شرنقة العنصرية التي وضعتهم فيها على الدوام، قياداتهم الصهيونية الإرهابية، وايديولوجيا المشروع الاستعماري الصهيوني التوسعي في فلسطين والاقطار العربية المجاورة .
السيد بوش المنتشي بنتائج القمتين أراد أن يجزل من هداياه لشارون، فأعطى التزاماً مطلقاً بالحفاظ على طابع "يهودية دولة إسرائيل"، هذا الطابع العنصري الذي يمنع حتى الآن قبول "إسرائيل" بتسوية متوازنة وشاملة للصراع، فتحت هذا "الشعار الحق" المسكون بالمخاوف الأمنية على حد زعمهم تتم المطالبة بشطب حق العودة للفلسطينيين بشكل مسبق، ويُعَرضُ للخطر حق مليون ونصف فلسطيني ما زالوا منزرعين في أرضهم وأرض أجدادهم عام 1948، ويضعهم في مهب رياح المجهول السياسي والجغرافي داخل "إسرائيل" وحتى خارج حدود 1948 عبر مشاريع التهجير "الترانسفير" فضلاً عن استمرار سياسة التمييز والاضطهاد العنصري الجاري منذ عام 1948 داخل "دولة إسرائيل"، وشكل الحق المزعوم في الدفاع عن الطابع اليهودي لدولة "إسرائيل"على الدوام حجة لكل حروب الابادة والتطويق والاعتداءات التي مارستها "إسرائيل" على الفلسطينيين والشعوب العربية، ولقمعها الدموي للانتفاضة واستمرار احتلال الأراضي الفلسطينية وزرعها بالمستوطنات، التي غالباً ما تسمى أمنية، وفوق كل هذا وذاك فإن هذا الالتزام يحمل في طيّاته تقاطعاً آخر شديد الخطورة مع السياسات الشارونية، فحماية واحة الديمقراطية " إسرائيل" لا يكون حسب مفهوم السيد بوش إلا بالحفاظ على طابعها العنصري الصهيوني.
أصوات الناخبين "الإسرائيليين" أوصلت شارون وحزبه إلى سدة الحكم مرة أخرى، على أساس برنامج حزبه الانتخابي العنصري القائم على وعود بسحق الانتفاضة تحت شعار شارون الانتخابي الذي رفع في وجه ايهود باراك وحزب العمل "دعوا الجيش ينتصر"، ورفض الانسحاب إلى حدود 4 حزيران 1967، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، ورفض حق العودة، ورفض التخلي عن المستوطنات، وتهويد القدس إلى الأبد. يا للمفارقة … راعية السلام والديمقراطية والحرية في العالم أمريكا تبارك هذه الديمقراطية على الطريقة الإسرائيلية "يهودية وصهيونية الدولة"، والتطاول على الحقوق الفلسطينية التي قررتها الشرعية الدولية.
"الإسرائيليون" ديمقراطيون يختارون بحرية سفّاحهم الذي يجلس على كرسيّ رئاسة وزراء دولتهم الاحتلالية، وفي الجهة الأخرى المقابلة ممنوع على الفلسطينيين ممارسة الديمقراطية ومطلوب من قيادتهم المستحدثة تجاوز عقدة الإجماع الشعبي الفلسطيني المتمسك بالحقوق الوطنية المشروعة، وتعبيرات هذا الإجماع الذي تمثله الانتفاضة. من أجل هذا كان لا بد من تدمير مؤسسات الشرعية الفلسطينية وتجاوزها حتى لو كان ثمن ذلك الاقتتال الداخلي. ولقد نفذ الجناح اليميني المهيمن في منظمة التحرير الفلسطينية الذي انخرط في المسيرة الأوسلوية سابقاً ما طُلِبَ منه. فهمش المنظمة وشل دورها الائتلافي والبرنامجي المشترك كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وانخراط في مفاوضات متهافتة من خلف الشعب ومؤسساته الوطنية، ودعم الأمريكيون هذا النهج التسلطي القمعي بمركزة السلطات بيد مجموعة أفراد منذ اتفاق أوسلو 1993 مقابل تسليم فريق أوسلو الفلسطيني بتقسيم الأرض إلى ثلاثة مناطق (أ، ب، جـ) واخراج القدس من هذا التقسيم، لأن الأخذ بالمبدأ الديمقراطي في هذه الحالة يعني فشلهم في فرض رؤيتهم للتسوية المتقاربة لدرجة قد تصل إلى التطابق مع الرؤية "الإسرائيلية"، وفقط بعد مفاوضات كامب ديفيد (2) بدأت واشنطن وتل أبيب تتحدثان عن "الإصلاح" في السلطة الفلسطينية.
سياسة عصر الليمونة التي استخدمها الأمريكيون والإسرائيليون ضد فريق أوسلو وصلت إلى طريق مسدود في مباحثات كامب ديفيد يوليو/ تموز 2000، حيث لم يعد بالإمكان تقديم المزيد من التنازلات، فكان البديل الوطني في الرد والبديل على سياسات أوسلو وأهل أوسلو بالانتفاضة والمقاومة التي عادت وأعلنت بأن شعب فلسطين لا يقبل بأقل من تسوية سياسية يكون أساسها تنفيذ قرارات الشرعية الدولية.
شارون مهد لخطة الطريق بمسلسل جرائم يومية دموية بحق الشعب الفلسطيني، بعدها قرر الأمريكيون التقدم إلى الأمام، مطالبهم هذه المرة لم تقف عند حدود فرض السياسات، بل وفرض القيادات أيضاً، فكان لهم ما طلبوا من تعديلات دستورية وحتى تسميات لشخوص شاغليها، مرة أخرى هنا لا يهم حجم شعبية القيادة المستحدثة وحجم نفوذها الجماهيري، المهم قبولها بما هو مطلوب منها وحسن أدائها وعملها على تنفيذه، والاختيار وقع على الأشخاص انطلاقاً من نواياهم ورؤاهم التي طالما رددوها.
هاجس الأمن الإسرائيلي يعتبر بأن التهديد لا يتأتى من فعل الانتفاضة المقاوم فقط، بل يعتبر هذا الفعل وليد تربية مناهج التعليم والتحريض على العنف التي تُخَرج أجيالاً "إرهابية" مشبعة بكره "إسرائيل". هنا نسأل كيف يجب أن يربي شعب محتل أبناءه، وهل يولّد الاحتلال بمظالمة سوى النضال ضد المحتل، والكره لجنوده القتلة وناهبي أرضه المحتلة.
القتل والمذابح التي ارتكبتها عصابات المهاجرين البيض على مساحة أمريكا وذهب ضحيتها (50) مليوناً من اهل اللبلاد الاصليين ، لا تختلف أبداً من حيث الهمجية والبشاعة مع ما ترتكبه قوات الاحتلال وميليشيات المستوطنين بحق أبناء شعبنا، لعله لهذا السبب لا يمكن لبوش وإدارته اليمينية إدانة العنصرية الدموية الإسرائيلية، التي يماثل تاريخها تاريخ دولة البيض في أمريكا، وأنكى من كل هذا بأنها تُمارس عنصريتها وهمجيتها ودمويتها تحت عنوان "الحفاظ على الديمقراطية" وأي ديمقراطية، ديمقراطية القتل التي تشرّع الابادة والتطويق ( أغوار الاردن ، نهب الارض ، غزو 1978 في جنوب لبنان ، الغزو الشامل للبنان 1982 الخ ) ، والقتل والعدوان تماماً كما فعل وبرر المستوطنون في أمريكا قتلهم للهنود الحمر سكان البلد الأصليين.
إرضاءً لمبادئ الديمقراطية الأمريكية والإسرائيلية الصهيونية التوسعية على الفلسطينيين أن يقتتلوا، وأن يدينوا نضالاتهم، وأن ينسلخوا عن تاريخهم، وعلى العرب أن يساعدوهم في تحقيق ذلك، ومفتاح هذا تنفيذ ما هو مطلوب منهم بالمساهمة في محاربة "الإرهاب"، ومنع أي شكل من الدعم المادي والمعنوي للانتفاضة، والمباشرة بالتطبيع مع "إسرائيل" دون اشتراط تنفيذها لأي من قرارات الشرعية الدولية.
"الإسرائيليون" امتلكوا على الدوام استراتيجية للحرب تشكل استراتيجيتهم التفاوضية جزءً منها، ولم يغب عن أدائهم التفاوضي في يوم من الأيام التزامهم بحدود الهامش الذي رسمت ضفافه عقيدة الحركة الصهيونية العنصرية، التي أقامت دولتها على حساب حقوق شعب فلسطين بالأرض والسيادة، ومثلت الاشتقاقات السياسية العدوانية التي رسمتها القيادات "الإسرائيلية" المتعاقبة محل إجماع شعبي "إسرائيلي" على الرغم من طابعها العنصري.
في حين افتقد المفاوض الفلسطيني لأبسط مبادئ الاستراتيجية التفاوضية ومارس سياسات وقدم تنازلات مجانية افتقدت أدنى أشكال الإجماع حتى داخل فريق مدريد الذي سريعاً ما تشظى على أبواب أوسلو، وذهب شعبنا ضحية فئة مارست الإدمان في مفاوضات ظلامية من خلف الشعب ومؤسساته وقواه الوطنية. أليس من الأولى أن يتوحد شعب محتل في وجه محتليه، أما آن الأوان لهذا العبث بالحقوق الوطنية المشروعة أن يتوقف، ونحن أمام هذا المنعطف الخطير الذي يمر به شعبنا.
وختاماً نقول بأن شعباً متماسكاً موحداً وملتفاً حول حقوقه الوطنية، لا يمكن أن يُهزم. الحروب تخلق وقائع جديدة لكنها لا تلغي التاريخ والحقائق، سيسجل التاريخ فظائع الاحتلال " الإسرائيلي" ضد الشعب الفلسطيني، لكنه سيخط في نهاية هذه الصفحة من سجله: انتصر دم فارس عودة، ومحمد الدرة ومن سبقوا ومن لحقوا من الشهداء على سيف الاحتلال منذ النكبة الكبرى 1948 وهزيمة يونيو/ حزيران 1967 تدق قوى شعبنا المنظمة والفاعلة جدران الخزان، وترد على النكبات بالمقاومة. إن النصر يشترط خارطة طريق فلسطينية موحدة تقوم على الوحدة الوطنية الائتلافية، وبرنامج القواسم المشتركة للتقدم إلى أمام، وتجاوز "المأزق القاتل في عنق الزجاجة"، ويشترط التماسك العربي على حدود المشترك بين العرب "مبادرة السلام العربية" والقمم المتعاقبة من قمة القاهرة إلى قمة بيروت.