صدر قبل أيام قليلة (منتصف أيار) الكتاب الجديد للفيلسوف الفرنسي المناضل المعروف دانيال بنسعيد، وعنوان كتابه هو:
( "النزعة الأممية الجديدة" ضد الحروب الإمبراطورية وخصخصة العالم). ونظراَ لأهمية الكتاب والكاتب وما يتميز به من عمق التحليل وسهولة اللغة والارتباط العضوي بالنضالات الاجتماعية والسياسية الجارية. فإننا ننشر ترجمة لمقدمة الكتاب باعتبارها تضع الإطار العام والمحاور الأساسية لهذا العمل الفكري، أملين أن نقدم عرضاً له في عدد قادم.
غياث نعيسة
«هناك شبح يطوف العالم هو النزعة الأممية الجديدة التي طافت روحها وللمرة الثالثة على التوالي فوق بورتو اليغري في شباط 2003. بورتو اليغري التي أصبحت العاصمة العالمية لمقاومة العولمة السلعية والنزعة العسكرية الإمبراطورية.
نشرت صحيفة رجال الأعمال "وول ستريت جورنال" عنواناَ ارعناَ لها بعد هجمات 11 أيلول على الصفحة الأولى يقول : " وداعاَ بورتو اليغري !".لكن انعقاد ملتقى بورتو اليغري الثاني جاء ليوجه صفعة وتكذيباً صارخاً لهذه النبوءة الخرقاء. بينما كان ينعقد في الوقت نفسه مؤتمر دافوس في جو باهت ومرتبك وبائس في أحد اكبر الفنادق في نيويورك.
لقد أكد تدفق الوفود القادمة من كل القارات إلى بورتو اليغري: أن صدمة 11 أيلول لم تستطع تحطيم ووقف اندفاع الحركة من اجل عولمة بديلة. ورمزياَ يمكن القول أن بورتو اليغري قد غيب وطغى على دافوس.
وما هو بعد اكثر أهمية هو نجاح الملتقى الاجتماعي الدولي الثالث في شهر شباط 2003. إذ حضره حوالي 100 آلف مشارك ومندوبين عن اكثر من 5800 حركة، وانقسمت أعماله إلى 800 ورشة عمل ولجنة. هذا كله تحت الأنظار المبهورة لحوالي 4 آلاف صحفي حضروا لتغطية هذا الحدث، وهو رقم اكبر من عدد الصحفيين الذين غطوا بطولة العالم لكرة القدم في اليابان !!. بيد أن هذا النمو والتطور لم يؤديا إلى تخفيف أو تمييع المواقف الراديكالية التي تشكل مصدر قوته. أي الوقوف الحازم ضد الخراب الذي تسببه العولمة الليبرالية، وأيضا ضد النزعة العسكرية الإمبريالية. فقد طرحت تظاهرتي الافتتاح والختام للمؤتمر الشعار الرئيسي : " لا للحرب ولا لاتفاقية التجارة الحرة للامريكيتين ACLA ".
بذلك أكد ملتقى بورتو اليغري الثالث عملية التجذر والتسيس اللذين تبديا خلال الملتقى الاجتماعي الأوروبي الأول في فلورنسا في شهر تشرين 2 عام 2002.وهذا التطور يشكل استجابة منطقية للانعطاف الذي شهده العالم في عامي 2001-2002. فمثلما أشار المناضل فيليب والدن بيلور : فان انهيار برجي مانهاتن يعبران أيضا عن انهيار قاعدتين رمزيتين "للمعجزة" الليبرالية الجديدة. كما أكد الانهيار المذهل لشركة انرون والافلاسات المتوالية(بلغت الافلاسات في الولايات المتحدة وحدها لعامي 2001-2002 إجمالي افلاسات الشركات خلال العشرين عاماَ الماضية) مدى الهشاشة التي يتميز بها الاقتصاد الجديد. ووضح الخراب الاقتصادي والاجتماعي والمعنوي الذي أصاب الأرجنتين ( التي كانت تلميذاَ متحمساَ ومخبراَ للوصفات التي يطبخها صندوق النقد الدولي) ومدى الدمار الذي تسببه الليبرالية المتوحشة : إذ حولت اكثر من نصف سكان الأرجنتين للعيش تحت حافة الفقر.
كان جورج بوش الأب قد وعد عام 1990 بإقامة نظام عالمي أكثر انسجاماَ وعدلاَ وسلاماَ. بيد أن حصيلة الاثنا عشر عاماَ الماضية قاسية جداَ : تعاني اليوم ثلاثة أرباع الإنسانية من البؤس أو سوء التغذية، وتتفاقم اللامساواة بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة، بل وداخل البلدان الغنية نفسها.وقامت قمة الأرض في جوهانسبورغ بدفن الآمال التي أنعشتها – قبل 12 عاماَ- قمة ريو، فاتفاقيات كيوتو المتواضعة لا يتم تطبيقها. أصبحت قضية الحصول على الماء قضية حياة أو موت لشعوب بأكملها. وبذلك تقوم الإمبريالية الايكولوجية بإضافة خرابها على الخراب الذي تسببه الإمبريالية الاقتصادية. ويطرح التزاوج البربري بين القوى الجديدة للعلم الجيني والجبروت المفجع لرأس المال أسئلة مقلقة للغاية حول مستقبل الجنس البشري. وأخيراَ، هناك حالة الطوارئ العالمية المستمرة التي أعلنها جورج بوش الابن صبيحة الاعتداءات، مع عقيدة الحرب الوقائية وإطلاق سباق التسلح والموازنات العسكرية، التي تؤكد بأن المنطق ألنسقي لرأسمال يتم فرضه من الآن فصاعداَ عبر عنف بنيوي غير محدد لا في المكان أو الزمان.
في هذا السياق المليء بالمخاطر الكبرى، أتت الزيارة المزدوجة للرئيس البرازيلي الجديد لولا إلى كل من بورتو اليغري ودافوس التي استقبلها قطاع من الصحافة باعتبارها بادرة أمل في مصالحة بين تصورين نقيضين.بل رأت فيها بعض وسائل الإعلام بداية لتشكل "الطريق الثالث".
والواقع أن "الإفراط" في عملية "التحرير" الليبرالي بالمخاطر السياسية الناتجة عنه بدأت تثير قلق قسم من النخبة الحاكمة نفسها. فقد شدد المصرفي الدولي جورج سوروس في دافوس على أن إفلاس الأرجنتين هو مأساة للأرجنتينيين أنفسهم، وان إفلاس دولة مثل البرازيل ، وهي القوة الصناعية الثامنة في العالم، ستطرح إشكالية من حجم مختلف على الأطراف الدائنة. فكرة المصالحة بين روح بورتو اليغري ودافوس، من خلال حوار بناء بين المعتدلين من كلا الطرفين، تعبر في الواقع عن الخشية من وقوع أزمة اقتصادية وسياسية غير قابلة للضبط وعلى صعيد قارات بأكملها. ويأتي إعلان بيل غيتس في دافوس بالتبرع لمقاومة الأمراض في إطار هذه الخشية نفسها. لكن المضطهدون لا يطالبون بإحسان دولي، بل يطالبون بالاعتراف بحقوقهم والتعويض لهم عن ظلم طال أمده.
إن التركيب الهادئ والمسالم بين بورتو اليغري ودافوس مستحيل. لان الإصلاح-المضاد الليبرالي، ومنذ عقدين من الزمن، يقوم – وبشكل منهجي- بتدمير العقد الاجتماعي الذي قام على أساسه النهوض الذي شهدته فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية : تدمير العقد الكينزي في أوروبا، وتدمير العقود الاجتماعية الشعبوية في أمريكا اللاتينية والبلدان العربية، وتدمير ما يمكن تسميته بالعقد البيروقراطي في أوروبا الشرقية (والصين). والحقيقة إن الحلم الكينزي الذي يداعب أحيانا الاشتراكيين الديمقراطيين الأوروبيين إنما يعني اليوم، ليس تطبيق سياسة ضرائبية أجور على صعيد القارة كلها تعيد توزيع الثروات فحسب، بل يتضمن أيضا إعادة استملاك وسائل التوجيه التي تشمل الخدمات والمؤسسات العامة، وسيطرة السلطات العامة على السياسة النقدية. وللقيام بذلك فان الاشتراكيين الديمقراطيين بحاجة إلى أن يديروا ظهورهم للتوجهات الليبرالية التي قاموا هم أنفسهم بوضعها، وبحماس، موضع التنفيذ منذ عشرين عاماَ.
وينطبق الأمر نفسه على بلدان أمريكا اللاتينية في قضايا الدفاع عن الأرض والسيادة الديمقراطية والسيطرة على الثروات الطبيعية. لان البرجوازية الوطنية المتفككة عاجزة عن تحقيقه. والقادر على تحقيقه هو تحالف قاري للشعوب يعارض مشروع اتفاق التجارة الحرة للأمريكيتين وإنشاء جبهة موحدة للبلدان المديونة ضد دفع الدين غير المشروع، وطرح بديل لا يقتصر على بلدان امريكا اللاتينية المعنية، بل يندرج في اطار تقاليد امريكا اللاتينية التي رفع راياتها كل من سيمون بوليفار وجوزيه مارتي وكارلوس مارياتيجي وتشي غيفارا.
من هنا يمكن القول أنه من الممكن، ووفق موازين القوى، أن تحصل حوارات أو تسويات بين دافوس وبورتو اليغري، لكن المواجهة بينهما لا مفر منها. فالروح المتمردة والتضامنية للعاصمة "اليسارية" لا يربطها شئ بالروح الأنانية والباردة لدافوس. انهما متناقضتان تماماَ. ولا يوجد ما بين رأس المال والعمل، وما بين المُضطهدين والمضِطهدين لا " طريق ثالث" ولا منطقة وسطى. والصراع بينهما حتمي.
لقد تبنت الحركات الاجتماعية في الملتقى الاجتماعي الدولي الثالث وثيقة توجيهية، عبرت فيها عن معارضتها الحازمة للحرب على العراق وللاعتداءات التي تتعرض لها " شعوب فلسطين وكردستان والشيشان وحروب أفغانستان وكولومبيا وأفريقيا" كما عبرت عن تنديدها الشديد للاعتداء الاقتصادي والسياسي الذي تتعرض له فنزويلا والحصار المفروض على كوبا. وشهد بورتو اليغري الثالث ميلاد شبكة برلمانية عالمية التي جاء في وثيقتها التأسيسية معارضة صلبة لهيمنة منظمة التجارة العالمية على الخدمات العامة، ومطالبة أن تستخدم الدول التي لها حق الفيتو في الأمم المتحدة هذا الحق لإعاقة الحرب المزمعة على العراق. ودعمت هذه الوثيقة فرض ضريبة على حركة رؤوس الأموال، ونددت بإخضاع الولايات المتحدة لأمريكا اللاتينية من خلال إقامة اتفاق التجارة الحرة للأمريكيتين. وطالبت بالرفع اللامشروط للحصار المفروض على كوبا وإلغاء قانوني توريسيلي هلمز- برتون.
شكلت مشاركة الرئيس البرازيلي لولا وهيغو شافيز والنائب الفلاحي البوليفي ايفو موراليس في بورتو اليغري دليلاَ واضحاَ على علاقة جديدة بين الحركات الاجتماعية والحركات السياسية. فالعولمة الرأسمالية التي تغزو العالم تحول كل شئ إلى سلعة، وتتاجر بكل شئ. وتدمر،على طريق زحفها، الثقافات وروح التضامن والتقاليد. في مواجهة هذه الكوزموبوليتية الليبرالية الشديدة العدوانية يقف توجهان متعارضان، الأول : هو توجه نكوصي من النزعات القومية البالية، يرتكز على آليات الذعر والخوف على الهوية، وبردود فعل معادية للأجنبي. أما التوجه الثاني : فانه يقوم على نزعة أممية جديدة وقادرة على أن تقارب بين تعددية المقاومة، والسير نحو إبداع عالم آخر ممكن.
هذا التوجه الثاني هو الطريق الذي ترسمه الملتقيات والقمم-الموازية للمتظاهرين في سياتل وجنوى وفلورنسا وحيدراباد وواشنطن وبورتو اليغري.... لا تزال الساعة الآن للمقاومة، لكن وفي مواجهة تكرار وتعدد الأزمات الاجتماعية والحروب المعلنة، فان النقاش حول البدائل أصبح مدرجاً على جدول الأعمال
البديل