|
قصة المفاوضات السرية بين واشنطن و"طالبان"
بيار أبراموفيتشي
الحوار المتمدن-العدد: 48 - 2002 / 1 / 28 - 20:02
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
يرى البعض ان مفاوضات بون الخاطفة بين مختلف الفصائل الأفغانية شكلت "معجزة" في نجاحها. ففي الواقع لم يتطلب الأمر وقتاً طويلاً كي يتوصل الفرقاء في 5 كانون الأول/دسمبر عام 2001 الى اتفاق حظي بمباركة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي والولايات المتحدة. لكن في الواقع ان هذا ليس من "المعجزة" بشيء. إذ لم يكن من الممكن، خصوصاً إذا ما أخذنا الظروف الطارئة مع 11 أيلول/سبتمبر، أن تجتمع كل هذه الفصائل المتصارعة حول طاولة واحدة وأن تتوصل الى اتفاق لو لم تكن قد التقت من قبل. وفي الواقع كانت المفاوضات دائرة منذ سنوات والمشاريع المزعومة المقترحة منذ 11 أيلول/سبتمبر قد جرت مناقشتها بالنسبة الى البعض منذ ما يزيد على ثلاث سنوات...
بيار أبراموفيتشي PIERRE ABRAMOVICI
عندما انسحب السوفيات في 15 شباط/فبراير عام 1989 لم يعنِ هذا عودة السلام الى أفغانستان، غير أن الحقيقة أن الولايات المتحدة التي لم تخض الحرب الا بواسطة الأفغان المتواجهين، وعبر اجهزة المخابرات الباكستانية، دائرة المخابرات المشتركة، لم تعر المسألة اهتماماً في حينها. فبحسب السيد فنسنت كانيسترارو، الموظف السابق في وكالة المخابرات المركزية وفي مجلس الأمن القومي في الولايات المتحدة، ويؤيده في ذلك الجنرال الباكستاني حميد غول، الرئيس السابق للمخابرات الباكستانية والاصولي الراديكالي الذي وصف انسحاب الأميركيين بـ"الجريمة"، انه "عندما انسحب الجيش الأحمر بدا ان الاهداف الأميركية قد تحققت. فماذا فعلوا؟ عادوا الى ديارهم، وتركوا أفغانستان تتخبط في وضعها من دون أن يحققوا شيئاً مما كان عليهم فعله من أجل المساعدة في إعادة إعمار البلاد وإعادة الاستقرار. (...) وقد خلفوا وراءهم فراغاً هائلاً" (2) . ولهذا بالتالي جاء تدخل منظمة الأمم المتحدة، وهي لن تغيب بعدها أبداً عن الساحة الأفغانية.
وفي 28 نيسان/أبريل عام 1992 أعلنت باكستان رسمياً جمهورية اسلامية. وغداة ذلك كان أول الزوار الواصلين الى كابول رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف، وممن كان في صحبته رئيس هيئة اركانه، والأمير تركي الفيصل رئيس جهاز المخابرات السعودي والراعي العتيد للسيد أسامة بن لادن الذي كان لا يزال في السعودية بعد عودته من الحرب ضد السوفيات. وفي اليوم نفسه دخل القائد مسعود كابول ليبدأ معركة ستحوّل المدينة أطلالاً.
وفي 28 حزيران/يونيو عيّن برهان الدين رباني الاسلامي المعتدل (كان قد اسس في العام 1962 أول حزب اسلامي في افغانستان هو "الجمعية الاسلامية") رئيساً للحكومة، فاستمر القتال، تقطعه في بعض الأحيان اتفاقات الهدنة المعقودة (عموماً) في رعاية إيران أو باكستان او السعودية. وفي كانون الثاني/يناير عام 1994، حددت الأمم المتحدة، التي كانت قد عينت السيد محمود مستيري موفداً خاصاً الى أفغانستان، ثلاثة أهداف لها: الوجود بكل بساطة على الأرض وإقناع الدول العاملة في الخفاء على وقف تدخلاتها والعمل على اطلاق الرئيس السابق محمد نجيب الله الذي كان لجأ الى أحد مباني الأمم المتحدة (3) . كما ان المطلوب كان إعادة الاستقرار الى البلاد عبرعقد مجلس (شورى) وربما عبر إجراء انتخابات. لكن في العام 1995 باءت المهمة بالفشل، غير ان مكافحة التدخل الخارجي ستبقى الطلب الدائم للأمم المتحدة مع عقد مؤتمرات محلية من مختلف الانواع سعياً الى تحقيق السلام.
وفي الحقيقة، بعدما اتهمت الولايات المتحدة بالسماح بـ"سقوط افغانستان"، سارعت الى الاهتمام بها بفعل قربها من بحر قزوين المتوقع ان يكون الالدورادو الجديدة بالنسبة الى المشتقات النفطية. وفي حزيران/يونيو من العام 1990، اثارت شركة "شيفرون" منافسة حامية الوطيس بين الشركات البترولية التي جاءت من كل حدب وصوب، عندما امسكت وحدها بالاوضاع في قازاقستان التي كانت لا تزال في ظل الاتحاد السوفياتي. وقد بذلت الشركات الكبرى المعروفة بـ "السنيورز" هؤلاء قصارى جهدها لتشكيل مجموعة ضغط عبر استعانتها بمختلف أنواع المستشارين، ومنهم السيد ريتشارد تشيني، وزير الدفاع السابق في عهد السيد جورج بوش الأب ونائب الرئيس العتيد للسيد بوش الابن والاكثر نشاطاً على الارجح، والسيد زبيغنيو بريزينسكي، المستشار السابق للامن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر ومستشار شركة "أموكو" والذي سيؤدي طويلاً دور المرشد للسيدة مادلين أولبرايت التي عيّنها الرئيس بيل كلينتون وزيرة للخارجية في العام 1997.
ومن جهته، وللاسباب نفسها، كان البنتاغون قد بدأ العمل للدخول الى جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، فهي تشكل مناطق ذات احتياط نفطي كفيل ان يخفف في شكل ملموس من ارتهان الولايات المتحدة لدول الخليج في مجال الطاقة. وتحت ذريعة التحضير للتدخل "الانساني" (لايفهم ما المقصود به بالضبط) وقعت الولايات المتحدة، ابتداء من العام 1996 اتفاقات، سميت "لواء آسيا الوسطى" (سنتراسبات)، مع كل من أوزبكستان البلد الأقوى في المنطقة ثم مع قازاقستان وقرغيزستان. وقد نظمت هذه الدول الثلاث في العامين 1997 و1998 مناورات عسكرية مشتركة، كما ان جنوداً، وبالتحديد من الأوزبك، قد ذهبوا الى "فورت براغ" لتلقي التدريب في مركز إعداد القوات الخاصة الأميركية. ولأن الروس شعروا بالقلق من تطور هذا التعاون العسكري على مقربة منهم فقد أرسلوا في العام 1998 مراقبين الى هذه الدول.
وهناك شركتان تتنافسان على مشروع طموح لأنابيب النفط المفترض ان تعبر أفغانستان عبر تركمانستان وباكستان، و"هي الطريق الوحيدة الممكنة" بحسب ما أكد أمام مجلس النواب الأميركي السيد جون ج. ماريسكا، نائب الرئيس الدولي لشركة "يونوكال" التي تأتي في المرتبة الثانية عشرة بين الشركات الأميركية والتي تتنافس مع شركة "بريداس" الارجنتينية (4) . ونظراً الى حجم الاستثمار تطلب الأمر في آنٍ واحد موافقة رئيس تركمانستان، السيد سابامورات نيازوف، ورئيس وزراء باكستان، السيدة بنازير بوتو في حينها، وهذا ما تم بالفعل في 16 آذار/مارس عام 1995. وبعد حملة مكثفة من مجموعة الضغط نفذت بمبادرة من السلطات الأميركية وقع الرئيس التركماني في 21 تشرين الأول/أكتوبر، اتفاقاً مع شركة "يونوكال" (5) من أجل إنشاء خط أنابيب الغاز الأفغاني، وبعدها اكتسبت مسألة خط الأنابيب أهمية مركزية.
لكن كان من المفروض ايضاً تأمين الاستقرار في افغانستان، وهكذا وفيما الحرب على اشدها ظهر في كانون الثاني/يناير أول مقاتلي "طالبان" بأعداد كبيرة، وقد "شكلوا" من هنا وهناك على أيدي أجهزة المخابرات الباكستانية وربما موّلتهم وكالة المخابرات المركزية الأميركية والمملكة السعودية، وحتى انه يقال إن شركة "يونوكال" وشريكتها السعودية "دلتا اويل" قد اضطلعتا بدور كبير في "شراء" القادة المحليين (6) ، وقد بدا ظاهرياً ان مهمتهم الوحيدة هي حماية أفغانستان.
في 26 أيلول/سبتمبر عام 1996 استولت "طالبان" على كابول. وفي هذا الاطار يذكر السيد مايكل بيردن، المسؤول السابق لوكالة المخابرات المركزية في افغانستان خلال الحرب مع السوفيات (وحالياً "الناطق" شبه الرسمي باسم وكالة المخابرات)، بنوعية التفكير التي سادت آنذاك بين الأميركيين: "هؤلاء الفتيان (اي "طالبان") لم يكونوا الأسوأ، هم شباب مندفعون قليلاً لكن هذا افضل من الحرب الأهلية، انهم الآن يسيطرون على المناطق الممتدة ما بين باكستان وحقول الغاز في تركمانستان. وربما ان هذه فكرة جيدة إذ سيكون في امكاننا أن نبني خط أنابيب عبر أفغانستان وإيصال الغاز ومصادر الطاقة الى الأسواق الجديدة التي ستفتح. وتالياً كان الجميع يشعرون بالارتياح" (7) .
هذا الدعم الذي قدمته شركة "يونوكال" الى "طالبان" لم يخفِه أبداً نائب رئيس الشركة السيد كريس تاغارت، الذي وصف تقدم الحركة بـ"التطور الايجابي". وإذ أكد ان تولي عناصر "طالبان" السلطة "كفيل انجاح مشروع" خط أنابيب الغاز، فقد رأى ان تعترف واشنطن بحركة "طالبان (8) ". وما هم إن كانت المعلومة مغلوطة، انه شهر العسل بين واشنطن و"طلاب المدارس الدينية"، فمن اجل الغاز والبترول كل شيء مقبول الى درجة أنه في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1997 دعت شركة "يونوكال" وفداً من حركة "طالبان" الى الولايات المتحدة وفي أوائل كانون الأول/ديسمبر فتحت الشركة مركزاً إعدادياً في جامعة أوماها في نبراسكا من اجل اطلاع 137 افغانيا على تقنيات انشاء أنابيب النفط.
لكن الوضع السياسي والعسكري لم يتحسن، وعلى كل حال، بدأ البعض في واشنطن يرون في دعم "طالبان" ومشروع انابيب الغاز خطأ سياسياً، وذاك بالتحديد كان موقف مساعد وزير الخارجية ستروب تالبوت الذي حذر في 21 تموز/يوليو عام 1997 من "ان المنطقة قد تتحول منبتاً للارهابيين وبؤرة للتطرف السياسي والديني ومسرحاً لحرب فعلية" (9) . ذاك ان عاملاً مهماً دخل على خط الأوضاع الداخلية في افغانستان وعلى العلاقات التي كانت تقيمها هذه مع بقية دول العالم، وهو وجود السيد اسامة بن لادن الوافد من السودان طلباً للملجأ. وفي 22 شباط/فبراير عام 1998 اطلق من افغانستان جبهة اسلامية دولية حظيت بدعم حركة "طالبان". وفي هذه المناسبة أصدر فتوى تنص على مهاجمة مصالح أميركا وأتباعها. ولدى زيارته كابول في 16 نيسان/ابريل عام 1998 اثار السيد وليم ريتشاردسون، المندوب الاميركي في الأمم المتحدة، موضوع ابن لادن مع مسؤولي "طالبان" الذين قللوا من أهمية الموضوع قائلين: "هو لا يملك السلطة الدينية كي يصدر فتوى وتالياً يجب الا يعتبر مشكلة بالنسبة اليكم."
لكن في 8 آب/أغسطس عام 1998 دمر انفجاران كبيران مبنيي السفارتين الأميركيتين في دار السلام ونيروبي موقعين 224 قتيلاً بينهم 12 أميركياً. وقد ردت الولايات المتحدة باطلاق 70 صاروخاً جوياً على افغانستان، وهامشياً على السودان. وهكذا اصبح زعيم "القاعدة" عدوهم العلني الرقم واحد. وللغرابة، فقد انتظروا أكثر من ستة اشهر كي يصدروا مذكرة توقيف دولية في حقه، ذاك انهم، في عجزهم عن القبض عليه، كانوا يأملون في التفاوض مع "طالبان" لتسليم السيد اسامة بن لادن الى بلاد اخرى. كما انه كان من الضحايا "الجانبية" لاعتداءات آب/أغسطس مشروع أنابيب الغاز الأفغاني وقد صرحت "يونوكال" علناً بتخليها عنه.
وفي العام 1997 شكلت هيئة سميت "مجموعة 6 + 2" ضمت ستة بلدان مجاورة لأفغانستان (إيران وباكستان والصين وأوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان) إضافة الى روسيا والولايات المتحدة في إشراف الأمم المتحدة ومندوبها الخاص في افغانستان السيد الأخضر الابرهيمي، وهو الديبلوماسي الجزائري ذو الخبرة الكبيرة وقد تولى هذا المنصب في تموز/يوليو عام 1998. فبعد فشل المهمات السابقة على الصعيدين العسكري والسياسي، عادت المنظمة الدولية تضطلع بدور الفاعل الأساسي في المنطقة.
وخلال العام 1998 قامت مبادرات ديبلوماسية متعددة، وفي 12 آذار/مارس عام 1999 بدا أن موقف الولايات المتحدة، بعد إيران، قريب من موقف روسيا حول المسألة الأفغانية، وقد زار موسكو مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون آسيا السيد كارل اندرفورث، وبالطبع لم يكن موقفا الروس والأميركيين متباعدين جداً حتى بالنسبة الى الدور الذي يمكن إيكاله الى طهران. وقد صرح السيد إندرفورث قائلاً: "إن إيران هي بلد مجاور (لأفغانستان) ويمكن ان يساهم في وضع حدّ لهذا النزاع، ولذلك نتوقع ان تضطلع إيران بدور إيجابي على أن تعد مجموعة "6 +2 "البنية اللازمة." وقد اضاف: "إن الأمر مثير للسخرية فأفغانستان هي جزء من العالم حيث يمكن الروس والأميركيين أن يتعاونوا من اجل إيجاد حلّ" للمعارك، والحال ان الروس يشاركون في هذه المعارك بقوة عبر دعمهم المفتوح لتحالف الشمال!
واولى الدلائل على الاهتمامات الحالية ظهرت أيضاً في العام 1998، وخصوصاً مبادرات بعض الفصائل المقربة من مؤيدي الملك السابق ظاهر شاه الذي خلع في العام 1973 ولا يزال يعيش منفياً في روما. ففي تقرير قدمه الى مجلس الأمن يهنّئ الأمين العام للأمم المتحدة السيد كوفي أنان نفسه "على الطريقة غير الرسمية التي اتبعت منذ زمن طويل في افغانستان من أجل حل الخلافات والتي لاقت تجاوباً من بعض زعماء الفصائل الأفغانية غير المتنازعة، وهي "لويا جيرغاه" (المجلس الأكبر)". وقد دعا الى تشجيع "المهمة الخاصة للأمم المتحدة في أفغانستان من أجل الحفاظ على الاتصالات المفيدة التي أقامتها مع هؤلاء الزعماء" (10) . كما ان مبادرات أخرى اتخذت على هامش الأمم المتحدة وخصوصاً الاجتماع الذي ضم 21 دولة "ذات نفوذ في افغانستان" (11) .
وقد بدأت اللعبة الديبلوماسية الجديدة حول افغانستان باجتماع عام لمجموعة 6+2 يوم 19 تموز/يوليو 1999 في طشقند في اوزبكستان. للمرة الاولى جلس الى الطاولة نفسها ممثلون عن تحالف الشمال وحركة طالبان التي تسيطر على 90 في المئة من الأراضي الأفغانية وترفض الاعتراف بأي صفة تمثيلية لتحالف الشمال. وكما كان متوقعاً، فشل الاجتماع لكن القسم الأكبر من المبادرات الديبلوماسية بات بعده يمرّ عبر مجموعة "6 +2".
ولأن واشنطن لم تفقد الأمل في ان تقنع حركة "طالبان" بتسليم زعيم القاعدة، فقد استمرت إقامة مختلف انواع الاتصالات وفي تشجيع مختلف الآليات الهادفة الى تحقيق حلّ سياسي، وهكذا باركت الاجتماع الذي انعقد في روما ما بين 22 و25 تشرين الثاني عام 1999 بمبادرة من الملك السابق ظاهر شاه من أجل المضي قدماً في قيام "لويا جيرغاه". وفي هذا الوقت كان مجلس الأمن في الأمم المتحدة قد صوّت في 15 أيلول/سبتمبر على قرار يدعو فيه حركة "طالبان" الى طرد السيد بن لادن كما يفرض بعض العقوبات المحدودة في حقها.
في 18 كانون الثاني/يناير حلّ ديبلوماسي اسباني، هو السيد فرانسيسكو فندرل، مكان المندوب الخاص للأمم المتحدة السيد الابرهيمي الذي قدم استقالته بعدما فقد الأمل في تحقيق أي تقدم. وبعد يومين وصل السيد اندرفورث الى اسلام اباد للاجتماع الى الرئيس الجديد في باكستان الجنرال برويز مشرف، كما اجرى محادثات مع زعيمين بارزين من حركة "طالبان" ليوجه اليهما الطلب نفسه دائماً، "سلّمونا ابن لادن"، على ان يصار فوراً الى تسوية العلاقات بين كابول والمجتمع الدولي.
ومع ان واشنطن كانت تزعم العكس في العلن، الا ان حركة "طالبان" التي كان العالم أجمع يستنكر سياستها إزاء النساء وموقفها من حقوق الانسان وحمايتها المستمرة للسيد ابن لادن، ظلت احد مفاوضي الولايات المتحدة. حتى أن مساعد وزير خارجية "طالبان" السيد عبد الرحمن زاهد قد القى في 27 أيلول/سبتمبر محاضرة في واشنطن في مقر مؤسسة الشرق الأوسط، طالب فيها مرة اخرى بالاعتراف السياسي بنظام "طالبان" موحياً انه يمكن عندها تسوية قضية ابن لادن (12) .
وفي 30 أيلول/سبتمبر، وبمبادرة من الايرانيين، جرت مفاوضات جديدة في قبرص. وما لفت فيها هو حضور مؤيدي "جزار كابول" السابق الاسلامي المتطرف قلب الدين حكمتيار الذي حظي في ما مضى بدعم الأميركيين والسعوديين في الحرب ضد السوفيات ليتحول بعدها لاجئاً في إيران. وفي هذه المفاوضات أجرى تحالف الشمال اتصالات خصوصاً بأعضاء الوفد الآتي من روما تحت راية الملك السابق ظاهر شاه. وقد انتهت هذه الاتصالات في 6 نيسان/أبريل الى عقد أول اجتماع مشترك بين أصحاب "مسيرة روما" المؤيدين لفكرة عقد "لويا جيرغاه" تحت رعاية الملك السابق، وأصحاب "مسيرة قبرص" التي كان يوجهها الإيرانيون. ومع انها كانت على خلاف مع المقربين من إيران فان بقية الفصائل توافقت على الاجتماع مجدداً، ولن تتوقف بعدها عن المباحثات.
في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر عام 2000، أعلن السيد فرانسيسك فندرل رسمياً ان الطرفين، اي حركة "طالبان" وتحالف الشمال، تدارسا مشروع تسوية سلمية في رعاية مجموعة "6 +2" (13) ، وقد تزامنت هذه المرحلة مع حالة تشنج في حركة "طالبان"، سببها الرئيسي العقوبات الدولية، وقد ادى هذا التوتر في الربيع الى التدمير اللافت لتماثيل بودا العملاقة في باميان. وفي هذه الأثناء افتتحت مجموعة "6 +2" مرحلة جديدة، رأى الأميركيون أنها ستكون الأخيرة. فقد شكلت سراً مجموعة رديفة "من المستوى الثاني"، افترض انها ستكون اكثر فعالية، مؤلفة من ديبلوماسيين أو اختصاصيين يكونون ما امكن من آخر من شغل منصباً في المنطقة، ويوجهها في الخفاء الوزراء الذين يتبع لهم اعضاؤها على التوالي. ولم يشارك في هذه الاجتماعات التي عقدت في برلين سوى الولايات المتحدة وروسيا وإيران وباكستان.
ومن اعضاء هذه المجموعة الرديفة السيد روبرت أوكلي، سفير أميركي سابق وأحد أعضاء مجموعة الضغط التابعة لشركة "يونوكال" (14) ، والسيد نايز نايك، وزير خارجية باكستان السابق والمتخصص في تحضير اللقاءات شبه الرسمية الصعبة لمصلحة بلاده، والسيد توم سايمنز، سفير اميركي سابق وآخر المفاوضين الرسميين مع حركة "طالبان"، والسيد نيكولاي كوزيريف أحد الموفدين الخاصين الروس سابقاً الى افغانستان، والسيد سعيد رجائي خراساني الذي كان ممثل إيران في منظمة الأمم المتحدة.
وفي الاجتماعين الأولين اللذين عقدا في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2000 وآذار/مارس عام 2001، تحضيراً لمفاوضات مباشرة بين حركة "طالبان" وتحالف الشمال، تباحث المشاركون في تعهد سياسي يهدف الى مساعدة حركة "طالبان" في الخروج من المأزق. وبحسب السيد نايك: "نعني بالتعهد الانسان ان علينا التباحث معهم عما يمكن ان يقولوه لنا عن تصرفهم وعن تفكيرهم الفعلي على الصعيد الدولي وعن الحكومة الموسعة وعن حقوق الانسان الخ، ثم علينا ان نناقشهم في هذه الامور وان نحاول اقناعهم أنهم في حال نفذوا هذه الأمور شيئاً فشيئاً، عندها سيحصلون على "الجائزة الكبرى" أي على شيء في المقابل من المجتمع الدولي".
وبحسب الباكستانيين الذين حضروا الاجتماع أنه إذا وافقت حركة "طالبان" على إعادة النظر في مسألة حقوق الانسان "في مهلة ثلاث او اربع سنوات" واذا قبلت بتشكيل حكومة انتقالية مع تحالف الشمال، فستستفيد من مساعدات دولية كبيرة، مالياً وتقنياً، من أجل إعادة بناء البلاد برمتها. وقد أكد السيد نايك: "ما كان يشغلنا طبعاً هو تحقيق السلام والاستقرار، ثم خط أنابيب النفط، وربما كان في الامكان إقناع حركة "طالبان" بأنه عندما تحل كل هذه الأمور وتشكل الحكومة الموسعة ويشرع في تنفيذ خط انابيب النفط، ستجني مليارات الدولارات من بدل العمولات كما انه سيكون لهم طبعاً مواردهم الخاصة." إنها فعلاً "الجائزة الكبرى".
وكان الأميركيون، في تشبثهم، لا يزالون يأملون في ان يسلّم اليهم السيد ابن لادن. وبحسب السيد سايمنز" إذا سلموا (أي طالبان) ابن لادن أو إذا شرعوا في مفاوضات جدية، عندها سنكون مستعدين للبدء بمشروع جدي لإعادة الاعمار". وفي واشنطن تمسكت وزارة الخارجية اكثر بهذا الموقف مع تغيير الادارة والتمثيل الفائق الذي حظي به اصحاب الشركات البترولية في الحكومة، بدءاً بالرئيس جورج دبليو بوش نفسه. وقد اوكلت مهمة المفاوضات الجديدة مع "طالبان" الى السيدة كريستينا روكا التي اصبحت مساعدة وزير الخارجية لشؤون جنوب آسيا، وهي تعرف أفغانستان جيداً كونها اهتمت بها ما بين العامين 1982 و1987... من خلال عملها في وكالة المخابرات المركزية.
وفي 12 شباط/فبراير، أعلن السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة أن الولايات المتحدة، وبناء على طلب السيد فرانسيسك فندرل، ستحاول اطلاق حوار "مستمر" مع حركة "طالبان" على أسس "إنسانية" (15) . وقد بدا الأميركيون واثقين من مستقبل هذه المفاوضات الى درجة أن وزارة الخارجية جمدت تحقيقات مكتب التحقيق الفيديرالي حول إحتمالات تورط السيد ابن لادن (والمتواطئين معه من طالبان) في الاعتداء على السفينة الحربية الأميركية "يو.أس.أس. كول." في عدن (في اليمن) في شهر تشرين الثاني/نوفمبر السابق. وقد وصل الأمر الى حد طرد "المتخصص بالسيد ابن لادن" في مكتب التحقيقات الفيديرالي، جون أونيل، من اليمن في 5 تموز/يوليو منعاً له من متابعة التحقيقات (16) ...
عقد الاجتماع الثالث مرة اخرى في برلين ما بين 17 و21 تموز/يوليو، في حضور ممثل عن "طالبان" هو وزير الخارجية الملا متوكل وممثل عن تحالف الشمال هو وزير الخارجية عبدالله عبدالله. وقبل ذلك بقليل، في اوائل الشهر، عقد في وستون بارك بالقرب من لندن اجتماع سري للدول الـ21 "ذات التأثير في أفغانستان". وقد أقر في الاجتماع الحل القائم على التفاهم على الملك السابق ظاهر شاه وخصوصاً من جانب ممثلي تحالف الشمال. وبحسب السيد نايك "كان علينا ان نفهم حركة "طالبان" أنه في حال رفضوا التعاون فسيكون خيارنا الملك ظاهر شاه". وهذا الأخير سيصبح بالنسبة الى الديبلوماسية العالمية كلها الخيار البديل.
وللأسف ان كل هذا المشروع الجميل انهار، والسبب الأول لرفض حركة "طالبان" هو حضور السيد فندرل، كونه يمثل الأمم المتحدة التي اصدرت العقوبات المتخذة في حقهم، ومن جهة أخرى كان هناك رغبة في إجبارها على التفاوض مع أشخاص هي ترفضهم.
وعندها، بحسب السيد نايك، أثار السيد توم سايمنز موضوع "الخيار العسكري" ضد افغانستان انطلاقاً من أوزبكستان وطاجيكستان، وقد بدا ان هذين المكانين مقنعان لأن من المعروف أن هذين البلدين يرتبطان بمعاهدة تعاون عسكري مع الولايات المتحدة. ولكن في العمق هل كان التهديد بهذه الدقة؟ هذا ما يرفض السفير سايمنز الاقرار به لسبيين، فمن جهة هو لم يكن مشاركاً في الاجتماعات بصفة رسمية ولم يكن مخوّلاً توجيه التهديدات (لكن لو حضر ممثلو "طالبان"، فهل كانوا سيتكبدون هذه المشقة للاجتماع بموفدين شبه رسميين ليسوا على اتصال بوزارة الخارجية؟)، ومن جهة أخرى اكتفى بالتصريح أن الأميركيين يتحققون من الأدلة المتعلقة بالاعتداء على سفينة "يو.أس.أس.كول" وأنه "إذا تأكدنا من أن ابن لادن هو وراءه عندها يمكنكم توقع عملية عسكرية". وهنا ايضاً يمكن أن نلاحظ أن الأميركيين، الذين كانوا، في 5 تموز/يوليو الماضي، مقتنعين بأن حركة "طالبان" ستشارك في المفاوضات، لم يكونوا حقاً يفتشون عن الأدلة في قضية السفينة "يو.أس.أس. كول".
وفي اي حال، فان أعضاء الوفد الباكستاني قد نقلوا هذه الاحاديث، مبالغاً فيها او لا، الى وزير الوصاية في بلادهم وخصوصاً الى جهاز الاستخبارات الذي، كما يمكن تصوره، نقلها بدوره الى حركة "طالبان". وفي اواخر تموز/يوليو كانت اسلام اباد وخصوصاً الأوساط العسكرية فيها تضج بأجواء الحرب، وبحسب مصدر شبه رسمي في الكي دورسي، ليس مستبعداً أن تكون المخابرات الباكستانية، عبر تضخيمها أحاديث السيد سايمنز، قد سعت الى الضغط على حركة "طالبان" كي تطرد الملياردير السعودي. وللمرة الأخيرة، في 29 تموز/يوليو، تباحثت السيدة روكا مع سفير "طالبان" في باكستان، إنما دون نتيجة، فسقط خيار المفاوضات، ونشط مكتب التحقيقات الفيديرالي في السعي الى إيجاد أدلة تدين ابن لادن.
وهناك اليوم فرضية تشغل الأذهان. على افتراض أن ابن لادن اقتنع بأن الأميركيين سيشنون فعلاً الحرب وأنه أراد ان يكون هو البادئ؟ في أي حال في 11 ايلول/سبتمبر دمر برجي "مركز التجارة العالمي" على يد رجال قومندوس كانوا قد جندوا في أواسط شهر آب/أغسطس وحسب، وبعد ثلاثة ايام أعلنت شركة "يونوكال" في بيان لها أن مشروعها المجمد لخط أنابيب الغاز سيبقى مجمداً وأنها ترفض التفاوض مع حركة "طالبان"، مشترطة قبل ذلك سقوط نظام كابول وتغييراً سياسياً، وبعد شهر بدأت الولايات المتحدة عمليات القصف، وقد "وافق" الطاجيك والأوزبك على تقديم التسهيلات العسكرية للقوات الأميركية، كما وعدت روسيا "على الفور" بتقديم المساعدة الضرورية الى الولايات المتحدة من اجل محاربة الارهاب، وأخيراً توصلت الفصائل المعارضة لنظام "طالبان" الى اتفاق، وكل ذلك في غضون شهرين من الزمن!
وفي 27 تشرين الثاني/نوفمبر وصل وزير الطاقة الأميركي سبنسر أبراهام وفريق من وزارة الطاقة الى نوفوسيبيرسك في روسيا من أجل تسهيل إنهاء وافتتاح خط انابيب "كاسبيان بايبلاين كونسورتيوم"، وهو عبارة عن وصلة تكلف 2.5 مليار دولار لصالح ثماني شركات منها شركة شوفرون وتكساكو وأكسون موبيل. ويعلن السيد ابراهام عن عهد جديد من العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة (17) . وهذا تقدم أميركي آخر في المجموعة البترولية الشاسعة من الاتحاد السوفياتي السابق.
وفي الوقت نفسه كان الرئيس الأفغاني الجديد الذي جاءت به اجتماعات بون، السيد حميد قرضاي، يحظى بتأييد زملائه في المجلس المنبثق عن النصر المتحقق على حركة "طالبان"، وفي المناسبة يقال عنه إنه في المفاوضات التي جرت حول خط أنابيب النفط الأفغاني، كان مستشاراً لدى شركة "يونوكال" (18) ، فعلى الأرجح ان السيد بريزينسكي يشعر بالسعادة!
--------------------------------------------------------------------------------
(1) صحافي.
(2) " Pièces à conviction ", France 3, 18 octobre 2001
(3) في النهاية قتل الرئيس السابق نجيب الله في ظروف وحشية بعدما اقتحمت حركة "طالبان" مباني الأمم المتحدة
(4) John J. Maresca, Vice President, International Relations, Unocal Corporation, US House of Representatives. Committee On International Relations, Submmittee On Asia And The Pacific, 12 Février 1998 .
(5) بالاشتراك مع الشركة السعودية "دلتا اويل”
(6) Olivier Roy, " Avec les talibans, la charia plus le gazoduc ", Le Monde diplomatique, novembre 1996.
(7) " Pièces à conviction ", op. cit.
(8) مجلة "فاينانشل تايمز"، لندن، 3/10/ 1996
(9) Strobe Talbott, " US policy toward Central Asia and the Caucasus ",The Central Asia Institute, Montana (Etats-Unis), 21 juillet 1997.
(10) Conseil de sécurité, S/PRST/1998/22, New York, 14 juillet 1998
(11) ألمانيا والسعودية والصين ومصر والولايات المتحدة وروسيا وفرنسا والهند وإيطاليا واليابان وقازاقستان وقرغيزستان وأوزبكستان وباكستان وهولندا وإيران وبريطانيا واسوج وطاجيكستان وتركمانستان وتركيا إضافة الى منظمة المؤتمر الاسلامي
(12) UPI، 27/9/ 2000
(13) مجلس الأمن في 3/11/2000
(14) سيصار الى استبداله في آذار/مارس 2001 بالسيد كارل اندرفورت.
(15) نانسي سودربرغ، بعثة الولايات المتحدة الى الأمم المتحدة، نيويورك، 12 شباط/فبراير 2001
(16) بعدما خاب امله، انسحب السيد أونيل من مكتب التحقيقات الفيديرالي وتولى وظيفة مسؤول الأمن في مبنى "مركز التجارة العالمي" حيث قتل في 11 أيلول/سبتمبر.
(17) وزارة الطاقة في الولايات المتحدة، واشنطن، 27/11/2001
(18) الرئيس الجديد هو من المقربين من الاميركيين"، عن صحيفة "لوموند"، في 5/12/2001.
جميع الحقوق محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي و مفهوم
#بيار_أبراموفيتشي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العراق يعلن توقف إمدادات الغاز الإيراني بالكامل وفقدان 5500
...
-
ما هي قوائم الإرهاب في مصر وكيف يتم إدراج الأشخاص عليها؟
-
حزب الله يمطر بتاح تكفا الإسرائيلية ب 160 صاروخا ردّاً على ق
...
-
نتنياهو يندد بعنف مستوطنين ضد الجيش الإسرائيلي بالضفة الغربي
...
-
اشتباكات عنيفة بين القوات الروسية وقوات كييف في مقاطعة خاركو
...
-
مولدوفا تؤكد استمرار علاقاتها مع الإمارات بعد مقتل حاخام إسر
...
-
بيدرسون: من الضروري منع جر سوريا للصراع
-
لندن.. رفض لإنكار الحكومة الإبادة في غزة
-
الرياض.. معرض بنان للحرف اليدوية
-
تل أبيب تتعرض لضربة صاروخية جديدة الآن.. مدن إسرائيلية تحت ن
...
المزيد.....
-
لمحات من تاريخ اتفاقات السلام
/ المنصور جعفر
-
كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين)
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل
/ رشيد غويلب
-
الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه
...
/ عباس عبود سالم
-
البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت
...
/ عبد الحسين شعبان
-
المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية
/ خالد الخالدي
-
إشكالية العلاقة بين الدين والعنف
/ محمد عمارة تقي الدين
-
سيناء حيث أنا . سنوات التيه
/ أشرف العناني
-
الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل
...
/ محمد عبد الشفيع عيسى
-
الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير
...
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|