|
- النقطة العميا- دعوة لمعرفة الذات
حسام موسي
كاتب وباحث وناقد ومؤلف مسرحي مصري
الحوار المتمدن-العدد: 7988 - 2024 / 5 / 25 - 12:46
المحور:
الادب والفن
كل شخص لديه بقعة في شبكية العين متصلة بالعصب البصري، لا توجد في هذه المنطقة خلايا حساسة للضوء. لذلك لا يمكن لهذا الجزء من شبكية العين الرؤية تسمي هذه البقعة بالنقطة العمياء. فثمة نقاط عمياء كامنة في دواخل الإنسان لا يدركها، ما إن يسلط عليها الضوء تثير كوامن أسرها في اللاشعور راهبا كشفها فتنكشف ويظهرها واعيا كان أم لا، وما أن تظهر حتي يستطيع ادراك ذاته ويتحرر من قيد هذه النقاط العمياء، وهذا ما أراد أن يبرزه المخرج أحمد فؤاد في تناوله لعرض" النقطة العميا" علي مسرح الغد بالعجوزة من خلال عناصر عرضه والذي تولي إعداده عن قصة "العطب" للكاتب السويسري "فريدريش دورينمات" (١٩٢١ – ١٩٩٠) أوفر كتاب الدراما الألمانية حظا في الوطن العربي لما له من ترجمات عدة منها "زيارة السيدة العجوز" و "رومولوس العظيم" و "هبط الملاك في بابل" و "زواج السيد ميسسبي" .. الخ.
يذكر أن دورينمات قد كتب العطب بعدة إصدارات بدأها كقصة بدون إعطاء أسماء للشخصيات ما عدا " الفريدو ترابس " والمدعي العام "تسورن" ثم أعاد كتابتها كمسرحية إذاعية بإعطاء أسماء لكامل الشخصيات ثم صاغها للمسرح عام ١٩٧٦. وقدمت في مصر كمسرحية إذاعية وسهرة تليفزيونية بصياغة "يسري الجندي" تحت عنوان " ليلة القبض الأبيض". تتناول "العطب" فكرة العدالة والضمير وادراك الذات. فتدور أحداثها في ليلة مطيرة حيث تصاب السيارة الفارهة للممثل العام لشركة نسيج "الفريدو ترابس" بالعطب في قرية تبعد عن بلدته بما يقارب الساعة فيُجبر علي قضاء ليلته في فيلا أحد رجال القضاء المتقاعدين " فوخت" بعد فشله في الإقامة بأحد الفنادق مع احتمالية إقامة علاقة غرامية وبصحبة أصدقاءه المحامي "كومير" والمدعي العام "تسورن" فضلا عن مالك العقار "بيليت" الذي كان يعمل جلادا حتي إلغاء عقوبة الاعدام والذين يقومون بإعادة تمثيل جلسات القضايا الجنائية لتزكية الوقت.
"فوخت" يدعو "ترابس" لتناول العشاء والشراب ومشاركتهم اللعب بأخذ دور المتهم في لعبتهم اليومية وفي خضم هذا الجو المرح يتم استجوابه عما اقترفه فينتهي الأمر باتهامه بقتل رئيسه السابق "جيكاكس" والحكم عليه بالإعدام شنقا لاقترافه عدة عمليات مشبوهة واسهامه في قتل رئيسه بدون إراقة أي دماء. فقد أقام علاقة غرامية مع زوجة رئيسه الذي يصارع نوبات قلبية ورتب لقاء مع هذه الزوجة وسهل علي الرئيس معرفة هذا الأمر بمعاونة زميل له حتي كتشف الأمر ليلقي حتفه في إحدى هذه النوبات محدثا ما خطط له سلفا بقتل مديره وحل محله في العمل. و بعد الحكم عليه يقوم "بيليت" بأخذه إلي غرفته واهما إياه أنه في طريقه لتنفيذ حكم الإعدام وما أن يصل للغرفة حتي يتركه يخلد للراحة فقد انتهت اللعبة ولكنها لم تنته بالنسبة له فيقوم بشنق نفسه اعترافا بذنبه.
أما أحمد فؤاد في قيامه بإعداد النص فقد نجح في الحفاظ علي روح نص دورينمات وأحداثه إلي حد كبير مقتصرا علي فكرة المحاكمة، فقد قام بعملية تمصير لأسماء الشخصيات فالممثل العام شركة النسيج " الفريدو ترابس" صار رجل الأعمال " آدم السمري" والقاضي "فوخت" صار "د. حكيم" والمدعي العام "تسورن" صار "عادل الريدي" والمحامي "كومير" صار "كمال الدميري" دامجا شخصيتي الجلاد ومديرة المنزل في شخصية واحدة نسائية ومعطيا للشخصيات أسماء لها دلالة درامية فيرمز ل " آدم" بالإنسان صاحب الخطيئة الأولي والمتمادي في غيه منذ بداية الكون وأنه لابد أن يكون صاحب جريمة متوافقا مع اعتقاد دورينمات المتشائم بأن العالم عبارة عن جريمة واحدة لا يمكن حلها أو التكفير عنها، وكذلك في اختيار اسم حكيم للقاضي وعادل لوكيل النيابة وكمال للمحامي. ولم يكتف بتمصير الأسماء بل غير في مهن دورينمات مطلقا عليهم خبراء قانون بدون خلفيات وظيفية، وقائما بحذف بعض الشخصيات والمواقف في النص الأصلي، ومراعيا البيئة المحلية باتخاذه اللهجة المصرية لغة للعرض لتقريبه للمتفرج وإعطاءه قدرا من السخونة وجعله أكثر حميمية ليقترب من واقع المتفرج وإن كان يؤخذ علي الإعداد عدم إعطاء الشخصيات العمق المعطي في النص الأصلي.
ونقطة الانطلاق لعرض "النقطة العامية" هو الزيارة غير المخطط لها من قبل رجل الأعمال "آدم السمري" ويجسده نور محمود الذي تقوده الأقدار لعطب سيارته لمحاكمة يقودها أربع خبراء قانون، الأستاذ في تاريخ القانون "د. حكيم " ويجسده حسام فياض و" كمال الدميري " أستاذ القانون الجنائي ويجسده أحمد السلكاوي و "عادل الريدي" دكتور علم النفس الجنائي ويجسده "أحمد عثمان" وتتصاعد الأحداث وينخرطوا في سجالات مع المتهم من خلال لعبة أطلقوا عليها المحكمة ليصطدم "آدم" في النهاية بإدراك ذاته مقرا بكل ما اقترفه من آثام فيُحكم عليه بالإعدام شنقا، فيصعد لتنفيذ حكم الإعدام ووضع الحبل علي رقبته لينتهي العرض دون الإفصاح عن النهاية لتركها لخيال المتفرج ليقرر ما شاء عكس نهايات دورينمات ففي القصة يشنق نفسه بعد تلقيه حكم الإعدام، وفي المسرحية الإذاعية يستيقظ في صباح اليوم التالي ويمضي دون تأثر بما حدث في الليلة الماضية، وفي المسرحية التي صاغها للمسرح يتلقى ترابس حكمين : حكم "ميتافيزيقي" بالذنب وحكم "قانوني" بالبراءة ويترك له القاضي أن يقرر أيهما يفضل. المنظر الذي صممه أحمد أمين كان واقعيا وهو عبارة عن فيلا بطابقين، السفلي منهما بهو بيت د. حكيم، به أثاث حديث مكون من أربع كراسي وطاولة عليها رقعة الشطرنج، في العمق علي اليمين غرفة تفضي للمطبخ وإلي اليسار سلم يفضي إلي الدور العلوي به غرفة للضيوف وتتخذها مدبرة المنزل كمرسم لها وتتوزع لوحاتها التعبيرية علي الجدران المثبت عليها مكتبة ملئ بالكتب القانونية وحبل مثبت في السلم من الأعلي بطريقة ديكورية تم استخدامه في نهاية المسرحية كحبل مشنقة، وإمعانا في عملية الأيهام وعدم كسر حاجز الجدار الرابع لانخراط المتفرجين في الحالة فقد أقام أسوار خشبية من روح السلم تفصل الجمهور عن خشبة المسرح يمين ويسار الخشبة وتوحي بالحصار الذي حوصر فيه البطل فقد دخل اللعبة ولا يوجد سبيل للخروج منها. التفاصيل الدقيقة لمصمم المناظر كانت في صالح العرض ولم تكن مجانية فقد استفاد من السلم في عمل نوافذ استخدمت كشاشات عرض لجرائم آدم السمري وكذلك من جهاز الجرامافون المتواجد في أحد الأركان والمنبعث منه الموسيقي واللوحات المعبرة التي تحمل دلالات ترسخ فلسفة العرض. كما كان هناك اتساق في الألوان تجمع درجات متناغمة بين الأحمر والأسود والبني ولقد نجح المخرج في التعامل مع كل مفردات الديكور باعتبارها عناصر درامية ومع الفضاء المسرحي باعتباره يجمع عبارات دلالية، ونجح المخرج في رسم حركة للشخصيات وسط المنظر المسرحي بطريقة سلسة.
الإضاءة التي صممها أبو بكر الشريف عبرت عن الحالات النفسية المتباينة والصراع الداخلي الذي يعانيه البطل أثناء الملاحقات المتصارعة من دكتور علم النفس الجنائي عادل الريدي وأثناء مشهد المشنقة، وأدت وظيفتها الجمالية والدرامية باستخدامه مساقط ضوئية وبؤر إضاءة مناسبة أدت إلي تضييق الخناق علي المتهم أبرزها الشبكة العنكبوتية الحمراء التي حاصرته.
وكان اختيار الملابس التي صممتها نور سمير للشخصيات مناسبا فقد أقام المخرج تقابلا لونيا دالا أكد من خلاله طبيعة شخصية "آدم" فقد تم اختيار اللون الأسود لكامل ملابسه وكوفيه طويلة حمراء وروب أنيق أسود يبين المكانة الاجتماعية لأستاذ تاريخ القانون "حكيم" وبدلة كاملة كلاسيكية لأستاذ علم النفس الجنائي "عادل الريدي" عن الشخصية، وكذلك في ملابس "كمال الدميري" حيث الملابس الكلاسيكية العشوائية.
أما الموسيقي التي صممها محمد أبو زيد فقد لعبت دورا دراميا في إبراز دلالات مستويات النص والعزف علي البعد النفسي للبطل فقد تنوعت بين الموسيقي الصاخبة والهادئة والحزينة. وكان اختيار الممثلين أحد أسباب النجاح الجماهيري الذي حققه العرض المتسم بالتناغم الشديد في أساليب التمثيل مبرزا دور المخرج الواعي أحمد فؤاد فكان أسلوب الانفعال الداخلي وفق منهج ستانسلافسكي متجليا في أداء الممثلين فقد أجاد نور محمود في تجسيد شخصية " آدم السمري" بحرفية شديدة في حالاتها المتنوعة بدءا من الشخص الواثق بنفسه لدرجة الغرور مرورا للمدافع عن نفسة وصولا للمقر بذنبه. ويتجلى فهمه لأبعاد شخصيته عند سماعه حكم المحكمة فيدرك أنها بمثابة عدالة إلاهية كانت غائبة بالنسبة له في العالم الحديث الملئ بالحوادث التي لا معني لها وأعطال السيارات. وجاء أداء حسام فياض الذي يجسد دور د. حكيم رصينا هادئا منذرا بحدث قادم. أما أحمد عثمان في تجسيد دور وكيل النيابة فقد أجاد بملاحقاته المستمرة للمتهم في الوصول لاعترافه بارتكاب الجريمة علي عكس أحمد السلكاوي الذي كان يحاول إنقاذ موكله فكانت مباراة بينهما في الأداء. بينما لعب عمر صلاح الدين دورين في المسرحية أولهما الميكانيكي الذي أرشد آدم علي الفيلا وثانيهما "السيوفي" المدير القتيل وقد أجاد في أدائهما وقد كان بمثابة الترويح الكوميدي في خضم المأساة الموجودة في النص ولم يتم التوصل دراميا لسبب قيامه بالدورين معا والفشل في محاولة الربط. وجسدت "هايدي بركات" دور مديرة المنزل "داليا" والقائم بدور الجلاد في نفس الوقت وأدت المطلوب منها في حدود الدور.
مسرحية "النقطة العميا" من انتاج مسرح الغد تحت قيادة سامح مجاهد بطولة نور محمود، حسام فياض، أحمد السلكاوي، أحمد عثمان، عمر صلاح الدين، هايدي بركات من إعداد وإخراج أحمد فؤاد.
#حسام_موسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دنيس ديدرو والابن الطببعي
-
كالديرون دي لاباركا والمسرح الباروكي
المزيد.....
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
-
3isk : المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بجودة HD على قناة ATV
...
-
-مين يصدق-.. أشرف عبدالباقي أمام عدسة ابنته زينة السينمائية
...
-
NOOR PLAY .. المؤسس عثمان الموسم السادس الحلقه 171 مترجمة HD
...
-
بجودة HD مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بالعربي علي قص
...
-
بجودة HD مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بالعربي علي قص
...
-
حالا استقبل تردد قناة روتانا سينما Rotana Cinema الجديد 2024
...
-
ممثل أميركي يرفض كوب -ستاربكس- على المسرح ويدعو إلى المقاطعة
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|