|
الخوف
أبوبكر المساوي
...
(Aboubakr El Moussaoui)
الحوار المتمدن-العدد: 7986 - 2024 / 5 / 23 - 04:49
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بالنظر إلى تاريخ تطور الفكر عند الإنسان واختلاف طرق تفاعله مع ما يحدث من حوله من زمن لآخر ومن رقعة جغرافية إلى أخرى، وفي ظل السياقات المختلفة وما يتدخل في ذلك من ظروف بطريقة سلبية أو إيجابية أو هما معا، وإذا أخذنا بذلك التقسيم المعروف عند أوغست كونت لتاريخ التفكير البشري إلى مراحل ثلاث: (المرحلة اللاهوتية، المرحلة الميتافيزيقية والمرحلة الوضعية) مع التركيز على الجوانب الماورائية في كل من هذه المراحل، أو على رغبة الإنسان في إماطة اللثام عن عالم "الروح" وخبايا الموت وما بعده، وعن تلك الرحلة التي يعبر فيها الإنسان من العالم الواقعي المعيش، حيث يلتقط الإشارات من محيطه عن طريق الحواس، إلى العالم الغيبي الذي هو نتيجة لتصوراته المبنية على هواجسه ورغبته في كسر شوكة الموت والفناء والرغبة في الخلود، وعن تصوراته لتلك القوى الخارقة التي اعتقد أنها صممت الكون وصنعته وبثت فيه مظاهر الحياة، فخلقت المملكة الحيوانية والنباتات، وجعلت الكواكب والنجوم تضيئ وتزين الفضاء وتأثثه إكراما للبشر وخدمة لهم، في مقابل تقديم مراسيم الولاء تارة عن طريق إقامة طقوس معينة، وطورا عن طريق تقديم قرابين حيوانية أو بشرية كأقصى مظهر من مظاهر الخوف والهلع التي عانى منها الإنسان في مراحله البدائية من الظواهر الطبيعية، وما ألبسها من لبوس غيبي وعلاقتها بالعوالم الماورائية والكائنات الغيبية والأرواح الشريرة ورغبتها في إلحاق الأذى بالإنسان، وتعطشها للانتقام والدماء على الدوام، وطبعها المزاجي الذي حير الإنسان لمئات الآلاف من السنين، حيث اتخذ لها أسماء متعددة ومختلفة من زمن لآخر ومن منطقة جغرافية إلى أخرى، وأسقط عليها خصائص تصورها بناء على مخاوفه ومشاغله اليومية البسيطة، وفي مرحلة متقدمة ألبسها صفات بشرية كالغضب والفرح و البطش والرحمة والمكر والعطاء والمنع وهلم جرا، وأكثر من ذلك أنه جعلها تتزاوج وتنجب آلهة إن تزاوجت فيما بينها، و أنصاف آلهة إن تزاوجت مع البشر، وحدد لها تخصصات ووظائف وأعمال تقوم بها، مفصلة على مقاس حاجاته البيولوجية اليومية، وحسب حاجاته السيكولوجية وجعل لها قدرات من قبيل ما يساعده على تجاوز الخوف على المستوى الفردي، وعلى المستوى الجماعي في ظل التنظيمات الاجتماعية البسيطة للتجمعات البشرية البدائية. من هذا المنطلق يمكن تسمية أو تلخيص المرحلة الأولى تحت مسمى الخوف كمحرك رئيسي لكل فعل يقوم به الإنسان، وكإحساس طبيعي منسجم مع خبرته المتواضعة والبسيطة بقدراته ومعرفته بذاته وبمحيطه الطبيعي، وما صاحبه من اجتهادات للتعايش معه ولتطويعه لصالحه، ومن حسنات هذا الخوف أنه ساعد على البقاء والحفاظ على النوع، ذلك الخوف من الكائنات الحية الأخرى التي تتقاسم الزمان والمكان معه من جهة، ثم الخوف من قسوة ومزاجية الظواهر الطبيعية ومخلفاتها وتقلبات الظروف المناخية، وبدافع من غريزة البقاء على قيد الحياة أولا ثم توريث جناته عن طريق التوالد ثانيا، لجأ بصفة تلقائية وفي توافق تام مع منسوب وعيه ونموه العقلي في مراحله البدائية إلى تصور وجود أرواح شريرة تقف وراء ذلك العنف والدمار الناتج عن تقلبات وحركات المكونات الطبيعية، وفي مقابل هذا تصور وجود قوى خيرة تختص بكل ما يتفق مع مصلحة الإنسان وما يدعم وجوده وبقاءه على قيد الحياة، وكمظهر آخر من مظاهر تطور العقل البشري وبحثه المتواصل عن حل الألغاز المتعلقة بأسرار الكون، لجأ إلى تصور آلهة تجمع بين صفات الخير والشر كبداية لتقليص دائرة وجود القوى المتحكمة في العالم، ثم جسدها في مجسمات ومنحوتات لتكون صلة وصل مع الكائنات غير المرئية، ولترجمة ذلك التصور الماورائي المجرد لتلك القوى التي أطلق عليها اسم آلهة إلى شيء واضح الأبعاد والمعالم لييسر عملية التواصل معها، ولاتقاء شرها ابتكر لها طقوسا تتلى فيها تعاويذ مصحوبة بحركات وأصوات قد نصفها بالغرابة في زمننا إن نظرنا إليها بسطحية واستعلاء، إلى أن وصل في مرحلة متقدمة نسبيا من مراحل تفكيره إلى اختزال كل تلك القوى الأحادية التخصص في قوة واحدة متعددة التخصصات سماها الإله الواحد، وحدث أن قدم قرابين بشرية لتلك الأرواح والآلهة علها تهدأ وتلين حين يشتد هول ظاهرة ما، أو لتمن وتجود حين يأخذ النقص والحاجة مكان الوفرة. بعد انتقال الإنسان من مرحلة التوحش وسكنى الكهوف والمغارات، وبعد أن صنع بيديه بعضا من الأدوات البسيطة التي أعانته على الصيد وعلى نحت وحياكة ما يلزمه لتلبية حاجاته اليومية، وبعد اكتشاف النار والزراعة التي غيرت في نمط عيشه الكثير من الأشياء، وبعدما طور مهاراته في صناعة أشياء كثيرة انتقل إلى الاستقرار في أكواخ -شكلت نقلة نوعية في حياته رغم بساطتها- ضمن تجمعات بشرية فرضت عليه أنماطا جديدة من التفكير والنظر إلى الكون والتأمل في محيطه الطبيعي وفي ذاته وأحواله، وفي هذا الإطار وبفعل الاحتكاك مع وضعيات ومشكلات جديدة وبسبب الاصطدامات وتضارب المصالح التي نتجت في المرحلة الانتقالية المصاحبة لبداية الاستقرار وتكوين المجتمع البشري، ارتقى الإنسان نسبيا من الحالة البدائية إلى مستويات أخرى من التفكير، حيث بدأ بتنظيم حياته الاجتماعية بالاتفاق بين أفراد التجمع البشري الواحد على مبادئ وقوانين بسيطة تساعده على حل ما قد يستشكل عليه في الموضوعات المختلفة، خاصة ما يتعلق منها بزراعة الأرض والصيد والمحاصيل الزراعية والأسرة. كذلك تعامل الإنسان مع الكائنات الغيبية التي سماها آلهة، حيث أسكنها في أكواخ بسيطة ليحميها من تقلبات المناخ بعد أن كانت تصاحبه في سكناه للكهوف، وهكذا تطورت مساكن الآلهة بالموازاة مع تطور مساكن الإنسان تدريجيا، بدءا من بنايات بسيطة ووصولا إلى بنايات شديدة التعقيد وفائقة الجمال على مستوى الأشكال والألوان والتجهيزات التقنية التي تؤدي من الوظائف ما يسهل حياة الإنسان في جميع مناحيها. انتقل الخوف في هذه المرحلة الثانية من آلية بسيطة للبقاء والحفاظ على النوع إلى آلية للتحكم، تحكم أقلية ذكية نسبيا تملك من القدرات الفكرية ومن القوة ما يساعدها على القيادة وتحديد مصير أغلبية أقل ذكاء مستعدة للانقياد والانحناء كلما دعا إلى ذلك أصحاب السلطة والنفوذ. تراكمت التجارب وتطورت طرق استعمال الحواس وارتقى فكر الإنسان مع مرور السنين كما ارتقت نظرته إلى عالم ما وراء المحسوس، وتغيرت تصوراته لكل ما هو خفي أو عصي على الإدراك، حيث بدأ في زمن قريب إلى زمننا هذا بطرح أسئلة من نوع مختلف عن سابقاتها بخصوص علاقته مع تلك الكائنات الغيبية التي صنعها خيال أسلافه، والتي دجنتهم وقصمت ظهور أجيال كثيرة، فكانت الأجوبة موازية للسياق التطوري للفكر ولنمو عقل الإنسان الذي انسلخ تدريجيا عن تلك الروابط العاطفية التي حبسته في سجن الخرافة لزمن طويل، وكاستعارة بسيطة يمكن القول بأن عقل الإنسان قد انتصب وانتفض وانتصر لنفسه بعد أن كان منحنيا خانعا طائعا لوصاية الذين ينتفعون ويغتنون من دوام نعمة طاعة الطائعين وجهل المجهلين، وفي هذه المرحلة التي يمكن اعتبارها مرحلة زمنية انتقالية كبرى في تطور الفكر عند الإنسان العاقل، ما يزال الكثير من بني الإنسان يغوصون في وحل الأزمنة البائدة نتيجة لتعلقهم العاطفي المحموم بما ورثوه عن آبائهم، ومنهم من يميل تارة للعقل وتارة للخرافة حسب ما تمليه المصلحة، وآخرون مذبذبين بين هؤلاء وأولئك لعدم امتلاكهم للقدرات العقلية الكافية وللجرأة التي تمكنهم من الحسم في مسألة الاختيار، ويستمر الحال على ما هو عليه لبضعة أجيال آتية لتأخذ علاقة الإنسان بالخرافة مسارات أخرى، قد تكون قطيعة كاملة أو قد تأخذ صورا وصيغا جديدة مختلفة عما نعيشه، لكن الأكيد هو أن الأمر سيكون مختلفا تماما عما نعيشه في زمننا، بكل بساطة لأن عامل الزمن سيلعب دوره كما لعبه من قبل، كما سيدخل على الخط ذلك العامل التطوري الذي يرعب كل متمسك بأهداب الخرافة، وقد يبقى البعض محافظين على نهج السلف وعلى وصفة الوحل المقدس، نظرا لامتلاك الإنسان بصفة عامة لذلك الجانب الخفي الغامض الذي لا يمكن تفسيره تفسيرا علميا دقيقا، لكن التطور الحضاري للمجتمعات البشرية يسير في تسارع لا يسمح له بانتظار من آثروا حمل الأثقال الفائضة عن اللزوم أو الذين ركنوا إلى الغوص في الوحل في تغييب تام لمقتضيات العقل ولمبدأ الشك وللحق في طرح الأسئلة، لمجرد أن أحدا من الأسلاف دعا إلى ذلك في زمن ما لأغراض شخصية خالصة قد تتلخص في الطموح إلى القوة والنفوذ والتحكم في مصادر الاغتناء وبناء وتوسيع الثروة أو للتمكن من قيادة واستعباد قطيع ما في رقعة جغرافية ما.
#أبوبكر_المساوي (هاشتاغ)
Aboubakr_El_Moussaoui#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشيزوفرينية
-
الحرية
-
مثل ديك على حبل
-
الغثيان والاشمئزاز والتقزز
-
أجيال في الوحل
-
جلد الذات
-
عقدة الذنب عندنا
-
-النحن- و -الأنا- و الفعل و رد الفعل
-
الزوايا المظلمة من تاريخ الإنسانية
-
التبن والشعير والحمير
المزيد.....
-
شهقات.. تسجيل آخر محادثة قبل لحظات من اصطدام طائرة الركاب با
...
-
متسلق جبال يستكشف -جزيرة الكنز- في السعودية من منظور فريد من
...
-
المهاتما غاندي: قصة الرجل الذي قال -إن العين بالعين لن تؤدي
...
-
الهند وكارثة الغطس المقدس: 30 قتيلا على الأقل في دافع في مهر
...
-
اتصالات اللحظات الأخيرة تكشف مكمن الخطأ في حادث اصطدام مروحي
...
-
وزير الدفاع الإسرائيلي يشكر نظيره الأمريكي على رفع الحظر عن
...
-
-روستيخ- الروسية تطلق جهازا محمولا للتنفس الاصطناعي
-
الملك الذي فقد رأسه: -أنتم جلادون ولستم قضاة-!
-
زلزال بقوة 5.8 درجة يضرب ألاسكا
-
سماعات الواقع الافتراضي في مترو الأنفاق تفتح أفقا جديدا في ع
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|