|
المخرج البولندي بافل بافليكوفسكي في فيلمه “ايدا”
محمد احمد الغريب عبدربه
الحوار المتمدن-العدد: 7979 - 2024 / 5 / 16 - 02:49
المحور:
الادب والفن
ينقلنا المخرج البولندي بافل بافليكوفسكي في فيلمه “ايدا” إلى حالة من التساؤلات والاستكشافات التي على اساسها يتم الاختيار، وذلك عن طريق رحلة ايدا في استكشافها للعالم والوجود، فمن خلال التناقض بين الثنائي ايدا والخالة فاندا نستكشف معهم عوالم مختلفة: عالم متطرف من المثالية الزائدة متمثل في ايدا وحياة الرهبنة المنغلقة، في مقابل عالم اكثر انفتاحاً وحداثة متمثل في فاندا والمجتمع البولندي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية، فهو ايضاً عالم متطرف يعاني من العزلة والكآبة التي فرضتها ظروف الحرب.
يبدأ الفيلم بلقطة مقربة لايدا تحتل فيه جزء ضئيل أسفل الكادر، توضح علاقتها بالتمثال والتي تستمر عبر الاحداث، فنظرتها للتمثال واهتمامها به منذ البداية يذكرنا ببجماليون وعلاقته بتمثاله جالاتيا وتطلعه إلى الكمال، حتى يتضح فيما بعد انه تمثال المسيح، فهي تبحث عن الكمال المتمثل في نظرتها لشخص المسيح الذي لا تعرف غيره.
تظهر تلك العلاقة متتالية في اول ثلاث كادرات من زوايا مختلفة، في اول كادر لقطة مقربة عليهما في اسفل اليسار دون سيميترية، ثم لقطة متوسطة لهما في منتصف الكادر، فيرجع بهما بزاوية مرتفعة في اسفل يسار الكادر بتعبيراتها وكأنها تنتظر افروديت كي تعيد له الروح.
اما أثناء نقل التمثال الى الخارج من قبل الراهبات نشاهد ضآلة حجمهم، فيقوموا بتكوين كتلة صغيرة داخل الكتلة الكبيرة المتمثلة في حوائط الدير الضخمة في كادر مغلق الأفق، مما يوحى بمدى وحشية الانعزال عن العالم، يدعمها اللقطات الثابتة وتحركهم بحركة شبه آلية، حتى يضعوا التمثال بمكانه، فيدخلوا تلك الدائرة التي لا ينطلقون خارج اطارها.
بداية الرحلة
يحدث أول تغير عند خروج ايدا من الدير وذهابها للخالة فاندا، فيتحول الايقاع البطيء الى ايقاع اسرع حيث الحركة في المدينة، فنرى اول حركة أفقية panللكاميرا مع حركة الناس والمواصلات، على عكس حالة الجمود داخل الدير، وكذلك اول وجود للموسيقى من داخل الكادر في منزل فاندا، وكأننا انتقلنا لعالم آخر.
وبعد اول اكتشاف لشخصية ايدا بأنها يهودية الأصل، يزداد كبر حجمها داخل الكادر لاظهار رد فعلها، ولكنها تصر على عدم اظهار اي مشاعر، فحياة الرهبنة التي نشأت فيها داخل الدير أجبرتها على الجمود، ولكن الجمود لا يقتصر على المؤسسة الدينية فقط بل يمتد إلى المؤسسات الأخرى، فبالانتقال إلى المحكمة، حيث عمل فاندا كقاضي، نرى حالة أخرى من الجمود تسيطر على الشخصيات ويساعد على ذلك اللقطات الثابتة.
تواصل ايدا استكشافاتها خلال رحلتها مع فاندا، فبعد معرفتها بحقيقة موت والديها، ورغبتها في البحث عنهما، تصل إلى عالم أكثر غرابة بداخل الفندق الذي تقيمان به أثناء بحثهما عن جثث عائلتهم: الأب والأم وابن الخالة الصغير. فنرى عالم في ظاهره أكثر حركة وحيوية، فتصبح هناك علاقة أخرى وهي علاقة ايدا بعازف الساكسفون الذي يظهر اعجابه بها.
تطور الشخصيات
على مدار الأحداث نرى تطور في شخصية ايدا والخالة فاندا أيضاً، فبعد اكتشاف بقايا الاجساد ودفنها، ترجع ايدا إلى الدير بينما تظل فاندا في وحدتها، وبعد اكتشافها لتلك الحياة الجديدة بعد خروجها من الدير، تختلف علاقة ايدا بالتمثال فتخبره انها ليست مستعدة بعد للرهبنة في مشهد خافت بزاوية مرتفعة، ثم نرى اختلاف تلك العلاقة بوقوف ايدا في عكس اتجاه التمثال ناظرة للأسفل داخل نفس الدائرة وبنفس الحجم الضئيل من الكادر.
أما الخالة التي عاشت عالمها بطريقتها الخاصة، تقرر أن تنهيه أيضاً بطريقتها، فيبدأ مشهد الخلاص بالموسيقى الداخلية مع فتح فاندا للنافذة في لقطة ثابتة واضاءة ناعمة soft lighting، فتتصاعد الموسيقى مما يزيد من توتر المشهد، تخرج فاندا من الكادر مرتين مع ثبات الكاميرا، وفي المرة الثانية ترتدي البالطو بدلاً من قميص النوم، فتستعد لمواجهة تلك الحياة القاسية، ومع خفوت الصوت تلقي بنفسها من النافذة بكل هدوء مع استمرار الكادر وموسيقى موتسارت.
اكتشاف حياة أخرى
تأتي ايدا في المشهد الذي يليه في نفس المكان بلقطة متوسطة على يمين الكادر، وتستمع إلى نفس الموسيقى التي انتحرت عليها فاندا، تمهيداً لاختيارها حياة الخالة وتقليدها فيما بعد في اسلوب حياتها، حتى تلتف حول الستار وتقع بها، وهو ايحاء بإضطرابها ووقوعها في حياة آخرى لم تعتاد عليها.
ثم يأتي مشهد الرقص مع عازف الساكسفون، فيظهران في خلفية الكادر بينما مقدمة الكادر فارغة، ويعمل الحائط على فصل الكادر وكأنهما في عالمين منفصلين، وكذلك اختلاف زاوية الكاميرا أثناء الرقص وكأنهما يريدان الاختفاء عن أعين الناس ويسرقان بعض اللحظات الخاصة من الحياة.
أما المشهد الذي يليه، فيبدأ بلقطة مقربة من ايدا تحتل فيها مساحة أكبر من الكادر واضاءة خافتة، ولم تعد ترتدي السلسلة التي بها صورة المسيح والتي لازمتها طوال الأحداث، وشكلت جزء كبير من شخصيتها عبر الفيلم في دلالة سميولوجية لذلك العالم الذي تنتمي إليه، ونستكشف معها العالم الآخر الذي ينتمي اليه عازف الساكسفون حين يسألها أن تذهب معه فتسأله وماذا بعد؟ فحين يجيبها بأن يتزوجا وينجبا وما إلى آخره من روتينيات الحياة، تكون اجابتها ايضاً وماذا بعد؟ فهي تركت حياة الجمود والروتين في الدير، ولكنها اكتشفت ان الجمود يحاصر الجميع.
نصل إلى النهاية حين يحدث تغير آخر في حياة ايدا، فتسير في مقدمة الكادر وكأنها ادركت أن حياة الدير وحياة الخالة وعازف الساكسفون لم يختلفا كثيراً، فنرى تحرك الكاميرا معها لأول مرة، ونشعر بنبضات قدميها على الأرض في حالة من التوتر، حتى ينتهي المشهد دون أن نعرف من اختارت في النهاية؟ فتتركنا في حيرة الاختيار: هل الحياة تتوقف على تلك الحالتين فقط؟ أم أن هناك خيار آخر يستطيع الانسان أن يصله؟
#محمد_احمد_الغريب_عبدربه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تحليل جمالي لفيلم “ايدا”: البحث عن عالم آخر
-
الأخوان داردين والاقتراب من نفسانية روبير بريسون
-
عدمية الحلم بين فيلليني وأنطونيوني
-
فلسفة الفيزياء والرياضية في ضوء النموذج الارشادي لتوماس كون
-
قراءة تأويلية وجمالية في فيلم”المرآه” لآندرية تاركوفسي
-
مبادئ واولويات فلسفة ونظرية مبحث القيم عند احمد عبد الحليم ع
...
-
استجابة للواقع ام سرد لتاريخ الفلسفة
-
تحليل فلسفي لفيلم “النشال” لروبير بريسون: شوبنهاور ونيتشه وف
...
-
ملامح فلسفية وجمالية في أفلام بيلاتار
-
الذات العربية تواجه نظيرتها الغربية
-
جدليات الانسان والصورة في فلسفة السينما
-
دلالات وملامح معرفية وأخلاقية في الخطاب السينمائي
-
أربع ملاحظات فلسفية وأدبية في السينما
-
ملامح الاغتراب والعزلة في السينما الحقيقية
-
دلالات فلسفية في السينما المعاصرة
-
الأوجه المتعدة للخطاب الفلسفي : الشر كقناع مستحيل
-
العدمية في السينما بين خمسة مخرجين
-
الفلسفة كعلاج في افكار الفيلسوف الالماني فريدرك فيلهم نيتشة
-
النقد الثقافي المعاصر في افكار زيجمونت بومان
-
سينما المشاعر واللعب علي تصوف المشهدية
المزيد.....
-
توم يورك يغادر المسرح بعد مشادة مع متظاهر مؤيد للفلسطينيين ف
...
-
كيف شكلت الأعمال الروائية رؤية خامنئي للديمقراطية الأميركية؟
...
-
شوف كل حصري.. تردد قناة روتانا سينما 2024 على القمر الصناعي
...
-
رغم حزنه لوفاة شقيقه.. حسين فهمي يواصل التحضيرات للقاهرة الس
...
-
أفلام ومسلسلات من اللي بتحبها في انتظارك.. تردد روتانا سينما
...
-
فنانة مصرية شهيرة تكشف -مؤامرة بريئة- عن زواجها العرفي 10 سن
...
-
بعد الجدل والنجاح.. مسلسل -الحشاشين- يعود للشاشة من خلال فيل
...
-
“حـــ 168 مترجمة“ مسلسل المؤسس عثمان الموسم السادس الحلقة ال
...
-
جائزة -ديسمبر- الأدبية للمغربي عبدالله الطايع
-
التلفزيون البولندي يعرض مسلسلا روسيا!
المزيد.....
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
المزيد.....
|