أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الحسين سليم حسن - القمع (الجزء الأول)















المزيد.....

القمع (الجزء الأول)


الحسين سليم حسن
كاتب وشاعر وروائي


الحوار المتمدن-العدد: 7967 - 2024 / 5 / 4 - 08:12
المحور: الادب والفن
    


القمع
رواية

توطئة
نحن الآن في بدايات عام 2024 في سوريا وها أنا أكلمكم من غرفتي الصغيرة في اللاذقية ، الكهرباء مقطوعة وشبكة الانترنت كذلك ، وشجرة عيد الميلاد دون أضواء .على الطاولة أمامي مجموعة أعداد قديمة من مجلة دبي الثقافية تعود إلى زمان فات وولى قبل أن تختفي الثقافة الحقيقية كجزء من حالة العدم التي أطاحت بالبلاد ، والتي هي نتيجة حتمية لخمسين عاما" من الواحدية .
لقد نهشتنا الواحدية على نحو أكاد أجزم فيه أن أكثر ما يدمر الإنسان والحضارة هي الواحدية ،وأن أسوأ أنواع الديكتاتوريات هي ديكتاتورية الحزب الواحد ،لأنها تشمل في مضمونها جميع أنواع الديكتاتوريات ،الدينية منها والعسكرية .
أمامي أيضا" مجموعة كتب لجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ،أحتفظ بها منذ الصغر ،حين كانت الثقافة القادمة من لبنان مرحب ومؤهل ومسهل بها وليس قبل أن تمنع السلطة هنا حتى القنوات التلفزية اللبنانية لكونها بعيدة عن ثقافتنا في رأيها .
(مبادئ دخيلة، ترويج للشذوذ والانحراف والمثلية) كما تصدح به خطب الجمعات على شاشات التلفاز عبر القنوات المدعومة بمال المحافظين .
الديكتاتورية الدينية أخطر من الديكتاتورية العسكرية ،يقول أدونيس ،لكن ماذا عن ديكتاتورية تجمعهما معا" ؟ مزيج من ديكتاتورية الحذاء والنص الديني،توتاليتارية تجمع بين هتلر وستالين مع نفحة من فاشية موسوليني ،وماداعش سوى انعكاس لها في المرآة .
لدينا داعش وفي أفغانستان طالبان ،ثم نتصل بإيران ونطلب منها المساعدة ، إيران تعدم معارضيها أيضا ! ألم تسمع السلطة بذلك ؟ وبفتوى الخميني والتي تقضي بهدر دم الكاتب الهندي البريطاني سلمان رشدي ؟ إذا" أي ديكتاتورية نحن يا أدونيس؟
إنها سلطة العدم يا صاح ،هيرودوس الذي لايقبل بزمان غير زمانه ،ونحن الشعب نصلب، وباراباس يطلق سراحه .
كم نحتاجك يا أدونيس،أنت وجورج طرابيشي ،نحتاج الفرد السوري الحر والمثقف ،لم مصير الفرد الحر في بلادنا النفي والبعد عن الوطن ؟
الفرد الحر المعتد بنفسه الآن يقتل ويسرق ويغتصب ويتعاطى الحشيش ،هذا هو نموذج الحرية السائد في أسخف أوجهها ،كما نموذج الفن المنحاز الذي يطبل للسلطة ، والذي ملأ مسارحنا وشاشاتنا السينمائية .فنحن هكذا ،لا نحترم الفن إلا حين يقود إلى غاية أو هدف ما ،مال أو مكانة اجتماعية أو شيء من هذا القبيل ،وهذا ما رسخه فينا حكم الحزب الواحد بعدائه للثقافة والمثقفين .
الإعلام كاذب ومنافق ،ويصر على الاستمرار في كذبه رغم أنه يعلم بأن أمره مفضوح .
والفن التشكيلي ،واحسرتاه على الفن التشكيلي ،وسط كل هذا الدمار والدم .ولو أن بيكاسو كان على قيد الحياة لغير حتما" عنوان لوحته (الجورنيكا) إلى سوريا .
ما حاجتنا إلى الفن النخبوي ،طالما أننا نأكل ونشرب وتتزوج نسوة محشوات بالبوتوكس يا صاح ؟
تقول إحدى صديقاتي النازحة من مخيم اليرموك في دمشق وهي تخرج صورة لعازف بيانو يعزف وسط الركام والرماد (هذا هو الفن في أبهى وأصدق صوره وأنت تتحسر على الفن التشكيلي يا صاح ، لقد عجز الأدب الروسي عن التعبير بشكل أفضل) .
إحدى القنوات التلفزية الموالية للسلطة تعرض الآن مسلسل (رجال العز) وفي المساء ستعرض (المال والبنون) ونغرق نحن في الظلمة ،كما غرقنا في السلع التجارية .
فحين يفلس المرء فكريا" ،يبدأ بالاعتقاد بأن كل شيء قد يحل بالمال ،وقد ينطبق هذا الحال على مجتمع بأكمله أو بلاد بكاملها وليس على فرد واحد .
حين بدأت الحرب الأهلية خرجت لنا الإيديولوجيا الإسلامية لتخلفنا عن ركب الحضارات ،فقتلت وأحرقت وهدمت المدن وقطعت الشجر وخربت آثار البلاد ،فنزح البشر عبر الحدود ، وفروا مهزومين في القوارب المطاطية عبر البحار هربا" من براثن الإرهاب .
ثم سرعان ما تحولت السلطة إلى أداة قمع لكل أنواع المعارضات لتحافظ على زمانها الخاص ،زمان يستحوذ على كل الأزمنة ،كل الإيديولوجيات وكل الشرائع .لكنها لم تقمع سوى نفسها وقتلت أبناء طائفتنا العلوية التي أنتمي إليها (أين أنت يا بدوي الجبل ،أنادي عليك كما نادت المرأة المكلومة :وامعتصماه ) .
لكن من يقمع غيره يقمع نفسه أولا" دون أن يشعر ،ومن يعتاد على القمع ويرضخ له مصيره التحول إلى قامع ،فالقمع لا يولد سوى القمع ،كما الإرهاب لا ينتج عنه سوى الإرهاب .
كان البرلمان_ومازال_ يحتكره أصحاب الثروات و رؤساء العشائر الذين غالبا" يكونون من الأميين ، ،والسلطة في أيدي الضباط الكبار .
(كل الحق على أديب الشيشكلي فهو أول من رسخ الديكتاتورية العسكرية السورية حتى قبل حكم الحزب الواحد)هناك رأي يقول.
وابتدأت بعدها وعود الإصلاح ،أي إصلاح هذا والرؤوس تتدحرج في الشوارع ؟ وما كمية الجهل التي كانت تغرق فيها السلطة ؟
ثم خرج الشيوخ للوعظ والإصلاح الديني من الطرفين واقتصر خطابهم على الصوفية فقط ،لم يذكر أحد ابن خلدون وابن رشد وغيرهم من العقلانيين وكان هذا خطأ" فادحا" و زاد الطين بلة.
وزحفت الكتب الدينية إلى معارض الكتب في الجامعات والمراكز الثقافية التي صارت تصدح بأغنيات تبجل الفدائيين من الأحزاب الدينية التي تقاتل إلى جانب السلطة .
المسيحيون من الروم الأرثوذكس قاتلوا إلى جانب السلطة أيضا" ، في صفوف فرق الدفاع الوطني ،خوفا" من تمدد الأصولية الدينية أو رغبة منهم على التأكيد أن وجودهم راسخ في جذور هذه الأرض ،ثم دخلت قوى العبث والشر بحجة حمايتهم .
وعاشت القرى المسيحية الكاثوليكية على الحدود التركية تحت رحمة الإسلاميين ،ووضعت نساؤهم الحجاب رغما" عنهن ،وأصبح كل ما يتعلق بالمرأة وتصوراتها وأحلامها غير ذي أهمية ومهملا" ،حتى في مناطق السلطة العلمانية ،حيث لهثت النسوة والفتيات خلف عمليات التجميل وتكبير الصدر لإرضاء الذكر بحقن أردافهن وأجسادهن بالبوتوكس ،مستسلمات للزمن الذكوري الذي انبثق فجأة دون أية رحمة .
وما زلت أذكر ذات مرة حين كنت أتابع مسلسلا" يحكي قصة الفنانة اللبنانية صباح ،قالت لي إحدى صديقاتي في الجامعة : وكيف تتابعين مسلسلا" يحكي عن عاهرة ؟!!!
فضلا" عن النساء اللواتي اختطفن وسبين من قبل داعش ،واللواتي اغتصبن في جحور الإرهاب أو في معتقلات وسجون النظام .
عاد فجأة الحنين للماضي العثماني و مجد جهله حتى في الأعمال الدرامية واستيقظوا فجأة للحديث عن مجازر حماه بينما كان أناس الزمن الحالي يقتلون .
ثمة رأي يقول : (الشرق هو الآفة بأديانه وخرافاته وعاداته وتقاليده وتمجيده للعنف والمال)
وفي رأيي يجب أن يبقى ما نؤمن به من الغيب ضمن الغيبيات ،وما نعيشه من المعلوم والمدرك مفصولين ،أي يجب أن نفصل ما بين اللامعقول (الذي لا نملك القدرة على تفسيره ) ،ومابين المعقول (الواقعي الذي نمتلك القدرة على التحكم به ) ،ودون ذلك تبقى فكرة الإيمان لا معنى لها ،وتفقد مصداقيتها ،ونصبح لعبة في أيدي الخرافات التي تسيرنا كما ترغب وحينها سنصطدم بالواقع حتما" ، ولكن هذا الفصل لا ينبغي أن يكون فصلا" كاملا" ،وإنما من المستحسن أن نعتبر تلك الغيبيات بمثابة قصص وحكايات (من غير المؤكد صحة حدوثها) نتعظ منها وتخدمنا في الحياة الواقعية،أي بمعنى آخر يجب أن تصبح تلك الغيبيات طوعا" بين يدينا نحن ،وتصبح مفهومة ومنصهرة في دواخلنا ،حتى نصبح أسيادها ونتحكم نحن بها ،بدلا" من أن تحكمنا هي ، وبذلك يحقق الإيمان غايته الأسمى في رأيي ،وهذا الكلام ينطبق على كل ما يفرض علينا في الحياة فرضا" وليس محصورا" في الغيبيات ،وكل ما نتربى عليه ونلقن به في الصغر ،او في جميع مراحل حياتتا وضمن أي مؤسسة أو مجتمع أو منظومة فكرية ،وبذلك نصبح قادرين على تحويل أي بروباغندا من شأنها استصغارنا ،إلى أداة قوة تسمو بنا نحو القيمة الإنسانية المرتجاة .
لكن ماذا عن بروباغندا السلطة بفكرها القومي القبلي والتي على الرغم من ظهور هويات وثقافات متعددة إبان الحرب_ ومنهم الأكراد الذين تدعمهم أميركا ويقاتلون داعش_ مازالت مصرة على أننا ثقافة واحدة ، يجمعنا تاريخ واحد و هوية واحدة و مصير واحد و ولاء مطلق للحاكم الإله الذي يحتكر الدين والعلم و الأخلاق؟
(الديمقراطية لن تجلب إلا حكم الإخوان المسلمين ) تلك حجة السلطة ،لكن ها هم في مصر قد أطاحوا بالإخوان وتبين أنهم يقرؤون طاغور ونيرودا ،إذا" شعوبنا مثقفة إلا أن السلطات معتدة بنفسها ومغرورة،و لا تعترف إلا بمثقفيها ،الذين يحومون حولها .
المثقفون الحقيقيون وحيدون في المقاهي ملتزمين الصمت فالثقافة تسري في العروق ،لا يخطب بها اللسان .ولو أرادوا الكلام فكيف يتكلمون وتهمة الخيانة العظمى تلاحق كل من يدلي برأيه ؟ ،والمحاكم الميدانية تقرر أحكام الإعدام كما الآلة التي لاتتعب .وهذا إن دل على شيء فهو يدل حتما" على انتصار فكرة من قتلوا ،فحين تؤذيني ،لايعني هذا سوى أمر واحد ،هو انتصاري بفكرتي عليك .
ثم تخرج السلطة وتتحدث عن انحدار الغرب ، هل تعيش السلطة في الخيال ؟
وما نحن في نظر الغرب سوى شعوب آسيوية مثيرة للشفقة ،تعيش تحت رحمة الديكتاتوريات الدينية والعسكرية .
المعارضة المثقفة التي يعول عليها احتضنتها بيروت مع بداية الحرب،أما معارضة الداخل ،فقد قبلت بدورها البسيط لإسكات جوع ماضيها القمعي مع السلطة .
وسرعان ما انتفض القاتل الذي يسكن دواخل المعارضة الشرسة ،فالبؤس ربما يحمل في جعبته الأفكار الخلاقة كما في الثورة الفرنسية ،أما القمع فلا ينتج عنه سوى التشظي والانفجار .ثم يطلق البعض على ما جرى تسمية (الربيع العربي) ، عن أي ربيع يتحدثون ؟ ربيع يهدي وروده لمن يقتل ؟
ما الذي يعبر عن ما جرى لنا يا ترى ؟ الفلسفة؟ الشعر ؟ كوننا شعوب مقموعة حزينة ،أم الرواية الممنوعة عنا والتي توثق ممارسات وجرائم الديكتاتورية والإرهاب ؟ .وهل من توثيق ينفع والتاريخ تكتبه السلطة ؟
بالنسبة لي ،كنت أعلم مسبقا" أننا نعيش في بلاد تحكمها قوى الشر والجهل والظلام ،وكنت متمردة في جميع مراحل حياتي إلا أنني في خضم الحرب عشت في زمن شاعري يخصني وحدي ،وكنت كغريب كامو قد يقلق وحدتي ويقض مضجعي شعاع شمس حارق .
التزمت غرفتي ولذت بالشعر والرقص والموسيقى و روايات الطفولة _فحين يصعب الانتماء يبدأ دور الأدب _أمثال : (هايدي وتوم سوير) رامية" وراء ظهري صورة جان جاك روسو وعقده الاجتماعي البعيد كليا" عن بلادنا ، و كل حماقات الحرب ،عابرة" إلى الحياة من بوابة العاطفة .نعم ،فالكلام العاطفي هو الأصدق والأقرب إلى الواقع ،حتى ولو بدا العكس .
قبل الحرب اقتصر تعاطفنا فقط على الأعمال الدرامية التي اكتشفنا لاحقا" أنها كانت بعيدة تماما" عنا ،وكنا نتعاطف مع معاناة فلسطين وها هي فلسطين اليوم تدمر ونحن نوجه بنادقنا وطائراتنا وقذائفنا على أبناء شعبنا .
أما اليوم نجلس في المقاهي نعزف على العود ونغني حزانى،وغدونا مثقفين كوزموبوليتيين يثير مشاعرنا ما حدث في فرنسا من هجمات إرهابية ،بينما نتغاضى عما يحدث في بلادنا من موت ودمار،كما أجلس أنا في أحد المقاهي الثقافية الرخيصة مع صديق لي .
وتارة تنتابني رغبة كما بطلة رواية ذهب مع الريح لمارغريت ميتشل بأن أعود إلى منزل الطفولة الذي تهجرنا منه بفعل الحرب ،هناك في إدلب حيث تسيطر الجماعات الإسلامية ، والتي تهجرنا منها لكون جداي علويين، وأن أبدأ من جديد حتى لو اضطرني الأمر لقتل شخص ما كما فعلت بطلة الرواية .
لقد شكلت السلطة هذا الشعب كما ترغب ،وجعلت كل فئة وطائفة تختص في أمر معين ومن يتمرد على ذلك و يحاول أن يكون مختلفا" مصيره الإقصاء والنبذ أوالقتل.
ولعل أكبرمثال على الفرد المختلف ومعاناته هو ما نحن عليه في منزلنا ،حيث أعيش اليوم عاطلة عن العمل مع عمتي العانستين وعمتي الأرملة وعمي المنفصل عن زوجته ،خمسة سوريين ناجين من الحرب ،خمسة سوريين مختلفين ما زالوا محبين للحياة ومتمسكين بها ،في مكان وزمان لا يرحمان المرء المختلف .وهذه حكايتي مع القمع الذي أثقل حمولته فوق صدري،وسعي الدؤوب للتحرر منه وتنشق الهواء النقي بحرية من جديد.

_١_
حين ولدت توفيت والدتي بعد أيام ،فعهد أبي بتربيتي إلى شقيقاته غير المتزوجات في منزل جدي الذي يقع في بلدة على الحدود السورية التركية ،وهكذا نشأت في منزل كبير زاخر بالشخصيات الملونة ،وتسنى لي أن أعلم عن كل شيء ،بفضل ما يزخر به بيت برجوازي من أحداث وقصص وحكايات ،كأن أعرف عن الدين وقصص الأنبياء والرسل بفضل إحدى عماتي التي كانت تدرس التربية الإسلامية ،وعن الخرافات وحكايات البطولات من جدي وجدتي ،أما اخبار البلدة فقد كانت تأتي لنا بها عمتي الكبيرة التي تستيقظ صباحا" وتذهب للعمل ولا تعود إلا حين يأتي المساء ،لكونها قد تولت في الماضي مسؤولية إدارة أراضينا الزراعية ،أما قصص وأسرار البيوت فكانت من اختصاص عمتي التي عهد لها مسؤولية البيت .
وهكذا وبفضل الرخاء الذي كنا نعيش فيه تسنى لي التلذذ بتوسد الخيال كما يحلو لي ،لأنسج قصصا" أخرى غير ما يحدث حولي رغبة في صنع قصصي الخاصة تماما" مثلهم .
وكان ذلك في زمن كاد أن يتحول فيه حكم البعث وواحديته إلى دين ،ونمط حياة إلى درجة الخدر المطلق .
وبينما كنت أدرك ما يفعله البعث في الخارج ،كنت أواصل تلذذي في نسج الحكايات في منزل يحفز على الإبداع والمساءلة قبل أن يرضخ العقل للأفكار الجامدة الجاهزة التي تقاتل التميز وتحول الفرد إلى نعجة في قطيع .
استيقظوا في السابعة صباحا" ،هيا،الأمر للجميع ،حيوا العلم في المدارس ورددوا شعارات الحزب الواحد والوحيد ،هيا خذوا جرعتكم الصباحية من الخدر ،يمنع ارتداء أية ثياب أخرى سوى البذلة الرسمية الزرقاء القبيحة ،هيا بوجه صارم ومتجهم ،انصهروا في اليوم السوري على نحو يليق بعظمته ،وهزوا برؤوسكم موافقين على كل قرار أو اقتراح من الأشخاص المناسبين الذين وضعوا في أماكنهم المناسبة ،حتى لو تعلق الأمر بأن تبصموا على ورقة اقتراع أيا" كانت دون النظر إليها ،فهذا وحده ما سيضمن لكم قوتكم ،عماوتكم وحدها !
حتى لو وصل بهم الحد إلى تزويجك ربما على ذوقهم ،أو اختيار الفرع الدراسي المناسب لك ،فما من داع لأن تزعج نفسك وتسأل عما تريده حقا" ،فهم يفكرون ويقررون عنك مسبقا"،حتى لو أردت ،طريقة و طقوس صلاتك .
هيا عد إلى بيتك الآن ،ولا تقرأ ،فالعلم والثقافة خلقا فقط لتتوظف وتقبض راتبا" ،فالمال والبنون زينة الحياة الدنيا ،هذه الآية مناسبة لأفكار الحزب ،فلنحتفظ بها ،إلى جانب الأفكار التي جلبناها من كل حدب وصوب ولصقناها بالحياة اليومية ،بما يضمن تماشي الحزب مع التطور والتجدد ههههه !
احترام المرأة كذلك مهم ،فلتذهب إلى الاجتماعات الحزبية وتتشبه بالرجال ،نعم هذا يضمن قوة الدولة والحزب ،نعم فالأنوثة ضعف لا يليق بنا ، ولاتليق بنا النساء القطط المائعات ،كما لايليق بنا من يتشبه بالنساء ،تلك فكرة أخرى من الدين الإسلامي جيدة ومفيدة لنا ،فلندعمها ولنوافق عليها ! وأهلا" أيضا" بالمحجبة الشريفة الطاهرة .
إياك والتحدث في الطوائف ،فنحن كلنا طائفة واحدة ودين واحد وحزب واحد ،هيا حاول أن تنفض عنك كل ما تربيت عليه واستعد للولوج إلى منظومتنا الفكرية ،جنة البعث الأرضية ،وتذكر أننا قد حذرناك مسبقا" من عواقب العصيان .
هكذا كانت طفولتنا ،من لم يكن مع البعث ليس سوريا" ،وليس مسلما" سويا" وليس مسيحيا" مخلصا" للوطن ،وليس مثقفا" نافعا" ،وإنما غبي يضيع وقته في الترهات ،وليس رجلا" وإنما هشا" من فصيلة الرخويات .
الفعل ثم الفعل ثم الفعل ،اجتمع بنا وأعلن ولائك التام ،تملك الدنيا والآخرة ،انزوي بنفسك واقرأ كتبا" لا تمت لنا بصلة ،سنخونك ونسمك بصفة (الجحشنة) ،أو اللوطية أو الاخونجية .
لا تتعب نفسك بالبحث عن الشكل الصحيح للدين ،نحن أدرى بالشكل الصحيح للدين الإسلامي ،فنحن الدين نفسه ،ولا تتعب بالبحث عن أصلك وفصلك وقوميتك ،فنحن كلنا عرب ،وهذا فقط ما يشرف ،العرب الفحول الصناديد ،الشيء المضمون المحتم الذي يمكنك الإمساك به بين يديك ،في هذا الوجود المبهم .
هكذا عشنا طفولتنا في المدارس ،كنا مخدرين تماما" ولم نكن نعلم أن كل هذا يفعل من أجلهم فقط ،من أجل أن يضمنوا مستقبلا" جيدا" لهم ولجيوبهم وجيوب أبنائهم ،أولئك الذين كانوا يتشدقون لنا بشعارات الاشتراكية الزائفة .
ولم يكن من سبيل لأن نستيقظ إلا باستكشاف عوالم أخرى ،لمن يتسنى له ذلك ،مثلي أنا .حيث سمح وجودي في منزل حكاء ،إلى جانب الكتب والمجلات التي كانت تغرق علي بفضل رغبتي الشديدة وإصراري على توسد الخيال دوما" ،خيال مقاوم لفعل التنميط الذي يمارس حولي دون أن أدرك كنهه لصغر سني حينها .
كان في داخلي رغبة في بناء عالم من الخيال يخصني وحدي ،عالم بقواعد أخرى مضادة ،على الرغم من أنني كنت مستسلمة للدور الذي وضعوه لي ،متفوقة في دراستي ،بأنوثة مكبوتة ،ومنضمة إلى حزبهم دون أن أعلم ،ودون أن أوافق ! صامتة دوما" ،ألوذ بالخيال والفن علاجا" للكبت وحدة الرأي ومحاولات إعاقة المستقبل .



#الحسين_سليم_حسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قم هات عودا-
- سوق السلام
- اعترافات البومة القاتلة
- أحفاد زورو
- الأنثى التي تكتنفني
- قصائد مختارة
- ما يهم أنك حي
- لو عاد بي الزمن
- حرب رشيدة
- شقاء اسماعيل
- ستظل النجوم تهمس في قلبي إلى الأبد (منقحة)
- ماسة (منقحة)
- اعتذارات الديكتاتور
- ستظل النجوم تهمس في قلبي إلى الأبد
- ماسة


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الحسين سليم حسن - القمع (الجزء الأول)