|
هواجس ثقافية 142
آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 7957 - 2024 / 4 / 24 - 11:08
المحور:
الادب والفن
لقد ساهم الناقد رجاء النقاش في إبراز رواية، موسم الهجرة إلى الشمال، وقدمها موضوعيًا دون أي إنحياز إلى الكاتب أو القارئ، إلا إنحيازه للنص، وقدرته على حمل الواقع وتعرياه وتفكيكه، بكل ثقله وجماله. في أيامنا هذه لا يوجد نقاد أو نقد جاد. وإن المقالات الصحفية عن زيد أو عبيد لا يفي الأدب والفن حقه. إن الناقد الجاد عندما يكتب عن عمل أدبي ما عليه أن يتجرد من أي خصوصية أو شخصنة أو يقع في مطب العلاقات الخاصة. بمعنى، عليه أن يتعالى عن الحمولات الذاتية. وإن ينظر إلى النص الذي أمامه من موقع أنه نص جامد يتحرك سلبًا وايجابًا عبر تفكيكه وتحريكه ودفع نبض الحياة فيه.عبر النقد إن يُشرح النص بمبضع الجراح. بمعنى، عليه أن لا يكون الناقد مزاجيًا أو عاطفيًا أو إنسانيًا في عمله. إن يكون هدفه ومرامه هو الوصول إلى الحقيقة. وإنه يرمي للوصول إلى حقيقة النص وإلى أين يذهب. المزاجية والشخصنة والمحسوبية أساءت للعمل الإبداعي في عمومه. واحيانا يقع الكثير تحت تأثير الأسماء الكبيرة فلا يملك الجرأة على الاقتراب من نصه لكونه من المحرمات أو الغيتو. الموضوعية هي المدخل إلى النجاح، لأن داخل هذه الموضوعية هناك حب ورحمة وصدق وبحث جاد وفاعل للوصول إلى الضمير الكائن في داخل النص. النصوص لديها القدرة على المراوغة والخداع والتورية والتخفي، لهذا فأن على الناقد الماسك بالمشرط أن يكون له بالمرصاد ليدخل في حقل الغام النص من أجل إخراج المعدن الثمين من غيره.
اليقين كذب وافتراء هذا اليقين، اللايقين، جعلنا كالسراب، نركض وراء المطلق دون ذاكرة محفزة أو محرضة. كالعلق، نمتص رحيق الزمن، دمه، مجوفين، فارغين، لا أمل يلمنا، ولا ضمير يعيد لنا صواب دروبنا المجهولة. هذا اليقين المجهول، جعلنا في اللامكان واللازمان، مجرد هيولة تسبح في الفراغ. لسنا في الزمن، ولسنا خارجه. نحن طفيليون
مقياس الفرد يقاس المرء بموقفه، وليس بثقافته، هذا درس من دروس الحياة علينا تعلمه. الأنظمة العربية لديها مثقفين كثر، ولسان أحدهم أطول من قطار، بيد أنهم مرتزقة، أنتهازيون ولصوص ومعدومي الضمير. السيسي لا يفقه شيئًا بالثقافة أو السياسة أو الفكر، أنه رجل أوامر، يتلقى الأوامر ويأمر، عسكري حاف، مع هذا لديه آلاف المثقفين يخضعون له ويصفقون له ويتباركون به، بله يمسحون حذاءه. إن تقول عن أحدهم مثقف ومترجم وأصحاب أخلاق حميدة ومحترم وأكابر، هذا كله ممتاز، لكن، ما هو موقفه؟ هنا المحك. لو كانت أحزاب، ومثقفي بلادنا أصحاب مواقف لما تشردنا وسجنا وتبهدلنا وضاعت منّا بلادنا. الموقف، هو الضمير الحي، اليقظ، الذي يرفض كل الأغراءت. الاستبداد السياسي لا يخلف وراءه إلا الرماد، يجب على الدولة العمل على تغيير المناهج الدارسية عبر زرع ثقافة الاختلاف في الجيل القادم، لغة قبول الأخر. لدينا دول وتجارب في الاتحاد السوفييتي أيام ستالين، والصين، ماو تسي تونغ، وبول بوت، جميعم عملوا من فوق، حولوا بلادهم إلى بحار من الدم من أجل التنمية. التنمية دون قوى عقلانية مدنية تؤمن بحق الأخر في الحياة لا يجدي نفعًا على المدى الطويل. وصول الإسلام السياسي إلى السلطة هو دمار لا شك في هذا، والعسكر أيضًا دمار، هما أمران أحلاهما مر. لا بد من الديمقراطية.
الجمال حتى تصبح جميلًا، انفصل عن نفسك قليلًا، خذ مسافة منها، وأنظر إليها بشكل حيادي. النفس أنانية لا تعرف إلا نفسها، لا ترحم غيرها، عدوانية جائرة، متطلبة. حبها، ولكن دون تملك، هذا التملك هو سبب خرابها ودونيتها وعقدها واستعلاءها.
الضحايا الضحايا لا أب لهم ولا أم، لهذا لا تاريخ لهم بمجرد أن يولد النص، هو معرض للانشطار. النصوص عارية واقفة في وجه الريح، لا حماية لها، كالأشجار تماما. وهذا سر قوتها وضعفها
عن السجن أحدهم جاءته زيارة بعد ثماني سنوات اعتقال، شارك جميع المعتقلين في المهجع الثاني عشر في سجن عدرا على ألباسه ثيابه. كان يرجف من هول اللقاء. عندما وقف في الزيارة أمام والدته، سألت هذه الأخيرة الشرطة: ـ أين أبني، لقد تأخر. قالوا له: ـ إنه أمامك؟ ـ أين هو أمامي؟ أشاروا على أبنها أنه أمامها، بدأت تصرخ وتولول: ـ هذا رجل عجوز، لا أريده. أريد أبني، لقد أخذتم أبني شابا، شعره أسود. يرد عليها: ـ يوم.. يا أمي، أنا أبنك. ـ لا.. لا، لا يمكن أن تكون أبني، أنت لست أبني. أبني كان شعره أسود فاحم، وأنت رجل عجوز شعره أبيض. تخيلوا المشهد، قساوته، بين طفل وأمه بعد غياب مدته ثماني سنوات، هؤلاء الفتية كانت قلوبهم بيضاء كالحليب وبقوا هكذا.
عن السجن مرة ثانية مصطفى الشيخ حسن اعتقل في عمر السادسة عشرة، قال لي: أخذوني إلى حبل المشنقة ثلاثة مرات، في كل مرة كانوا يضعون الحبل حول رقبتي ثم يفكوها، قالوا لي: أنزل. اسم الأم غير مطابق لأسم والدتك. كان يتكلم ويبكي، شعره كان كالفضة، والكثير من الأطفال الذين عاشوا في سجن تدمر، فقدوا ملامح الحياة من الخوف والإرهاب. عمار عرب اعتقل في الرابعة عشرة من العمر، كان يبكي: ـ لماذا أنا هنا، أريد أمي، خذوني إلى أمي. قصص وراءها قصص، وحكايات أموات ما زالوا على قيد الحياة. نزار موسى اعتقل في الرابعة عشرة من العمر بسبب أبوه، رهينة هو وأمه في تدمر، لأن والده قاتل ضد الدولة، بقي في السجن أثنتا عشرة سنة.
عن السجن مرة ثانية في سوريا العام 1980 تم اعتقال أطفال صغار بعمر الثالثة عشرة إلى ما دون الثامنة عشرة. الجريمة: رموا حجارة على الشرطة أثناء أحداث الأخوان المسلمين. لكم أن تتخيلوا ماذا فعلت الدولة بهم. تم أخذهم إلى سجن تدمر العسكري في بادية الشام، مع تعذيب يومي، قهر، منع عنهم الزيارة. عندما اعتقلت في العام 1987 التقيت بهم، كان قد مضى على وجودهم في المعتقل سبعة أعوام. عندما جلبوهم من تدمر في العام 1986 ـ 1987، إلى سجن عدرا بدمشق كانوا في اسوأ حال، لم يستطيعوا أن يرفعوا رؤوسهم عن الأرض لأن قانون تدمر يجبر السجين أن يبقى منكس الرأس طوال سنوات وجوده في هذا المعتقل. كل خمسة عشرة فرد يأكلون بيضة واحدة، وبرتقالة واحدة، مع إهانات وضرب مبرح. البعض منهم أخذ رهينة هو وأمه، أي لا ذنب له. المدة الذي قضوها في السجن أثنتا عشرة سنة، الأعوام الستة الثانية أكملوها في سجن عدرا. عندما نقلوني إلى سجن تدمر تذكرت هؤلاء الأطفال، كيف بقوا على قيد الحياة، كيف صمدوا في ظل هذا القهر. هؤلاء الصغار بقوا صغارًا، مستواهم العقلي والتفكير لم يتطور مع تطور الحياة، بقوا في حدود الزمن الذي اعتقلوا به.
تاريح الضحايا مرة ثانية تاريخ الضحايا عبر التاريخ، مرة مأساة عندما نكل بهم على يد الطغاة، ومرة سخرية عندما يحولونهم إلى تحف، أنتيكة، على طاولتهم كمازات للمسأومة والمتاجرة بآلامهم وأوجاعهم. الضحايا فضلات السياسة، مزاد حقيقي للسوق، للبيع والشراء. وتقولون أن العبيد تحرروا؟
الأمل الأمل، ذاك الفرس الذي نركبه، ونهرب فوق ظهره من هذا الوجود إلى وجود أخر، نرمم السماء والأنهار والبحار، نتوه بعيدًا عن تلك الوقائع المعلومة لنرمم أو نبني حقائق مجهولة من وهم وملاط وغموض. من أين تنبع الذاكرة المؤجلة، تدفعنا إلى الخلاص المجهول، إلى السماء الغائمة الملونة بأيدينا. نؤلف الخيال من الخيال، من القصص الغرائبية، نحفر إرادتنا على إرادة أخرى مثلما ينقش الحفار على الخشب المنخور لوحات معجونة صدئة بفعل ضربات الزمن.
يقول الروائي هيثم حسين في مقالته عن رواية، في الأرض المسرة: يلفت الروائي آرام كرابيت الانتباه إلى دور الموسيقى في حماية البشر من شرور أنفسهم، وترويض وحوشهم المستنفرة على الدوام. ثمّ يحكي عن خيبة أمل بطله، انكساره وصدمته لرؤية الفظائع حين عودته، وإقراره أن من السهل تحويل الإنسان إلى مجرم أو أداة طيّعة بيد موجهين يدركون ماذا يفعلون. يتمنّى البطل لو لم يعد إلى قريته أم مدفع. ويسأل: مَن نحاكم؟ هل نحاكم الماضي أم المستقبل؟ ومن يضمن ألا تتكرر هذه المأساة في مكان ما من العالم..؟ يعترف بطل الرواية الذي يتبدى بائحاً بهواجس الروائي وتصوراته بأنّ الإنسان ينتمي إلى الحطام. إنّه صنم. يبدو أن الوحش الكامن فيه لا يمكن أن تقلّمه حضارة أو عقل مدني أو تطور. من السهل تحريضه ودفعه إلى البغي. ثمّ يسأل نفسه بحزن: أي روح تسكنني؟ كيف سأتصالح مع نفسي وزمني القادم؟ ماذا يحدث؟ ولماذا يجمع الزمن القاتل والقتيل في الحين ذاته والمكان ذاته؟ هل ذلك الاستمرار المأساة وتكرارها؟ هل الزمن بريء؟ هل المكان بريء؟ أم أن كليهما تواطأ لاستمرار ما لا يستمرّ..؟
السباحة العدم نحن نسبح في العدم، قانون السوق الذي يلف العالم سيأخذنا جميعًا إلى العدم، ولن ينجوا منه أي خطاب عقلاني أو روحاني. هي مسألة وقت، سنغطس في الوحل الذي نحضره لأنفسنا، لنا، ولأجيالنا القادمة. وليس لدينا أدوات موجهة ضد هذا القانون. إن خطاب المنطق، العقل الرافض في المواجهة ضعيف جدًا، لأننا جميعًا غارقون في قانون السوق، وتحولنا كبشر إلى مجرد سلعة تباع وتشترى مثل أي سلعة رخيصة. هل لدينا خيار أن نغير مجرى التاريخ، وهل قانون السوق تاريخ أم حقيقة؟ قانون السوق هو استمرار طويل لوجود العملة، تبادل سلعة بسلعة، ثم سلعة بنقد إلى أن وصلنا إلى نهاية المطاف بشكل مكشوف وواضح. نستطيع أن نشتري كل شيء بالمال، كل شيء دون استثناء. المال واضح وضوح الشمس لا يخفي نفسه، أما السلعة فهي ملونة، متوارية خلف أضلع كثيرة، وبعد تحول البشر إلى سلعة أصبحوا أقنعة، مراوغون، ملونون، أخلاقهم موجودة في سلة واحدة أسمها المال. هل من خلاص من هذه الأحجية وفق الأخلاقيات التي نكررها ليل نهار؟ لا اعتقد أننا نستطيع أن ننجو من الفخ المرسوم لنا سلفًا، كلنا معرضون للبيع والشراء، المسألة مسألة وقت. المال عدم، وسيأخذنا إلى العدم إذا استمر قانون السوق في الصعود إلى نهاياته، وجشع السلعة، الإنسان، رغباته أن يكون حطامًا على ما يبدو لن يتغير.
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هواجس ثقافية 141
-
هواجس ثقافية 140
-
هواجس ثقافية 139
-
هواجس ثقافية ــ 138 ــ
-
هواجس ثقافية 137
-
هواجس ثقافية مقتطفات 136
-
هواجس ثقافية مقتطفات 135
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 134
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 133
-
هواجس ثقافية مقتطفات 132
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 131
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 130
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 129
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 128
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 127
-
هواجس في الثقافة ــ 126 ــ
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 125
-
هواجس في الثقافة مقتطفات ــ 124 ــ
-
هواجس في الثقافة مقتطفات ــ 123 ــ
-
هواجس في الثقافة مقتطفات ــ 122 ــ
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|