|
الرواية وعصر المعلوماتية
سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 1756 - 2006 / 12 / 6 - 11:52
المحور:
الادب والفن
المعلومات، اليوم، متاحة أكثر من أي مرحلة سابقة في التاريخ، وهي ليست متاحة للنخبة وحدها بل للجميع.. إنه عصر المعلوماتية، هكذا يسمونه، عصر القرية الكونية، عصر الإعلامياء، حيث التواصل بين البشر في غاية اليسر، وحيث تجري متابعة أحداث العالم على مدار الساعة والدقيقة والثانية. ولكن، هل نحن الذين نعيش في بداية ألفية جديدة، مع وسائل تقنية غاية في التطور ساعدتنا في السيطرة أكثر على الطبيعة، أقول؛ هل نحن أشد يقيناً واطمئناناً ممن سبقونا؟. أوسع قناعة منهم بما لدينا من معرفة عن أنفسنا، وعن العالم المحيط بنا؟. هل ترسخت معتقداتنا أم أن هذا الفيض الجارف من المعلومات انتزع منا اليقين والقناعة والاطمئنان وجعلنا مرتابين، وعلى قلق دوماً، وبدل أن يمنحنا وضوح الرؤية ألقى على أبصارنا شيئاً من الغشاوة وكاد أن يصيبنا بالعمى؟. في مفتتح كتابه ( الفوضى ) يشير بريجنسكي إلى أن العالم أطل على القرن العشرين في مناخ من التفاؤل "فقد بدت البنية الكونية مستقرة، فيما كان الأمن والفكر خصلتين جليتين للإمبراطوريات المتواجدة أنئذ" غير أن هذا التفاؤل كما أكدت الوقائع فيما بعد كان في غير محله بعدما "أمسى القرن العشرون، وعلى نقيض ما وعد به، القرن الأكثر دموية وكراهية في تاريخ الإنسانية" ثم يستعرض بريجنسكي أعداد ضحايا هذا القرن نتيجة الحروب الكبيرة والصغيرة والقمع والاستبداد والتطهيرات العرقية وغيرها حيث تصل إلى 175 مليون إنسان وهذا الرقم كما يقول؛ "أكثر من مجموع جميع من قُتل في الحروب السابقة أو الصراعات الأهلية أو الدينية على مر التاريخ البشري، قبل القرن العشرين". مثل هذه الحقيقة المفجعة والصارخة ماذا تخلّف؟. لنتأمل التغيرات التي طرأت على نظرة الإنسان إلى ذاته وإلى مستقبل نوعه ومصير العالم. فخلال النصف الأول من القرن العشرين سادت الفلسفات التشاؤمية والعدمية والشكوكية، وكتب شبنغلر ( أفول الغرب )، ودعا الدادائيون إلى تحطيم قيم العالم القديم وتصوراته، وكذلك فعل المستقبليون، فيما أعلن فرويد أنه وجّه الإذلال الثالث للجنس البشري باكتشافه أن الجنس لا غيره هو دافع الإنسان في الفعل الاجتماعي وإن الشر هو الأصل فيه، لا الخير، بعد كوبرنيكوس الذي أطاح بمعتقد الإنسان أنه مركز الكون حين اكتشف ضآلة وتفاهة جرم الأرض في الكون الهائل السعة، وبعد داروين الذي وضع نظريته في أصل الأنواع وأرجع سلالة البشر إلى القردة. هنا بدأت تلك الحركات الأدبية والفنية التي راحت تروج للفتك بالأشكال التقليدية للأجناس الأدبية والفنية المختلفة، ولم يسلم من هذا حتى الرواية التي تعد جنساً حديثاً بالقياس إلى غيرها. وخرج من قال بموت هذا النوع السردي بعد أن كتب جيمس جويس رواية ( يوليسيس ) بأسلوب تيار الوعي. حتى إذا جاء البنيويون، في منتصف القرن وبعده، قالوا بموت الإنسان، الإنسان مثلما حددت فلسفات عصر التنوير الأوربي نمطه، الإنسان الذي رأى فيه فوكو "اختراعاً حديث العهد، صورة لا يتجاوز عمرها مئتي سنة، ومجرد انعطاف ( ثلمة ) في معرفتنا، سيختفي حين تتخذ المعرفة شكلاً آخر جديداً". وإذا كان القرن التاسع عشر قد شهد الحلم بالاشتراكية، ووطد أسس الإيديولوجيات الكبيرة فإن القرن العشرين قد مثّل عصر ضياع الحلم الاشتراكي وتفكك وضمور الإيديولوجيات. في هذا الوقت راجت الرواية الجديدة في فرنسا التي همشت في متنها الإنسان وأعطت الثقل للأشياء، وقبل هذا هشمت الشكل التقليدي الكلاسيكي للرواية، ومع أقطاب الطريقة الجديدة هؤلاء صارت الرواية مغامرة كتابة، لا كتابة مغامرة. لا شك أن البشر المعاصرين يعرفون أكثر بكثير مما كان الأقدمون يعرفون.. المعارف تتراكم، وتتضاعف في كل عقد، غير أن العالم نفسه بات في حالة من الفوضى والاضطراب لم يعرفها قبلاً، وصار الإنسان أقل يقيناً وثقة بوضعه، هذا ما كانت شخصيات كافكا تفكر فيه وتعاني منه، في سبيل المثال. ومقارنة بسيطة بين عوالم كبار روائيي ما قبل القرن العشرين مثل ( بلزاك، تولستوي، تشارلز ديكنز، أميل زولا، الخ ) وعوالم روائيي القرن العشرين مثل ( فوكنر، فرجينيا وولف، كلود سيمون، ماركيز، كونديرا، الخ ) تكشف لنا تباينات لا تنكر ( بينهما ) في الرؤية والأسلوب واللغة ووجهة النظر، وفي الأنساق السردية. وقطعاً أن الروائيين الجدد يدركون الفارق في العمق بينهم وبين أسلافهم العظام، ويستشعرون تلك المعضلة في أنهم يعيشون عصراً من الصعب فهمه وتمثله تماماً.. يقول وليم غولدنغ؛ "القرن العشرون قرن غامض ومبهم، وأنا طفل في هذا القرن. لا أحس أن هناك أي يقين تام أو نهائي. أعتقد أن لدي الحق في أن أؤلف كتبي بهذه الطريقة الغامضة، لأن كل شيء ناقص". ويقول ألان روب غرييه؛ "إن روائيي القرن التاسع عشر كانوا يجلسون إلى منضدة الكتابة لأنهم يفهمون العالم ( أو هكذا كانوا يعتقدون ) أما نحن فنجلس إليها لأننا لا نفهم العالم". إننا بحاجة إلى مزيد من الفهم حقاً.. أن نفهم العالم وأنفسنا.. صحيح أن الرواية لا تدّعي امتياز تحقيق مثل هذا الفهم، لكنها تساعدنا عليه، تمنحنا صورة عن حياتنا وزمننا، وعن حيوات الآخرين وأزمنتهم، صورة نحن بأمس الحاجة إليها.. إنها صورة عن ذواتنا القلقة المرتبكة، الحالمة، والتي لا تكف عن طرح الأسئلة، وأعتقد أن وظيفة الأدب، ولا سيما الرواية تتأكد هنا. في اقتناص وتمثل وعكس ذلك التوتر بين الفكر والحياة، بين الإنسان وتاريخه، بين العقل والقلب، بين نثر الواقع وشعرية الحلم. باتت الرواية مثقفة أكثر، مترعة بالمعرفة، متشربة في تضاعيفها بأفكار ومفاهيم ونظريات من علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والطب والكيمياء والفيزياء، الخ. وهناك روايات أخذت تردم الهوة بين الثقافتين العلمية والأدبية، وتصل تخوم ما تسمى بالثقافة الثالثة إذ تتشبع المخيلة بمعطيات المعارف المختلفة. وحين تقرأ رواية من هذا القبيل تستطيع أن تتلمس داخلها بصمات مفكرين من أمثال ماركس أو فرويد أو فوكو أو إدوارد سعيد أو آينشتاين، وشذرات من الكيمياء العضوية أو هندسة الجينات أو علم الفلك، وغيرها. وهذا الكلام لا يخص رواية الخيال العلمي وحدها بل يمكن تعميم القول عينه على روايات أُخر ذات صبغة اجتماعية استفادت من تقنيات العلم في أشكالها وأساليبها، وتعاملت مع المادة العلمية، أو مع بعض جوانب الحياة بمنظور علمي. ثمة خرافة يتداولها بعض الكتّاب في مجال السرد القصصي والروائي، عندنا، تحكي عن أضرار التحصيل الثقافي المتعمق للقاص والروائي، وآثاره السيئة على قدرته في السرد، لأنه، أي ذلك التحصيل، حسب زعمهم، يسلب من السارد العفوية والفطرة السليمة، وتنمط رؤيته، ومن ثم لغته وأسلوبه.. قد يكون هذا الأمر صحيحاً مع بعض من أشباه أو أنصاف الموهوبين، أو ممن يجعلون من الكتابة السردية همّّاً ثانوياً، لكن صاحب الموهبة الأصيلة لا بد أن تتوطد موهبته، وتتشذب وتُصقل مع اتساع نطاق ثقافته، وفي سبيل المثال لا أحد يشك في رقي وعمق ثقافة ألبير كامو وجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وأمبرتو إيكو إلى جانب موهبتهم في الكتابة السردية. إن العلوم الإنسانية ( علم الاجتماع، علم النفس، الأنثربولوجيا، علوم التاريخ والسياسة والاقتصاد، الخ ) استمدت بعضاً من أفكارها ومفاهيمها من الروايات الكبرى، في الوقت نفسه كانت روايات أخرى تتنبأ بالمكتشفات العلمية العظيمة، إلا أن الروائي المعاصر، ومع التطورات المعقدة والهائلة الحاصلة في حقول العلوم المختلفة عليه أن يكون مطلعاً على الاتجاهات العامة لذلك التطور، ولا سيما حين يعكف على كتابة رواية تعتمد في أحداثها وتفاصيلها على مسائل لها علاقة بواحد من تلك العلوم أو أكثر، فإذا كانت ثمة شخصية مصابة بمرض الإيدز، في سبيل المثال، فعلى الروائي أن يرجع إلى ما يقوله المتخصصون عن ذلك المرض ( تاريخ اكتشافه، أسبابه، أعراضه، وطرق علاجه، فعله في الجسم الإنساني ) وكذلك مع أي قضية من هذا القبيل، وصاحب رواية العطر ( ساسكند ) لا بد أنه قرأ وفهم تماماً ( إن لم يكن متخصصاً ) المسائل الكيمياوية الدقيقة المتعلقة بصناعة العطور وتاريخ هذه الصناعة، ولا بد أن نادو مؤلف رواية ( عبدة الصفر ) قد تعمق في علم الرياضيات. وقد قرأ تولستوي وماركيز آلاف الوثائق التاريخية، الأول عن حملة نابليون على روسيا قبل أن يكتب رواية ( الحرب والسلام ) والثاني عن الجنرال بوليفار محرر أميركا اللاتينية قبل أن يكتب رواية ( الجنرال في متاهته ). إذن ماذا يجب أن تكون عليه الرواية المعاصرة كي تستطيع الرواية أن تستمر جنساً أدبياً مقروءاً في العقود القادمة، مع وجود ما ينافسها من قنوات الثقافة الجماهيرية ولا سيما التلفزيون والسينما والإنترنت؟. ليس من السهل الإجابة على هذا السؤال، لكن يبقى، شرطاً أساسياً، التأكيد على ضرورة أن يكون الروائي، قبل أن يشرع في كتابة روايته، على دراية كافية بفكر وروح وقيم ونمط حياة عصره فضلاً عن أشياء أُخر، كثيرة.
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة قصيرة؛ أولاد المدينة
-
السياسة موضوعةً في الرواية
-
إنشاء المفاهيم
-
من يقرأ الآن؟
-
مروية عنوانها: إدوارد سعيد
-
ثقافتنا: رهانات مغامرتها الخاصة
-
مروية عنوانها: نجيب محفوظ
-
إعادة ترتيب: شخصيات مأزومة وعالم قاس
-
وعود وحكي جرائد
-
رواية-هالة النور- لمحمد العشري: سؤال التجنيس الأدبي
-
الطريق إلى نينوى؛ حكاية مغامرات وأعاجيب وسرقات
-
هذا العالم السريع
-
الكتابة بلغة الصحراء: إبراهيم الكوني وآخرون
-
تحرش بالسياسة
-
القاهرة في ذكراها
-
صور قديمة
-
إدوارد سعيد: داخل الزمان.. خارج المكان
-
النخب العراقية في حاضنة المقاهي
-
حول المونديال
-
نخب سياسية.. نخب ثقافية: مدخل
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|