|
كينونة اللاشيء
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 7948 - 2024 / 4 / 15 - 04:49
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أركيولوجيا العدم العودة المحزنة لبلاد اليونان ٧٥ - كينونة اللاشيء إذا كانت حدود اللغة هي التي تحدد خارطة الفكر وتضاريسه المتنوعة، وبالتالي إمكانيته وحدوده التي لا يستطيع تجاوزها، فإن هذه الحقيقة لا تعني أن اللغة هي التي تفرز المفاهيم والمقولات الفلسفية وتفرضها على الفيلسوف، ذلك أن الفيلسوف له الدور الأساسي في تخيل أدوات لغوية جديدة وتطوير الأدوات القائمة ليتمكن من خلق وصياغة مفاهيم وتصورات فلسفية ملائمة لتطور الفكر ليواكب التغيرات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية. وفي المجال الذي يتعلق بالعدمية وبخصوص بارمينيدس الذي أفسحنا له مجالا واسعا في هذه الدراسة، قامت الباحثة اللغوية والمتخصصة في اللغة اليونانية القديمة‘ فرانسواز ليتوبلون Françoise Létoublon بنشر (سنة ١٩٩٠) دراسة قيمة بعنوان " مشكلة اللاكينونة في تاريخ اللغة اليونانية القديمة La notion de non-être dans l histoire de la langue grecque archaïque. Revue de Théologie Et de Philosophie، أكدت في هذا البحث بعدم وجود أي أثر لفكرة اللاكينونة أو العدم في النصوص اليونانية القديمة، فلا ذكر لهذه المفاهيم لا عند هزيود ولا عند هوميروس، ويبدو أن كل الميثولوجيا اليونانية والشعر وكل النصوص القديمة كانت تهتم وتذكر فعل الكينونة، غير أن اللاكينونة والعدم لم يكن لها وجود في هذه النصوص والأشعار، والمقولة ذاتها لم تكن معروفة بعد. وقد ظهرت لأول مرة مع الفيلسوف كزينوفان، ثم بارمينيدس الذي تمكن من إختراق فعل الكينونة وتفجيره من الداخل ليدل على عدم الكينونة والعدم واللاشيء. في لغةٍ مثل اللغة الفارسية أو اليونانية، حيث يستعمل فعل الربط (است) الدالّ على التحقق والكينونة، [كما هو الحال في كلمة (is) في اللغة الإنجليزية أو est في الفرنسية]، هناك إمكانية صياغة معنى الكائن والتكوين والكينونة من هذا الفعل الرابط، وصياغة معنى العدم من صيغته السالبة، اللاكينونة. وهو أمرٌ قد تحقّق في اللغة اليونانية بواسطة بارمينيدس الذي أراد إثبات أن "الكينونة" فقط هي التي تكون وتوجد وأن "اللاكينونة" ليس أكثر من وهم، ويؤكد ضرورة الاستبعاد المنطقي لـ "اللاكينونة". فالاحتمال المنطقي لوجود "اللاكينونة" معدوم لأنه يؤدي إلى استنتاجات "غير منطقية". بالطبع، لا يزال الأمر يتطلب بحثًا أكاديميًا شاقًا ومضنيًا والذي ما زال مستمرا، لمعرفة ما إذا كان الفصل الذي حاول بارمينيدس أن يقوم به هو فصل منطقي فقط أم أنطولوجي أيضًا. لكن الشيء الوحيد المؤكد هو أن الفصل الذي قام به بين “الكينونة ” و"اللاكينونة" هو أمر منطقي بالتأكيد، أي أنه يتعلق على الأقل بالعواقب المنطقية للاعتراف بوجود العدم أو عدم وجوده. بارمينيدس أستعمل الكلمة الواردة عند الأقدمين، هزيود وهوميروس وهي τὰ ὄντα، أي الكائنات بصيغة الجمع وابتدع أو أشتق منها صيغة المفرد المحايد το ὄν، أي الكائن، ثم صيغة النفي التي لم تكن موجودة في الأساس το μη ον أي اللاكائن أو اللاكينونة. وهذا التطور البسيط في كلمة من كلمات اللغة، من الجمع للمفرد ومن الموجب للنفي، يعتبر في ذلك الوقت تقدما فكريا باهرا مكّن الفلسفة اليونانية، ليس فقط، من الإشارة وتعيين وتسمية الأشياء والظواهر المادية المتراكمة في العالم، ولكن خلق مقولة تجريدية في غاية الأهمية فيما بعد وهي "الكينونة" العامة المطلقة التي تشترك فيها كل الكائنات. وهزيود Ησίοδος في حوالي ٧٠٠ سنة قبل الميلاد في كتابه الكبير " ميلاد الآلهة - Θεογονία" أو أنساب الآلهة نجد لديه مفهوم أو مقولة الكاووس χάος والتي تعني الخواء والفراغ والظلام بلا حدود أو الفراغ العشوائي الأولي للكون والهوة العميقة بلا قرار، أو ما يمكن تسميته بالسديم الكوني الأولي الذي هو مصدر كل الكائنات. غير أن هذه الكلمة القديمة لا تشير إلى فكرة العدم أو اللاكينونة التي لم تكن متداولة ذلك الوقت. كما أن بارمينيدس أستعمل كلمة μηδὲν - ميدين، كمرادف لصيغة το μη ον أي اللاكائن أو العدم، ونجد أن هوميروس قد أستعمل هذه الكلمة أيضا، ولكن ليس بمعنى العدم وإنما لتعني "لا شيء"، كما في الجملة "لا شيء أكثر جمالا من .." فرغم أن حدود الفكر هي حدود اللغة، إلا أن الفيلسوف أو المفكر يستطيع دائما، بحريته وخياله أن يوسع هذه الحدود ويجعلها تتقبل وتتسع لتصورات جديدة لم تكن متوقعة ولا محتملة في السابق.
يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة النسخة - دوستوييفسكي
-
الفلسفة واللغة
-
فلسفة - الزمكان في اليابان
-
فيكتور هوغو وطفل اليونان
-
الكتابة عن الدم والأشلاء
-
فلسفة الفراغ اليابانية
-
الفكر المنغلق
-
عن فلسفة النقل
-
من بقايا أوراق السيد نون
-
السؤال الذي يقتل
-
الفلسفة بين الشرق والغرب
-
التصوير أثناء الحرب
-
الذي يكون والذي لا يكون
-
الرصاصة ورقصة الغجرية
-
أوليس وقوة الخداع
-
أليس وأوليس
-
عودة إلى ظاهرة الإرهاب
-
الشعر وفلسفة التكوين
-
الفكر والخيال واللغة
-
المقص يأكله الصدأ
المزيد.....
-
متحدثة البيت الأبيض: أوقفنا مساعدات بـ50 مليون دولار لغزة اس
...
-
مصدر لـCNN: مبعوث ترامب للشرق الأوسط يلتقي نتنياهو الأربعاء
...
-
عناصر شركات خاصة قطرية ومصرية وأمريكية يفتشون مركبات العائدي
...
-
بعد إبلاغها بقرار سيد البيت الأبيض.. إسرائيل تعلق على عزم تر
...
-
أكسيوس: أمريكا ترسل دفعة من صواريخ باتريوت إلى أوكرانيا
-
ميزات جديدة لآيفون مع تحديث iOS 18.4
-
موقع عبري يكشف شروط إسرائيل لسحب قواتها من الأراضي السورية ب
...
-
مصر.. -زاحف- غريب يثير فزعا بالبلاد ووزيرة البيئة تتدخل
-
تسعى أوروبا الغربية منذ سنوات عديدة إلى العثور على رجال ونسا
...
-
رئيس الوزراء الإسرائيلي: ترامب وجه لي دعوة لزيارة البيت الأب
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|