أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - هواجس في الثقافة مقتطفات 125















المزيد.....


هواجس في الثقافة مقتطفات 125


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 7945 - 2024 / 4 / 12 - 22:27
المحور: الادب والفن
    


دبانة
كان جدي يسكن قرية دبانة، قرية مثل قنديل لا ضوء فيه، تعيش في وسط البراري الواسعة, أو كفناء ميت مقيم على الضفاف في ظل الصمت. تملأ عينيها الحسرة واللوعة والنعاس. قرية نائية, يكتنفها التكرار.
وتمر الأيام عبرها كسطوة الزمن البليد.
هناك كان جدي مقيمًا برفقة جدتي وعمتي. جاء قادماً من قرية سعرت في الاناضول/ محافظة باتمان حاليًا في تركيا/. جاء هاربًا من الذل والقهر والموت من الإبادة التي قام بها الأتراك بأبناء دولتهم.
عندما كان والدي يمر بالقرب من القرية, أنزل على الطريق الترابي، بقايا مقالع، يتركني عند هذا الرجل العجوز الذي تجاوز المئة، لأبقى هناك يومين أو أكثر.
كان المكان ضيقًا علي، الفراغ في كل مكان، أطفال الضيعة لا يماثلوني بشيء. لا يعرفون لعبة كرة القدم. لا يذهبون إلى السينما, لا يلعبون مثلما ألعب.
كانت دبانة قرية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها المائتي نسمة، والأراضي المحيطة بها تابعة للشيخ الحاج منصور من قبيلة طي. وأصبحت انتفاعًا لسكان الضيعة بعد الأصلاح الزراعي. في وقتها حاز جدي على قطعة أرض صغيرة كانتفاع أو حيازة يزرعها بالجبس والبطيخ والخيار في فصل الصيف والقمح في فصل الشتاء، وكان أجنبيًا في الهوية إلى أن مات زمقيمًا في خط العشرة الذي أخذته الدولة في العام 1971 وعوضته بأرض أخرى في قرية اسمها صافيا، لكنه توفي قبل أن يرحل عن دبانة.
كان مجبّرًا, يرمم الكسور ويعالج الناس بالطب العربي.
في هذ العمر، حوالي المئة سنة، كان خرج إلى البراري باحثًا عن الأعشاب الذي يداوي بها الجروح أو الأمراض الجلدبة أو الكسور.
يخلط الأعشاب وفق مواصفات ومقاسات يعرفها في ذهنه, يمزجها ويخرج منها الدواء الذي يبحث عنه. ويتقصده الكثير من الناس من أماكن مختلفة من البلاد. وعندما كان يشفي المرضى كانوا يقولون له:
ـ يا عم ماذا تأمرنا؟ كم من المال تريد؟
ـ دخان.
ـ هل تريد كروز دخان حمراء, شرق, البترا.
ـ لا. أريد دخان فلت. دخان لف. لا أريد شيء آخر. أنني أعمل لله وأحب مساعدة الناس. أريد المكافأة من الله.
ـ هذا لا يجوز يا عم.
ـ أنا لا اتعامل بالمال السائل. دخان فلت لا غير. الحمد لله لدينا عدة رؤوس من الأغنام وبقرتين. وهي تفي وتوفي بحاجتنا من سمن ولبن وصوف. ولدينا الكثير من الدجاج والبيض البلدي والمواد الاساسية لحياتنا.
ـ كيف وصلت لسوريا ولما لم يقتلك الاتراك؟
قالوا لي:
ـ قتلك لا يكلفنا سوى ضربة خنجر أو طعنة سيف أو رصاصة. لكننا بحاجة لك. أنت بناء, نجار, مصلح للمحراث اليدوي, تبع الفلاحة, وتصلح حوافر الخيل, ومجبر الكسور وطبيب عربي. أبقوا على حياتي لحاجتهم. وكانت إرادة الله ساهرة على بقاءي.
ـ إرادة الله أم حاجتهم لك؟
ـ لقد وهبني الله موهبة العمل والعقل. هذا كان كافيًا لي. هذه الموهبة انقذت حياتي.
أحيانًا كثيرة كان يسألني:
ـ والدك يقبض مئة وثمانون ليرة في الشهر, أنه مبلغ هائل, أين يذهب بهم؟ ماذا تفعلوا بهذه الكمية الكبيرة من النقود؟
لم أكن أعرف الجواب. كنت صغيرًا ولم يكن لدي القدرة على معرفة ما يدور في عقل جدي. كنا ندفع إجار البيت, وأقساط المدرسة, وأقلام ودفاتر وثياب وطعام. لم يكن يعرف حياة المدنية ومستلزماتها. بيد أنه كان يكره المراحيض الخاصة والعيش في الأماكن المكتظة بالناس.
كنت أقف إلى جانبه مرات كثيرة. لم أره يربت على رأسي أو يحضنني أو يقبلني. ولم تفعل جدتي الشيء ذاته. كانوا يحبون أولاد عماتي أكثر. لم يكن هذا الأمر يضايقني ابدًا. كنت أراه شيئًا مألوفًا. قال لي مرة:
ـ أريدك أن تبقى معي يا ولدي. هذه الأرض ستبقى لك من بعدي, وسيكون لك هذا البيت والأغنام والبقر والدجاج. الأرض تعطي الخير والبركة للإنسان وتهبه محبة الله وبركته. والدك رجل لا يعرف الله. |إنه كافر يقود سيارة من حديد. الحديد خطر على الإنسان والحيوان. تعال وخذ الأرض وافلحها وازرعها, بدلا من أن تعمل في المستقبل مثل والدك في الحديد.
ـ يا جدي أريد الذهاب إلى المدرسة. الحياة هنا قاسية. لا تاكلون بميعاد. ونهاركم كله فوضى. أنني استيقظ كل صباح وأذهب برفقة أخواتي إلى المدرسة صباحًا. نفطر قبل أن نذهب وعندما نعود يكون الغذاء جاهزًا, نرجع بعد الظهر إلى المدرسة. التقي بالكثير من الأصدقاء في باحة المدرسة في مدينة الحسكة ونلعب كرة القدم والغميضة. المدرسة جميلة والمعلمات يلبسن أجمل الثياب العصرية. أنكم تعيشون حياة مختلفة عن حياتنا. أذهب للسينما. في سيارة والدي أزور وأرى
مدنًا كثيرة, أرياف, أنهار وينابيع.
ـ العمل في الحديد حرام يا ابني. أنها ضد إرادة الله. والدك رجل عاق. تركنا والتحق بالعمل عند الآخرين. قلت له مرات كثيرة:
ـ تعال, أعمل لدينا, ساعدنا. لكنه فضل أنانيته علينا. أنه يحب المدينة ونساء المدينة. أنه ليس منا.
في البيت كنت اسأل والدي:
ـ أحب أن أعمل لدى جدي في الأرض. إنه يريد مني أن أبقى معه. أن أترك المدرسة.
ـ دعك منه. أنه لا يعرف ماذا يقول. ان علاقته بالحياة لا تتعدى الضيعة البائسة التي يقطهنا.
دبانة تبعد عن مدينة القامشلي أربعة كيلومترات نقطعها مرات كثيرة مشيًا على الأقدام, ومرات كثيرة تقف لنا السيارات العابرة وتحملنا بين دفتيها.
في الستينيات, كنا, والدي ووالدتي وأخي وثلاثة من أخواتي البنات في زيارة للضيعة. مرض أخي الذي يصغرني بخمسة أعوام. كان الفصل شتاءًا ولم يكن هناك مواصلات. والوحل يملأ الطريق الترابي الذي شقته السيارات العابرة عبر الزمن. واشتد عليه السعال ولم نعد نعرف ماذا نفعل. بكى أبي وبكت أمي وعمتي. وبكيت أنا أيضًا. وكانت مدفأة الجلة تشتعل, وتبث شجونها, والفوضى تعم المكان. جهز بعض الجيران عربة يجرها بغلان وركب والدي ووالدتي فيها وسارا في حضن الزمن الغافي. بقي أخي يشهق بقايا أنفاسه على وقع حوافر البغال وعجلات العربة التي تغوص في الوحل. ما أن مضوا بضعة مئات من الأمتار حتى غرست في الوحل عميقًا. ولم تعد تتحرك. نزل والدي والحوذي ودفشوا العربة بينما الأخيرة تخرج من فج لتقع في آخر والحزن لفافة تغلف قلب أمي من القهر لفقدان أخي.
وصلوا إلى عيادة الدكتور خاجيك رشدوني، بعد فحصه، ضربه أربعة عشرة أبرة، قال خذوه لا رجاء في شفاءه.
أخذوا أخي الصغير الذي لم يكن يتجاوز السنة أو أكثر قليلًا إلى بيت عمتي، وضعوه على مصطبة خشبية في انتظار وفاته، وقتها كنت في الخامسة أو السادسة من العمر أبكي من القهر برفقة أختاي، قالوا لنا بعد أن عادوا إلى الضيعة:
ـ لقد كان لون أخيك أزرقًا كالكحل ويشهق بصعوبة، حشرجة، وكنا نبكي جميعنا، انبرت امرأة بين الحضور، قالت:
لماذا لا نشرح ظهر الطفل، لعل وعسى يتنفس.
جلبوا الشفرة وشرحوا الظهر، أدخلوا الشفرة بحدود النصف سم، بدأ يخرج الدم الأسود الغامق من ظهره، توقفت الحشرجة، وساد الصمت ثقيلًا على الجميع، ثم بكى الصغير وأخذ يتنفس وبعد قليل عادت له الحياة.
لم يرجعوا إلى الضيعة جلب والدي سيارة وأخذنا من الضيعة إلى المناجير ومعنا أخي الصغير.
أكثر ما كان يبهجني في ذلك الوقت في قرية دبانة هو وقت الغروب. عندما كانت الشمس تطوي جناحيها لتنام وتتحول الجمرة إلى بقايا رماد, ويغيب الضوء خلف تلال الذاكرة والزمن. أرى نفسي عصفورًا نائمًا على خدود الأفق. تبقى عيناي عالقتان على عودة القطيع إلى الحظيرة. أرى من بعيد الغبار العالق بين الأرض والفضاء في رحلة العودة. ما أن يقترب القطيع حتى يبدأ صوت ثغاء الأغنام يتصاعد.
تركض الأغنام بلهفة الملهوف إلى البيت. وتقترب من جدي وجدتي. كانوا يعرفون البيت وأهل البيت. كانوا كالأطفال المشتاقين لأسرههم. تبدأ عمتي أو جدتي بحلبهم. كأن الغنم يكون متعبًا من هذا الحمل. ما أن تتفرغ الضروع حتى أرى وأشاهد الفرح بعيونهم, يبحثون عن طريق الزريبة ليناموا فيها.
ويتحول الحليب إلى لبن في الصباح.
كنت استيقظ مرات كثيرة على أصوات عمتي وجدتي في الصباحات الباكرة, قبل أن يشقشق الضوء ويفتح عينيه. يعملا بهمة ونشاط.
كان لديهما قربة من الجلد يضعان فيه الحليب ويخضانه فترة طويلة من الزمن. كانت أصواتهم عالية جدًا, عندما يتحدثون. وأحيانًا كثيرة يتشاجرون دون سبب. كنت أبقى في الفراش قلقًا من توترهم وصراخهم الذي لن أر له سببًا مقنعًا. ويسخنون الماء على نار الجلة بأدوات بدائية جدًا. حتى المغرفة كانت مصنوعة من القرع المفرغ, المجفف, له يد يحملون الماء فيه وينقلوه من الحوض الحار إلى طشت غسيل الثياب. كنت اشم رائحة التايت والماء المغلي والهواء الطلق عندما تبدأ الشمس في الصعود واللعب في جنبات السماء.
لم يكن جدي أو جدتي أو عمتي يحسنون القراءة والكتابة. كانوا أميين مثل بقية أهل الضيعة وبقية القرى في ريف الجزيرة السورية في ذلك الوقت.
كان جدي مفتول الشاربين, متوسط القامة. فيه انحناء، لأن الزمن لفض بقايا جسده. يستيقظ باكرًا على الصوت الصارخ الصادر من عمتي وجدتي, يقول لهم:
ـ لماذا تتشاجران؟ ماذا حصل لكما، والشمس لم تمتلئ بعد من عتمة الحزن والصمت. خفضوا أصواتكما, لماذا تصرخان من عند باب الصباح؟
لا يردان عليه. كانت النساء قاسيات لا يعملن له حسابًا, ربما لكبر سنه. مثلهم مثل بقية نساء القرية.
لم تهذبهم الحضارة المدنية المزيفة.
كن أحرار في ممارستهن لحياتهن. دون خوف أو رد فعل من أي كائن. قويات, صلبات, معطرات الروح، رافضات هشاشة الواقع. يعملن في الأرض, يجلبن الماء من البئر البعيد, يحلبن المواشي. وفي الضحى يجلبن روث الأبقار ويقطعهن ويضعهنه في إطار دائري ثم يتركوهم تحت الشمس الحارقة إلى أن يجف ويتحول إلى وقود في التنور أو المدفأة في الشتاء.
يبقى جدي في مكانه. يضع عمامته البيضاء فوق رأسه ويجلس القرفصاء يدخن وحيدًا. ينظر إلى الفضاء المفتوح عبر الباب أو النافذة. ويكش الذباب الذي يملأ البيت والفناء المجاور للمنزل. ربما يتناول كسرة خبز من الرغيف السميك الذي عجنته وخبزته عمتي قبل وقت الغروب بساعة على التنور. وبجوارها كلبهم الكبير, يجلس بقربها ويحرك ذيله نحو اليمين واليسار.
كان قطر الرغيف الواحد حوالي ثلاثين سم وسماكته ثلاثة سنتمترات.
كانوا أنقياء إلى نقي العظام في صراخهم وشتائمهم. في أوجاعهم. في كلماتهم وشهيق أنفاسهم. لم يكن يعرفوا الزيف أو ممارسة الكذب أو اللف والدروان. كلماتهم كانت مباشرة, خشنة, واضحة, قاسية, عنيفة مثل أغلب أبناء أهل الريف في الأناضول في علاقاتهم مع بعضهم أو مع الأخرين. يتبادلون الأحاديث بصوت عالي, دون مجاملة أو رقة أو لين.
كان البيت يطل على الشمال يجاوره على اليمين بشكل طولاني عدة بيوت فارغة, لأن أهلها سافروا عبر قوافل الرحيل مع الذين رحلوا إلى أرمينيا في أعوام /1964/, /1965/ وتركوا كل شيء وراءهم, الفراغ والصمت والغربة, والحسرة لمن تبقى في دهاليز الهواجس والترقب. وإلى اليسار كان هناك غرفة تم بناءها لتكون اسطبل للحيوانات, الأبقار والأغنام والخيول. لكن أبي أخذها قبل أن تقطنها تلك الحيوانات وسكن فيها مدة قصيرة من الزمن أثناء فقدانه للعمل وعدم قدرته على الإقامة في المدينة. كان زمن البطالة, والتعتير ككل مراحل سوريا.
في ذلك البيت البسيط ولدت كما تلد الحيوانات. قالت لي والدتي فيما بعد:
ـ بمجرد أن أحسست بالطلق رأيتك قد خرجت إلى الحياة قبل أن تأتي عمتك أو غيرهن لمساعدتي في ولادتك. لم تعذبني أثناء الولادة ولكنك عوضتها فيما بعد أثناء حياتك وسجنك. وأردفت:
ـ أنت في منتهى القسوة يا ولدي. ليس في قلبك رحمة أو شفقة على أي إنسان. أنت قاسي على نفسك أيضًا. يردف والدي ويقول:
ـ أنه ذئب, ابن البراري. أقول لهم:
ـ السجن قلم اظافري وخرب أشياء كثيرة, جميلة كانت مسكونة في أعماقي. لم يبق مني الا صورتي الأخرى, شكلي المخفي وراء ذلك الكائن الأخر. لا تنغروا بملامحي أو شكلي. ففي وراء الفاظي النائمة ماتت أجزاء كثيرة من كينونتي. هذا شكلي الجديد. أنكم لا تعرفونه.
والقرية كما ذكرت أنفًا تقع في منطقة ما يسمى خط العشرة. في نهاية الستينيات صدر قرار بأخذ الأرض من أهل الضيعة واعطاءها للناس القادمين من الرقة أو ما يسمى عرب الغمر الذين فقدوا أراضيهم أثناء بناء سد الفرات.
قالت الدولة لأهل الضيعة:
ـ سنأخذ منكم هذه الأراضي ونعطيكم غيرها في القرية القريبة منكم, قرية صافية. ستنتقلون من هنا وتمكثون هناك. لم يقبل أهل القرية هذا العرض ولم تتراجع الدولة عن قراراها. ونفذ القرار في العام 1972 في زمن حافظ الأسد. وخسر جميع أهل دبانة أراضيهم ولم يذهبوا إلى صافية, ولم تعوض لهم الدولة أي شيء على حد علمي. ومات جدي في العام ذاته وقطعنا جذورنا مع تلك الضيعة ولم أعد أعرف أي شيء عنها.
قالت لي جدتي في ذلك الزمن الراحل:
ـ جدك رجل غريب الأطوار، إنه مجنون. مجنون بحق.
كنت انظر إلى عينيها الزرقاوين، ووجهها الأبيض النقي، وملامحها القاسية، أضافت:
ـ هل رأيت في حياتك رجل عاقل، يركض وراء الأعشاب في البراري مثل السعدان؟ هناك ملايين الأنواع والأشكال. كيف لإنسان عجوز في مثل عمره أن يحصل على جزء يسير منها. لو أنه يلتفت إلى بيته ويرقع حذاءه، أفضل بكثير من خدمة الناس.
ـ يا سيران، وهذا اسم جدتي، تحدثنا كثيرًا بهذا الموضوع. أبق مع أغنامك وأبقارك ودجاجاتك، هذا أفضل بكثير من التحدث بهذا الكلام. ثم أنت لا تعرفين بما أفكر به، ولا أي شيء عن اللذة ومعنى اللذة والفرح. أنت امرأة كئيبة، لهذا لا يمكنك رؤية الجمال في الجمال، في الورد والعطر والزهر والأعشاب.
ثم ألتفت إلي، ومن ثم إلى أمي الواقفة بالقرب من التنور إلى جانب جدتي وعمتي. وتابع حديثه لوحده، بصوت خافت جداً، بيد أنه كان مسموعاً لي:
ـ اللذة كامنة في الجوهر، في الآخر. الإبداع لذة. من لم يصل إلى لذة الاكتشاف لا يعرف أي شيء في هذا العالم. ولا يعرف ما معنى الحياة. إنه جاهل.
الكائن يركض ليل نهار وراء تلك اللذة المفتقدة، البعيدة، النائمة في المجهول. يقطع المسافات الطويلة من أجل الوصول إليها. الجمال في السر.
هذه اللذة الهاربة قابعة في الذاكرة البعيدة. هي التي تجعل الإنسان فراشة هائمة تموت في بحثها عن الضوء. زفر زفرة موجعة وتابع:
ـ الخلود في اللذة، في الموت. لهذا تراه يركض وراء السر القابع في الأزل.
قلت لجدي:
ـ لماذا توشوش وحدك كأنك خائف من جدتي وأمي وعمتي. سمعت حديثك كله.
نظر إلي بطريقة مواربة وغريبة، وعلى وجهه علامات التوتر والاضطراب، وشفتاه ترتجفان. ثم تابعت كلامي:
ـ بصراحة لم افهم احجياتك يا جدي. لم أعد أعرف أي شيء. إنك إنسان غريب الأطوار، في كلامك وحياتك وطريقة عيشك. كما قالت جدتي، أنت عصي على الفهم والمعرفة.
كنت أظن أن الأعشاب مجرد فرح في الهواء الطلق، فتبين لي أنه سر الله في الطبيعة. وإنها فلسفة وعلم وأخلاق وطب وانتماء.
رأيت بؤبؤي عينيه يتسعان عندما سمع كلامي. اقترب مني وضمني بلهفة. قال:
ـ يكفي أنك فهمتني يا بني. صحيح أنك ما زلت صغيرًا، بيد أنك سري الحقيقي. أنت تهمني اكثر من أي إنسان في هذا العالم. أما جدتك، فهي نموذج قديم ولا يصلح لأي زمن. وقال:
هذا العالم مملكة عظيمة ينبغي الحرص عليه، علينا انقاذه من التمزق والضياع. نحتاج إلى روح نقية، لإخراجه من عالم السطو والظلام.



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هواجس في الثقافة مقتطفات ــ 124 ــ
- هواجس في الثقافة مقتطفات ــ 123 ــ
- هواجس في الثقافة مقتطفات ــ 122 ــ
- هواجس في الثقافة مقتطفات 121
- هواجس في الثقافة مقتطفات ــ 120 ــ
- هواجس في الثقافة مقتطفات 119
- هواجس في الثقافة مقنطفات 118
- هواجس في الثقافة مقتطفات ــ 117 ــ
- هواجس في الثقافة مقتطفات ـ 116 ــ
- هواجس في الثقافة مقتطفات ـ 115 ــ
- هواجس في الثقافة مقتطفات ــ 114 ــ
- هواجس في الثقافة مقتطفات 113
- هواجس في الثقافة مقتطفات ـ 112 ـ
- هواجس في الثقافة مقتطفات 111
- هواجس في الثقافة مقتطفات 110
- هواجس في الثقافة بعض المقتطفات 109
- هواجس في الثقافة مقتطفات 108
- هواجس في الثقافة مقتطفات 107
- هواجس في الثقافة مقتطفات ـ 106 ـ
- هواجس ثقافية مقتطفات ـ 105 ـ


المزيد.....




- -بندقية أبي-.. نضال وهوية عبر أجيال
- سربند حبيب حين ينهل من الطفولة وحكايات الجدة والمخيلة الكردي ...
- لِمَن تحت قدَميها جنان الرؤوف الرحيم
- مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والثقافي.. رحيل المفكر البحريني م ...
- رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري
- وفاة الممثل الأميركي هدسون جوزيف ميك عن عمر 16 عاما إثر حادث ...
- وفاة ريتشارد بيري منتج العديد من الأغاني الناجحة عن عمر يناه ...
- تعليقات جارحة وقبلة حميمة تجاوزت النص.. لهذه الأسباب رفعت بل ...
- تنبؤات بابا فانغا: صراع مدمر وكوارث تهدد البشرية.. فهل يكون ...
- محكمة الرباط تقضي بعدم الاختصاص في دعوى إيقاف مؤتمر -كُتاب ا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - هواجس في الثقافة مقتطفات 125