صالح دغسن
باحث في فلسفة الفن وجماليات الحداثة
الحوار المتمدن-العدد: 7939 - 2024 / 4 / 6 - 18:14
المحور:
الادب والفن
قراءه في رواية "صياد الغروب"
" بالديمومة يعترض الفن على الموت فالفن ظاهر ما لا يتوجه إليه الموت ولا يطاله"
أدرنو نظرية استطيقية ص:63
حين يتم توقيع النهايات في تزمينة أعلنت بتر الوجود والإنسحاق في العدم، يطفق الإنسان يبحث له عن تموقع خارج الزمن من أجل تشكيل وجود آخر مختلف غير خاضع لمنطق النظام والإنسجام. لأن التوافقات عادة ما تدفع إلى الإنغلاق، والإنغلاق هو الإسم المستعار والملطف للموت، وهذا ما تريد د/ أم الزين بن شيخة تأسيسه بالسرد الروائي في روايتها" صياد الغروب" فإلى أي مدى إستطاعت الروائية في لوحاتها الروائية التي جمعت فيها بين السرد والشعر والجزل أحيانا والمتناقضات أحيانا أخرى من إختراع عالم مغاير يتصارع فيه العدم والوجود، يتصارع فيه الحاضر والماضي من أجل تشكيل مستقبل محتمل يمكن أن يعاش؟
تصر فيلسوفة الجمال في مجمل أعمالها على أن تحمل خطا مقاوما لعدمية الواقع وكأنها تحاول في كل مرة تطبيب وعلاج ما بقي فينا من إنسانية" والفن هو الدواء الذي يقدمه الفنان لأبشع مرض يصيب روح الإنسان" د/نبيل راغب النقد الفني ص:14 وفي هذا السياق تتنزّل روايتها الجديدة" صياد الغروب" التي تنكسر فيها ظلمة الواقع على معجزات السرد بأسلوب المتناقضات وكأن لسان حالها ينفجر سردا وشعرا في وجه إفلاس العقل ومخرجاته فتدعونا صحبتها إلى أن نكون مجانين حالمين حتى نستطيع إجتراح المستحيل ليصبح الجنون السردي إمكانية لحياة تقاوم معطوبية الواقع, فأي جنون هذا الذي يمنحنا الحياة؟
تبقى الروائية وفية لعادتها في الكتابة لأسلوب" الطباق" وما يحتمله هذا الأسلوب الروائي من جمع للمتناقضات وهي دعوة مبطنة للتحرر والخروج من كلاسيكيات السرد الرتيب حتى تظفر ونظفر معها "بدين جديد" بعيدا عن ميتافيزيقا الإذعان والتسليم. كيف لا وهي التي ترمي بقرائها منذ البدء إلى ترتيلة الوداع لكنه وداع مقاوم يبدأ من النهايات أملا في صناعة البدايات حتى وإن كانت على شكل تخيلات تكاد تنفطر بمشاهد السخرية السوداء وأي سخرية هذه التي تجعلنا نضحك ملء شدقينا على صلف أقدارنا و لؤم أوجاعنا في مشهدية لا تتركك تستقر على حال بين هدوء البحر وثورته, وما بين سحر الغروب وسطوته لتكون ترنيمة الوداع دفق سوريالي ومجاز شاعري يقذف بالقارئ إلى عالم التوتر والألغاز في خط من الجمال القبيح لأنها أدركت أنه لم يعد للجميل في هذا العالم من وجود ولم يعد من مكان فيه إلا للقبيح لأنها أدركت كما أدرك رواد الفن المابعد حداثي من أمثال "كافكا وصمويل بيكيت" بأن قبح الواقع الذي نعيشه لا يمكن أن يضاهيه إلا قبح المخيلة الفنية التي تفتح الكينونة المعاصرة على عوالم تخترعها إقتداراتها المعطوبة بفعل من إستولوا على هذا الوطن وقرروا أن يهبوه إلى صندوق النقد الدولي بلا ثمن وسط ضجيج السياسة وهجمة لاهوت العدم. فأية أشرعة روائية شاءت لها أن تصمد وسط هذا اللّغطِ والهرجِ الذي يصمُّ الآذان ويدمي النفوس المرهقة؟
ليس إعتباطيا إذا أن يكون الصياد هو من يصنع الأمل لأنه الوحيد الذي منحته الطبيعة حب الصراع والصبر والجلد في مقارعة البحر ذلك العالم المبهم بالألغاز والذي يدخله يركب العدم وكل من يخرج منه مولود من عدم. نعم فتلك هي جدلية البحر والبحار الذي يركب الفلك غير مبال بأمواجه الثائرة والعاصفة، إنها بصدق جدلية الثورة والثائر. فمن منهم يا ترى المنتصر؟
من ينتظر إجابة جاهزة في حشايا هذه الرواية فإنه حتما مخطئ لأن الروائية تحالفت مع لوحاتها من أجل إثارة الحيرة والتساؤل في نفوس قرائها فلا مجال للطمأنينة بل كل لوحة تدفعك إلى أخواتها أملا في إجابة لن تجدها. وبدلا عن ذلك تستدعي الروائية بعض المفاهيم من أجل حبكة السرد كمفهوم الزمن وللزمن سطوة لا يخترقها إلا من يحسن التجديف ويبصر ما وراء معادلاته بشكل متحفز لا يعبأ بسيرورته العافرة ليصبح معه الماضي حاضرا حين تتسلح المخيلة بالذاكرة وخاصة حين تعود إلى جزيرة قرقنة التي تنحدر منها الروائية والتي ٱصطبغت شخصيتها بها ما يجعل الزمن يذعن وقواه صاغرة لرقصات السرد العنيفة تارة, والحالمة أخرى في مزيج من الموسيقى اللاّنغمية المتوترة التي تأتي كترنيمات تخلصت من رتابة المقطوعات النغمية الباهتة لتنفتح أحيانا على أوجاعنا, ولحظات سكوننا, وجنوننا, وكأننا بها تقول لنا أما سئمتم الأطباق الحاضرة, هيا أعيدوا صناعة واقعكم بشيء من الفوضى والجنون حتى تتحرروا من أيامكم المبرمجة الباهتة. لكن ألا يعدوا هذا خرقا لإحداثيات معقوليتنا المعاصرة؟
للعبور من رتابة وقحط تزمينتنا المعاصرة تختار الروائية أن تقطع مع نظام السير في اتجاه واحد وذلك بما تحبل به الذاكرة من شخوص رمزية أصرت على أن تعيدها من عوالم الموت والماضي لتؤسس من جديد لسردياتها المتناثرة التي يختلط فيها الواقعي "بالعجائبي, والآدمي بالجني وبالآلهة في تحطيم مؤكد لكل التوازنات و"أيوب "مرشدها في عوالم الفوضى و"فرح التي تقارع بها أحزاننا وعزاءاتنا المتراكمة, أو "وردة" أو "كوشمار" أو "خديجة" والطالب والرضيع والذين غدرت بهم ميكروبات وفيروسات الدولة ذلك الجسم الخبيث الذي يبدع نهاية أولاده ما بين الموت غرقا أو جوعا أو بقطع الرؤوس ليتحول معها الوطن إلى كومة من القمامة وأشلاء لجثث متكدسة رغم إدعاءاتها بأنها تمكنت من تطويق الوباء. لكن الوباء الحقيقي هو فيما تزرعه هذه الدولة المارقة في دواخل هذا الوطن من مشهديات كاذبة تصنعها مقررات وقوانين تشرف عليها هياكل بالية و برلمانات مسخرة تسوق لديمقراطية فارغة إلا من لاهوت الدم الذي مكنته اللوبيات النافذة من إحتلال الوطن وجعله مذبحا قرابينه من أجساد الفقراء ومن ليس لهم عزوة أو ظهر يتكئون عليه ويحتمون به عندما تدنو الكارثة التي تأتي تارة في ضرب من الميتافيزيقا المشبعة باللاهوت, وأخرى بأقنعة معلمنة تمتهن النفاق السياسي والعهر الإقتصادي الإجتماعي الذي تخترقه بارونات المال والأعمال التي لا ترى في الذوات إلا فرصا للإستثمار والإستنزاف, ليرتسم الواقع غولا إستقدمته الحداثة من أساطير ما قبل التاريخ حتى تستحيل الحياة إلى عوالم من العدم و المجهول.
هذا المجهول الذي تقارعه الروائية بغموض لوحاتها التي تتعمد فيها في كل مرة أن تحرمها من أن تكون مكتملة وكأنها تريد للقارئ أن يخترع النهاية أو أن يستأنف منها قصته هو المتحررة من كل تسلسل منطقي وعقلاني لأنها أدركت أن التسلسل والإنسجام في الأحداث لا يعلم إلا الخضوع للواقع, ولا يستحب إلا صناعة الفرائس الحاضرة التي تأسسها عوالم اللاهوت والسياسة, لتتشكل بذلك لوحات الرواية كإحتفالية تجد في التذبذب والتوتر والغموض أسلوبا و طقسا لغويا يصنع عوالمها التي يمتزج فيها الواقعي بالخيالي, ويختلط فيها الحاضر بالماضي في إستعادة معلنة لذاكرتها الحبلى بالشخوص والأمكنة" جزيرة قرقنة" والأزمنة لتصبح معها السيرورة والنظام تشظي يخلع سطوة الواقع من أجل إجتراح إمكانيات أخرى لحيوات ٱستحالت في وجودنا الواقعي. وهو الذي يطرح سؤالا مفصليا يتوجه إلى حياتنا الراهنة يتعين في الآتي: هل يمكننا أن نعثر على حقيقتنا في واقعنا المعيش أم في لحظات وهمنا وأحلامنا المكبوتة؟
عندما نصاب بالسأم من وجود أصابه القفر والقحط تصبح الكتابة بكل أشكالها الأدبية والفلسفية قفز وصيحة في وجه عدمية الواقع لتمنحنا بذلك أفقا لحياة مغايرة وانتماء لعوالم أخرى يتصارع فيها السوريالي العجائبي والغرائبي بسوريالية واقعنا المعيش. ولكن ورغم ما يعتري هذا الصراع من آلام وجراح غير أنها تبقى اللازمة التي لابد منها من أجل إنضاج عجينة الخبز الروائية بما تمثله الكتابة من قوة إنفجارية تحرر الكاتب والقارئ على حد سواء من عهر الواقع وسجن المعيش بكل تشكلاته السياسية والإقتصادية الإجتماعية وخاصة الثقافية لتكون الكتابة بذلك ضرب من المقاومة وتحطيم لجدر الواقع فالأخطاء العلمية كما هو متعارف أو مقصود في عديد الأحيان كما هو الحال في الأوبئة والحروب بإمكانها أن تقتل البشر في حينها لكن الخطأ الثقافي والمقصود دائما من خلال صناعة الجهل والتفاهة يدمر أوطانا ومجتمعات. وهي الحقيقة المفزعة التي تدعونا الروائية إلى التنبه إليها وعدم المؤالفة معها حتى لا نتحول إلى طرائد إنسانية تعيش في محميات وكل طريدة لها ميقاتها المعلوم لتقدم وجبة شهية في مشهدية الرعب الآدمية وعصر الرأسمالية وثقافة التوحش التي قلبت حياتنا إلى مرثيات سردية ودموع تحرق جفوننا وكأنها تلومنا لأننا لم نكن أهلا بأن نحيا هذه الحياة. ولهذا كانت الرواية إستنهاض لبعض ما بقي فينا من إنسانية لتدفعنا إلى التخلص من الوهن الساكن فينا وتصنع لنا أفقا وأملا من الميتاسرد يعبر بنا" الثقوب السوداء" عندما يحول" المتألمين إلى روايات" ص110 تغضب وترفض رعب الواقع وهي في ذلك تقاومه بأسلوب ميتاسردي يخترق حدود كلاسيكيات السرد الرتيبة ليصبح معها الخيال السردي و" الجنون سلاح أخطر من العقل" في هذا العالم المجنون الذي لا يمكن أن نقاومه إلا إذا إستهوتنا روح المغامرة وكنا مجانين على قدر جنونه. عندها فقط تطفو زوارقنا فوق أمواج البحر الهادرة التي تحملنا على ظهرها إلى صباحات جديدة تزينها أشعة شمسنا التي ستشرق حتما مهما تأبدت الظلمة.
#صالح_دغسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟