قادري أحمد حيدر
الحوار المتمدن-العدد: 7939 - 2024 / 4 / 6 - 14:26
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
الثورتان اليمنيتان (سبتمبر، أكتوبر)
(1-2)
*جدلية السياسي ، والتاريخي في الثورة اليمنية:
في واحدة من كتاباتي البحثية عن ثورة 26 سبتمبر 1962م، التي احتواها كتاب "ثورة 26 سبتمبر، المؤتمرات السياسية المعارضة الأولى" 1962- 1967م، (1)توصلت إلى قتناع راسخ من خلال قراءاتي للتاريخ السياسي والاجتماعي اليمني، إلى أن اليمن الإمامي (شمال اليمن) بحاجة إلى أكثر من ثورة واحدة، وأن ثورة واحدة لا تكفي، بعد قرون سالبة من الركود السياسي، والاجتماعي، والتخلف الاقتصادي المديد، وهو ما ظهر بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م بصورة واضحة في كثافة حضور التاريخ في أسوأ تجلياته الماضوية تخلفاً (ثيوقراطية، وأوتوقراطية) ولا مثيل لهما، وكأننا أمام تاريخ مشبع بجنون عظمة الاستبداد، في صورة ثلاثية سلطوية تاريخية تمثلت في: فردية معصومة، وعصبية، ومركزية مقدسة، ثلاثية استبدادية دافعت عن ما تعتقده حقها المقدس في الاستمرار في الحكم طيلة ما يقارب اثني عشر قرناً، متقطعة، لم تترسخ خلالها فكرة وقضية بناء الدولة ووجودها، بعد أن توقف التاريخ الاجتماعي السياسي الإمامي، والحركة الاجتماعية، للمجتمع، وللسياسة، عند لحظة رسوبية بدائية هي أقرب إلى ما قبل التاريخ القديم، أو القروسطي (الكهنوتي) حيث ركدت علاقات الإنتاج وتجمدت، وتحجرت قوى الإنتاج لقرون طويلة، وكأن التاريخ لم يتحرك خلالها خطوة واحدة إلى الأمام -باستثناءات تاريخية محدودة، الدولة الصليحية، والرسولية، والطاهرية تحديدا/ وقبلهم جميعا، دول يمنية مستقلة؛ الزيادية، واليعفرية- وهي سنوات منتزعة قسراً من تاريخ الإمامة،- وقبلها- في تحالفها مع المشيخة القبلية، إضافة إلى جمود سياسي، اجتماعي، تاريخي(وحدة الإمامة، بالدين والمذهب، وبالقبيلة) فضلاً عن الحروب المتكررة في تاريخ الإمامة السياسي، والاجتماعي، مما ساهم أكثر في تعويق أي إمكانية لحدوث أي تطور في بنية المجتمع الفوقية، والتحتية بالضرورة، أصبح معها - لاحقا- الحديث عن خصوصية استقلال الإمامة كدولة عن الإمبراطورية العثمانية في 1918م ضرباً من السخرية، والهذيان الإيديولوجي الذي لا معنى له على صعيد الواقع السياسي العملي، خاصة أن الاستقلال الشكلي الزائف عن العثمانيينلم يحدث أي أثر إيجابي ولو محدود لصالح تجديد بنية المجتمع، بقدر ما أعاد إنتاج أسوأ لحظات الحضور التاريخي في أبشع صوره الخاصة (الخصوصية)، الثيوقراطية والاستبدادية، (2)-نقول ونؤكد على ذلك دون أي استهانة أو تقليل من كفاح الشعب اليمني تاريخياً ضد الغزو الاستعماري الخارجي، بما فيه مقاومة الاحتلال العثماني لليمن خاصة مع الاحتلال العثماني الأول، وفي هذا السياق من المهم الإشارة والتأكيد على أن الإمامة ، ونظام حكمها الثيوقراطي، المذهبي، السلالي، المشيخي القبلي، قد ساهم في تدمير الوعي الوطني، والفكرة الوطنية، وعدم حضور معنى الوطن في وعي قطاع واسع من الشعب اليمني، كما أن حكم الإمامة الذي ارتكز على ثلاثية؛ الفردية المعصومة، والعصبية، والمركزية المقدسة (ثنائية الإمامة، والمشيخة القبلية) قد أدى في امتداده السياسي التاريخي الاستبدادي، إلى عدم الإحساس والوعي بوطأة الاحتلال الاستعماري البريطاني على جنوب الوطن، بقدر ما خفف من ثقل ووطأة الاحتلال العثماني في وعي الشعب (قطاع واسع من الشعب في الشمال) نتيجة ممارساته البدائية والوحشية، التمييزية مذهبياً، وسياسياً، واقتصادياً تجاههم، وهذه الحال استمرت بجميع تفاصيلها حتى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م وتأسيس الجمهورية الأولى،62 سبتمبر-5نوفمبر 1967م, ومن هنا قولنا أن شمال اليمن كان بحاجة إلى أكثر من ثورة، وأن ثورة واحدة لا تكفي لاجتثاث ذلك الركام الاستبدادي التخلفي التاريخي، والوقائع والحقائق المستمرة حتى اليوم تؤكد هذه الفكرة، وهذا المعنى ، وليس أدل على ذلك ما يحصل اليوم، في صورة عودة "الهاشمية السياسية" ...، وفي جنوب اليمن، حققت ثورة 14 أكتوبر 1963م الاستقلال الوطني الكامل والناجز بعد طرد الاستعمار البريطاني في 30 نوفمبر 1967م، وإقامة دولة نظام وقانون، وتوحيد ثلاثة وعشرين سلطنة، ومشيخة، وإمارة، في سلطة دولة واحدة، تحت سلطة حكم الحزب الواحد (الشمولي) بعد أن حرمت التعددية الحزبية والسياسية بدستور غير مكتوب، كما قامت في الواقع بإجراءات سياسية اجتماعية واقتصادية لصالح الفئات والطبقات الفقيرة، ولصالح قوى الجديد السياسي والاجتماعي بعد أن قلصت دور ومكانة رموز البنى الاجتماعية والسياسية التقليدية (السلاطين، الأمراء، المشايخ) وأضعفت دور القبيلة في الحياة السياسية والاجتماعية، بفعل أمرين الأول:
كان لعلاقة التبعية، أو الوحدة العميقة التي ربطت بين البنية السلاطينية والمشيخية في جنوب البلاد، مع السلطة الاستعمارية البريطانية طيلة قرن وثلث القرن، دور أساسي في تكريس تبعيتهم للاستعمار والذي أوجزته ولخصته أدبيات الحركة السياسية الوطنية الديمقراطية المعاصرة، بما أسمته بـ"الانجلو سلاطينية" أي وحدة وتكامل العلاقة بين الاستعمار البريطاني، والقوى السلاطينية والمشيخية القبلية، والتي تكرست عبر اتفاقات ومعاهدات واستشارات، حدت وقيدت من حركتها السياسية، بعد أن ربطت البنية القبلية المشيخية السلاطينية بالاستعمار مصالحياً (مالياً) في صورة مرتبات شهرية لهم ولا عوانهم، وميزانيات جعلت من ارتباطهم بالمصالح والسياسات الاستعمارية بلا حدود، و لا يستطيعون منها فكاكاً، وهذه الظاهرة "الانجلو سلاطينية" هي التي ساعدت وهيئت الأرض السياسية والاجتماعية أمام السلطة الوطنية الاستقلالية الجديدة في حصار وضرب البنية المشيخية القبلية والسلاطينية في واقع الممارسة الاجتماعية.
والأمر الثاني: تمثل في صورة المشروع الأيديولوجي / السياسي الوطني والتحرري لدولة الاستقلال في اجتثاث بنية النظام القديم ، وفي تكريس حضور سلطة القانون على الجميع، فقد أصدرت دولة الاستقلال الوطني 30 نوفمبر 1967م قانوناً يمنع ظاهرة الثأر وحلها بصورة قانونية ضمن آليات جديدة يفرضها النظام السياسي والإداري والقانوني، ومنع حمل السلاح بقانون, وفرضت سلطة حكم الحزب الواحد، "الشمولي" ضمن دولة حزبية علاقتها بالتاريخ محسوبة بنظام وبدقة، وبما يحافظ على النظام من تدخلات التاريخ وضغوطاته السالبة على أيديولوجية الحزب، الذي أقام قطيعة جدية مع الماضي، والتاريخ الثيوقراطي، ولذلك بقي حضور التاريخ في قلب التجربة السياسية والتعليمية والثقافية والمدنية ممنهجاً ومدروساً، على عكس الحالة في شمال اليمن، وخاصة بعد وراثة المشيخة القبلية، للإمامه, وللجمهورية، حيث المشيخة القبلية تكلمت أكثر مما يجب، وقالت رأيها في السياسة، والسلطة، والدولة، من موقع صاحب القرار طيلة أكثر من خمسة عقود بأكثر مما يجب، حيث كانت القوى المقررة في الشأن السياسي العام؛ تتمثل في (المشيخة القبلية التجارية، والمسلحة، مع العسكر) تساندهما أيديولوجيا في ذلك الجماعة السياسية الدينية الوهابية، فقد حكمت المشيخة القبلية المسلحة شمال اليمن (سابقاً) طيلة المرحلة الجمهورية، خاصة من بعد قيام انقلاب، جمهورية 5نوفمبر 1967م، وحتى مرحلة دولة الوحدة، وبرز ذلك الدور بصورة أكبر بعد حرب 1994م في صورة ثلاثية المشايخ، والعسكر، ورجال الدين، (أصحاب الفتوى الحزبية/ الحربية) ضمن معادلة "شيخ الرئيس ورئيس الشيخ".
إن شيخ القبيلة، تحديداً من بعد توقيع اتفاقية جدة مارس 1970م مع السعودية، تحول إلى شيخ ومكلل بتاج الحصانة، وهي ثقافة امتيازية لرموز المشيخة القبلية دون سواهم من فئات، وشرائح، وطبقات المجتمع...، ثقافة حصانة تأسست من إرث أيديولوجي سياسي تاريخي (إمامي، مشيخي) يحتكم للأعراف، وليس للقوانين، والأنظمة والدساتير، كما تأسست من طول بقائهم في السلطة، في المرحلة الإمامية كتابعين لها (ذراعها الحربي)، وفي المرحلة الجمهورية كحكام مباشرين في قمة السلطة، ترسخت خلالها أيديولوجية المشيخ القبلية ؛ كنمط حياة عامة سائدة، لإدارة السياسة، والثقافة، والمجتمع، والدولة، وهو ما جعل شيخ القبيلة أعلى مقام ومرتبة اجتماعية وسياسية، وحتى "وطنية"، من مقام الوزير، ورئيس الوزراء، فلا عقوبة أو جزاء وفقاً للقانون السائد، على شيخ القبيلة في حالة اعتدائه على الوزير، أو رئيس الوزراء لأن العقوبة والجزاء سيعتبران موجهان ضد القبيلة، والطائفة باعتبار الشيخ رمزها وعنوانها، ومن غير المعقول معاقبته، لأن القبيلة ملحقة به، وهو ملحق بها، ورمزها في الوقت نفسه، ففي مجتمع القبيلة، الأعراف والتقاليد، هي مصدر الشرعية الوحيد، والوقائع في ذلك عديدة، إلا أن يقبل الشيخ المبجل مختاراً وبرضاه بـ"التهجير" القبلي؛ بالكباش، أو الأثوار، والجمال، هذا إن قبل!!
وهناك عشرات الوقائع المأسوية يمارسها شيوخ القبيلة عسكريين، ومدنيين، وتجار طارئين على التجارة، والمال، والاقتصاد، في المرحلة الجمهورية ولا يطالهم عملياً أي جزاء أو عقاب، وهو من ثمار أو حصاد المرحلة النوفمبرية/ الجمهورية في ظل دولة المشيخ القبلي، أو الجمهورية القبلية، حيث "تلغى ثقافة الحصانة التي ترتكب بهديها وحمايتها الجرائم، مبدأ المساواة بين المواطنين" (3)وهذه الممارسات تكشف إلى أي مدى أننا بعد الثورة، وبعد الوحدة بالحرب، وحتى اليوم، ما نزال بعيدين عن النظام الجمهوري، وكأن سبتمبر أزالت حكم "البطنيين" لتستبدله، وتحديداً من بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م، و طيلة ما يقارب خمسه عقود بحكم وسلطة "النهدين" (المشائخ والعسكر).
وكل ذلك، هو ما يفسر- ثانية- عودة " الهاشمية السياسية في جلبابها المعاصر".
إن ضعف الدولة بالمعنى الحديث، إن لم أقل غيابها في اليمن الحديث، والمعاصر، على وجه الخصوص، له جذره التاريخي، أو حضوره التاريخي في خصوصيته اليمنية، الإمامية/المشيخية القبلية التي تكرست -على الأقل في شمال البلاد- طيلة قرون سالفة، وهي مشكلتنا السياسية والتاريخية، ليس مع قضية بناء الدولة المدنية الدستورية الحديثة، وسلطة القانون، بل ومع قضية، وفكرة المساواة، والمواطنة، وغلبة ثقافة الرعوي، "الريعية" على ثقافة المواطن، والمواطنة حتى اللحظة. "إذاً ضعف الدولة –في تقديرنا- ينتج عن تدخل وهيمنة رموز المجتمع القبلي، وسيطرته، لأمتلاكها القوى السياسية، والعسكرية، خارج إطار الدولة –جيش أو ميليشيات موازية لجيش الدولة، -وحرب الحصبة 2011-2012م نموذج صارخ لذلك- الباحث- في محاولة لانتزاع دور الدولة، وابهات هيمنتها لصالح القبيلة -المشيخية القبلية تحديداً-الباحث-، التي تحاول عبر المنظومة الثقافية التقليدية برموزها، أن تقف في قمة هرم السلطة، وفي رأس القبيلة، كي تجمع بين متناقضين، لإضعاف مهام، ودور الدولة، حتى يفرض بالتالي حكم العرف والعادة على حساب النظام، والقانون، والتشريعات، في الدولة، وهنا تكمن أزمة الثورة كوسيلة للتغيير".(4) ومن هنا في تقديري تكمن أزمة الثورة باعتبارها تغييراً اجتماعياً، وتغييراً ثقافياً، حيث الهيمنة والسيادة حتى اللحظة للقيم، والمفاهيم الثقافية التقليدية الماضوية (المشيخية، القبلية، المذهبية، الطائفية، المناطقية، السلالية) وبقوة وبفعل قوة السلطة، وأدواتها وآلياتها مع الأسف، أي أننا نقلص ونضرب مواقع المدنية، والحداثة، ونفرض ونكرس بدلاً عنها مواقع وقوى التخلف، وبقوة السلطة وأدواتها، وآلياتها. وهنا تكمن أزمة، ومشكلة الثورة، والتغيير الاجتماعي، والثقافي في بلادنا طيلة الحقب الماضية.
ومن هنا كذلك قولنا وتأكيدنا إن اليمن اليوم بحاجة إلى أكثر من ثورة، بل وإلى ثورة مستمرة مفتوحة. ولذلك قامت ثورة الشباب لإعادة الاعتبار للجمهورية، والدولة، على قاعدة المواطنة المتساوية. وبعيداً عن "ثقافة الحصانة"، التي بررت وشرعنت عملية التمييز الاجتماعي والوطني. ويمكننا القول إن ثقافة الحصانة للقوى المشيخية القبلية، هي الوجه الآخر "لنظرية الإذلال" لجميع السكان وفق ما جاء في أحد مقالات د. أبوبكر السقاف. إن قروناً من الركود لن تنجلي في لحظة.
الماضي الذي تكدس لن يزول بدون مقاومة –بدون أكثر من ثورة– الباحث– إنها أعراف وتقاليد وتركة ثقيلة وأساليب وردود وتصورات وعادات متأرثة , عداك عن فساد غير محدود ,ودول ناقصة, ومجتمعات ملوثة حتى اللب, كل ذلك لن ينتهي بالأمل, ولا بالتمني ولا بالشعارات (5)، وهو ما جعلني أقول إن ثورة26 سبتمبر 1962م وحدها لم تكن كافية، وإن الثورة على يمن الإمامة بحاجة إلى أكثر من ثورة، هذا إذا أدركنا أن البنية السياسية الذاتية للثورة كانت بسيطة وهشة ودون مستوى التحديات الداخلية، والخارجية (الإقليمية والدولية)، فقد ورثت ثورة 26 سبتمبر 1962م ميراث تاريخ مثقل بأكثر من عشرة قرون من التخلف السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، وفي واقع غياب الحد الأدنى مما يمكن تسميته اقتصاداً أو بنية اقتصادية، ودون أي مقومات لمعنى الدولة، المادي، والذهني الفكري، والمؤسسي، في واقع الممارسة، حيث الدولة كانت مركزة ومختزلة في شخص الإمام واسمه (أنا الدولة والدولة أنا) – على حسب تعبير لويس الرابع عشر - كل شيء بيده، المال، القضاء، الحكومة، التجارة، حتى أمر دخول أي فرد أو خروجه من وإلى اليمن مرتبط بأمره الشخصي المباشر، أو كما يقول د. فاروق عثمان أباظة "هو رئيس القضاء، ورئيس الإدارة، وقائد الجيش، ويعين كل الموظفين في مختلف الرتب، وخزانة الدولة تحت سيطرته الشخصية، ويعتمد كل المصاريف بنداً بنداً، والجهاز الإداري المحدود معد فقط لتنفيذ أوامره" (6)وبهذا المعنى كان الحضور التاريخي حاضراً ومتجسداً وقائماً في خصوصية أوضاع ما بعد ثورة 26 سبتمبر 1962م، وهي قطعاً خصوصية يمنية لا نجدها ماثلة وحاضرة في مصر، والعراق، وفلسطين، والشام (سوريا، لبنان)، وهي دول كانت واقعة وخاضعة للاحتلال العثماني، بل هي خصوصية يمنية شمالية، إمامية، لا نجدها في أنظمة حكم السلاطين والأمراء في مجتمعات تلك المنطقة، أي في جنوب الوطن، قبل السيطرة البريطانية، ولا بعد الاحتلال الاستعماري لجنوب اليمن. ولذلك ترى بعض الكتابات والأبحاث -وأنا أتفق معهم- أن القبيلة من خلال شيوخ القبائل حضرت بقوة في المشهد السياسي اليمني، بل وفي قمة السلطة السياسية عوضاً عن الإمامة، أو في مكانها، أو بديلاً عنها، بعد قيام الجمهورية، وأصبحت حاضرة بأكثر مما كان عليه الوضع في ظل الإمامة، وكأن القبيلة، وشيوخ القبائل تحديداً، قد تمكنوا من وراثة الإمامة في كل امتيازاتها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، ارتفع مقامها إلى الدرجة الأولى في سلم التراتبية الاجتماعية، "وأن الجمهورية التي أعلنت في سبتمبر 1962م استمرار بأكثر من معنى للمملكة المتوكلية -خاصة بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م- الباحث- بل إن حضورها الموضوعي في واقع اليوم هو بفعل الميراث الثقافي والاجتماعي، وفي أسلوب الحكم وآلياته، ولاسيما من حيث علاقته بالقبيلة"(7) وفي تقديري أن هذا هو أسوأ حضور تاريخي لما يمكننا تسميته بالخصوصية اليمنية، وتكرار حضورها في الواقع. (8).
الهوامش :
(1) الكتاب من إصدار مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، ط أولى 2001م.
(2) هناك من الباحثين من يرى في خروج العثمانيين من اليمن بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الاولى 1918م نكبة احاقت باليمنيين ((فقد ادعت الإمامة عقب زوال حكم العثمانيين العتيد...، أن جميع منشاءات الأتراك في اليمن, ومخلفاتهم, ومعداتهم, الضخمة ملك لها تتصرف بها كيف تشاء, ممالم يحدث مثله في ولاية من الولايات التركية... وان الأوضاع الاجتماعية والسياسية, والتعليمية, وطرق إدارة الحكم والمستشفيات, والصحة, كانت أفضل حالاً مما آلت اليه الامور في المرحله الامامية الاستقلالية)) انظر حول ذلك كتاب ((اليمن المنهوبه والمنكوبه)) مجهول المؤلف صـ١٣ , وكذلك د. فاروق عثمان اباظه "الحكم العثماني في اليمن" 1882 – 1918م, صـ 430- 433 الهيئة المصرية العامة للكتاب نقلاً عن كتاب قادري احمد حيدر "دراسات فكرية وثقافية " صـ 143 إصدار اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين/صنعاء , ط أولى, 2009م.
(3) د. أبوبكر السقاف كتاب "دفاعاً عن الحرية والإنسان" صـ 24، إعداد منصور هائل، إصدار منتدى الجاوي الثقافي رقم (1) ط أولى 2012م .
(4) صالح محمد مسعد (أبو أمجد) صحيفة الوسط، صنعاء، الأربعاء 27/6/2012م، العدد رقم (389)، صـ5.
(5) الشاعر عباس بيضون صحيفة السفير اللبنانية تاريخ 30/12/2011م ، العدد (12073) .
(6) د. فاروق عثمان أباطة , مصدر سابق ، صـ 64.
(7) محمد عبدالسلام ( الجمهورية بين السلطنة والقبيلة), مطبعة، الامل/ القاهرة، ١٩٨٨م، ص ١٠٥. والكتاب، للدكتور، ابوبكر السقاف، نشر، لاحقا، يحمل اسمه، عن منتدى الحاوي سابق .
(8)لم يكن هناك أي استعداد أو مصلحة سياسية لدى الإقطاع السياسي، وزعماء المشائخ، ولا عند بقايا الأحرار، والعسكريين الكبار، إضافة إلى القيادة المصرية (العسكرية، والسياسية) في أن يكون للضباط الأحرار وتنظيمهم أي دور في قيادة الثورة وهو ما اتضح من خلال الأسبوع الأول للثورة وتحويل مجلس قيادة الثورة، إلى مجلس رئاسة، وتعبئته بزعماء المشائخ والقوى السياسية التقليدية بأكثر من 12 شيخاً، ناهيك عن رفضهم جميعاً وخاصة القيادة المصرية في اليمن أن يكون أي دور للأحزاب السياسية الديمقراطية في تسيير أو قيادة الثورة، حتى أنه أصدر قانون في عام 1964م يحرم الحزبية، ويجرمها، حتى أن الأسماء العشرة من القيادات الطلابية الحزبيين الذين وصلوا من القاهرة للدفاع عن الثورة، جرى تهميشهم، ولم يسمح لهم بأي دور سياسي حقيقي في قيادة الثورة، بتوصية من د. عبدالرحمن البيضاني. وكما يقول د. عبد الملك المقرمي"لم تكن الناصرية – المقصود القيادة المصرية في اليمن– الباحث- تسعى إلى دعم الوجود السياسي المنظم لحركة سياسية مستقلة بذاتها، حتى لو كانت دائرة في فلكها" د. عبد الملك المقرمي (التاريخ الاجتماعي للثورة اليمنية) رؤية سوسيولوجية لتحول بناء القوة" صـ 351، دار الفكر العربي المعاصر، بيروت، ط أولى 1991م، وهي مقدمات كانت مدروسة سياسياً، وأيديولوجياً لتعظيم الدور السياسي لزعماء مشائخ القبائل، وموقع القبيلة في العملية السياسية الجارية آنذاك، "ففي مطلع أكتوبر 1962م أعلن ما أسمي بمجلس الدفاع الأعلى المكون مما أسمي بشيوخ الضمان (...) أما مهمة هذا المجلس فهي "حماية الحدود" أي الدفاع عن أمن البلاد، وبموجب هذا القرار فإن اعضاء المجلس– وجميعهم من كبار شيوخ القبائل – الباحث– سيكونون برتبة وزراء، لهم مرتبات الوزراء (...) وكان هذا القرار ثبت في الإعلان الدستوري مادة (10) الذي أعلن في 31 أكتوبر 1962م(...) والتفنن في إيجاد المجالس الخاصة بهم ، والممثلة لمصالحهم الطبقية المحدودة...، وإشراكهم في هيئات الدولة المركزية والمحلية(...) مصحوبا بالانصراف عن القوى الجديدة وعن الجماهير الشعبية ذات المصلحة في الثورة" د. محمد علي الشهاري كتاب "في مجرى الصراع بين القوى الثورية والقوى اليمينية منذ قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م حتى قيام حركة يونيو 1974م" صـ 63-64 ط 1990م. كما حصل الكثير من كبار زعماء المشائخ، والاقطاع السياسي على مواقع هامة في الحكومة وغيرها، وجرى تشكيل وزارة لشؤون القبائل، كان مطيع دماج أول وزيرا لها، وهو من القيادات الوطنية المستنيرة المشهود لها بالنزاهة والوطنية، وهي اليوم تحت مسمى "مصلحة شؤون القبائل"، بميزانية تقدر بأكثر من أربعة مليار ريال، وبذلك انتقلنا من حالة "ثنائية الإمامة، والقبيلة" في المرحلة الإمامية، إلى "ثنائية القبيلة والدولة" أو " دولة المشيخ القبلي", في المرحلة الجمهورية، وهي أحد أسباب قيام ثورة الشباب والشعب الجارية. وهي قطعاً واحدة من مصاعب تحولات الثورة اليوم. ولذلك لم يطرح سؤال شرعية النظام، سياسياً، واجتماعياً، ووطنياً، وحتى ديمقراطياً، طيلة ما يقارب الخمسة عقود المنصرمة، بسبب اندماج البنية الاجتماعية التقليدية (زعماء المشائخ والقبيلة) بالدولة، فهما معاً اشتركا في قمع المجتمع، ومصادرة الدولة الوطنية الحديثة. ولا يمكن فهم كل ما سبق إلا باعتباره حضوراً للتاريخ في أسوأ ما فيه من خصوصيات. ما نزال نعاني منها على صعيد الممارسة في قمة السلطة، وفي الواقع (عدم الاندماج الاجتماعي الوطني)، اشكاليات لا بد من حلها وطنياً، وثوريا، وبصورة ديمقراطية.
#قادري_أحمد_حيدر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟