أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حميد زناز - كيف يتفلسف اليابانيون















المزيد.....

كيف يتفلسف اليابانيون


حميد زناز

الحوار المتمدن-العدد: 7922 - 2024 / 3 / 20 - 02:47
المحور: الادب والفن
    


غالبا ما يتبادر إلى ذهن الناس عند ذكر “كيوتو” تلك المعاهدة الشهيرة المرتبطة باسمها، تلك المُوقّعة في المدينة سنة 1997 والتي تلزم موقّعيها بخفض انبعاث الغازات الضارة بالبيئة. لكن بغض النظر عن هذه الشهرة الإعلامية السياسية تعتبر كيوتو من أعرق المدن اليابانية إذ احتضنت البلاط الإمبراطوري لأكثر من ألف عام من 794 إلى 1868.

تشتهر المدينة بجامعتها ذات المكانة الأكاديمية العالية التي تنافس جامعة العاصمة طوكيو بل وتتفوق عليها في ميدان التفكير الفلسفي، ففيها أسس نيشيدا كيتارو (1870 – 1945) مدرسة فلسفية يابانية عرفت بـ”مدرسة كيوتو”، وتابع المسار كل من تانابي (1885 – 1962) ونيشيتاني (1900 – 1962).

حاولت المدرسة، في البدء، المزاوجة بين أفكار المثالية الأوروبية والميتافيزيقا والروحانيات المنحدرة من التقاليد الشرق – أقصوية العتيقة وتطورت مع مرور الزمن إلى مدرسة فلسفية حقيقية تتمتع بحضور أكاديمي وثقافي يحمل رؤية خاصة للعالم اقتنع بها الكثير من الأتباع كما كان لها أعداء كثر ككل مدرسة فلسفية ذات شأن.

◙ الغموض لا يزال يلف المدرسة ولا زالت آراء المتخصصين متضاربة حولها ولكن السياح وأهل كيوتو ما زالوا يتنزهون عبر “طريق الفلسفة” المنساب بين المعابد والحدائق المزهرة

كانت أول اتجاه فكري صريح بعد عهد “الميجي” الذي انتقل بهذه البلاد إلى حقبة جديدة في تاريخها هي حقبة الرأسمالية، تلك اللحظة التاريخية الفاصلة التي انفتح فيها اليابانيون على الغرب وعلومه وتكنولوجيته وأفكاره.

قبل نيشيدا صاحب “منطق المكان” وتانابي “منطق النوع″ ونيشيتاني “فكرة الخواء” وهم أبرز أعلام المدرسة المتعاقبين، ولم يكن لليابانيين احتكاك جدي بالفكر الغربي وإذا اعتبرنا الفلسفة ظاهرة مرافقة أو ثمرة للوعي الأوروبي الخالص فلم يتعرف عليها اليابانيون بمعناها النسقي إلا بعد ثورة “الميجي” وتعني كلمة الميجي “الإدارة المستنيرة” في اللغة اليابانية. كانت مدرسة كيوتو أول من تعامل مع الفلسفة الغربية بشكل احترافي في بلاد السومو وإن اختلف روادها في تفاصيل ذلك التعامل بحكم ظروف متعددة متعلقة بتكوينهم ومشكلات جيلهم.

لئن سيطر قبل ذلك فكر اجتماعي بوذي بعيد عن الأنساق الفلسفية المعروفة، فمع “الميجي” تشكلت فسيفساء من التوجهات الفلسفية، ليبرالية، قومية، علموية، عقلانية ولا عقلانية.. ولكن كان لمدرسة كيوتو الفضل الكبير بل كانت انعطافة حاسمة في تاريخ الفكر الياباني الحديث، هي مساهمة جدية وأصيلة أضاف من خلالها الفكر الياباني بعض النكهة الشرقية للفلسفة عموما، استلهمها من معين الثقافتين الهندية والصينية المتمحورتين حول مفهوم العدم الذي كثيرا ما يفهم على أنه المقابل والنظير الآسيوي في آن لمفهوم “الكينونة ” الغربي.

كان عمل المدرسة جهدا فكريا تحدّى الهوة الفاصلة بين الشرق والغرب وهدف إلى هضم ثقافة الآخر ثم إلى إعادة كتابة تاريخ الفلسفة، بل كان يطمح إلى إعادة تحديد تاريخها ذاته ورسم مشروع فلسفي جديد قد يكون بديلا لما هو كائن. من طموحات مؤسس المدرسة الأولية العمل على تطعيم الفلسفة الغربية الوافدة بالمبادئ الروحية الآسيوية في محاولة لإبعادها عن ماديتها المفرطة كما يعتقد بل لجعلها متعالية عن طريق حكمة الشرق الروحية. كان نيشيدا من ممارسي ‘الزن” أو التأمل العميق وقد أثّر ذلك على تفكيره أيّما تأثير كما أثرت البوذية والشنتوية كثيرا على فكر تلامذته.


◙ ينشر المقال بالاتفاق مع "الجديد" الثقافية الشهرية اللندنية

قرأ الفلسفة الغربية قراءة نقدية على ضوء التقاليد العتيقة الآسيوية بغية الوصول إلى توليد “فلسفة يابانية” مستقلة. لم يسلك طريق الترجمة الكلاسيكية بل نحت كلمات لم يكن لها وجود في اللغة اليابانية وطوّر كثيرا من الأفكار التي كانت خاما.

كان لتبحّره في الثقافة البوذية وانغماسه فيها الأثر الكبير على هضمه للفكر الفلسفي الغربي ثم تكييفه، وهو تركيب عقّد من مهمة القارئ الياباني في التأقلم مع فلسفة نيشيدا المطعمة بالفلسفة الوافدة من أوروبا، كما يجد الغربي نفس الصعوبة في تقبل المبادئ البوذية التي تسري في فكر الفيلسوف ولو أنه كان يهدف إلى تأسيس فلسفة يابانية في قطيعة مع البوذية والشنتوية والكونفوشية كديانات.

قرأ الفلاسفة الغربيين قراءة وافية وحاول من جهة التعبير عن أفكار البوذية الصوفية من خلال مفاهيمهم ومبادئهم وعلى الخصوص مبادئ الفلسفة المثالية الألمانية كما حاول من جهة أخرى ربط البوذية اليابانية بالفلسفة الكلاسيكية الألمانية وعلى الخصوص الفيلسوف إيمانويل كانط وكذلك بالوجودية المؤمنة وبالحدسية البرغسونية.

يعتبر كتابه “دراسات في الخير”، لبنة أولى في صرح فلسفة يابانية وطنية وفي ذات الوقت نهاية استيراد الفلسفة الغربية التي طبعت عصر “الميجي”. ركز كثيرا في هذا المؤلف على مفهوم “التجربة الخالصة” التي تعني الانتباه المباشر للواقع كما هو موجود. أما الكتب الأخرى فهي محاولات إبيستمولوجية ظهرت في نفس الفترة (1911 – 1926) لم تكن استمرارا لفلسفته التصوفية فحسب بل شددت على مفهوم “الجيكاكو” أي “الرجوع إلى الذات” وهو بمثابة المعادل الموضوعي لمفهوم الوعي لدى الغربيين.

ولئن طبع صراعه مع الفلسفة الغربية مرحلته الفكرية الأولى فقد انتقل نيشيدا في المرحلة الثانية (1926 – 1930) من التحليل السيكولوجي والتجربة الفردية إلى بناء منظومة فلسفية كبيرة تعرف اليوم بـ”منطق الباشو”، منطق المكان وكان ذلك من خلال كتابه ”المكان” أو ”الحقل”.

بدأت المرحلة الثالثة (1930 – 1945) بالمسائل الفلسفية الأساسية وتركزت حول التاريخ وأطلقت دياليكتيك وصفه نيشيدا بالمطلق. هكذا لقي الاعتراف منذ 1930 واعتبره معاصروه أهم فيلسوف ياباني ولا يزال إذ يدرّس بعناية في الجامعات اليابانية والأوروبية والأميركية.

اعتبر نيشيدا الثقافة اليابانية مؤهلة للقيام بمهمة ربط الجسور بين الشرق والغرب على الرغم من الهوة السحيقة التي تفصل بين العالمين. كان مشروعه الفلسفي مثاليا جدا في محاولته التوفيق بين العقل والعاطفة، وكانت النتيجة نظرية فلسفية قائمة على التوفيق والجمع بين الميتافيزيقا البوذية وأفكار فلاسفة الغرب وعلى الخصوص تكييف الوجودية التي كانت سائدة في أوروبا آنذاك مع الثقافة اليابانية التقليدية ولم ينبثق من ذلك سوى بعض أشكال ونماذج وجودية على خلفية بوذية.

◙ كيوتو تشتهر بجامعتها ذات المكانة الأكاديمية العالية التي تنافس جامعة العاصمة طوكيو بل وتتفوق عليها في ميدان التفكير الفلسفي

من خلال “الزن” حافظ تلامذته على فلسفته مشددين على أن الفلسفة اليابانية “فلسفة عدم” على العموم في مقابل “فلسفة الكينونة” التي تطبع جلّ التفكير الغربي.

من سوء طالع المدرسة أن تزامن نشوئها مع مرحلة شوفينية وعسكرتارية عسيرة في اليابان أدى إلى تأخير الاعتراف الدولي والوطني بما قدمته من اجتهادات فكرية.

شدد ناقدو المدرسة كثيرا على تورّط بعض أعلامها مع النظام الوطني المتطرف أثناء الحرب العالمية الثانية، فتلوثت سمعتها وأثرت هذه الزلة الكبرى على مسارها سلبيا، فلم يُدرس فكرها الغني بما فيه الكفاية. ولحسن حظ محبّيها بدأت الغيوم التي أحاطت بها تتبدد وبدأ الغربيون واليابانيون يهتمون برهانات إنتاجها الفلسفي، أنطولوجيا ودينيا، وما انفكت الكتب تصدر تباعا ابتداء من بداية هذا القرن وبلغات عدة دارسة إنتاج المدرسة في تأن بعيدا عن الملابسات الأيديولوجية المرتبطة بمرحلة الحرب العالمية الثانية ومخلفاتها. تدعّمت اللغة الفرنسية في السنوات الأخيرة بمصادر كثيرة أهمها كتاب “فلسفات العدم، مقاربة حول مدرسة كيوتو”، “دعوة إلى الفلسفة اليابانية مع نيشيدا”، “مدخل إلى فلسفة نيشيدا” وغيرها.

في شهر يونيو 2003 نظم أول ملتقى حول نيشيدا، التقى فيه بمدينة كيوتو باحثون كثيرون قدموا مقاربات وقراءات متنوعة لفلسفته جلبت جمهورا غفيرا. ربما هو بداية النهاية لمقولة كثيرا ما كرّرت في الغرب تدّعي أن اليابان عملاق صناعي وقزم ثقافي.

لا يزال الغموض يلف المدرسة ولا زالت آراء المتخصصين متضاربة حولها ولكن السياح وأهل كيوتو ما زالوا يتنزهون عبر “طريق الفلسفة” المنساب بين المعابد والحدائق المزهرة الذي كان يسلكه الحكيم نيشيدا في ذهابه إلى الجامعة صباحا وعودته منها مساء ويتساءل العارفون منهم في ما إذا أثّر مشيه في هذا المسلك على تأملاته و انبثاق فكره؟ ربما يكون الأمر كذلك ولكن الأكيد هو أن المسلك أصبح جزءا لا يتجزأ من هوية كيوتو الثقافية ويستحيل ألاّ يسلكه سائح يعشق كتب الفلسفة وقصائد الهايكو اللذيذة.



#حميد_زناز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الغرب.. المرض العضال للشرق الإسلامي
- الفريق الوطني الجزائري، ذلك الفشل المبرمج
- لماذا نحن شعوب انتحارية تمجّد الموت ؟
- ما يؤخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة .. تلك الاكذوبة الكبرى
- رسالة من المثقفين العرب إلى مثقفي الغرب.. سطحية و أصولية مست ...
- أخطار بقاء حماس في السلطة بعد الحرب
- طوفان الأقصى .. أغرق غزة
- لماذا فشل التنوير في الجزائر؟
- لماذا سينهار نظام الملالي في إيران؟
- حتى لا يبقى الناقد في بلداننا سجين التراث
- من القومية العربية المتطرفة إلى الإسلام المتطرف
- إلى متى يبقى سيف الردة مسلطاً على الرِقاب؟
- ما حقيقة أطروحة نهاية الدين في الغرب؟
- الباحثة الجزائرية فيروز رشام : الكتابة مقاومة و نضال من أجل ...
- متى تتوقف المدرسة الجزائرية عن تدريس التطرف؟
- هستيريا دينية خطيرة في الجزائر
- لماذا فشل القطاع السياحي في الجزائر؟
- ستون سنة بعد الاستقلال: ماذا حقّق الجزائريون؟
- هل يمكن حقاً استبدال اللغة الفرنسية باللغة الإنجليزية في الج ...
- لماذا فشل التنوير ونجحت الظلامية في الجزائر؟


المزيد.....




- مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن ...
- محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
- فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م ...
- ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي ...
- القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة ...
- صحفي إيرلندي: الصواريخ تحدثت بالفعل ولكن باللغة الروسية
- إرجاء محاكمة ترامب في تهم صمت الممثلة الإباحية إلى أجل غير م ...
- مصر.. حبس فنانة سابقة شهرين وتغريمها ألف جنيه
- خريطة التمثيل السياسي تترقب نتائج التعداد السكاني.. هل ترتفع ...
- كيف ثارت مصر على الإستعمار في فيلم وائل شوقي؟


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حميد زناز - كيف يتفلسف اليابانيون