|
هواجس في الثقافة مقتطفات ـ 96 ـ
آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 7918 - 2024 / 3 / 16 - 14:23
المحور:
الادب والفن
الفقاعة في معرض حديثي عن السجن كتب أحد العوام، واحد من الفقاقيع، قال: الظاهر سيد آرام أن إدارة السجن كانت تعطيكم مادة الكافور في الشاي حتى لا تشعرون باي رغبه من هذا القبيل؟ كان هذا الفقاعة التافه يقصد أن السجن لم يوثر علينا، فتحملنا عبئه وقسوته، لهذا قلت له: عندما تنذر نفسك للجمال والحرية والقيم العظيمة، من أجل وطن جميل يتسع للجميع، من أجل فكر تعتقد أنه نبيل، هذا يعطيك طاقة ايجابية هائلة في التحدي. في السجن كنت أمارس الرياضة يوميًا حوالي ثلاث ساعات وأحيانًا أربع كالجري والمشي، كنت اقرأ في مختلف مجالات الحياة، في التاريخ والسياسة والآدب، أسمع الراديو، واتحاور مع الأصدقاء والزملاء والرفاق في مختلف القضايا العالمية والعربية والمحلية، وأفكر في عالمنا السيء، وكيف نبنيه بشكل مختلف عما هو سائد، أن يكون بالتخطيط والتنظيم، بقيم الديمقراطية، وإنهاء نظام الاستبداد والدكتاتورية. ربما كانت نظرتنا للعالم السياسي المعاصر طوباوية، لكنني كنت، وكنّا مقتنعين به في ذلك الوقت، لهذا بقيت متوازننين. هذا في السجن، بعد السجن كل واحد منّا ذهب في اتجاه، عندما اصطدمنا بالواقع، الذي أصبح أكثر فسادًا، عندما تحالف المجتمع مع دولة الفساد وانغمس فيها وأصبح جزء من آلة النظام الفاسد وداعم له بقوة.
تلك المرأة كان الغروب واقفًا على باب البيت، حزينًا، صامتًا، دموعه على كفيه، يصيخ السمع لوقع خطواتها المضطربة، وهي تنسل ببطء استعدادًا للرحيل. ـ إلى أين أنت ذاهبة؟ كانت نظراته زائغة، ينظر إلى وجهها الجميل، إلى ذلك الصفصاف النابت على حواف النهر، يتمايل مع يتمايل النسيم على الضفاف قالت: إلى الضياع. إلى لا مكان ولا زمان، إلى لا أعرف إلى أين. ثم استطردت: ذاهبة إلى تلك المرأة التي كانت في حضن الصبا ـ ما زال الوقت باكرًا على رمي كل شيء وراءك، أعرفك قوية. تلك المرأة التي تعرفها، تحولت إلى رماد، اليوم أنها مجرد إنسان، كانت أنثى في الماضي. ـ لماذا تقولين هذا الكلام الحزين، لا زالت الحياة مفتوحة الأفاق، والأنثى الذي في داخلك لا زال يصرخ وينادي؟ لماذا تدفنين نفسك في الحياة؟ ـ يموت عنفوان المرأة في الشرق بفعل ضربات الزمن وسكاكينه، إن الأنثى فيها يموت قبل أن يبدأ داخلها في ارتقاء مشوار الحياة. لا تظن أن المرأة هي امرأة حقيقية، إنها ممثلة، تمثل أدوارًا مختلفة أمام مرآة نفسها لتقنع نفسها أنها حية ومعطاءة. هي بقايا امرأة تعيش كذبتها الكبرى على المسرح الجوال، تمثل الدور لنفسها، لتأكد لذاتها أنها لا زالت أنثى. قلت لنفسي: ـ من قتل الأنثى في الأنثى يا أبتاه؟ من؟
تركيا المفككة في رأس العين كنت في عمر التسع سنين إلى الثانية عشرة، الطرف التركي دائمًا كان مسلحًا، لديهم مخافر حديثة وعلى مرتفع. كنّا نخاف من همجية الشرطي التركي، ممكن يطلق علينا النار من مسافة بعيدة أو قريبة جدًا، ونحن داخل حدود بلادنا في سوريا. أحيانًا كنّا نلعب الكرة على مسافة مئة متر من الحدود في منطقة الخرابات. وكنّا نرغب في الوقوف على السكة لنضع فرنكًا واحدًا أو نصف فرنك على سكة القطار الفاصل بيننا وبينهم، وعيوننا تكون مسلطة على المخفر والشرطة، مخافة إطلاق النار علينا. لقد فعلوها كثيرًا، كانوا يطلقون النار على من يقترب من الحدود. وكأن الدولة التركية ليست مخروقة وخربانة من داخلها، ولولا هذا الغرب المذبذب لكانت هذه الدولة من الماضي. وخلال السنوات الماضية بعد الأحداث في سورية تدخلت تركيا في الشأن السوري السياسي والاجتماعي وخربت وقتلت، وغيرت الديمغرافية واحتلت القسم الكبير منها بالتعاون مع روسيا والولايات المتحدة على تفكيك بنية المجتمع السوري. ولا زال هناك كتل اجتماعية كبيرة من السوريين يعشقون التركي الذي أذلهم أربعمائة سنة، ما هذا العقل يا سيد الأكوان والمجرات؟ عنصريتهم واحتقارهم للسوريين في تركيا واضح وضوح الشمس. حقيقة هناك مأزوخية مستفحلة في هذا الأمر عند البعض منا. إن الإنسان الذليل يعشق مستبده، يعيد إنتاج مأزوخيته ويلطم نفسه ليبكي على مظلوميته. أخاف من أولئك الذين يلطمون أنفسهم بمناسبة وفي غير مناسبة. هؤلاء النرجسيون مبتذلون، عشاق لذواتهم المريضة، غدارون، مجرمون، يطعنوك في سيفك ثم يجلسون على جثتك المدماة، يبكون على ذاوتهم. ليس لمستقبل هذا العالم في ظل هؤلاء له شكل محدد، ولا نعرف نهاياته أو بداياته، ولا كيف سيكون عليه، لهذا نتخبط في رسم الصور دون ذاكرة. نرسم صور افتراضية على الورق ثم نمزقها، ونعيد الكرة مرة بعد أخر إلى أن ينهكنا التعب والموت.
الحلم بالحرية جميع الذين حلموا بالحرية والعدالة، ناس أبرياء لديهم حس عالي بالمسؤولية الاخلاقية والإنسانية، يرون الحياة لها غايات وردية لهذا يقعون في الجور والأنفاق، ويعيشون الحرمان والأوجاع. أنهم مثاليون يعرفون قسوة الحياة ويسيرون فيها الإنسان كائن غريب، مركب بطريقة غريبة، فيه تناقضات هائلة، تتداخل فيه الغرائز بالعقل، الرغبة بالجنون، التسلط بالغرور بالشهرة بجني الأموال والتمتع به. ما الذي يجعل واحد عبقري مثل كارل ماركس يعيش فقيرًا مديونًا جوعانًا معدمًا، لم يكن لديه ثياب يرتديها ، ماتوا أولاده أمام عينيه من الفقر والبؤس والحرمان، وهو، أي ماركس كان يستطيع أن يصبح وزيرًا أو أستاذ جامعة أو يعيش مثل الفيلسوف هيجل مرفها معززًا مكرمًا؟ هناك ناس، بالإضافة إلى ماركس هناك سبينوزا، جوردانو برونو وسقراط وغيرهم الكثير. في سجن تدمرالمدمر كنت استمد القوة من هؤلاء العظماء, لكن ليس لدي تفسير لهذه الظاهرة العظيمة والغريبة، سواء إيمان الإنسان بقناعته وحبه للناس والحلم بعالم أقل قسوة.
الوطن في النظام الرأسمالي هو السوق. لهذا نقول أن مفهوم الوطن المتعارف عليه انتهى نظريًا، لكنه موجود لأن الواقع ما زال ثقيلًا على الانتقال إلى مفهوم اللاوطن. إن السوق يسير حثيثًا نحو تحقيق غايته، الحروب تخدمه، العلم يخدمه، الثورات تخدمه، غلة كل الصراعات يصب في خدمته. عندما يموت مفهوم الوطن، على الأرجح سيموت مفهوم الدولة كما نراه اليوم، عمليًا، كلاهما يجهزان نفسيهما لهذا الانتقال الحر، اليوم هما في حالة موت سريري وسيكون طويلًا. العالم السياسي اليوم في صراع حياة او موت من أجل الهيمنة على السوق او امتلاكه، والتحكم بقوانينه وحركته. العالم السياسي مثل سمك السلمون، يسير عكس اتجاه الحياة والزمن، وعندما يصل إلى غايته، لا نعرف بالضبط ماذا سيحدث بعد ذلك، هل سيموت عشقًا أو يأكله الدب.
كلنا قتلنا الأنثى: الله، الرجل، المرأة، المرأة وعشقها لقتل الأنثى في ذاتها. العادات والتقاليد، الدين، الأخلاق الدونية المريضة المتورمة، والكثير الكثير من الأسباب. الجمال بركة، انعتاق من القيد، من التصحر الداخلي والخارجي، من العبودية المختارة. عندما تتحرر الأنثى من ذات المرأة سنصل إلى الجمال والحرية. المرأة والأنثى، بينهما فرق كبير. تولد المرأة أنثى، طبيعية، ثم يقتل هذا الطبيعي في داخلها من خلل الحشو الثقافي المزيف، فتدجن وييموت الجمال في داخلها والحرية، ثم تتحول إلى تابع.
الإنسان ابن السياسة الإنسان قديمًا وفي وقتنا المعاصر يعيش في مجتمع سياسي منذ أن وضعت السلطة دعائمها الأولى على الأرض تاريخيًا. وإن العلاقات القائمة بين الأفراد سياسية، لأن المجتمع نتاج واقع اجتماعي سياسي تحقق ويتحقق على المقاس الذي تريده السلطة. إن المثالية الأخلاقية دون بعد سياسي مصيره الفناء. إن التشوهات الاجتماعية التي نراها اليوم بعد أزدياد الوعي الاجتماعي للإنسان لنفسه ولحاجاته ولواقعه سيسبب التصادم بين الأنا الراغبة والقيد المفروض عليها. هذا التصادم سيفضي إلى عالم آخر مختلف لا يمكن التنبؤ بشكله ومضمونه. إن المثاليات أو الوصايا القديمة في طريقها إلى الاندثار شئنا أم أبينا، لأنها لا تلبي الطموح المطلوب، بل تدفع المرء إلى العمل تحت الطاولة وفي ظل غياب الحقيقة.
جنون العظمة جنون العظمة أو البارانويا هو أن ترى نفسك ضخمًا، عملاقًا، فلتة من فلتات الزمان والمكان، وأنك فوق التاريخ والجغرافية وبقية الكائنات، وفوق الكون كله، وترى غيرك قزمًا، صغيرًا لا يمكن أن تشيله من أرضه. قال رفيق لي في السجن على أثر خلاف صغير وعابر بيننا: ـ أنا كلك على بعضك ماني شايفك. ضحكت حتى كدت أقع أرضًا: ـ إذا أنت سجين مثلي ومانك شايفني، بارك الله بحافظ الأسد لم يعدمني. بالعموم، نحن مجتمعات غرس في أوصالنا جنون العظمة أو الارتياب أو البارانويا، وأن تاريخنا هو تاريخ جنون الارتياب، لأن أبطاله ليسوا على مقاس البشر العاديين. إنهم كائنات خارقة للطبيعة، لا أنانية في ذواتهم ولا مصالح تحركهم ولا شهوات ولا نزوات. إنهم متفرغين لبناء القيم الأخلاقية والعظمة والمكانة العالية. وإنهم ذات لا ذات تشبههم. بالمحصلة، أغلبنا مصاب بهذا المرض بأشكال مختلفة، ولا أحد يرى أحد، كل واحد يرى نفسه أكبر من غيره. بالمناسبة، جنون العظمة هو نتاج الضعف بالذات وعدم الثقة بالنفس. اول خطوات جنون العظمة هو التكبر، ديك حبش أثناء الجماع، منفاخ إلى درجة أن ريشه ونطافه يتطاير منه دون أن يدري.
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 95
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 94
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 93
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 92
-
هواجس في الثقافة مقتطفات ـ 91 ـ
-
هواجس في الثقافة مقتطفات ـ 90 ـ
-
هواجس ثقافية مقتطفات. 89
-
هواجس ثقافية مقتطفات 88
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 87
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 86
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 85
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 84
-
هواجس في الثقافة مقتطفات ــ 83 ــ
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 82
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 80
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 80
-
هواجس في الثقافة مقتطفات ـ 79 ـ
-
هواجس ثقافية مقتطفات 78
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 77
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 76
المزيد.....
-
متحف هيروشيما للفن يوثّق 35 عاماً من التعبير البصري الياباني
...
-
-الذي لا يحب جمال عبد الناصر- وأبرز الإصدارات للقاهرة للكتاب
...
-
7 كتب عن تاريخ الصراع الفلسطيني ضد الاحتلال والإرهاب الصهيون
...
-
لأول مرة في موريتانيا معرض دولي للكتاب مطلع 2025
-
فتح باب التقدم لجوائز معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته 56
...
-
وردة الطائف إلى قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي
-
بعد الحادثة المروعة في مباراة غينيا ومقتل 135 شخصا.. جماعات
...
-
-عاوزه.. خلوه يتواصل معي-.. آل الشيخ يعلن عزمه دعم موهبة مصر
...
-
هل تعلمين كم مرة استعارَت أمي كتبي دون علمي؟!
-
رئيس الهيئة العامة للترفيه في السعودية تركي آل الشيخ يبحث عن
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|