|
أدب التوقيعات ، ذلك الفنّ المنسي
علي فضيل العربي
الحوار المتمدن-العدد: 7917 - 2024 / 3 / 15 - 20:48
المحور:
الادب والفن
عرّف الأديب والعالم اللغوي المصري شوقي ضيف فنّ التوقيعات على أنها "ا عبارات موجزة بليغة تعوّد ملوك الفرس ووزراءهم أن يوقعوا بها على ما يقدم إليهم من تظلمات الأفراد في الرعية وشكاواهم ، وحاكاهم خلفاء بني عباس ووزراؤهم في هذا الصنيع ، وكانت تشيع في الناس ويكتبها الكتاب و يتحفظونها و ظلامته ، وقد سموا الشكاوى والظلامات بالقصص لما يحكي من قصة الشاكي و ظلامته ، وسموها بالرقاع تشبيها لها برقاع الثياب. " * و هي من الفنون السرديّة المنسيّة في الأدب العربي المعاصر . فقد ازدهر فنّ التوقيعات في العصر العباسي الأول . شأنه في ذلك شأن فن المقامة ، الذي عرف شيوعا و ازدهارا في العصر العباسي الذهبي ، على يد بديع الزمان الهمذاني ، و الذي كان – بحق – فنّا سرديّا راقيّا ، احتوى على فنيّات القصة القرآنيّة ، و فنيّات القصة القصيرة الغربيّة ( جي . دي .موباسان ، و تشيخوف ، إدغار آلان بو ) . دون أن ننسى الذهبيّات السرديّة أبي عُثْمان عمَرُو بن بَحر المعروف بالجاحظ في مصنّفه الفريد " البخلاء " . كان العرب قبيل الإسلام ( العصر الجاهلي ) ، يعيشون في نظامهم القبلي و العشائري ، و كان الشعر هو ديوانهم الأول ، بلا منازع . أمّا النثر فقد حظّه كحظ الشعر في حياة الإنسان الجاهلي . و لم يتجاوز فنون الخطابة و الوصيّة و الأمثال و الحكم ، و هو أقصى ما كانوا يحتاجونه في إدارة حياتهم اليوميّة . و عندما نزل الوحي على رسول الله ، سيدنا محمد صلّى الله عليه و سلّم ، و سمع عرب الجاهليّة ، الذين أسلموا أو الذين لم يسلموا ، آيات القرآن الكريم ، بُهتوا من عظمة أسلوبه ، و إعجاز ألفاظه و معانيه . فانفتحت عقولهم على بحر من الإيجاز و الغنى اللفظي و العمق الدلالي و الفكري ، وازدادت لغة العرب العاربة و المستعربة قوّة و عمقا و شيوعا .
و قد اندرج فنّ التوقيعات ضمن فنّ التراسل . و هو فنّ عريق في الأدب العربي ، و هو ضربان : رسائل ديوانيّة ، تتناول شؤون حكم الرعيّة و سياستها ، و رسائل إخوانيّة متبادلة بين الأدباء و الشعراء و المؤرخين و عموم كتاب السرد ، حول المسائل الذاتيّة و الفكريّة و العاطفيّة و الفقهيّة و غيرها ممّا يشغل الفكر الإنساني . حتى قيل : بدأت الكتابة بعبد الحميد الكاتب و انتهت بابن العميد . و لكن الحقيقة أنّ فن التراسل بين الأدباء و الشعراء و الساسة لم يتوقف وإنّما ضعف أسلوبه و لفظه و قلّ شأنه بين الأدباء أنفسهم ، و لم يعد يشغل الكتاب و المبدعين لا النقاد المعاصرين ... جاء في إحدى التوقيعات ، ما يلي : ( كثر شاكوك ، و قلّ شاكروك ، فإمّا اعتدلت ، و إمّا اعتزلت ) . و هي كما يبدو توقيعة موجّهة إلى حاكم أو وزير أو خليفة أو الوالي ، لوحظ انحرافه عن سياسة العدل في رعيّته . و متضمّنة النصيحة و الموعظة الحسنة و الحكمة بأسلوب ليّن و هادئ و رزين ، بعيدا عن أسلوب التهديد و الوعيد .. في هذه التوقيعة ، يظهر لنا سحر اللغة العربيّة و أسلوبها الموجز . و جمال بيانها و بديعها . فقليل لفظها يغني عن كثيره ، و معانيها واضحة القصد . فهي تحرّك العقل قبل القلب ، و الفكر قبل العاطفة . كما تبرز للقارئ عبقريّة كاتبها ، الذي أبدع في الإيجاز غير المخلّ بالمعنى و الهدف ، و صبّ فيه بحرا من المعاني و الأفكار و العواطف ، و اختصر زمن الكتابة و القراءة ، و جنّب المرسل إليه ، مغبّة المجاز و التأويل . إنّ الأدب العربي زاخر بكنوز من الفنون الأدبيّة في جميع أصناف السرد و الشعر . فلم نكن في حاجة إلى استبدال المقامة بالقصة الغربيّة . و القول أنّ العرب لم يعرفوا فنّ القصّة إلا بعد اتّصالهم بالغرب ، و تأثرهم بآدابه . هو ترّهة فجّة و ادّعاء باطل ، أملاه علينا منطق المغلوب يتبع الغالب ، كما قال ابن خلدون . إنّ العرب عرفوا فن القصّة قبل الغرب بقرون ، و من هنا وجب علينا ، الاعتراف بالخطأ ، دون خجل ، و تصويبه .. و بالعودة إلى فنّ التوقيعات ، الذي ازدهر في العصر العباسي ، سأورد نماذج من تلك التوقيعات :
وقّع الخليفة أبو العباس السفاح على كتاب عددٍ من أفراد بطانته الذين اشتكوا حبس أرزاقهم "من صبر في الشدة شارك في النعمة ". وقّع الخليفة أبو جعفر المنصور لواليه في مصر عندما شكى له نقص مياه نهر النيل " طهر عسكرك من الفساد ، يعطك النيل القياد ". وقّع الخليفة هارون الرشيد في حادثة البرامكة " أنبتته الطاعة ، وحصدته المعصية " . ووقع إلى والي خراسان " داوِ جرحك لا يتسع " .
و هي توقيعات ، اتّسمت بعديد من الخصائص الفنيّة ، اهمها : تعددت سمات التوقيعات وخصائصها ، ويمكن اختصارها بالعناصرالتالية : تتميّز التوقيعات من حيث الأساليب بمتانة التركيب و الصياغة الدقيقة ، و الجمع بين الخبر و الإنشاء والإيجاز . أما معانيها ، فهي قويّة الدلالة ، مباشرة . نافذة التأثير. ، متضمّنة بعض الاقتباسات المأخوذة من القرآن الكريم ، أو الأحاديث النبوية الشريفة ، بالإضافة إلى الأمثال ، والحكم ، وأبيات من الشعر . إنّ فنّ التوقيعات يدل على ذكاء مؤلّفه ، و على قدرته في توظيف الصور البلاغيّة ، كالاستعارات و التشبيهات و الكنايات و المجازات المرسلة . و هي ( التوقيعات ) ، و إن كانت موجزة اللفظ ، لكنّها غزيرة المعاني ، قويّة التأثير في النفس ، جامعة بين إصابة الهدف أو الغرض ، و قلّة المؤونة اللفظيّة . إنّها مثال دال على عبقريّة الذائقة الإبداعيّة العربيّة ، و على عشق العرب للإيجاز اللفظي و المجاز اللغوي . و قد قالت العرب قديما " خير الكلام ما قلّ و دلّ " . كما ذمّ العرب الرجل المهذار ، و أعابوا على الرجل ، إذا كثر كلامه في غير فائدة . و أطلقوا على من قلّ لفظه و أنزله موضعه ، صفة الحكيم . إنّنا في حاجة ماسة إلى إعادة قراءة تراثنا العربي و الإسلامي الأصيل ، من جديد ، قراءة علميّة متأنيّة ، هادفة ، خاليّة من الانتقاء المذهبي و الميل العاطفي ، عقليّة ، ذكيّة ، و خالية من ترّهات الاستشراق الغربي . و أن نتلافى دراسات المستشرقين الشرقيين و الغربيين و قراءاتهم ، إلا النادر منها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هامش : * رفيع أحمد ، " قراءة في فن التوقيعات العربية وإيجازه . قراءة أنموذجية للعصور المختلفة " ، مجلة أقلام الهند ، بتصرّف .
#علي_فضيل_العربي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ترحيل تمثال الحريّة إلى غزّة
-
جدليّة الثقافة و السياسة في المجتمع الشرقي المعاصر . قراءة
...
-
المقامة الغزّاوية ( 2 )
-
المقامة الغزّاوية ( 1 )
-
أمريكا و أخواتها والمسلمون و مأساة غزة
-
مكانة المرأة الريفيّة و دورها في ثورة التحرير الجزائريّة
-
تحية إلى أبناء نيلسون مانديلا
-
انقلاب النيجر : إصرار في نيامي و هلع في باريس .
-
إفريقيا للأفارقة
-
ما زلت تلميذا
-
سلام على هيروشيما و نكازاكي
-
مليونا ين يابانيّ من أجل التحوّل إلى كلب
-
أقدام على منصّات التتويج
-
المنظور الصوفي في رواية بياض اليقين . قراءة نقديّة في رواية
...
-
جناية الصوفيّة على الحضارة الإسلاميّة
-
يُخرّبون بيوتهم بأيديهم
-
سيميائية العلاقة بين الرجل و المرأة في رواية غابات الإسمنت *
...
-
قراءة سيميائية و تفكيكيّة لرواية غابات الإسمنت . لذكرى لعيبي
...
-
صورة المرأة المنتميّة في المجموعة القصصية ( إيلا ) * للقاصة
...
-
تحرير الحريّة
المزيد.....
-
حرب الروايات.. هل خسرت إسرائيل رهانها ضد الصحفي الفلسطيني؟
-
النسور تنتظر ساعة الصفر: دعوة للثوار السنوسيين في معركة الجب
...
-
المسرح في موريتانيا.. إرهاصات بنكهة سياسية وبحث متواصل عن ال
...
-
هكذا تعامل الفنان المصري حكيم مع -شائعة- القبض عليه في الإما
...
-
-لا أشكل تهديدًا-.. شاهد الحوار بين مذيعة CNN والروبوت الفنا
...
-
مسلسل حب بلا حدود الحلقة 40 مترجمة بجودة عالية HDقصة عشق
-
“دلعي أطفالك طوال اليوم” اضبط الآن تردد قناة تنه ورنه 2024 ع
...
-
-لوحة ترسم فرحة-.. فنانون أردنيون وعرب يقفون مع غزة برسوماته
...
-
ويكيبيديا تحسم موقفها وتصف حرب إسرائيل على غزة بأنها -إبادة
...
-
في المؤتمر الثالث للملكية الفكرية بالمغرب.. قلق بين شركات ال
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|