|
ثقافة السلم العالمي بين القرآن الكريم والثقافة الإسلامية
هريمة يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 1753 - 2006 / 12 / 3 - 10:39
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أصبح الحديث اليوم عن قضية السلم والسلام، حديثا يكاد يكون القضية الأولى في الاهتمام العالمي وعلى مختلف المستويات. والناظر في تسلسل الأحداث العالمية وما يقع في بقاع الأرض من تفاوتات خطيرة يرى بأن هذا الحديث هو حديث مبرر إذا روعي فيه الجانب الموضوعي.هذا الصراع الذي يشهده عالم اليوم تختلف إيديولوجياته ومراميه، من أسباب نفسية، اجتماعية واقتصادية، إلى أسباب ثقافية يكون فيها الجانب الديني أحد أطراف اللعبة السياسية. والتاريخ الإنساني والذاكرة البشرية تختزل الشيء الكثير من الأحداث المأساوية التي كانت ثقافة العنف مسرحا لها. فقضية السلام لم تكن وليدة اليوم أو الأمس، وإنما هي نتاج تراكم التجارب الإنسانية منذ ظهور البشرية حتى وقتنا المعاصر. وأهمية هذا الموضوع تكمن في أنه قضية وجودية يرتبط بها الوجود الإنساني ذاته، ويتوقف عليها بقاؤه واستمرار حياته. فلا يمكن أن نتحدث عن تواصل ثقافي وحضاري، ونتطلع إلى مجتمع إنساني ينعم فيه هذا الأخير بالكرامة والعدالة الاجتماعية، إلا في ظل ثقافة يكون السلم والسلام ركيزتيهما الأساسيتين. من أجل ذلك تتالت الجهود البشرية في ترسيخ هذه المبادئ العالية والثقافة السامية. كل يضع لبنة في هذا الصرح الشامخ والمتعالي في الزمان والمكان. لتصل بنا عجلة الحضارة إلى العالم المعاصر، هذا العالم الذي تبلورت فيه هذه القيم بشكل ظاهر وكبير، عبر منظمات حقوقية، وسياسات دولية، ومجتمعات مدنية. والإشكالية المطروحة في هذا الصدد والتي أصبحت مثار جدل كبير بين مختلف الفعاليات الفكرية والثقافية والسياسية، هي: أن الثقافة الدينية بشكل عام تلعب دورين أساسيين: فمن جهة قد تكون عاملا من عوامل إرساء القيم والمبادئ السلمية، إذا كانت ثقافة سلمية، ومن جهة أخرى قد تكون معول هدم للجانب الحضاري والإنساني للأمم إذا انحرف مسارها إلى العنف و الصراع. ومن هنا يحق لنا أن نتساءل: ما مدى قدرة الدين على إرساء معالم السلم العالمي، والحفاظ على أمن واستقرار الدول لرسم معالم تنمية مستدامة أساسها السلام؟. وهل الدين بمصادره قادر على لعب هذا الدور الإنساني المتجاوز للعوائق الجنسية والعرقية والدينية؟. هل للقرآن الكريم تصور للموضوع؟. وإذا كان الأمر كذلك فهل تقف الثقافة الإسلامية بجانب تعزيز الموقف القرآني؟ ولماذا تعجز الإيديولوجية الدينية السائدة عن لعب هذا الدور الحضاري، الذي ساهمت فيه جهود البشرية جمعاء؟.هذه التساؤلات وغيرها كثير تبقى مطروحة على النسق الفكري الديني التقليدي، وتظل حجر عثرة في وجه تحقيقه هذا المبتغى الكبير الذي نحن بصدد مدارسته الآن. وبناء على ذلك نقوم بمدارسة هذا الموضوع انطلاقا من التصور التالي: القرآن الكريم ودور الهيمنة: يندرج هذا الموضوع قيد المدارسة، في سياق البحث عن مواقف القرآن، من بعض القضايا المطروحة على الفكر الديني عموما، والإسلامي منه على وجه الخصوص. هذه المدارسة التي تنبني على الإيمان بأن للقرآن وجهات نظر واقتراحات إنسانية تخرج به من إطار الإيمان السلبي إلى طور يكون فيه المؤمن مساهما بشكل أو بآخر في حلول القضايا الإنسانية، دون وصاية على الناس، أو حجر لحقهم في التفكير، واختزال الحق في المذهب أو الطائفة أو الجماعة، وغير ذلك من بلايا الفكر الديني المتطرف ، أو المحتكر للحق في أصوله وتخريجاته. وقد شاءت قدرة الله تعالى أن تكون رسالة محمد آخر الرسالات في عمر البشرية الطويل الممتد في أعماق التاريخ، معلنة بذلك وصاية السماء على الأرض من خلال إكمال الدين وهيمنته على الكتب السماوية :" وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه ومهيمنا عليه "" اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" . هذه الهيمنة التي لم تكن نسفا لجهود أنبياء ورسل الله من قبل :"شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه" " ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا و ما كان من المشركين"، وإنما هي مساهمة فعالة في مسيرة النبوة نقدا وتصحيحا، ليميز الله الخبيث من الطيب، وتتأسس بذلك اللبنة الأخيرة في صرح النبوة، حيث يكتمل المشروع بختم النبوة وميلاد عصر الهيمنة الذي سيرافق مسيرة التطور والتقدم التي ستعرفها الإنسانية إلى ما شاء الله:" إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين". وبناء على ذلك فهيمنة القرآن على كتب الله تفرض الاحتكام إلى هذا النص باعتباره النص الخاتم للرسالات السابقة، هذا الختم الذي هو في الوقت نفسه ميلاد عصر الهيمنة القرآنية، واكتمال الرشد الإنساني الذي سيواصل مسيرته في غير ما حاجة إلى وصاية مباشرة من السماء عن طريق إرسال الرسل والأنبياء:" قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد" لقد ظلت الهيمنة القرآنية لعهود طويلة أسيرة رؤية دينية ساهمت في إنشائها ثقافة آمنت بنسخ القرآن لما قبله وإبطاله لجميع الأديان، فكانت الهيمنة في ذهنيتها ائتمان وشهادة وإبطال... فأغفلت بذلك جانبا مهما من هذه الهيمنة يتمثل في كون القرآن يشكل مدرسة نقدية لها جانب خطير في نقد الفكر الديني عموما، ولو انتسب هذا الفكر إلى الإسلام نفسه. والذي يقف سدا مانعا أمام هذه الهيمنة القرآنية المتجلية باقتراحاتها الإنسانية، وهداية الناس إلى التي هي أقوم دون جبر أو إكراه هو موضوع " الفكر الآبائي" أو" الثقافة الإسلامية" التي أنشئت لتصبح موازية للقرآن الكريم، متناسية أنها نتاج واقع تاريخي معين. وأهمية هذا الموضوع في الواقع الحالي تكمن في أنه يلامس جانبا مهما من الجوانب البشرية، الذي يكمن في أن الكائن الإنساني مهما كان أصله أو جنسه أو دينه، هو ابن بيئته يتأثر بها سلبا أو إيجابا. هذه البيئة الثقافية والجغرافية والتاريخية تظل عاملا مهما، يلتصق به الإنسان، ويدافع عنه، ويتأثر به على جميع المستويات. والفكر الآبائي واحد من الجوانب الرئيسية التي تساهم بشكل كبير في ركود الإنسان بين الخرافة والتقليد، وتمنع تواصله بشكل إيجابي مع محيطه الإنساني والكوني. ويجب التمييز في الديانة الإسلامية بين مصدرين أساسيين، اعتبرا على مدى التاريخ الطويل لأمة الإسلام من أهم منابع إلهام العقائد والتصورات والحلول لمختلف القضايا الشائكة والمستجدة على الوضع الإسلامي. ولعل أهم مصدر في تأسيس هذه التصورات هو القرآن الكريم الذي تلتف حوله جميع الفرق والمذاهب على اختلاف توجهاتها مع اختلافها في عملية التأويل والتفسير. أما المصدر الثاني فهو السنة النبوية التي اعتبرت في الكثير من الأحيان الركن الأصيل في فهم القرآن والقاضية عليه، حيث لا يمكن فهم هذا الأخير إلا في ضوء مروياتها وأحاديثها. هذا التفريق يعد ضروريا ونحن نتناول قضية لها مكانتها ووزنها في الضمير العالمي، وتتوقف عليها مصالح وسياسات دولية. وكل هذا لكي نتمكن أساسا من التفريق بين رؤية هذين المصدرين كل واحد على حدة، وبلورة رأي نستشف من خلاله موقف الدين الإسلامي من قضية السلام العالمي الذي هو موضوع دراستنا. ولابد أيضا من الإشارة إلى شيء بالغ الأهمية قبل أن نخوض غمار هذا الموضوع. وهي مسألة لا تزال تطرح العديد من الإشكالات المنهجية في مدارسة النص القرآني. إنها إشكالية المصطلح في القرآن أو ما يسميه أبو القاسم الحاج حمد ب" التوظيف القرآني للغة ". ففهم مصطلحات القرآن يجب أن يكون فهما موضوعيا يتجاوز النظرة التجزيئية التي طبعت التفسير بالمأثور، وذلك لا يتأتى إلا بالاحتكام إلى أسلوب القرآن نفسه على هدي التتبع الدقيق بمعهود استعماله للألفاظ والأساليب داخل سياقاتها القرآنية. وهذا يعد ضروريا من الناحية المنهجية في مدارسة القرآن الكريم بدل التفسير التجزيئي الذي يدرس القرآن سورة سورة، حيث يؤخذ اللفظ مجتزأ من سياقه القرآني، ويقرأ في سياقات تاريخية أو سياسية، أو مذهبية لا سبيل معها إلى الاهتداء إلى الدلالة القرآنية للفظ. *-ابني آدم وبناء السلم العالمي: قبل الحديث عن موضوع ابني آدم أود أن ألفت الأذهان إلى قضية لا بد من ذكرها في هذا المقام، وهي أن الاتجاه الفكري الديني في مسألة التفسير ، خاصة التفسير بالمأثور كان يشغله البحث عن الجزئيات وملأ الفراغات التي يتركها القرآن، متوسلا في ذلك بجميع المعطيات والمواد التي تخوله القيام بهذه العملية، ولو كانت هذه المعطيات خارجة عن السياق القرآني، أو لا تنسجم مع مبادئه وطموحاته. وقد وجد هذا الاتجاه في التفسير مادته الخام في المادة التوراتية أو الكتابية بشكل عام. الشيء الذي غيب جانبا مهما من العطاء القرآني، تمثل في الرؤية الإنسانية التي يحملها هذا الكتاب، وتحويها هدايته الناس جميعا للتي هي أقوم: " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ". وقصة ابني آدم ليست بدعا من القصص القرآنية التي نحا بها المفسرون قديما وحديثا عن وجهتها الإنسانية. فقد تحولت هذه التجربة الإنسانية الرائعة إلى جزئيات وتفاصيل ملأ بها الخيال التوراتي عقول المفسرين، فجاءت تفاسيرهم تتناغم والرؤية العنصرية لشعب الله المختار، وتتناسق والوجهة الكتابية بشكل عام. ولولا الخوف من الخروج عن إطار البحث لقمنا بمدارسة هذه القضية مقارنين ما حوته كتب التفسير في هذا الشأن، بما ورد من تصورات خاطئة، تنحرف بالنص القرآني عن عطائه الإنساني، وتسقط عليه مجموعة من الترهات المؤطرة بالرؤية التوراتية المنغلقة والمتعصبة. ولكن لا بأس ونحن نتحدث عن هذه القضية من إعادة قراءة قصة ابني آدم وفق ما أطرناه سابقا، واعتمدناه باعتباره ضابطا منهجيا له أهميته في استخراج الجانب الإنساني من خلال القرآن الكريم. يقول تعالى:" واتل عليهم نبا ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار و ذلك جزاء الظالمين فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من النادمين فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا..." هذه الآيات من سورة المائدة تختزل قصة ابني آدم، لا بمنطق التوراة التي انشغلت عن البعد الإنساني الرحب بتفاصيل وجزئيات لا تغني ولا تسمن من جوع، ولا بمنطق المفسرين الذين حاولوا ملأ الفراغات حسب تصورهم بما تجود به المفاهيم الكتابية. وإنما اختزلت هذه القصة وفق رؤية قرآنية كان البعد الإنساني العالمي حاضرا بشكل كبير. والتلاوة القرآنية لهذا الحدث التاريخي، مغايرة للتلاوات السابقة، وخاصة التوراتية منها على وجه الخصوص، فهي تلاوة بالحق :" واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، فابني آدم في هذه الآيات ليسا من صلبه، كما تريد أن تمرر لنا الروايات المشحونة بالفكر التوراتي، وإنما هما ابني آدم في تاريخ الإنسانية الطويل، الممتد في أعماق التاريخ. كما أن ربط هذا الحدث التاريخي، بالدفن فيه كثير من التجاوز لسياق الآيات، إذ أن البحث في الأرض ليس دفنا، والآية لم تصرح بالدفن، و دور الغراب هنا هو أنه كشف للقاتل، بطريقة يعلمها الله كيف يواري سوءة أخيه، لا دفنه كما هو شائع في الثقافات الدينية عموما، والقرآن الكريم عبر بقوله:" فبعث الله غرابا "، مفردا فماذا دفن هذا الغراب يا ترى؟، هنا سيأتي دور الروايات التفسيرية التي ستدخل غرابا آخر ليكتمل نسج القصة التوراتية، وحياكتها بإحكام، مع أن القرآن قال:" غرابا" وليس غرابين،إضافة إلى أن الغراب لا يدفن كما هو مشاهد في الواقع المادي. والذي يزيد الأمر وضوحا- كون ابني آدم داخل هذا السياق ليسا من صلبه- هو قوله تعالى:" من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا...". فهذا الحدث كما هو مبين، كان سببا في إنزال العقوبة على بني إسرائيل، والتجربة الإسرائيلية حديثة العهد، تفصل بينها وبين عصر آدم عليه السلام قرونا طويلة، والله أعلم. ولنقف الآن مع ما له صلة وثيقة بالموضوع قيد المدارسة، ونقرأ قوله تعالى:" واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار و ذلك جزاء الظالمين". فالقصة القرآنية تعتمد وفقا لمنظورها الإنساني المتعالي عن رؤية الذات الضيقة، على إبراز قضية مهمة يمكن أن يصطلح عليها بالتعبير المعاصر" إستراتيجية الحل السلمي " في معالجة الخلافات والصراعات، سواء كانت ثنائية كما جسدها نموذج ابني آدم، أو بين جماعتين عبر التاريخ الإنساني الطويل. هذه الإستراتيجية التي تحدثت عنها الآيات، تسعى لترسيخ مبدأ السلم والسلام باعتباره مبدأ إيجابيا يرسخ في النفس الإنسانية ثقافة السلم، لا بالمنظور السلبي الذي يرى في مثل هذه السلوكات والتصرفات نوعا من الاستسلام لقوة الطرف الآخر، وضربا من العجز الفكري والجسدي على المقاومة المشروعة. وفكرة القربان داخل النص القرآني تكسر المفهوم المتوارث في الفكر التوراتي، وانجر إليه علماء التفسير عن قصد أو بغير قصد. هذا المفهوم التوراتي الذي لا يفهم فكرة القربان إلا أشياء محسوسة ومادية، باعتباره فكرا ماديا ارتبط بشكل وثيق بالشخصية الإسرائيلية. فابني آدم قدما قربانا وليسا قربانين منفصلين عن بعضهما، كما تريد أن توهمنا الرواية التوراتية، والرواية الإسلامية. وتقبل الله لهذا القربان غير ناتج عن طبيعة ما تحمله الروايتين السابقتين، وإنما سبب هذا التقبل هو أن أحد طرفي النزاع في هذه القصة كان من المتقين بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى متجاوز للمدلول العبادي والثقافي المرتبط بها. والتقوى داخل النص كما أشرنا سابقا هو أن هذا الشخص المتقي كان يؤمن بعدالة قضيته ولو كان نتيجة هذا الإيمان أن يضع حدا لحياته. فإيمانه نابع من رؤية إنسانية تستهدف ضرب الأسس التي يقوم عليها العنف باعتباره حلا لقضايا مثل هاته. كما تبرز الآيات بشكل واضح طبيعة النفس الإنسانية، وتسويلها قتل الآخر بشكل تعسفي دون ذنب:" فطوعت له نفسه قتل أخيه "،هذه النفس المجبولة على الصراع والصدام، و المتمثلة في الأخ المؤمن بأن القوة تكون دائما مسلكا إيجابيا لجلب الحقوق أو دفع الضرر، دون الاكتراث بما قد تؤول إليه عواقب الأمور. والنهاية الحتمية لهذا الصراع الأخوي المتكرر بشكل كبير في العمق التاريخي، كانت لصالح الإستراتيجية السلمية في مقابل إستراتيجية العنف، وذلك بالتشريع الإنساني الرائع الذي يراعي المحافظة على النفس الإنسانية أيا كانت هذه النفس، وكانت توجهاتها ومذاهبها:" من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا...". وهكذا يضع القرآن الكريم الإنسان أمام خيارين اثنين، أحدهما: خيار العنف والصراع الذي يصفه بأنه تطويع النفس الإنسانية، وغرور بمصدر القوة بصفتها حلا ممكنا لإنهاء القضايا العالقة. والخيار الثاني: هو الحل السلمي الواسع الأفق، والضارب في أعماق المستقبل. هذا الحل الذي يحتاج إلى نفس تقية تؤمن بعدالة قضيتها دون أن تحتاج إلى من يدافع عنها، أو يحمل سلاحا تتلطخ به دماء الأبرياء.:" وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين، واصبر وما صبرك إلا بالله إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ". *- لا إكراه في الدين: هذا العنوان الذي حمل لواءه القرآن الكريم، يبقى الوسيلة البارزة في بناء الحضارة الإنسانية ، وتشييد المجتمع الإنساني البعيد عن الحساسيات الدينية والثقافية، وغير ذلك من الأمور التي تشعل فتيل الصراع والصدام بين الثقافات والحضارات، وتذيب الجهود البشرية في بناء الثقافة المنشودة ألا وهي ثقافة السلم العالمي الذي نحن بصدد دراسته. وتصريح القرآن الكريم بقوله:" لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي "، فيه إسقاط بشكل واضح للتسلط باسم الدين الذي كان ولا يزال أحد أبرز الأسباب الرئيسية في تهديد السلام العالمي على مدى التاريخ البشري. هذا التسلط باسم الدين يمكن أن يتضح لنا جليا ونحن نقرأ قوله تعالى: ]قال فرعون ذروني أقتل موسى فليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم وأن يظهر في الأرض الفساد[ . إنها بحق السياسة المتسلطة التي انتهجها فرعون، النموذج الإنساني الخطير المؤمن بالعنف كوسيلة لإصلاح المجتمع، عبر سياسات القتل الجماعي والقمع الفكري المنظم. هذه الشهوة المتسلطة التي مارسها فرعون تحت ستار الزعامات الكاذبة، كانت بدافع من حب التفرد بالسلطان والنفوذ. وهذا إسكات لصوت العقل، وتحجير على ملكة الفكر باسم الدين، تحت ستار اتقاء الفتنة والفساد في الأرض. وهكذا ترى أن التسلط باسم الدين هو عدو لدود للحق. وأن أربابه أشد خطرا وأعظم ضراوة، فإذا أحسوا بأن سلطانهم مهدد، وجاهليتهم قد أصيبت في الصميم، قامت قيامتهم، وكفروا الخارجين عن سلطانهم، واستحلوا دماءهم في سبيل دينهم المزيف، ]ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين[ ]فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم[ ]قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونيـن[ . إنه التسلط باسم الدين المعادي لمبادئ السلام ، والمحارب للحرية الدينية وممارسة المعتقدات بشكل حر ومسؤول. ونموذج فرعون في كل زمان ومكان بصفته نموذجا إنسانيا خالدا، يطبعه جميعه هذه الرؤية المشتركة. ويصطبغ كيانه بهذا الشعور الاستعلائي. هذا الفكر المغلف المستور تتربى جرثومته في أجواء التسلط، ثم تبيض وتتكاثر لتقتل مواهب الفكر والنظر، وتغلق أبواب القلوب، وتميت عناصر الحياة فيها، فلا تتحرك هذه العقول إلا في إطار الفكر الفرعوني، ولا تفكر إلا بواسطته. فلا هداية ولا رشاد، ولا استقامة رأي إلا في ظل هذا الفكر الفرعوني المتسلط. لكن رغم هذا البيان الواضح من القرآن الكريم بشأن الحرية الدينية، إلا أن الثقافة الإسلامية بجميع مكوناتها، قفزت على هذا البيان العالمي لتحصره في أحقية غير المسلمين في عدم الإكراه. أما من دخل الإسلام فلا حق له بتغيير دينه، وإلا سيكون سيف الموت متسلطا على رقبته. وهو تجاهل فاضح لحقيقة هذا البيان القرآني الذي جاءت آيات أخرى لتؤكده وترسخه باعتباره حقيقة كونية لا يجب تجاهلها تحت أي مسمى أو ستار:" وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ". فاعتناق الدين أيا كان هذا الدين حرية مكفولة بنصوص القرآن نفسها، ولاحق لأحد التدخل في مصادرة هذا الحق المشروع بالقتل أو غيره:" ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا وفي الآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ". وهذا هو الكفيل بثقافة أساسها السلم والحرية لجميع بني البشر على قدم المساواة. *- ما بال هذه الأحاديث؟: قبل خوض غمار هذا السؤال لابد من التذكير بقاعدة قررها علماء الحديث عموما، واعتبروها من أولوياتهم، وإن كان تطبيقها على المستوى الفعلي ظل رهين التنظير. هذه القاعدة هي أن صحة الأحاديث، تستلزم صحة السند والمتن معا، ولا يكفي أن يكون السند صحيحا لنحكم بنسبة الحديث إلى رسول الله. ومن شروط صحة المتن عدم الغرابة أو الشذوذ أو النكارة. وفي هذا الصدد يقول ابن الصلاح في المقدمة:" قد يقال هذا حديث صحيح الإسناد، ولا يصح لكونه شاذا أو معللا ". ويقول ابن كثير في اختصار علوم الحديث:" والحكم بالصحة أو الحسن على الإسناد لا يلزم منه بذلك على المتن، إذ قد يكون شاذا أو معللا ". وبالجملة فصحة متن الأحاديث تستلزم أن تكون حصيلة معانيها ومقاصدها موافقة موازين القرآن الكريم، والعقل والمنطق، وذلك بأن لا يكون بين النصوص الحديثية تعارض مع مضمون آيات الله في القرآن، ومقاصد الشرع وكلياته، ومع سنن الله في الكون، والمجتمع والتاريخ، والفطرة الإنسانية. وهذا ما سنتحدث عنه في هذه المدارسة: *- في الصحيحين حديث يقول فيه الرسول:" نصرت بالرعب مسيرة شهر... " هذا مقتطف من حديث طويل قد حوته أمهات كتب السنة الصحيحة، واعتبر على مدى قرون طويلة من الأحاديث الصحيحة، بالرغم من مخالفته الصريحة لما قرره علماء الحديث أنفسهم، وذلك بأن لا يجب أن يخالف المتن آية من القرآن الكريم، فكيف إذا خالف تصوراته ومنظوره للحياة والإنسان، والكون. ومن المخالفات الخطيرة التي يحملها هذا الحديث، هو أنه جعل نصر الله لرسوله الرحيم مرتبطا بالرعب وهذا أدهى وأمر، فالرسول الكريم رحمة للعالمين:" وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين "، ولم تكن دعوته المخالفين له إلا إحدى هذه الطرق الثلاثة التالية:" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن "، ولو كان غير ذلك لانفضت من بينه الجموع، ولما أسس حضارة السلم والسلام، التي امتد صيتها إلى بقاع الأرض كلها:" ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ". وهذا هو رسول الله المرسل بالسلام لمن لا يعرفه:" لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ". *- عن رسول الله:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله ". فهل أمر الرسول بهذا البيان الخطير المهدد للسلم والسلام العالميين؟. وهل يمكن أن يؤمر بما يخالف القرآن؟. وهل عصمة الدم والمال مرتبطة بالشهادتين أم هو حق مكفول من طرف الله بعدم الإكراه على الدين؟. إن رسول الله كما وضحنا في مقالة سابقة بعنوان:" خدمات السنة للقرآن "، كان لا يصدر إلا عن أوامر الله الموحى بها إليه في القرآن وكان مأمورا بإتباعها: {واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين} ، والوحي هو القرآن وحده:{وأوحي إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} {وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا} ، كما أن وظيفته اقتصرت على البيان والبلاغ، ولم تكن تشريع أحكام لم ينزل بها الوحي القرآني:{وما على الرسول إلا البلاغ المبين} {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك فإن لم تفعل فما بلغت رسالته}. والحديث بمتنه مخالف لما جاء في القرآن الكريم، ومخالف لطبيعة الرسول الرحيم، ومباين للمنطق القرآني الذي يشرع القتال لدفع الظلم والعدوان، لا التهجم على الناس لإرغامهم على اعتناق الدين تحت أي مسمى:" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ". فعصمة المال والدم مكفولة بالبيان القرآني:" لا إكراه في الدين "، ولا يحق لأي أحد مصادرة هذا الحق الطبيعي للإنسان بحديث يخالف التصور القرآني الممتد برحابته إلى الأفق الإنساني البعيد عن النوازع المتطرفة التي تأخذ أشكالا متعددة باختلاف الزمان والمكان. *- في الصحيح قال رسول الله:" من بدل دينه فاقتلوه ". والحديث بهذا العموم يخلق إشكالا. فهل يقتل كل من بدل دينه؟.أم الأمر متعلق بالمسلم الذي يرتد عن دينه؟. وإذا كان الأمر كذلك فالأمر يحتاج إلى مخصص. فأين المخصص؟. وهل يمكن لرسول الله أن يخالف أمر ربه:" لا إكراه في الدين "، ويقتل نفسا زكية بذنب جعل الله جزاءه أخرويا لا شأن لأحد به؟. ألا يعد هذا ضربا من التجاوز على فرض صحة الحديث، للأمر الإلهي، وبالتالي يصدق عليه قوله تعالى:" ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين " . *- عود على بدء: إن الثقافة السلمية مطلب عالمي، وضرورة إنسانية يرتبط بها الكيان والوجود الإنسانيين. والدين أحد العوامل الأساسية في تحريك عجلة هذه الثقافة. غير أن هناك رؤيتين متباينتين: إحداهما هي رؤية القرآن الكريم المنفتحة على آفاق الإنسان والكون. والأخرى منغلقة على تحيزاتها تمثلها ثقافة انتسبت إلى الدين برواياتها وأصولها وعلومها. وللخروج من هذا المنزلق الحضاري وجب التمسك بالقرآن الكريم بما يضمن لنا حقنا في التعايش في أمن وأمان، دون وصاية علينا وعلى الناس. أما الثقافة الإسلامية أو الفكر الديني عموما فيحتاج إلى إصلاح بناء على مقررات القرآن وبعيدا عن الذاتية والتحيز. ومن هنا نؤكد أنه إذا ظل الإطار النظري ثابتا مطلقا، بلا تجديد أو تطوير في آلياته، أصبح السعي وراء الإصلاح سعيا وراء سراب. فكل رؤية للدين هي في جوهرها رؤية إنسانية، تخضع لعوامل الزمان والمكان، وتلعب فيها الثقافة دورا بارزا. وإذا كان الأمر كذلك وجب فسح المجال أمام الإصلاح ليأخذ مكانه في ظل ما هو نسبي إنساني.
#هريمة_يوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحرية الدينية والتنمية البشرية أي علاقة؟
المزيد.....
-
وفد الجامعة العربية لدى الأمم المتحدة يدعو لحماية المنشآت ال
...
-
ولد في اليمن.. وفاة اليهودي شالوم نجار الذي أعدم -مهندس المح
...
-
ماما جابت بيبي..أضبطها الآن تردد قناة طيور الجنة بيبي على ال
...
-
ماما جابت بيبي.. متع أولادك بأجمل الاغاني والاناشيد على قناة
...
-
مرشح جمهوري يهودي: على رشيدة طليب وإلهان عمر التفكير بمغادر
...
-
الولائي يهنئ بانتصار لبنان والمقاومة الاسلامية على العدو الا
...
-
شيخ الأزهر يوجه رسالة حول الدراما الغربية و-الغزو الفكري-
-
هل انتهى دور المؤسسات الدينية الرسمية؟
-
استقبلها الان.. تردد قناة طيور الجنة بيبي الجديد 2024 على ال
...
-
الكشف عن خفايا واقعة مقتل الحاخام اليهودي في الإمارات
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|