|
الحرية الدينية والتنمية البشرية أي علاقة؟
هريمة يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 1752 - 2006 / 12 / 2 - 07:19
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تعد الحرية الدينية بعدا من الأبعاد الأساسية، التي يسعى الكائن البشري إلى امتلاكها والتمتع في ممارسة طقوسها ومعتقداتها، بصفتها جزءا أصيلا في تركبيته الإنسانية، دون أن يحس هذا الأخير بما يجعله ممنوعا أو مكرها على هذا الحق الطبيعي، المكفول من طرف الأديان، والشرائع الإنسانية منذ ظهور فجر الإنسانية الأولى. وتبعا لهذا المعطى الهام فإن لكل إنسان الحق في اختيار عقيدته، وما يدين به وفق أي تصور يتماشى مع المنظور الديني، الذي ينطلق منه، وتطوير حياته تبعا لهذه العقائد حسب فهمه واختياره. ولتعزيز هذا الحق الطبيعي جاءت الأديان والأعراف الدولية، لتؤكد على ضرورة الحرية الدينية، وتكفل هذا الحق الشرعي لبني البشر كافة على حد السواء، دون تمييز أو تحيز . ما لم يتجاوز الإنسان بهذا العطاء حقوق الغير، ومخالفة القوانين المتعارف عليها. وتزداد الحرية الدينية أهمية في الواقع المعاصر، والعالم يعرف تحولات خطيرة على جميع المستويات، يساهم الدين من قريب أو بعيد في مجرياتها سلبا أو إيجابا. هذه التحولات التي تولد صراعات بين أفكار وسياسات، تقف في الكثير من الأحيان عقبة في وجه التنمية البشرية، والحيلولة دون أمل التواصل الحضاري مع العالم، الذي أصبح في ظل نظام العولمة قرية واحدة تنصهر فيها معطيات البشرية جمعاء. لقد ظلت التنمية البشرية حينا من الدهر أسيرة نظرة أحادية الجانب، اختزلتها في البعد الاقتصادي المتمثل في زيادة الإنتاج، دون النظر إلى أبعاد مهمة من شأنها أن تساهم في إخراجها من هذا الحيز الضيق. ولعل الحرية الدينية أحد أهم المقومات الأساسية والضرورية لتمكين الناس من توسيع نطاق خياراتهم، وممارسة مواهبهم وطموحاتهم، دون الإحساس بالتضييق والإكراه. وهكذا نتجاوز بهذا المعطى الأساسي في عملية التنمية البشرية النظرة التقليدية لها، إلى عالم رحب تصبح فيه التنمية عملية توسيع الخيارات بما فيها الحرية الدينية، ويصبح الدين عاملا رئيسيا في النهوض بالأمم بدل تأخرها وتخلفها. وإيمانا منا بأهمية الحرية الدينية في التنمية البشرية باعتبارها معطى أساسيا لا يجب إغفاله، إلى جانب المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. نقوم بهذا العمل لإبراز الدور الذي يمكن أن تضطلع به الحرية الدينية في عملية التنمية البشرية، وذلك من خلال المحاور التالية: 1- دراسة مفاهيمية للحرية الدينية والتنمية البشرية: لا بد لنا قبل أن نخوض غمار هذا البحث من جولة مفاهيمية حول مكونات موضوعه الأساسي. وسنبدأ بأول مكون وهو الحرية فما المقصود بهذا اللفظ؟: *- مفهوم الحرية: الحرية تجيء على ثلاثة معاني: - المعنى العام: الحرية خاصة الموجود الخالص من القيود، العامل بإرادته أو طبيعته. من قبيل ذلك قولهم: تظهر حرية الجسم الساقط في هبوطه إلى مركز الأرض، وفقا لطبيعته بسرعة متناسبة مع الزمان، إلا إذا صادف في طريقه عائقا يمنع سقوطه.، وكذلك وظائف الحياة النباتية أو الحيوانية إذا لم يعقها عن القيام بعملها الطبيعي مانع خارجي قيل إنها حرة. - المعنى السياسي والاجتماعي: وتنقسم إلى قسمين: حرية نسبية وحرية مطلقة: أما الحرية النسبية: فهي الخلوص من القسر والإكراه الاجتماعي، والحر هو الذي يأتمر بما أمر به القانون، ويمتنع عما نهى عنه. أما الحرية المطلقة: فهي حق الفرد في الاستقلال عن الجماعة التي انخرط في سلكها، وليس المقصود بهذه الحرية حصول الاستقلال بالفعل، بل المراد منها الإقرار بهذا الاستقلال واستحسانه وتقديره، واعتباره قيمة خلقية مطلقة. - المعنى النفسي والخلقي: إذا كانت الحرية مضادة للاندفاع اللاشعوري، أو الجنون واللامسؤولية القانونية والخلقية، دلت على حال شخص لا يقدم على الفعل إلا بعد التفكير فيه سواء كان ذلك الفعل خيرا أو شرا. فهو يفعل ما يريد، ولا يفعل أمرا إلا هو عالم بأسبابه، ولذلك قيل: إن الحرية هي الحد الأقصى لاستقلال الإرادة العالمة بذاتها المدركة لغايتها. هذا مجمل القول في تعريف الحرية كما جاءت في بعض المعاجم الفلسفية، غير أن هذا المفهوم يبقى فضفاضا ومجردا إذا لم يتم تضييقه وتدقيقه لينسجم مع ما نحن بصدد دراسته وهو حرية الاختيار التي تعني:" القول أن فعل الإنسان متولد من إرادته...والإرادة هي علة أولى وابتداء مطلق، وهي خالصة من كل قيد، لأنها لا توجب أن يكون الفعل مستقلا عن الأسباب الخارجية فحسب. بل توجب أن يكون مستقلا عن الدوافع والبواعث الداخلية أيضا."1 أما ثاني مكون فهو الدين فما هي دلالته؟: *- مفهوم الدين: ذكر معجم المصطلحات الدينية في تعريفه للدين قوله:" يذهب دوركايم إلى أنه منظومة متماسكة من الاعتقادات والممارسات المتعلقة بأمور قدسية...ولكن الدين أوسع بكثير من ذلك. إنه اختبار معاش فيه المعاملات ( العلاقة بالآخر) وفيه العبادات ( علاقة المؤمن بخالقه). وتكمن مشكلة أي تعريف كامل للدين في أن الأديان المعرفة لا تملك دوما منظومة متماسكة، ولا وعيا واضحا لمواقفها القدسي أو الإلهي. فالدين المولد في التاريخ يدرس بذاته كقول قدسي. ولكن البشر عبر التاريخ انتقلوا من العقل الديني القدسي إلى العقل الوضعي الذي يطور الأديان بحسب المصالح والسياسات."2 والدين الذي نقصده في دراستنا هاته هي الأديان الكتابية المعروفة (اليهودية المسيحية والإسلام)، والتي تحتل مكانة ريادية في الضمير العالمي. *- مفهوم الحرية الدينية: وبناء على التعاريف السابقة للحرية والدين، نخلص على أن الحرية الدينية هي:" الشعور بالحرية في اعتناق المعتقدات والأديان دون جبر أو إكراه ". *- مفهوم التنمية البشرية: أما المكون الثالث في الموضوع قيد المدارسة فهو التنمية البشرية فماذا يعني هذا المصطلح؟: ينبغي الإشارة إلى أن مفهوم التنمية هو مفهوم متطور، مر بمراحل متعددة وحقب زمنية مختلفة، ساهمت في تشكيله وبلورته إلى أن وصل إلى الشكل الحالي المتعارف عليه دوليا. هذا التطور المستمر في بلورة المفهوم، كان نتيجة طبيعية للنظرة الاقتصادية التي ارتبطت بشكل كبير بهذا المفهوم لعهود طويلة. وقد كانت هذه النظرة مرتبطة بالتوجه العام الذي كان يرى بأن الثروة هي هدف الاقتصاد، ولا مكان للعنصر البشري داخل هذا السياق، وظل هذا التيار يلقي بظلاله على هذا المفهوم، وتتبناه مجموعة من المنظمات والمؤسسات الاقتصادية حتى وقت قريب. كل هذه الظروف ساهمت وبشكل كبير في بروز تيار مغاير ومخالف لهذه النظرة التبسيطية، يرى بأن الإنسان هو الهدف الأساسي لكل العمليات الاقتصادية، والوسيلة الكبرى لإنتاج الثروة. وتغييب الإنسان داخل هذا النسق هو ضرب من اللامعقولية وإهدار لطاقاته العقلية والجسدية . ومن هنا بدأ مفهوم التنمية البشرية يأخذ ملامح شكله الأولى، حيث سيلتزم به البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة. إذن كانت هذه المفاهيم نقطة انطلاق لمشروع إنساني واعد، رد للإنسان اعتباره داخل سياق لم يحترم إنسانيته، ولم يعط البعد البشري مكانته اللائقة به. بل قزم دوره لتحل الثروة والإنتاج وكل المفاهيم الاقتصادية المعروفة بدله. وقد اتخذت نظرية التنمية البشرية المستدامة شكلا مؤسساتيا من خلال تبني مجموعة من المؤسسات الدولية له وعلى رأسها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة. فصار لها وزن داخل المنظومة العالمية، وأصبحت تمارس تأثيرا قويا على مسار العلاقات الدولية مشكلة بذلك خطابا أكثر إنسانية، لا يقلل من أهمية الاقتصاد، ولكن يضعه ضمن رؤية جديدة أكثر شمولية. وما تقرير التنمية البشرية العالمي الذي يصدر سنويا عن البرنامج الإنمائي، وتقارير التنمية البشرية التي تغطي المستوى الوطني في البلدان المختلفة، إلا تجسيدا بالملموس على صدق ما قلناه. يعرف المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي التنمية البشرية المستدامة بقوله:" التنمية البشرية المستدامة هي تنمية لا تكتفي بتوليد النمو وحسب، بل توزع عائداته بشكل عادل أيضا، وهي تجدد البيئة بدل تدميرها، وتمكن الناس بدل تهميشهم، وتوسع خياراتهم وفرصهم، وتؤهلهم للمشاركة في القرارات التي تؤثر في حياتهم."3 فالتنمية كما جاء في التعريف هي عملية توسيع خيارات الناس، هذه الخيارات التي لا يمكن أن تتأتى إلى بمجموعة من القدرات وهي: - حياة المرء حياة طويلة وصحية - حصوله على المعرفة - الحصول على موارد لازمة لمستوى عيش كريم. وإلى جانب هذه الخيارات هناك خيارات تضعها التنمية البشرية في اعتبارها، ولعل الحرية الدينية التي لها صلة بموضوعنا أحد هذه الخيارات، إذ ليست التنمية البشرية مجرد تنمية موارد بشرية فحسب. بل تتعدى ذلك إلى أن تصبح عملية تحقيق إنسانية الإنسان بكل ما تحمله الكلمة من معنى. أما كلمة مستدامة فتعني:" تلبية حاجيات الأجيال الحالية دون تعريض قدرات وفرص الأجيال المقبلة للخطر". وكلمة مستدامة داخل هذا التعريف لا ينحصر معناها في البعد الاقتصادي كما أكدنا سابقا، وإن كان الاقتصاد بعدا من الأبعاد الحيوية في عملية التنمية. ولكن الاستدامة تتعدى هذا الجانب إلى أفق يمتزج فيه الاقتصاد بما هو اجتماعي وثقافي وسياسي. فالمهم في هذا المنظور الجديد للتنمية، أنه وسع خيارات البشر لتصبح كل تنمية تخلق تفاوتات طبقية صارخة بين مكونات المجتمع، أو تدمر البيئة، أو تنتهك الحريات، أو تخل بالتوازن الاجتماعي والسياسي، نقيضا للتنمية البشرية المستدامة. ولعل ما كتبه AMARTIA SIN حول التنمية، يعد فتحا جديدا في تطوير مفهوم التنمية، حيث نظر إليها باعتبارها عملية توسع في الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس، واعتبر أن الحرية هي ما تقدمه التنمية، لهذا يجب التركيز على هذا الهدف الأشمل بدلا من التركيز على بعض الوسائل الجزئية، أو على عدد من الأدوات التي يجري انتقاؤها عمدا. والنظر إلى التنمية من هذا المنظور من شأنه أن يوجه الأنظار إلى غايات تجعل التنمية حدثا مهما بدلا من مجرد التوجه إلى عدد من الوسائل التي لها مع غيرها دور بارز في العملية. كما اعتبر أن تحقيق التنمية يستلزم إزالة المصادر الرئيسية لافتقاد الحريات: كالفقر وشح الفرص الاقتصادية، وكذا الحرمان الاجتماعي المنظم، وإهمال المرافق والتسهيلات العامة، وعدم التسامح أو الغلو في حالات القمع.4 ومن خلال هذا المنظور الجديد للتنمية، نرى بأن الحرية الدينية تحديدا يمكن أن تساهم بقدر كبير من الامتيازات تتجاوز فوائدها الأفق الاقتصادي الضيق، إلى أفق التواصل الحضاري والإبداعي الذي يحقق للأمم رقيها ومجدها. 2- الحرية الدينية في الإسلام: قبل الحديث عن هذا الجانب المهم من هذا البحث، أجدني ملزما بتوضيح جانب اعتبره مهما من الناحية المنهجية. وهذا الضابط المنهجي هو التمييز في الديانة الإسلامية بين مصدرين أساسيين، اعتبرا على مدى التاريخ الطويل لأمة الإسلام من أهم منابع إلهام العقائد والتصورات والحلول، لمختلف القضايا الشائكة والمستجدة على الوضع الإسلامي. ولعل أهم مصدر في تأسيس هذه التصورات هو القرآن الكريم، الذي تلتف حوله جميع الفرق والمذاهب على اختلاف توجهاتها، مع اختلافها في عملية التأويل والتفسير. أما المصدر الثاني فهو السنة النبوية، التي اعتبرت في الكثير من الأحيان الركن الأصيل في فهم القرآن والقاضية عليه، حيث لا يمكن فهم هذا الأخير إلا في ضوء مروياتها وأحاديثها. هذا التفريق يعد ضروريا ونحن نتناول قضية لها مكانتها ووزنها في الضمير العالمي، وتتوقف عليها مصالح وسياسات دولية. وكل هذا لكي نتمكن أساسا من التفريق بين رؤية هذين المصدرين كل واحد على حدة، وبلورة رأي نستشف من خلاله موقف الدين الإسلامي من الحرية الدينية، وعلاقتها بالتنمية البشرية التي هي موضوع دراستنا. *- الحرية الدينية في القرآن الكريم: إن الناظر في نصوص القرآن الكريم، يجدها تنطق بشكل واضح في تحميل الإنسان مسؤولية أفعاله إيجابا وسلبا، وتنهاه عن تعليقها بأسباب خارجية، وذلك حين ربط مسؤولية التغيير بالإنسان في قوله تعالى:" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ". فكل مخلوق مسؤول عن نفسه، تترتب على أفعاله نتائج تحدد مصير حياته، وعلاقاته مع بيئته، ووسطه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. هذه المسؤولية انبثقت من فكرة حرية الاختيار التي دعا إليها الإسلام. فالحرية الدينية عنوان حمل لواءه القرآن الكريم، وظل الوسيلة البارزة في بناء الحضارة الإنسانية، وتشييد المجتمع الإنساني البعيد عن الحساسيات الدينية والثقافية، وغير ذلك من الأمور التي تشعل فتيل الصراع والصدام بين الثقافات والحضارات، وتذيب الجهود البشرية في بناء الثقافة المنشودة، ألا وهي ثقافة الحرية الدينية التي نحن بصدد دراستها. وتصريح القرآن الكريم بقوله:" لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي "، فيه إسقاط بشكل واضح للتسلط باسم الدين الذي كان ولا يزال أحد أبرز الأسباب الرئيسية في تهديد السلام العالمي على مدى التاريخ البشري. هذا التسلط باسم الدين يمكن أن يتضح لنا جليا ونحن نقرأ قوله تعالى: ]قال فرعون ذروني أقتل موسى فليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم وأن يظهر في الأرض الفساد[ . إنها بحق السياسة المتسلطة التي انتهجها فرعون، النموذج الإنساني الخطير المؤمن بالعنف كوسيلة لإصلاح المجتمع، عبر سياسات القتل الجماعي والقمع الفكري المنظم. هذه الشهوة المتسلطة التي مارسها فرعون تحت ستار الزعامات الكاذبة، كانت بدافع من حب التفرد بالسلطان والنفوذ. وهذا إسكات لصوت العقل، وتحجير على ملكة الفكر باسم الدين، تحت ستار اتقاء الفتنة والفساد في الأرض. إنه التسلط باسم الدين المعادي لمبادئ السلام ، والمحارب للحرية الدينية وممارسة المعتقدات بشكل حر ومسؤول. ونموذج فرعون في كل زمان ومكان بصفته نموذجا إنسانيا خالدا، يطبعه جميعه هذه الرؤية المشتركة. ويصطبغ كيانه بهذا الشعور الاستعلائي. هذا الفكر المغلف المستور تتربى جرثومته في أجواء التسلط، ثم تبيض وتتكاثر لتقتل مواهب الفكر والنظر، وتغلق أبواب القلوب، وتميت عناصر الحياة فيها، فلا تتحرك هذه العقول إلا في إطار الفكر الفرعوني، ولا تفكر إلا بواسطته. فلا هداية ولا رشاد، ولا استقامة رأي إلا في ظل هذا الفكر الفرعوني المتسلط:" وقال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ". لكن رغم هذا البيان الواضح من القرآن الكريم بشأن الحرية الدينية، إلا أن الثقافة الإسلامية بجميع مكوناتها، قفزت على هذا البيان العالمي لتحصره في أحقية غير المسلمين في عدم الإكراه. أما من دخل الإسلام فلا حق له بتغيير دينه، وإلا سيكون سيف الموت متسلطا على رقبته. وهو تجاهل فاضح لحقيقة هذا البيان القرآني، الذي جاءت آيات أخرى لتؤكده وترسخه باعتباره حقيقة كونية، لا يجب تجاهلها تحت أي مسمى أو ستار:" وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر "" ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ". فاعتناق الدين أيا كان هذا الدين حرية مكفولة بنصوص القرآن نفسها، ولاحق لأحد التدخل في مصادرة هذا الحق المشروع بالقتل أو غيره:" ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا وفي الآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ". وهذا هو الكفيل بثقافة أساسها السلم والحرية لجميع بني البشر على قدم المساواة. *- الحرية الدينية في الأحاديث النبوية: قبل خوض غمار هذا المبحث، لابد من التذكير بقاعدة قررها علماء الحديث عموما، واعتبروها من أولوياتهم، وإن كان تطبيقها على المستوى الفعلي ظل رهين التنظير. هذه القاعدة هي أن صحة الأحاديث، تستلزم صحة السند والمتن معا، ولا يكفي أن يكون السند صحيحا لنحكم بنسبة الحديث إلى رسول الله. ومن شروط صحة المتن عدم الغرابة أو الشذوذ أو النكارة. وفي هذا الصدد يقول ابن الصلاح في المقدمة:" قد يقال هذا حديث صحيح الإسناد، ولا يصح لكونه شاذا أو معللا ". ويقول ابن كثير في اختصار علوم الحديث:" والحكم بالصحة أو الحسن على الإسناد لا يلزم منه بذلك على المتن، إذ قد يكون شاذا أو معللا ". وبالجملة فصحة متن الأحاديث تستلزم أن تكون حصيلة معانيها ومقاصدها موافقة موازين القرآن الكريم، والعقل والمنطق، وذلك بأن لا يكون بين النصوص الحديثية تعارض مع مضمون آيات الله في القرآن، ومقاصد الشرع وكلياته، ومع سنن الله في الكون، والمجتمع والتاريخ، والفطرة الإنسانية. *- في الصحيحين حديث يقول فيه الرسول:" نصرت بالرعب مسيرة شهر... " هذا مقتطف من حديث طويل قد حوته أمهات كتب السنة الصحيحة، واعتبر على مدى قرون طويلة من الأحاديث الصحيحة، بالرغم من مخالفته الصريحة لما قرره علماء الحديث أنفسهم، وذلك بأن لا يجب أن يخالف المتن آية من القرآن الكريم، فكيف إذا خالف تصوراته ومنظوره للحياة والإنسان، والكون. ومن المخالفات الخطيرة التي يحملها هذا الحديث، هو أنه جعل نصر الله لرسوله الرحيم مرتبطا بالرعب وهذا أدهى وأمر، فالرسول الكريم رحمة للعالمين:" وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين "، ولم تكن دعوته المخالفين له إلا إحدى هذه الطرق الثلاثة التالية:" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن "، ولو كان غير ذلك لانفضت من بينه الجموع، ولما أسس حضارة السلم والسلام، التي امتد صيتها إلى بقاع الأرض كلها:" ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ". وهذا هو رسول الله المرسل بالسلام لمن لا يعرفه:" لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ".
*- عن رسول الله:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله ". فهل أمر الرسول بهذا البيان الخطير المهدد للسلم والسلام العالميين؟. وهل يمكن أن يؤمر بما يخالف القرآن؟. وهل عصمة الدم والمال مرتبطة بالشهادتين أم هو حق مكفول من طرف الله بعدم الإكراه على الدين؟. إن رسول الله كما وضحنا في مقالة سابقة بعنوان:" خدمات السنة للقرآن "، كان لا يصدر إلا عن أوامر الله الموحى بها إليه في القرآن وكان مأمورا بإتباعها: {واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين} ، والوحي هو القرآن وحده:{وأوحي إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} {وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا} ، كما أن وظيفته اقتصرت على البيان والبلاغ، ولم تكن تشريع أحكام لم ينزل بها الوحي القرآني:{وما على الرسول إلا البلاغ المبين} {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك فإن لم تفعل فما بلغت رسالته}. والحديث بمتنه مخالف لما جاء في القرآن الكريم، ومخالف لطبيعة الرسول الرحيم، ومباين للمنطق القرآني الذي يشرع القتال لدفع الظلم والعدوان، لا التهجم على الناس لإرغامهم على اعتناق الدين تحت أي مسمى:" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ". فعصمة المال والدم مكفولة بالبيان القرآني:" لا إكراه في الدين "، ولا يحق لأي أحد مصادرة هذا الحق الطبيعي للإنسان بحديث يخالف التصور القرآني الممتد برحابته إلى الأفق الإنساني البعيد عن النوازع المتطرفة التي تأخذ أشكالا متعددة باختلاف الزمان والمكان. *- في الصحيح قال رسول الله:" من بدل دينه فاقتلوه ". والحديث بهذا العموم يخلق إشكالا. فهل يقتل كل من بدل دينه؟.أم الأمر متعلق بالمسلم الذي يرتد عن دينه؟. وإذا كان الأمر كذلك فالأمر يحتاج إلى مخصص. فأين المخصص؟. وهل يمكن لرسول الله أن يخالف أمر ربه:" لا إكراه في الدين "، ويقتل نفسا زكية بذنب جعل الله جزاءه أخرويا لا شأن لأحد به؟. ألا يعد هذا ضربا من التجاوز على فرض صحة الحديث، للأمر الإلهي، وبالتالي يصدق عليه قوله تعالى:" ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ".5 وهكذا نرى بأن القرآن الكريم سعى لإثبات حق اختيار الدين، من خلال اعترافه بهذا الحق لبني البشر جميعا دون تمييز أو تحيز، ورفع الوصاية على الناس تحت أي مسمى دينيا كان أو غير ديني. لأن هذه هي مشيئة الخالق في وجود الاختلاف:" ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك". بينما تذهب الكثير من الأحاديث النبوية التي اعتبروها صحيحة منحى آخر يضيق على الإنسان حريته في اختيار عقيدته ودينه بكل حرية وإرادة، مما يطرح التساؤل من جديد: إلى أين سيبقى هذا التناقض الحاصل بين أفق رحب يضمن للإنسان كرامته وحريته، وأفق ضيق ساهم في تشكيله ثقافة ارتبطت بواقع تاريخي معين؟. -3دوافع صيانة الحرية الدينية: *- السلام أساس التنمية: تعتبر قضية السلام من الأمور المحورية في عملية التنمية المستدامة، إذ لا يمكن الحديث عن تنمية دون هذا العامل الأساسي، فالتنمية تحتاج إلى مناخ من الاستقرار والأمن من أجل تعبئ الموارد لتحقيق التنمية. ومن هذا المنطلق كانت جهود الأمم المتحدة تنصب حول حفظ السلام العالمي، الذي يضمن جوا ملائما لمسيرات تنموية في بقاع الأرض. غير أن تحيق هذا المبتغى، ظل رهين مجموعة من الاعتبارات، لعل أهمها صيانة الحريات الثقافية بما في ذلك الحرية الدينية. فأي تصور يريد قمع الحريات، وقولبة الإنسان في قالب واحد دون احترام عوامل اللغة والعرق والدين، يكون مآله الفشل والتشرذم والتنازع في تحقيق التنمية. وهذا ما حدث بالفعل في الكثير من الدول التي حاولت فرض توجه واحد لا تراعي فيه هذه الخصوصيات الإنسانية، ولعل أهم مثال يجسد هذا الواقع المزري هو عمليات التطهير العرقي والمجازر البشرية التي اقترفها الصرب بحق البوسنة والهرسك في أواخر القرن الماضي للتخلص من الأقليات حتى تبقى الأمة نقية موحدة. إن التنمية البشرية تتطلب إلى جانب تحقيق الشروط الأساسية لإنسانية الإنسان، الاعتراف بحرية الناس وحقهم في انتمائهم الديني، وتضع حدا لكثير من الاضطرابات السياسية التي تسبب في خلخلة السلم الاجتماعي وعرقلة عملية التنمية البشرية. *- الإساءة إلى الحرية الدينية: قلنا سابقا إن التنمية البشرية مفهوم شامل، يدخل في اعتباراته جوانب مهمة في حياة الإنسان، أغفلتها التعاريف السابقة التي ركزت على الجانب المادي فيه. وطبقا لهذا المفهوم الجديد المنبني على ثقافة حقوق الإنسان، يصبح هذا الأخير منعما بمبدأ المساواة أمام القانون، دون تمييز على أساس الدين أو الجنس أو العرق. غير أن تطبيق هذا المفهوم الإنساني لا زال يعرف الكثير من التجاوزات في العديد من الدول خاصة الإسلامية منها. *- الإقصاء الثقافي: وهذا الإقصاء يمكن إجماله في نوعين اثنين: الأول: عدم الاعتراف بأنماط الحياة التي تعيشها الكثير من الأقليات وتجاوز الأعراف الدولية في احترام الخصوصيات الدينية. والثاني: الحرمان التي تتعرض له الأقليات الدينية من الفرص الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بسبب هويتهم الدينية. 4- سياسات لحماية الحرية الدينية: *- تعزيز المسلسل الديمقراطي: وهذا لن يتأتى إلا بنشر القيم الديمقراطية والتشاركية، لإدارة الشأن العام وتعزيز البناء الحقوقي من أجل خلق جو إنساني، ينعم فيه الإنسان بالحياة الكريمة على جميع المستويات. كما ينبغي إنشاء برنامج للعدالة الاجتماعية بين كافة مكونات المجتمع، مع اعتبار الحقوق الثقافية والتنوع الديني، واحترام التعددية بصفتها جزءا من المسيرة التنموية. إضافة إلى توسيع هامش حرية التعبير في المجالات المتعددة، وسيادة القانون بين مؤسسات الدولة. وهكذا فالتعددية في الممارسة الديمقراطية، أمر ضروري وآلية فعالة للمشاركة في السلطة في دول متعددة الثقافات. *- الإقرار بالحريات الثقافية: والإقرار بالحريات الثقافية ضرورة آنية يفرضها الواقع المتعدد لشعوب العالم. ولهذا فمن الطبيعي أن يكون لهذا الغنى الثقافي الحق في أن يمارس حريته في اختيار دينه أو لغته أو تراثه دون جبر أو إكراه. أما سياسة الاتجاه الواحد وسياسة الأكثرية، فلن يكون مآلها إلا فشل المسيرات التنموية، للعديد من الدول وخلق أجواء من الاضطرابات والصراعات الاجتماعية، التي تحول دون بلوغ التنمية البشرية المنشودة. *- السياسات الاجتماعية والاقتصادية: وهذا الأمر ضروري في التنمية البشرية، وذلك بأن تكون هذه السياسات مراعية للاختلافات بين المجموعات الثقافية في محاولة لحل الأزمات المجتمعية. *- عود على بدء: وهكذا فإن هناك علاقة وثيقة بين المكون الثقافي، المتمثل في الجانب الديني وبين التنمية البشرية وفق المنظور الجديد لمفهوم التنمية، المتجاوز للأفق الاقتصادي الضيق. وهذه السياسة التي تؤمن بالحرية الدينية، هي وحدها التي تضمن مشاركة فعالة للأطراف المختلفة، المكونة للمجتمعات في عملية التنمية البشرية، وتقضي على أسباب الاضطرابات والتوترات، التي تؤدي إلى خلخلة النظم الاجتماعية، وزعزعة السلم الذي يعوق التنمية البشرية المنشودة. *- باحث بوحدة:" مستقبل الأديان والمذاهب الدينية في حوض البحر الأبيض المتوسط". جامعة الحسن الثاني المغرب المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني مكتبة المدرسة، بيروت، 1982، ص:462. وانظر أيضا معجم الفلسفة، إشراف عبد الكريم 1-المراق، شارك في تأليفه عبد الستار جعبر، المولدي يونس، محمد حرز الله، هند شلبي، المركز القومي البيداغوجي، 1977، ص: 58-59. 2- معجم المصطلحات الدينية للدكتور أحمد خليل، دار الفكر اللبناني، ص: 75 462 3- انظر كتاب ملامح التنمية البشرية ص: 15-16 4- التنمية حرية لأمارتيا صن ص: 15، سلسلة عالم المعرفة 5- راجع مقالة:" ثقافة السلم العالمي بين القرآن الكريم والثقافة الإسلامية "، لمؤلف المقال، على موقع: http://www.shbabmisr.com
#هريمة_يوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
-
82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
-
قائد الثورة الاسلامية آية اللهخامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع
...
-
اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|