|
مخازن للأدعية
خالد صبيح
الحوار المتمدن-العدد: 7915 - 2024 / 3 / 13 - 00:47
المحور:
القضية الفلسطينية
يفقد مهندسان أميركيان في غوغل وظيفتهما لأنهما تضامنا مع الفلسطينيين. كان يمكن لهذين الشابين (فتى وفتاة) أن يعيشا حياتهما بكامل هنائها، فهما لا ينقصهما شيء لتحقيق ذلك؛ وظيفة جيدة وبلد كبير آمن، وغزة بعيدة عنهم حد أنهما ربما لايستطيعان تحديدها على الخريطة.
لماذا خاضا هذه المغامرة وتحملا تلك الخسارة إذن؟
سيعظنا صوت من الجزيرة العربية: تلك رعونة بالتأكيد.
ثم، بينما تتحدى جنوب أفريقيا، لدواع أخلاقية صرفة، سلطات "العالم الحر" العابرة للقارات، وتجرجر دلوعة الغرب "إسرائيل" إلى محكمة العدل في "لاهاي"، نصرةً دفاعا عن الفلسطينيين وأهل غزة، وتدفع ثمنا مكلفا، اقتصاديا وسياسيا، لهذا التحدي الكبير، وفيما تشتبك البرازيل البعيدة في أقصى قارات الأرض، برئيسها اليساري، دبلوماسيا وسياسيا مع "الدلوعة"، وفي حين لاتهدأ التظاهرات في مدن بريطانيا والولايات المتحدة وبعض حواضر الغرب الأخرى، في البرد وتحت المطر، تتصدرها شخصيات كبيرة مثل الفنانة " سوزان سارندون"، التظاهرات المؤثرة التي تطالب بوقف العدوان على غزة وانقاذ الناس فيها من همجية الصهاينة وأتباعهم ومؤيديهم، نجد أن ناس الجوار الفلسطيني وأبناء أرومتهم، العرب " لاتهتز لهم قصبة".
القاسم المشترك لمواقف التضامن والدفاع عن الفلسطينيين المكلفة والمتعبة لكل من قاموا بها هو الدافع الأخلاقي والإنساني، والشعور بمسؤولية حضارية، والاقتناع بالوقوف على الجانب الصحيح من التاريخ، فحين لا تحرك مشاعر الواحد وتدفعه الى الفعل مشاهد الدمار وقتل الأطفال وابادة المدنيين جوعا وحصارا في غزة، ولاتستفزه العنجهية والاستهتار "الإسرائيلي" والتبذل الغربي، فعليه أن يتفحص ذاته، فهو يعاني بالتأكيد من فقر روحي كبير ومقدار لا يُحصر من تبلد المشاعر والوهن الأخلاقي.
لأن نصرة الحق، والفلسطيني صاحب حق، مسألة أخلاقية قبل أن تكون أي شيء آخر.
أبناء الأرومة، سكان الجوار الفلسطيني هؤلاء لهم تكوين خاص ونادر، فهم لايثورون لفقرهم ولا يثأرون لكرامتهم، يسيرون طوال الوقت "جنب الحائط" واذا لم يجدوا حائطا فسيخترعونه، وهم مشغولون بهموم ذات طابع "وجودي"، فأهل الجزيرة العربية، "سليلو المجد التاريخي التليد" مهمومون بتعلم واتقان استراتيجيات طاعة أولي الأمر، وأيضا بالسؤال المصيري: "أين توجب صلاة التراويح، في البيت أم المسجد؟"، وهم لا يتحركون إلا حين يرقصون بخلاعة، بعد عقود الكبت الطويلة، على أنغام غانيات "تركي آل الشيخ"، أو يتجندون دواعشا يفجّرون أنفسهم في الأبرياء وسط الأسواق، أما السعي لخيار عقلّاني نافع، يبني نظاما سياسيا واجتماعيا يحترم أبناءه ويطور حياتهم وينميها فهذا لا تقدر على اجتراحه مخيلتهم الفقيرة، ولا تحتمله حدود تدجينهم المركّز.
وعلى الضفة الأخرى هناك يربض ملك مراهق بمعجزات كثيرة منها أنه "هاشمي بعينين زرقاوين*" كما وصفه سعدي يوسف. وهذا العاهل المريب مغرم بالظهور في بزة عسكرية مزدحمة بأوسمة زاهية الألوان. ولا أحد يعرف لماذا يصر على تسجيل أفلام له يؤدي فيها، مع ابنه، عملية هجوم واقتحام بالسلاح؟
أمر محير فعلا!
لمن هذا التدرب وأين سينفذ؟ فأنت قد أتممت عدتك الحربية بالاطمئنان للعدو وطمأنته، فلأي معركة تستعد ولأي قتال تتهيأ؟
يخيل لي لو أن نصف الأوربي هذا قد ظهر في برنامج طبخ سيكون أكثر اتساقا مع نفسه وأكثر اقناعا لرعيته من الظهور في فعاليات قتالية يهاجمان فيها، هو وابنه، بطريقة دون كيخوتية، الفراغ.
ومحكومو شبه العربي هذا "النشامى" لايقلون بؤسا عنه، فهم أيضا مثل "جلالته" لا يجيدون اطلاق النار إلا في الأعراس، وإذا حدث وانتفضوا تضامنا مع "اخوتهم" المنكوبين في الجوار، فسوف يكتفون بكلمة تقال بصوت جاعر في البرلمان تتلاشى مفاعيلها مع آخر حرف ينطق منها، وإن احتجوا في الشارع فسيكون احتجاجهم منضبطا، ومتفق مسبقا وتلقائيا، على قواعد اشتباك ودية وناعمة مع السلطة" لا تزعجني ولا أزعجك".
أما أرض الكنانة فكلنا يعرف محنتها بابتلائها بالحواة والسحرة والمشعوذين، بدءا من رأس الهرم، الذي يسمي المقاومة إرهابا، وصولا إلى صخّابي اعلامها مرورا بمهرجي معارضتها فاقدي البوصلة من الليبراليين.
ذات مرة قال "مصطفى البرغوثي" مخاطبا العرب: لا نريد مساعدتكم ولا دعمكم لنا، نحن نريد منكم فقط أن لاتقفوا مع عدونا.
وهذا كلام يبعث على الأسى، ويبدو أنه شيء غير قابل للتصديق، لكن الواقع يؤكده عيانيا وبصراحة تتجاوز الوقاحة بمسافات، ولا اثبات لهذا أوضح من موقف وسلوك "دولة الإمارات"، فهذه الإمارة لم تكتف بموقفها المتهافت في الأمم المتحدة حين أدانت الفلسطينيين ولكنها أتمته بإرسال الطعام والغذاء بقوافل برية يومية إلى "تل أبيب"، فأبناء زايد حريصون على أن يأكل "الإسرائيليون" ويتغذون جيدا ليستطيعوا مواجهة "الإرهاب"، و إتمام عمل الإبادة.
وشاحنات الطعام الإماراتية "العربية" التي تذهب الى "إسرائيل" يوميا، فيما أهل غزة يموتون جوعا بالمعنى الحرفي، تسير عبر طرق برية تمر في أكثر من أرض عربية، تخترق صحراء الربع الخالي في "مملكة الخير" السعودية، ومن ثم تتهادى مطمئنة تحت أنظار "النشامى"، ولم يحتّج عليها أو يوقفها أحد.
وجرائم الإمارات لاتنحصر في الدعم الدبلوماسي والغذائي المباشر لحليفها "الابراهامي" وإنما تشتغل بآلية داخلية تحريمية، صامتة وايحائية، لمنع كل من يدب على أرضها بالقول أو التعبير عن أي موقف تأسي أو تضامن مع الفلسطينيين، حتى لو كان على صفحات التواصل الاجتماعي، فهناك كتاب وصحفيون ومثقفون من مختلف أوطان العرب، بينهم عراقيون وفلسطينيون، امتنعوا، خوفا أو مداراة، يعني "قمع ذاتي طوعي" فأكل العيش مر كما نعلم جميعا، امتنعوا عن قول كلمة واحدة ولو عابرة تعبر عن تضامن، او حتى مشاركة وجدانية، وهي أضعف من أضعف الإيمان، مع الفلسطينيين.
ولذا فان تطبيع الإمارات مؤذى أكثر من كل تطبيعات الأنظمة الأخرى، هو ليس مثل تطبيع مصر والمغرب، بل هو أشد وطأة وتهافتا ولا أخلاقية منه لأنه لا يقمع، بحكم طبيعة التكوين السكاني للإمارة، الإماراتيين وحدهم ويفرض عليهم الخنوع، بل يمتد إلى عرب آخرين، مثقفون وكتاب ذوي ماض نضالي، عرفوا في يوم ما بنصرتهم "المبدأية" للقضية الفلسطينية.
والآن، دخل العرب منذ الأمس في شهر رمضان، شهر المسلسلات والأدعية، حيث سينغمسون في طوفان المسلسلات ويجزلون العطاء بالأدعية، تلك الأداة السحرية و"الفعالة"، التي لا يجيد العرب وسيلة غيرها لمواجهة أي شيء في الحياة، من السياسة إلى المصائر الشخصية، بل أنهم حتى في حاجاتهم اليومية البسيطة لايتوانون عن القاء عبء قضاءها على الله، هكذا، ببساطة ولامبالاة يقدمون إليه، عبر الدعاء، طلباتهم اللانهائية والملحاحة وعليه أن يقضيها لهم، وكأن الله، بمشاغله الكثيرة، بلا هموم ولا عمل له غير التفرغ لشؤونهم ولقضاء حاجاتهم وحدهم دون العالمين.
وبالتأكيد سيكون هناك، في موسم الضيم الذي يعيشه فلسطينيو غزة هذه الأيام المحزنة، وفرة من الأدعية التي لن يبخل عليهم فيها اخوتهم الخانعون، وسيكون مِدد الأدعية يومي وفي كل ساعات النهار والليل. وللحفاظ على هذه الوفرة وعدم تبديدها، فقد تتوقف ذات يوم بفرمان ملكي أو جمهوري، وبما أن الفلسطينيين سيحتاجونها في قادم الأيام، فأيام قهرهم كثيرة، يتوجب عليهم أن يشيدوا مخازنا واسعة، سعة صبرهم، لتخزين أدعية اخوتهم العرب العاجزين حتى عن مساعدة أنفسهم بأكثر من وقفة دعاء وتوسل للغيب. ***
* وصف سعدي يوسف بتورية ساخرة ملك الأردن عبدالله الثاني في أحد نصوصه بـ (الهاشمي أزرق العينين).
#خالد_صبيح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
آن الأوان
-
هينز الفريد كيسنجر
-
ما يريدونه و ما يستطيعونه
-
خطوط حمر لا أخلاقية
-
بين الواقع والمؤامرة
-
بداية ونهاية
-
مفترق 14 تموز
-
هل سيعيد التاريخ نفسه؟
-
ممكنات التغيير في الأنظمة الشمولية
-
ما وراء عبّادان قرية
-
المتحولون
-
عن متلازمة ستوكهولم
-
المساواة الحقة!!
-
في أصل الدمج وفصله
-
استراتيجة (ثلاثية الأبعاد)
-
خواطر عن المثلية
-
في مواجهة الوباء
-
تداعيات محلية لوباء عالمي
-
كورونا
-
ساندرز والانتخابات الأمريكية
المزيد.....
-
-جزيرة النعيم- في اليمن.. كيف تنقذ سقطرى أشجار دم الأخوين ال
...
-
مدير مستشفى كمال عدوان لـCNN: نقل ما لا يقل عن 65 جثة للمستش
...
-
ضحايا الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة تتخطى حاجز الـ44 ألف
...
-
ميركل.. ترامب -معجب كل الإعجاب- بشخص بوتين وسألني عنه
-
حسابات عربية موثقة على منصة إكس تروج لبيع مقاطع تتضمن انتهاك
...
-
الجيش الإسرائيلي: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان في الجليل الغر
...
-
البنتاغون يقر بإمكانية تبادل الضربات النووية في حالة واحدة
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد عسكرييه بمعارك جنوب لبنان
-
-أغلى موزة في العالم-.. ملياردير صيني يشتري العمل الفني الأك
...
-
ملكة و-زير رجال-!
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|