|
حصار يوسف
سلام إبراهيم
روائي
(Salam Ibrahim)
الحوار المتمدن-العدد: 1751 - 2006 / 12 / 1 - 11:09
المحور:
الادب والفن
يجلس يوسف على كرسيه، في زاوية الغرفة التي هدأت للتو. يدور عينيه المخذولتين. الأرك فارغة. بقايا الطعام متناثرة، على الطاولة القائمة وسط الغرفة. كل شيء ينام الآن. الكتب في أدراجها، الليل في الأزقة، القطط، الستائر الساكنة. الخطى التي كانت تضجُ في الغرفة، تحولت إلى دخان. رائحة الخمر قوية تكتم أنفاسه. يلبث خاملاً، متكوراً يفكر في يوم العمل المتعب، الذي ينتظره، وجريه خلف أخيه المساح: ـ اجلب الحامل.. اغرز الشاخص.. ناولني قدح ماء. ويرميه نظرات ضيق وازدراء، تحيله رماداً. أين يذهب؟ إلى أين يلتجئ؟ إلى أين.. ينهض من الكرسي. يبسط الفراش على البلاط. يستلقي. شيء ما ثقيل يضغط على رأسه. هذا السكون.. تك.. تك.. تك.. دقات الساعة الجدارية رتيبة ترن بالسكون. الضوء أحمر شديد الخفوت. الباب مغلقة. شيء ما يكبل جسده. مشدوداً إلى الفراش.. تك.. تك.. تك.. تجيء من خلف رأسه. السكون.. الدقات.. السكون.. يسمع خطى تهبط السلم، خفيفة منزوياً على أريكة خشبية بزاوية الغرفة. زهرة تروح وتجيء أمامه، بثوب أسود فضفاض، فوالدها مات قبل شهر، سعاد بوجهها المستدير وشفتيها المكتنزتين الحمراوين، وعينيها الواسعتين، وقامتها الرامحة، يلمحها تلج الغرفة الأخرى، وتعود بعد لحظات بثوب جديد شفاف. حلمتا الثديين الناهدين، وخطوط اللباس الداخلي، وظلال السرة المعتمة بدت واضحة، وهي ترتمي جنب عشيقها الأسمر. ليلى بوجهها البيضوي، وأنفها الأقنى ترتخي إلى كتف زوجها، واضعة ساقاً على ساق، بشكل انحسر معه ثوبها عند منتصف الفخذين، فبان لحمها اللدن. ضجيج الضحك يدوي بصمته.. وحيداً منزوياً يخالس النظر، وهم يرتشفون الخمرة. ـ ماذا تقول في ثوبي؟. ـ وجهك أجمل. ـ قتلني اللون الأسود. ـ كان والدك نبيلاً رحمه الله. .. ها.. ها.. ها.. الضحك.. جامداً.. لا أحد يتوجه ليوسف بكلمة.. الظلمة خلف النافذة. سعاد تنحني إلى وجه صاحبها، تمص شفتيه، يرتفع الثوب الشفاف كاشفاً منبت الفخذين من الخلف.. جامد الوجه.. تك.. طب.. الخطوات تزداد وضوحاً. مسمراً في فراشه، متوتر الأعصاب. يحاول النهوض. يستند على ساعديه.. تجمدتا لصق البلاط كقطعتي خشب.. طب.. طب.. يد تعبث بأكرة الباب.. صر..صر.. أزت الأكرة. تقول زهرة: ـ اصعد، نم معنا على السطح. يجيب بصوت متخشب: ـ لا.. سأنام في الغرفة. يصيحون به: ـ لماذا؟. ـ ...... يصر، وبعينين حزينتين يتابع أقدامهم ترتقي درجات السلم.. وجه أبيه القاسي.. زوجة أبيه يلفان حاجياته بصرة، ويلقونها في الشارع، يقول أبيه: ـ أصبحت كبيراً.. ولديك ثلاث أخوة. تقول زوجة أبيه: ـ اذهب إلى أمك. وجه أمه المهجور.. الهرم، غرفتها الباردة الرطبة في زاوية نزل قديم من أزقة بغداد القديمة. لا تكف عن الندب والشكوى.. ها.. ها.. صدى الضحك يتردد في رأسه.. تك.. تك.. طب.. تك.. الخطوات تختلط على السلم المفضية إلى السطح. .. ليس لدي سواك.. لكنك شخت قبل الأوان.. وتركتنا مذعورين، نلوذ بزوايا غرف عتيقة، مشققة الجدران، باردة، نذبل في رطوبتها، ونخشى وقع أقدام تقترب.. فنتفرق هلعاً، هاربين من النوافذ، قافزين من السطوح. تأخذه حيرة الشارع.. إلى أين يذهب؟ إلى هذا.. أو ذاك.. أو.. الكل متشابهين، الكل لديهم مشاغل تلهيهم عن همومه.. وأمه.. لا.. إنه يكتئب من الشكوى، ووجهها المهجور القانط يفتت قلبه. الأكرة أكملت دورتها. في الضوء الأحمر الخافت، يندفع الباب مليماً.. مليماً.. ظل ينضح أنوثة يظهر من شق الباب.. الخوف.. الخوف.. يسد عليه الأبواب.. الكل يتحاشاه.. الكل ينخطف لونه حالما يراه.. تك.. تك.. تك.. دقات بطيئة قاتلة.. تنفتح الباب إلى آخرها. تدخل زهرة بقامتها المتوسطة، متوردة الخدين، نضت عنها ثوب الحداد الأسود، وارتدتْ فستناً أحمر شفافاً.. تدنو منه.. متجمداً في فراشه.. يتصنع الإغفاءة.. تمد ذراعها البضة العارية.. تزيح الغطاء عن جسده حد النصف.. يباعد أجفانه.. تميل فوقه، قمراً من نار.. الثوب شفاف أحمر. الصدر عار أحمر.. الوجه أحمر ينفث عطراً.. تقطر كلماتها الناعسة: ـ يوسف.. يوسف.. استيقظ، لتذهب مع أخيك إلى الشغل. تك.. تك.. الاحمرار يغطي جسد زوجة أخيه المكتنز، ثوبها الناعم الطويل يخط خلفها وهي تعود أدراجها.. تغيب في ظلال الممر العاتم.. أصابعها الطويلة الغضة تلتم، وتسحب الباب من أكرتها. تسدها. الخطى الناعمة تخفت شيئاً فشيئاً. صرير باب آخر يفتح، شيء ما يدور، انهمار ماء حنفية، طرطشة، صوت أقدام تصعد السلم.. تب.. تب.. تب.. قطرات الماء تتساقط على البلاط.. دقات الساعة رتيبة.. تك.. تب.. تك.. تب.. يقول وجه شاحب: ـ أوثقوا ذراعيه خلف ظهره، بعد أن خلعوا عنه ملابسه ورشوا على جلده التيزاب قطرة قطرة. ـ ....... عندما أطلقوه، كان مرتج العقل. ـ ....... ـ ظلّ يفتر بشوارع المدينة، يكلم أشباحه. ـ ...... ـ صدقني.. اترك .. طـــــ.. زززززززز بالسياسة. تك.. تب.. تب.. وجه أمه يشحب.. يشحب.. يصغر.. تك.. يصغر.. أصابعها تستطيل عدة أمتار، ناحلة، تبكي دون صوت بدمع أصفر. يحملها أبوه على ظهره، ويهرول بها خارجاً إلى حديقة البيت الخلفية. تصرخ.. تصرخ فينتشر صراخها الأخرس غائراً في ملامحها المرعوبة. تغرز أظافرها في عنقه. يعض خصرها.. جامد الروح.. يحدق من نافذة طفولته بما يفعله أبوه، بعينين ثلجيتين. تقول ليلى: ـ أموت بك. تهمس سعاد: ـ الليلة يا حبي، ماذا سأفعل بك؟. وتنهض راقصة، يتلوى جسدها، ويرتجف خلف ثوبها الشفاف، وكأنها مصابة بالحمى. أخوه يغني بصوته الأجش: ما خطرتش على بالك يوم تسأل عني وأنت يا يوسف... من يسأل عنك؟ من.. من؟ وأنت المنسي في حضورك. ليلى تتمايل في جلستها، وترتشف جرعة من كأسها المترع بالعرق السادة. زوجها الطربان يدندن غامضاً عينيه. زهرة تضحك بخجل، وتهرع إلى المطبخ، لتأتي بطبق آخر.. تب.. تب.. تب.. رتيبة ترن في السكون.. تك.. تك.. القطرات الرقاص. يرمي أمه إلى تراب الحديقة، يقيد يديها. يكمم فمها. يحفر بمعول لامع. عيناها الفزعتان تبحثان عن موقع النافذة، حيث يجلس. ينظر بعجز واستسلام إلى يديها المناضلتين اللتين تمكنتا من إزاحة حبل القنب. شيء ما يشده إلى مكانه. السماء كالحة. يضع المعول جانباً. يدحرجها نحو الحفرة. يسقطها. تتمسك بالحافة. يدوس أصابعها ببسطاله الثقيل. عيناها الهلعتان المستنجدتان تغيبان رويداً.. رويداً.. تك.. تك.. طب.. طب.. قطرات الماء تزداد وضوحاً.. تتلاحق. تطغى على دقات الساعة الجدارية، ثم تصبح كطنين متصل.. شيء ما يضغط على صدره. شيء ثقيل. ـ يحلقون شعر الرأس بموسى حادة. يقيدون يديه إلى كرسي حديدي يتوسط غرفة أدكن من ليل بلا نجوم، يسكن عارياً يختض من البرد منتظراً المجهول. ومن بحر الظلام تسقط قطرة ماء على نقطة معينة من الرأس.. تسقط الثانية.. الثالثة.. الفاصلة بين قطرة وأخرى ثابتة.. الظلمة ولحظات الانتظار.. والمجهول.. القطرة تصبح جبلاً.. ويدفعونه إلى حافة الجنون. ـ ........ ـ اترك.. اترك.. طز.زززززززززز بالسياسة. طنين الماء يقوى قليلاً.. قليلاً.. ثم ينهمر بهدير في الحمام.. يجلس منزوياً على كرسيه مهجوراً.. يشعر بالغثيان. يكاد يتقيأ. يغادر مكمنه مسرعاً نحو الباب القريب قاصداً المغاسل. يبصر من خلال الباب نصف الموارب للغرفة الأخرى سعاد نصف عارية ملتصقة بعشيقها الأسمر.. تتأوه وهي تلعق أذنه، بينما يداه تعجن وتمسح فخذيها البيضاوين الممتلئين. يعود مرتجفاً إلى مكان جلوسه المغبر النائي وسط الضجيج.. تك.. تك.. خرقت الدقات طنين الماء. دور عينيه.. ستائر النافذة الحمراء.. الجدران المزينة بلوحات جواد سليم، وفائق حسن، بصور فوتغرافية لماركس، لهمنغواي.. الصمت.. الصمت.. فوران الماء.. يلهث.. يلهث.. ناهباً أرصفة الشوارع، يغط في الزحام، يتلفت هلعاً، متوجساً من وجوه مريبة تسعى في أثره، وجوه أبواب تؤدي إلى أنفاق رطبة موحشة، يلهث، يلهث، مكتوم الأنفاس، مرعوباً. كف ثقيلة تضغط على عنقه.. تك.. تك.. طب.. طب.. أقدام تهبط على السلم، يزداد وقعها.. طب.. طب.. تتوضح.. طب.. ضحك مغناج.. تأوهات.. يخفت طنين الماء يعود خريراً. ضحك مخنوق، جامداً في فراشه.. حفيف ثوب ينزع.. همس خافت.. تأوه غنج.. ضحك مكتوم.. أنت مستعجلـ ..... ايدك يوه.. تك.. تك.. إش.. إش.. انتظر.. دنتظر.. افتح زر السوتيان.. خرير الماء يعود موصولاً. الستائر حمراء. الباب أحمر. وجه همنغواي أحمر. حصان فائق حسن الجامح أحمر. الليل أحمر. الكون جمرة متقدة. يستعر في فراشه المبسوط على الكاشي. يترمد. يستعر، يترمد. وجه أخته البريء، التي أخذها رجل غريب في ليل عاصفة. وجوه أخوته الثلاثة الهازئة، القاسية.. وحيداً يتكور في زويا الغرف مهملاً منسياً.. لا أحد يتوجه إليه بكلمة. وجه أمه المتظلم، وهي تسقيه شاياً. وجه صديق يبهت.. يبهت.. ويذوي في عتمة الماضي، والأقبية التي أخذته غفلة.. طب.. طب.. ما زال صوت الأقدام الهابطة على السلم يُسمع. حفيف ثوب طويل. حركة أشبه بالعراك. هسهسة ثوب ينزع. جسد سعاد العاري، ليلى، زهرة. فحيح يأتي من غرفة النوم. يقفز من فراشه.. عينا أمه الفزعتان تغيبان في الحفرة.. وجه أبيه القاسي.. وجوه أخوته الساخرة. يسير على مهل، يلج الممر.. تك.. تك.. لحيتك.. أوي ي ي.. لحيتك وخزتني.. ها.. ها.. ضحك مكتوم.. دعيني.. لا.. لا.. ما أتحمل الله يخليك.. آهة.. آهات.. أوي ي ي ي. ينزع قميصه. لم يبق عليه سوى لباسه الداخلي القصير.. يقف.. الباب على بعد شبر.. خرير الماء.. تك.. تك.. الدقات تهدر.. الماء يهدر.. الغرفة تهدر.. يهدر.. الماء.. الماء.. الماء يهدر جارفاً الأشياء.. تهدر الروح.. يمد يده إلى أكرة الباب. تزول الرجفة. يدورها، ويدفع الباب. من كثافة الظلام، برقت عيون تخيّل أجسادها العارية.. الصمت ووميض العيون المتشهية.. الصمت وضجيج الماء والتكتكة الرتيبة. الصمت يدوي، يخنق الساعة والماء، الصمت ووهج العيون الشبقية المشتعلة بألوانها، ماذا يفعل؟ الظلمة شديدة قاسية. خيال يتحرك لونه أفتح قليلاً. يرقص.. يخطر.. يقترب.. يبتعد.. يريد.. يريد.. الزمن.. ماذا.. ماذا؟. الزمن سبيكة رصاص. تنزلق يداه إلى لباسه الداخلي ببطء. يخرطه بأصابعه، فيتكوم بين قدميه.. ضحكة مكتومة. يسكن تمام السكون. آهة رفيعة. الظلمة والصمت الساقط مرة أخرى. يتحسس الجدران بأصابع متوجسة. يضغط على زر المصباح. طق.. يرى نفسه عارياً، معروقاً، لاهثاً في مرآة الزينة المقابلة، ووحيداً وسط صمت أشياء الغرفة.
#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)
Salam_Ibrahim#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال عندما أدخلني
...
-
بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال...عندما أدخلن
...
-
بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال...عندما أدخلن
...
-
العمة الجميلة*
-
النص العراقي والناقد
-
أنها الحرب
-
اختطاف
-
كتّاب كانوا سوط الجلاد الثقافي
-
بمناسبة المؤتمر الرابع للطائفة المندائية..يا عراق متى تنصف أ
...
-
قالت لي: أنا عندي حنين
المزيد.....
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|