الخميس 26 يونيو 2003 04:06
لمناسبة المشكلة المتواصلة التي تثيرها مسألة الحجاب في فرنسا، بخاصة، وفي البلدان الغربيّة، بعامّة.
- 1 -
مهما تعددت الآراء التي تَتّصل بظاهرة فرض الحجاب على المرأة المسلمة، فمن الممكن أن يقال عنها إنّها جميعاً مجرّدُ تأويلاتٍ. وهي، بوصفها كذلك، لا تُلْزِمُ أحداً غيرَ أصحابها. فليس هناك نَصٌّ قاطعٌ يفرض الحجابَ وفقاً لما يُريد الأصوليون الدينيون. هناك تفسيرٌ لبعض المأثورات. لكن، هل يصحّ، دينيّاً، أن يرتفعَ تَفسيرُ المأثور الى مرتبة التشريع أو القانون؟
في كلّ حالٍ، تبقى مسألةُ الحجابِ خِلافيّةً. فبأيّ حَقٍّ أو بأية سلطةٍ يفرض بعضهم تأويله الخاصّ على النّاس كلّهم، ويُجيز لنفسه أحياناً أن يستخدم العُنفَ من أجل ذلك، لا ضدّ المرأة وحدَها، وإنما كذلك ضدّ الأشخاص الذين يخالفونه الرأي، وضدّ المجتمع كلّه؟
ولئن كانت مسألة الحجاب قديمةً داخل المجتمعات الإسلامية التي هي، إجمالاً، مجتمعات غير مدنيّة، ويمكن لذلك تفهّم صعوبتها وتعقّدها، فإنّ موقف الأصوليّة الإسلاميّة في المجتمعات الغربيّة المدنيّة يثير مشكلاتٍ تُسيء الى المسلمين الذين يعيشون فيها، بوصفهم أفراداً، وتُسيء على نحو خاصٍ الى الإسلام ذاته، بوصفه رؤية للإنسان والعالم، للذات والآخر. فمن أبسط المبادئ أن يعرف المسلمون المهاجرون، خصوصاً أولئك الذين اكتسبوا جنسيات البلدان التي يعيشون فيها، كيف يقيمون حدّاً فاصلاً بين الخاصّ والعام، بين المعتقَد الشخصي، والقيم الاجتماعية المشتركة. إذ لا بُدّ لجميع المواطنين من أن يخضعوا لهذه الأخيرة، خصوصاً لمؤسساتها المدنيّة والتربوية. لا بُدّ من أن يعرف المسلمون الذين يتمسكون بالحجاب أن تمسّكهم هذا يعني أنهم لا يحترمون مشاعر الناس الذين يعيشون معهم في وطنٍ واحدٍ، ولا يؤمنون بقيمهم، وأنهم ينتهكون أصول حياتهم، ويسخرون من قوانينهم التي ناضلوا طويلاً من أجل إرسائها، ويرفضون المبادئ الديموقراطية الجمهورية في البلاد التي تحتضنهم، وتوفّر لهم العملَ والحرية.
إن عليهم أن يدركوا أن مثل هذا التمسك يتخطّى الانتهاكَ الى نوعٍ من السلوك يُتيح لكثيرٍ من الغربيين أن يروا فيه شَكْلاً آخرَ مِن أشكالِ "الغزو".
- 2 -
هناك زَعْمٌ بأنّ المرأة المسلمة في الغرب هي التي تختار الحجاب، وهي التي تضعه بملء حريتها. وهو زعمٌ يحتاج الى كثيرٍ من النقاش ليست هذه الزاوية مكاناً له. لكن عندما نرى في باريس، على سبيل المثال، فتياتٍ صغيراتٍ بعضهنّ لا تتجاوز الرابعة من عمرها، فهل يمكن أن نقول إنهنّ يضعن الحجاب بملء الحريّة؟ وما تكون حريّة طفلةٍ في مثل هذه السنّ؟
ولماذا لا يرى المسلمون الأصوليون المهاجرون في انفتاحِ بلدان هجرتهم غيرَ الوسائل التي يستخدمونَها لإعلان انغلاقهم وعزلتهم، وهجرتهم داخل الهجرة؟ إنهم موجودون في هذه البلدان بفضل انفتاحها ذاته. لهذا، عندما يفصحون عن معتقداتهم أو يمارسونها بالحجاب حيناً، وباللحية حيناً آخر، أو بهما معاً، فإنهم يعتدون على الإسلام أولاً، لأنهم يقزّمونه في هذه الشكلية السطحية، ويعرضونه على العالم في شعارٍ أو رمْزٍ يجعل منه مجرّدَ طقسٍ شَكْليّ. أهكذا ينبغي على المسلمين أن يقدّموا في هذا القرن الإسلام - هو الذي كان منذ قرونٍ عديدة، رمزاً للإبداع وللإشعاع؟ أفلا يعقلون أنهم في سلوكهم هذا "يحجبون" الإسلامَ نفسه، وأنهم "يُغَطّون وجهه"، وأنهم بذلك "يشوهونه" و"يخنقونه"؟
ثمّ إنّ هؤلاء الذين ينادون بفرض الحجاب، يمثلون أقليّةً بين المسلمين في الغرب، وبين المسلمين في العالم العربي كذلك. ولو وضع الحجابُ موضع اختيارٍ ديموقراطيّ لسقَطَ سقوطاً كاملاً. وبدلاً من أن تحترم هذه الأقليّة المسلمة في الغرب، الديموقراطية ومبادئها، تحاول على العكس أن تتنكّر لها، وأن تفرض رأيها بالقوة لا على المسلمين وحدهم، وإنّما على الديموقراطية نفسها. وهو موقفٌ لا أعرف كيف يمكن تسويفه أو الدفاع عنه، أو كيف يمكن أن يخدم الإسلام، أو أن يكون تعبيراً صحيحاً عنه.
إنه موقفٌ يفرض على من يدرسه بموضوعية ودقة أن ينظر الى أصحابه - لا بوصفهم متدينين أو رجال دين، وإنما بوصفهم سياسيين عاملين في السياسة. والحق أنّ جميع الوقائع تُشير الى أن هذه الأقلية إنما هي أقليةٌ سياسية، وعلى المسلمين والغَرْبيين أن يتعاملوا معهم، لا بوصفهم ممثلين للدين، وإنما بوصفهم مجرّد حزبٍ سياسيّ.
- 3 -
الجامع هو، وحده، المكان الذي يتميّز فيه المسلم، مفصحاً عن "هويته" الدينية، في الغرب، (وهذا ما ينبغي أن يكون في البلدان العربية كذلك). هو المكان الوحيد الذي يمارس فيه حقوقه الدينية كاملة. كل ممارسة خارجه، اجتماعية أو عامة، إنما هي عدوانٌ على القيم المشتركة. المؤسَّسة، وبخاصة التربوية، المدرسة والجامعة، مكانٌ مدنيٌّ عامٌّ ومشترك. مكان لقاء. مكانٌ مفتوحٌ للناس جميعاً. مكانٌ يجب أن تزولَ فيه العلامات الدينية الخاصة، الفارقة، أياً كانت. نضيف الى المؤسسة: الشارع، المقهى، المنتديات، دور السينما، القاعات العامة للمحاضرات والمؤتمرات. فظهور العلامات الدينية الفارقة في مثل هذه الأمكنة خَرْقٌ لمعناها والغاية منها. خَرْقٌ للانتماء الواحد، أو "الهوية" الواحدة المشتركة. رمزٌ لإرادة الانفصال. لرفض الاندماج. توكيدٌ على الهوية الخاصة المغايرة، داخل الهوية العامّة الموحِّدة. وفي هذا ما يُمثّل تحدّياً للشعور العام، وللذوق العام، وللثقافة العامة، وللأخلاقية العامة.
ثم إنّ التوكيد المظهري على الخاصّ في قَلْب العام، إنما هو نوعٌ من المَسْرحة أو العَرْض لا يليقُ بالدين. في أساس التجربة الدينية قيامها على الحميمية، على نوعٍ من الخفاء، على البساطة، وعلى الخَفَرِ والصّمتِ والانزواء، بعيداً من "المظاهر" بأشكالها جميعاً.
وإذا كان بعضهم يحتجّ بأن المرأة المسلمة تضع الحجاب، باسم حق الحرية الدينية، فإن هذا الحق محفوظٌ ومحترمٌ ما دام خاصاً، ويُمارَسُ في الإطار الخاص. أمّا إذا تجاوز ذلك، فإنه ينقلب الى تجاوزٍ - الى شَكْلٍ اعتدائيّ على الآخر، يتمثّل في عدم احترام آرائهِ وأفكاره ومشاعره. إضافةً الى الاستهتار بالمبادئ والقوانين العامّة المدنيّة، وبالجهود والتضحيات الكبرى التي قُدّمت مِن أجل تحقيقها.
- 4 -
عندما أمرَ بعض الخلفاء في العصر العباسيِ أن يضعَ غير المسلمين علاماتٍ فارقة لتمييزهم عن المسلمين، كان ذلك موضع استهجانٍ، عدا أنّه كان علامةً على التراجع والجمود. هكذا سُرعان ما أبطلته حركيّة المجتمع آنذاك. وإنه لمن الغرابة التي يتعذّر فهمها أن يُصِرّ بعض المسلمين في الغرب بأن يضعوا، بوصفهم مسلمين، علاماتٍ فارقة تميزهم عن أبناء المجتمع الذي يعيشون فيه. إنّ في هذا الإصرار إهانةً لتاريخهم، وحكماً عليه، وعلى ثقافتهم، وعلى حضورهم في العالم، حتّى ليبدوا للمتأمّل أن الحجابَ ليس مجرّد خَرْقٍ لقانون الآخر وثقافته، وإنما هو، قبل ذلك، امتهانٌ للذات، وشكلٌ آخر من الحياة - لكن في أحضان الموت.
- 5 -
أخلص الى القول بإيجازٍ إن التأويلَ الديني الذي يقول بفرض الحجاب على المرأة المسلمة التي تعيش في بلدٍ علمانيّ يفصل بين الدين والسياسة، ويساوي بين الرجل والمرأة، حقوقاً وواجبات، إنما يكشف عن عَقْلٍ لا يحجب المرأة وحدَها، وإنما يحجب كذلك الإنسان والمجتمع والحياة. ويحجبُ العقل. إنه تأويلٌ يمنح الحقَّ لكثيرين في الغرب أن يروا فيه عملاً لتقويض الأسس التي أرساها نضال الغرب في سبيل الحرية والعدالة والمساواة. وأن يروا فيه مطالبةً بإلغاء دور المرأة في الحياة العامة، الاجتماعية والثقافية والسياسية، مما يتناقض كلياً مع مبادئ الحياة المدنية في أوروبا والغرب.
إنه، الى ذلك، تأويلٌ يَعْملُ، في التحليل الأخير، على تحويل الإنسان والدين معاً، الى مجرد أدواتٍ في خدمة آلةٍ سلطوية يُديرها طغيانٌ أعمى.
الحياة اللندنية