عامر سليم
الحوار المتمدن-العدد: 7903 - 2024 / 3 / 1 - 10:21
المحور:
الادب والفن
I have been inclined to regard the Surrealists as complete fools, but that young Spaniard Salvador Dali with his candid, fanatical eyes and his undeniable technical mastery, has changed my estimate.
SIGMUND FREUD
العلاقة بين العلم والادب والفن علاقة جدلية معقدة , تأثير وتفاعل متبادل وتمازج فريد بين الخيال الابداعي (الادب والفن) وبين الخيال التسائلي الفضولي (العلم).
التحليل النفسي والسريالية خير مثال على هذا التعقيد الجدلي . بداية اذا كانت السريالية هي مدرسة فنية وادبية متفق عليها فأن التحليل النفسي لازال يثير جدلاً عن هويته المتأرجحه بين العلوم التجريبيه والعلوم الانسانيه , يرى فريق بأن أفكار فرويد وأتباعه لم تكتسب سوى القليل من الدعم التجريبي (بوبر يعتبر التحليل النفسي علم زائف), وبذا يختلف عن الطب النفسي ولكنه جزء من فرضيات وابحاث الطب النفسي ويرى فريق آخر أن أفكار فرويد حول الأحلام تتوافق مع أبحاث علم الأعصاب, ويبقى هذا الجدل قائماً بين المتخصصين انفسهم فما بالك بغير المتخصصين أمثالنا!؟, ما اردت اثارته في هذه المقدمة القصيرة هو اشكالية التفاعل بين العلم والادب والفن , صاحب التحليل النفسي فرويد يكافح من أجل البقاء في بيئة أكاديمية ولم يبد اي اعجاب للسريالية بالرغم من اخلاص السرياليون المعلن لأفكاره بل واعتباره قديساً لهم!.
من الجدير بالذكر هنا (والبعض قد يرى من الغريب) ان فرويد لم يكن مهتماً او شغوفاً بالفن السريالي والسرياليين بل كان مهتماً بالفن والادب الكلاسيكي المحافظ عموماً لذلك لم يكن متأثرًا إلى حد كبير بالتطورات الطليعية. اعتبر ان السرياليين يستخدمون مفاهيم التحليل النفسي بطريقة غير مناسبه ولايمكن استخدامها في قصيدة او لوحة من خلال العودة الى " اللاوعي " وهدف التحليل النفسي هو العكس تماماً وهو جعل " اللاوعي " واعياً!. هنا يتفق تروتسكي مع فرويد حين تحدث الى بريتون اثناء زيارة الاخير الى المكسيك قائلاً : "أنت تستحضر فرويد، وهو يفعل العكس؟ فرويد يرفع اللاوعي إلى الوعي,وانت تحاول خنق الوعي تحت اللاوعي!."
كان اندريه بريتون صاحب البيان السريالي الشهير من بين أوائل المثقفين في فرنسا الذين قدروا أهمية عمل فرويد ولفتوا الانتباه إليه, كان يعتقد أن التحليل النفسي يمكن استخدامه ليس فقط لعلاج الأمراض العقلية، ولكن لتغيير الحياة بشكل عام , هذا الاعتقاد لم يأتي من فراغ او تفكير او خيال خصب ابداعي! , ففي العام 1916، عمل بريتون كمساعد طبي في مركز الطب النفسي في سان ديزييه حيث كان على اتصال بالمرضى العقليين الذين تم إجلاؤهم من الجبهة. وهنا سمع لأول مرة عن التحليل النفسي وبدأ في قراءة أعمال فرويد. قام بتسجيل هلوسات المرضى وتجاربهم الوهمية وحاول بعد ذلك "تفسيرها" بالاعتماد على مبادئ التحليل النفسي. بعد الحرب، جرب بريتون مع دادائيين آخرين ما أصبح يُعرف بالكتابة التلقائية, وهي عبارة عن الكتابة بسرعة دون التوقف لإعادة القراءة أو التصحيح، أو الكتابة أثناء حالات النشوة المستحثة ذاتيًا، أو تسجيل الظواهر التنويمية التي تحدث قبل النوم مباشرة. بعد عدة سنوات، استخدم بريتون، الذي كان في ذلك الوقت زعيمًا معترفًا به للسرياليين، مادة الأحلام الفعلية في شعره و"تفسيراته" الغنائية. بعض الأعمال السريالية المبكرة عبارة عن تسجيلات لأحلام الفنانين والكتاب، ولفترة من الوقت كانت هناك وكالة في باريس لجمع الأحلام من عامة الناس.
في تاريخ السريالية والسرياليين هناك حدثين مهمين شكلتهما زيارتين لأشهر سريالييّن لقديسهم الروحي فرويد , وهما زيارة بريتون و زيارة دالي , الاولى زادت القطيعة بين فرويد والسريالية والسرياليين والثانية ردت الاعتبار لهم واجبرت فرويد على اعادة النظر فيهم.
بريتون و فرويد ....
تراسل بريتون لأول مرة مع فرويد في عام 1919، وقام بزيارته في عام 1921.
ففي العام 1921، قطع بريتون شهر العسل للسفر إلى فيينا وزيارة فرويد، وظهر على عتبة دار الأخير دون دعوة. لقد كان لقاءً كارثيًا بالنسبة لبريتون: فقد كان فرويد مهذبًا ولكنه منعزل وغير مهتم، وهو ما اعتبره بريتون رفضًا مؤلمًا، ونشر بعد ذلك وصفًا لاذعًا عن لقائه مع "الرجل العجوز الذي يفتقر إلى الأناقة" في "مكتبه المتهالك الذي يليق بطبيب الحي".
مع ذلك، أثنى بريتون على فرويد في بيانه الأول للسريالية عام 1924، لكن العلاقات ظلت متوترة: ففي عام 1932 نشر بريتون كتابه الشهير التداعي الحر (Les Vases Communicants) اعترض فرويد على بريتون باقتباس بعض افكاره واعماله عن الاحلام.
دالي و فرويد ....
قبل وقت قصير من وفاته التقى فرويد بدالي وقاده هذا اللقاء إلى إعادة النظر في وجهة نظره حول السرياليين.
كان الفنان السريالي الإسباني سلفادور دالي منذ فترة طويلة تعود لأيام الدراسة معجبًا بالمحلل النفسي سيغموند فرويد. فقد أجرى بحثًا مكثفًا في نصوص فرويد التحليلية حول الخفايا الدفينة للعقل البشري، كالأحلام، والجنس، والعقل الباطن,وكان كتاب فرويد تفسير الأحلام، 1889، هو الذي أطلق العنان لخيال دالي، وقاده إلى تشكيل افتتان عميق الجذور بصور غريبة ومخيفة مأخوذة من أحلامه وتخيلاته. كان دالي مهووسًا بفرويد لدرجة أنه كان يحلم بلقائه حتى انه أجرى محادثات خيالية معه!, هذا يعني أن دالي كان يتوق ويحلم بفرصة لقاء فرويد لسنوات عديدة، وفي العام 1938، تحقق حلمه. التقى دالي وفرويد في لندن مرة واحدة فقط، وكان لقاءهما تجربة غريبة وغير متوقعة لكليهما. ولكن ما الذي حدث بالضبط خلال هذا الاجتماع المصيري بين الفنان المهووس والمغرور وعالم التحليل النفسي المنعزل ؟.
بداية هذا اللقاء ماكان ليتم لولا مساعدة الصديق المشترك لهما الكاتب النمساوي شتيفان تسفايغ الذي حضر ورتب هذا اللقاء واقنع فرويد به.
تهيأ دالي جيداً لهذا اللقاء , فأحضر معه إحدى لوحاته الأكثر تفصيلاً وتعقيدًا - "تحول نرجس"، 1937 ( Metamorphosis of Narcissus), أضافة إلى اللوحة، أحضر له مقالاً في مجلة كان قد كتبه عن جنون العظمة ,كان يريد ان يبهر فرويد بحضوره كمثقف وفنان عالمي ناشداً ان يأخذه فرويد على محمل الجد كباحث وفنان واخيراً كزميل وكان دالي حينها في اوائل الثلاثينيات من عمره!.
قدم لوحته أولاً آملاً ان تنال موافقة فرويد واستحسانه , علق فرويد ببرود كعادته قائلا: "في اللوحات الكلاسيكية أبحث عن اللاوعي، ولكن في لوحاتك أبحث عن الوعي"، لم يعرف دالي بماذا يجيب على هذا التعليق المبهم، لكنه اعتبر الملاحظة بمثابة إهانة شخصية وانتقادا مزعجاً وبداية غير موفقة.
ثم اشار دالي الى المجلة التي كتب فيها مقالته , لكن فرويد "واصل التحديق بي دون أن يعير أدنى اهتمام لمجلتي" كما صرح غاضباً دالي في لقاء متلفز!.
لسوء الحظ، أصيب دالي بخيبة أمل في هذا اللقاء، والذي لم يسر كما كان يأمل. ربما بعد سنوات من التخيل بشأن اتحادهما، فقد لاحظ ان المحلل النفسي عامله كعينة نفسية، وهو يحدق فيه بتعجب موضوعي قبل أن يقول لزفايج: "لم أر قط مثالًا أكثر اكتمالًا للإسباني. يا له من متعصب , لا غرابة ان هناك في اسبانيا حرب أهلية!".
حين عاد دالي من هذا اللقاء خائباً رسم بورتوريت سريالي لرأس فرويد وانتشى صارخاً : لقد اكتشفت في تلك اللحظة السر المورفولوجي لفرويد! جمجمة فرويد هي الحلزون! دماغه على شكل حلزوني، يُستخرج بالإبرة . ادعى دالي في مذكراته أن مصدر الإلهام للصورة جاء بينما كان يأكل القواقع في أحد المطاعم في فرنسا، ولاحظ صورة فرويد في إحدى الصحف , وكان يأمل ارسالها الى فرويد كهدية , الا ان شتيفان تسفايغ الصديق المشترك اعتقد أن الصورة لا تشبه الحلزون بل جمجمة، وهي رمز لموت فرويد الوشيك. وربما لهذا السبب، لا يوجد سجل يشير إلى أن الصورة ارسلت او شاهدها فرويد.
رغم خيبة الامل في هذا اللقاء الا ان محصلتها النهائية كانت سريالية كسخرية القدر ذاتها , خرج فرويد من هذا اللقاء معجباً بشكلٍ غريب بالفنان الإسباني الشاب., لذا كتب الى تسفايغ شاكراً :
لدي حقًا سبباً لأشكرك على جهودك التي جلبت لي زائر الأمس. لأنني حتى ذلك الحين كنت أميل إلى النظر إلى السرياليين - الذين اختاروني على ما يبدو قديسًا لهم - على أنهم مهووسون لكن ذلك الشاب الإسباني، بعيونه الصريحة والمتعصبة، وبراعته الفنية التي لا يمكن إنكارها، جعلني أعيد النظر في رأيي!.
ولكن هذا الاعجاب لم يطول فبعد اقل من عام يرحل فرويد عن عالمنا تاركاً السرياليين في حيرة من أمرهم : هل كان هو زحل الذي يلتهم ابنه* خوفًا من نبوءة بأنه سيطيح به !, ام قديساً غاضباً اجبره شبح الموت على الاعتراف بهم .
* زحل يلتهم ابنه (Saturn Devouring His Son)هي لوحة للفنان الإسباني فرانسيسكو غويا. يعتبر تقليديًا تصويرًا للأسطورة اليونانية عن تيتان كرونوس، الذي أطلق عليه الرومان اسم زحل، وهو يأكل أحد أبنائه خوفًا من نبوءة جايا بأن أحد أبنائه سيطيح به. العمل هو واحد من بين 14 لوحة تسمى "اللوحات السوداء" التي رسمها غويا مباشرة على جدران منزله في الفترة ما بين 1820 و1823.
https://en.wikipedia.org/wiki/Saturn_Devouring_His_Son
#عامر_سليم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟