|
جرائم أجاثا كريستي ، اللبنانية
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1750 - 2006 / 11 / 30 - 11:22
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
1 كل إغتيال يُعدّ جريمة ، ولكن العكس ليس صحيحاً بطبيعة الحال . الإغتيال ، عموماً ، مصدرٌ للفعل المؤتلف بغاية سياسية ؛ وعلى الرغم من أنه ، قاموسياً ، يعني ببساطة ، القتل . ومهما تكن غاية الجريمة فإن مرتكبها ، بالبساطة نفسها ، يوصمُ بالقاتل ؛ سواءً بسواء أكان الأمرُ متعلقاً بالعقيدة الدينية أو السياسية . وربّ متفذلك ، سيطلع علينا بفلسفة أنّ السياسة موجودة في حيواتنا جميعاً ، نمطاً ومسلكاً وغاية . إلا أنّ هذا المعنى ، على واقعيته ، لا يعني مرامينا هنا . الجريمة السياسية ، عادة ً ، تقع في وضح النهار وبطريقة علنية ، منزهة عن الإخبات والتخفي : فالمجرم ، في الحالة الموصوفة ، يبغي إعلان قضية ما ، على الملأ ، وعبْرَ رصاصاته المُسددة نحوَ هدفها المحدد . إن الحرب العالمية الأولى قد إستهلت ، كما هوَ معروف ، بحادثة القضاء على حياة وريث العرش النمساوي وبمقتضى جريمة إغتيال سياسيّ ، كانت مجرياتها واضحة وعلنية ؛ علاوة على غايتها . بيْدَ أنّ إغتيالات اخرى ، على الأهمية عينها ، ظلتْ ملفاتها مركونة في ظلام الأدراج البيروقراطية ، ما فتأ القاتلُ طليقاً غيرَ محدد الهوية : كما في مثال شخصية عالمية ، مشهورة ، بحجم أولوف بالمة ، رئيس الوزراء السويدي ، القتيل ؛ الذي مرّ هذا العامُ لا مبالياً على ذكراه العشرين ، شبه المنسية .
2 ثمة دلائلٌ عديدة ، مُفيدة ٌ بانّ إغتيال الرئيس رفيق الحريري ، وبالرغم من كونه جريمة سياسية بإمتياز ، فإنه خصوصاً ذو ملمح جنائيّ بحت ؛ متمثل بهدف أحاديّ ، وهوَ إزاحة عقبة كأداء من طريق القاتل . هذا الأخير ، على الأرجح ، ما كان في لحظة التخطيط للقتل في وارد التفكير بضحاياه الآخرين ، المتساقطين منذئذٍ وتباعاً على يديه . وما كان ، بهذه الحالة ، ليخطر لمجرمنا أنه سيضحي ذلك " القاتل التسلسلي " ؛ المنعوت في المصطلح المستلّ من عالم الجريمة . ولكن طريقَ جهنم ، كما يقال ، مبلط ٌ بالنوايا الحسنة : هدفنا لم يكن ليتجاوز الرقم 1 ، المنذور للوزير الأول ، الحريري ؛ ولا أعلم كيف إنتهى بالرقم 6 ، مع الجميّل الإبن ، وزير الصناعة ! .. ـ يفكرُ القاتلُ محتاراً . هيَ ذي إذاً جرائم ستة ، متسلسلة ، مرتكبة في مساحة زمنية محدودة ، وفي مكان واحد أيضاً . وبغض الطرف هنا ، ظرفياً ، عن الغرض من تلك الجرائم ، فإن كونها إغتيالات سياسية طالتْ رموز تيار لبنانيّ ، ( حركة 14 آذار ) ، معادٍ للنظام السوري ؛ جعلَ هذا الأخير في موضع المتهم ، منذ وهلة الجريمة ، الأولى ، وحتى تلك الأخيرة . غيرَ أنّ هذا الخصمَ ، وبصفة عنجهيته وجبروته ، لا يقرّ بالتهمة أبداً . وبما أنّ " المتهم بريء حتى تثبتَ إدانته " ، كما تقرّ المقولة القانونية ، فلا غنى عن الإصغاء للصوت الآخر ، المخالف لذلك الرأي الجازم بتجريم نظامنا السوريّ ، العتيد : فتحت صورة تضم قادة 14 آذار وهم يشيّعون رفيقهم بيير أمين الجميّل ، ثمة مانشيت عريض ، " القتلة في الجنازة " ، يتصدّر صحيفة " الثورة " السورية ، الرسمية ( يوم الجمعة 24 / 11 ) . ومن مجتزأ تفصيل الخبر ، ننقل عن محرر الصحيفة قوله : " الذين تنبأوا بعمليات الإغتيال ويعرفون بأمرها ويكررون ذلك للعالم ، لا يتحدثون عمن فعلها (...) ببساطة لأنهم هم من يفعلها وفعلها سابقاً (...) والأهم من ذلك أنهم فعلوا كل الجرائم السابقة بذات الأسلوب ولحساب ذات الجهة المعروفة (...) ومنهم السجين القاتل الذي يعمل الآن سفيراً للمصالح الإسرائيلية في بيروت " .
3 لنتجاوزَ ، أيضاً ، الخزعبلة العشوائية المنتهية بها إفتتاحية صحيفتنا ، السورية . ما يهمنا هنا ، هوَ إتجاه إصبع إتهام المصدر المذكور ؛ هذا المُشير بلا لبْس ٍ نحوَ أهل الضحية بالذات ، بوصفهم المجرم الجاني ، المستتر ، القابع وراء كل قتيل ؛ من الحريري الأب إلى الجميّل الإبن . وبعيداً عن أيّ تأويل سيء ، لا بدّ لنا من التساؤل عما إذا كان سَدنة ُ الصرح القرداحيّ ، المقدس ، قد طالعوا الغيبَ بوساطة الكهانة والتعزيم ، أو بمساهلة أكثر قد إطلعوا على إحدى روايات أجاثا كريستي ، الكاتبة البريطانية ؟؟ .. الرأي الأخير ، الروائيّ السِمَة ، مرجحٌ لدينا بعلامة " سورياليته " المكتنفة واقعية الحادثة المودية بحياة بطل حكايتنا الأول ؛ الحريري ، وما تبعها من أحداث ، دموية ، عصفتْ بحيوات الآخرين من أقرانه ، الإستقلاليين : نحن هنا إذاً ، أمام مقاربة لرواية كريستي " صرخة في العتمة " ، ( كما تستعيدها ذاكرتي الواهنة ) ، المحبوكة حكايتها على سلسلة من جرائم القتل ، المرتكبة في إحدى محميات " السافاري " ، الساحرة . وفضلاً عن الصفة الأخيرة ، المُحيلة لطبيعة لبنان الخلابة ، فثمة الجانب الجنائيّ من الحكاية والمفصحة عنه خاتمتها المنتهية بالكشف عن المجرم ؛ حال جميع النهايات ، المعهودة ، للقصص البوليسية . فما كان القاتل ، الجاثم وراء مُشكل كلّ جثة لضحاياه ، سوى منظم تلك الرحلة بالذات ولهدف محدد ؛ متمثل برغبته الإنتقام من رفاقه أولئك ، وعلى خلفية حدثٍ قديم . ولكي تتناهى الإثارة بالسرد ، تركتنا الكاتبة البريطانية الفذة وجهاً لوجه بمقابل عضوَيْ الرحلة ، الأخيريْن المتبقييْن على قيد الحياة : البطل والبطلة ! وفي غمرة مظانه وهواجسه ، تفجأ صرخة ٌ متناهية من العتمة ، العميقة ، بطلنا هذا . وحينما يبادر إلى الهروع لمصدرها ، يكون قد وصل في الوقت المناسب لإنقاذ حبيبته ، المتوحدة ، من براثن القاتل : هذا الأخير ، ما كان سوى ضحية ، مزعومة ، مثلتْ دورَ مقتلها في بدء الرحلة ، مماهاة لحقيقتها الإجرامية من جهة ، وبهدف المضيّ قدماً في مشروع القتل التسلسليّ ، من جهة اخرى .
4 مع كل ما نكنه من الإحترام لذكرى الرئيس الحريري ، والذي تستحقه بحق ، وجدنا أنفسنا مضطرين لعقد مقارنة بين حكاية إستشهاده ورفاقه الآخرين ، وبين تلك الرواية " الكريستية " ، آنفة الذكر . وتشديدنا على مفردة " الإضطرار " هذه ، عائدٌ لما أشرنا إليه في المقطع السابق ، عن إحتمال توصل أهل نظامنا السوريّ إلى " الحقيقة " ، فيما يخصّ مغامض الجرائم المبتليَ بها لبنان ؛ وربما بناءً على مطالعتهم ، المفترضة ، لرواية الكاتبة البريطانية تلك ، البوليسية . لقد إسترعى إنتباهنا " البواريّ " ( نسبة إلى المحقق " بوارو " ، بطل رواية كريستي ) ، أنّ جميع الجرائم تلك ، كان ضحاياها من المسيحيين ؛ بإستثناء أولها : رفيق الحريري ، المسلم السني ! .. ومما عزز يقيننا هنا ، أنّ أحدَ المحسوبين على أهل النظام السوري ، كان قد توصل بدوره إلى مماحكة فكرية ، فيها ما فيها من إشارات ملتبسة حيناً ، وغالباً صريحة ، عن مرامي قادة حركة 14 آذار . وها هوَ يوصّف الحالة اللبنانية الآنية ، في معرض حديثه عن ذكرى سمير قصير : " وليس بدون مغزى ودلالة عميقة ، في هذا السياق ، أن سمير قصير كتب مقالاً قبيل إغتيال رفيق الحريري ببضعة أيام رهن فيه نجاح المعارضة في التخلص من نظام الوصاية الأمني ـ المافيوي بإلتحاق الحريري بمعارضة البريستول ! هذا على الرغم من أن سمير قصير كان يدرك جيداً ( وستكون كارثة لو أنه لم يدرك ) أن الأفق المطلق للشهيد الحريري لم يكن له أن يتجاوز تكريس نفسه زعيماً سنياً بلا منازع لطائفة طالما نظرت إلى نفسها ، منذ سنوات طويلة ، على أنها " طائفة يتيمة الزعامة " ( من مقالة لنزار نيوف : ثورة سمير قصير المغدورة والتيرميدور اللبناني ـ منشورة في بعض المواقع الإنترنيتية بتاريخ 5 / 6 / 2006 ) .
5 لم يكن بودنا الحديث عن المعجزات والخوارق ، المُستلهمة مآثر إعلامنا السوريّ الأخرق ، فيما يخصّ جرائم أجاثا كريستي ، اللبنانية ، إلا لكونها أمراً جللاً أضحى مرهوناً له مصيرا البلدين الجارين ، الشقيقين . لنبحثَ إذاً عن القاتل أياً كانت هويته ـ حتى لو كان شهيداً ! ـ رفقا بموطن الأرز أولاً : الموطن الذي أنزلتْ به النكبات المتوالية ، منذ لحظة خروج قواتنا الباسلة ، ومخابراتنا المستبسلة أيضاً ، عن أراضيه الساحرة ؛ خروجنا من جنةٍ ، آمنا وصدقنا بأنها مخلدة لنا نهباً وسلباً وإبتزازاً وغسيلَ أموال وتجارة مخدرات .. لنبحث معاً عن القاتل ذاك ـ حتى لو كان سريلانكياً ! ـ رحمة ً بهذا الموطن مما يُدبّر له في السرّ ، من حرب أهلية طاحنة على غرار عراق ما بعد صدام ؛ بعدما دُبّرَ له في الجهر حرباً مدمرة ، في 12 تموز الجاري ، تحت مسمى " مقاومة " .. بحثاً ، كي ينفرط عقدُ الحكومة اللبنانية الحالية ، فنستبدلها بـ " حكومة الوحدة الوطنية " ، المرسخة سلاح الطائفة ، المختارة ، ليكون من أولى واجباتها منع إنعقاد المحكمة الدولية بشأن جريمة إغتيال الحريري .. بحثاً ، من أجل إنعقاد المحكمة السورية ، الخاصة بالشأن نفسه ، وكانت قاب قوس من إعلان إسم قاتل الحريري ـ حتى لو كان اللواء المنتحر ، غازي كنعان ! ـ لولا إضطرارنا لقتل المزيد من اللبنانيين بعد إنتحاره ؛ محكمتنا الوطنية ، التي كادَ أولادُ الحرام أن ينسونا وجودها ..
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحزب الإلهي وأولى ثمار الحرب الأهلية
-
ناصر 56 : الأسطورة والواقع
-
رحلاتٌ إلى مَوطن الجرْمان 3 / 3
-
النظامُ القرداحيّ والقرون اللبنانيّة
-
رحلاتٌ إلى مَوطن الجرْمان 2 / 3
-
صدّام ؛ صورٌ شخصيّة للطاغيَة
-
مشاهدات : جولة في دمشق العثمانيين 2 / 2
-
مشاهدات : جولة في دمشق العثمانيين 1 / 2
-
رحلاتٌ إلى مَوطن الجرمَان 1 / 3
-
الحارَة ؛ بابُها وبشرُها
-
مشاهدات : جولة في دمشق صلاح الدين 2 / 2
-
زبير يوسف ؛ في منحَتِ الحَديد والتحدّي 2 / 2
-
مشاهدات : جولة في دمشق صلاح الدين 1 / 2
-
زبير يوسف ؛ منشدُ الأزمان القديمة
-
إسمُ الوردَة : ثيمة الجريمة في رواية لباموك
-
أورهان باموك والإشكالية التركية
-
معسكراتُ الأبَد : شمالٌ يبشّر بالقيامَة 2 / 2
-
العثمانيون والأرمن : الجينوسايد المتجدد
-
غزوة نوبل ، العربية
-
معسكراتُ الأبَد : إلتباسُ التاريخ والفنتاسيا
المزيد.....
-
آخر ضحايا فيضانات فالنسيا.. عاملٌ يلقى حتفه في انهيار سقف مد
...
-
الإمارات تعلن توقيف 3 مشتبه بهم بقتل حاخام إسرائيلي مولدافي
...
-
فضيحة التسريبات.. هل تطيح بنتنياهو؟
-
آثار الدمار في بتاح تكفا إثر هجمات صاروخية لـ-حزب الله-
-
حكومة مولدوفا تؤكد أنها ستناقش مع -غازبروم- مسألة إمداد بردن
...
-
مصر.. انهيار جبل صخري والبحث جار عن مفقودين
-
رئيس الوزراء الأردني يزور رجال الأمن المصابين في إطلاق النار
...
-
وسيلة جديدة لمكافحة الدرونات.. روسيا تقوم بتحديث منظومة مدفع
...
-
-أونروا-: إمدادات الغذاء التي تدخل غزة لا تلبي 6% من حاجة ال
...
-
رومانيا: رئيس الوزراء المؤيد لأوروبا يتصدر الدورة الأولى من
...
المزيد.....
-
لمحات من تاريخ اتفاقات السلام
/ المنصور جعفر
-
كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين)
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل
/ رشيد غويلب
-
الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه
...
/ عباس عبود سالم
-
البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت
...
/ عبد الحسين شعبان
-
المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية
/ خالد الخالدي
-
إشكالية العلاقة بين الدين والعنف
/ محمد عمارة تقي الدين
-
سيناء حيث أنا . سنوات التيه
/ أشرف العناني
-
الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل
...
/ محمد عبد الشفيع عيسى
-
الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير
...
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|