أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - عبدالرحيم قروي - من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر24















المزيد.....


من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر24


عبدالرحيم قروي

الحوار المتمدن-العدد: 7888 - 2024 / 2 / 15 - 00:49
المحور: الارشيف الماركسي
    


أصول الفلسفة الماركسية
الجزء الأول
تأليف جورج بوليتزر، جي بيس وموريس كافين
الحلقة الرابعة والعشرون

ميزَة النزعَة المادّية الماركسيَّة الثانية
المادة سَابقة عَلى الوَعي
--------------------------------------
1 – حيلة جديدة مثالية
2 – النظرة الماركسية
أ) موضوعية الكينونة
ب) الوعي انعكاس للكينونة
3 – الفكر والدماغ
4 - درجتا المعرفة
5 – خلاصة
-------------------------------------
1 ـ حيلَة جَديدَة مثاليَّة
رأينا في الدرس السابق أن نزعة الدين المثالية قد حاربها تطور العلوم منذ عصر النهضة، وأنها تداعت في القرن الثامن عشر تحت ضربات النزعة المادية. فظهرت عندئذ صيغة جديدة للنزعة المثالية لتحل محل النظرة التي أخذت بالأفول.
ونجد هذه الصيغة إلى أيامنا عند عدد من الفلاسفة. وهي من صنع الراهب الإنجليزي باركلي (1685 ـ 1753).
وتهدف هذه النزعة إلى تقويض الأهمية النظرية للاكتشافات العلمية وذلك بمحاولة البرهنة على أن المبدأ المادي في العالم لا وجود له. ولما لم يعد بالامكان، في ذلك العصر، القضاء على الماديين بالقائهم في النار كما كان الحال أيام "الاضطهاد الديني" فسوف يقضي على المادة نفسها بالسخرية من أنصارها وإظهارهم بمظهر السذج العاجزين عن "التفلسف"؛ ولهذا فسوف يقرر أن المادة وهم، وهكذا يُقضى على هذه الفلسفة التي تدعي الاعتماد على الواقع.
لن يُتفلسف منذ الآن فصاعدا الا حول موضوع "الوعي" وكل ما تجاوز حدود "الوعي" فهو ليس موضوعا فلسفيا.
ولم يكن باركلي يخفي الأسباب التي تعلو على الفلسفة والتي تعمل، حسب رأيه، من أجل هذه النظرة. فقد صرح قائلا:
"إذا ما ازيلت المادة من الطبيعة حملت معها الكثير من النظريات الشاكة (أي الملحدة) الكافرة، والكثير من المناقشات والمسائل المتشابكة.. لأن المادة قد شغلت الناس بدون طائل حتى أنه لو بدت الحجج التي نثيرها ضدها غير مقنعة تماما..، فلن يقلل هذا من اقتناعي بأن أصدقاء الحقيقة (أي النظرية الفكرية الإقطاعية). والسلام (أي النظام الإقطاعي) والدين لهم الحق في أن يتمنوا أن يُعترف بهذه الحجج على أنها كافية ".
كما صرح في موضوع آخر: "إذا قبلت هذه المبادىء ونُظر إليها على أنها صحيحة، قضي بذلك على نزعة الإلحاد ونزعة الشك تماما، وتوضحت المسائل الغامضة، وانحلت الصعوبات المعقدة، وعاد الناس الذين كانوا يلهون بالمتناقضات إلى الرأي العام ".
ولقد هاجم بار كلي، بتأثير جنونه المثالي، جميع الاكتشافات العلمية لا سيما "الحساب المتناهي في الصغر" في الرياضيات قائلا عنها أنها عبث وغير منطقية ومتناقضة.
ودراسة نظرية بار كلي مهمة لأنها تعبر جيدا عن جوهر النزعة المثالية الحديثة. فهي مصدر الرأي الشائع، في الجامعات البرجوازية، القائل بأن الرجل المادي مفكر فج كما أنها مصدر احتقار "الفلاسفة المثاليين للعلوم" و "لرجال العلم".
ولم يخطيء ديدرو، حول أهمية مذهب بار كلي الرجعية، حين قال عنه "بأنه أصعب الفلاسفة على من يريد محاربته وأن كان أكثرهم عبثا. وهذه لطخة عار للفكر الإنساني والفلسفة".
فكيف يعمل بار كلي للوصول إلى هدفه؟ عرف ديدرو النزعة المثالية التي أسسها بار كلي كما يلي:
"المثاليون هم أولئك الفلاسفة الذين لا يعون الا وجودهم والأحاسيس التي تتوالى في داخلهم فلا يعترفون بوجود شيء آخر ".
يجب إذن البرهنة على أنه لا يوجد شيء عدا وعينا وتصوراتنا وأفكارنا. فليس هناك من واقع "خارجي" وكل شيء عبارة عن تصورات عقلية خاصة بنا. حتى إذا ما قضينا على "الوعي" أو "الأنا" واختفى معه كل واقع.
وهكذا لا يمكن أن توجد الكينونة والطبيعة والمادة خارج الوعي، وعيي أنا، ومستقلة عنه. لهذا سُمي هذا الضرب من النزعة المادية بالنزعة المادية الذاتية.
ولنصغ الآن إلى بار كلي لنسمعه يقول: "ليست المادة ما نعتقده حين نفكر بأنها موجودة خارج تفكيرنا. نعتقد أن الأشياء موجودة لأننا نراها ونلمسها. ونحن نعتقد بأنها موجودة لأنها تمدنا بالأحاسيس."
ولكن أحاسيسنا ليست سوى أفكار كامنة في أذهاننا. ليست الأشياء التي ندركها بحواسنا إذن، سوى أفكار، ولا يمكن للأفكار أن توجد خارج ذهننا .
ويقول بار كلي: "ضع يديك في الماء الفاتر، ولتكن احدى يديك حارة والأخرى باردة. ألا يبدو الماء باردا بالنسبة لليد الحارة وحارا بالنسبة لليد الباردة؟ هل يجب إذن القول بأن الماء حار وبارد في نفس الوقت؟ أليس ذلك هو العبث ذاته؟ قل معي إذن الماء بذاته لا يوجد ماديا مستقلا عنا. فهو ليس سوى اسم نطلقه على أحاسيسنا. فالماء لا يوجد الا فينا، في ذهننا. المادة باختصار هي الفكرة التي نكونها عنها، فالمادة هي الفكرة!
وهكذا نرى السفسطة التي يصل بواسطتها بار كلي إلى تحقيق هدفه؛ فهو يستخلص من تعارض أحاسيسي ونسبيتها أن المادة غير موجودة، فهو ينسى أن يشير إلى أنه بسبب تعارض احاسيسي استخلص أن الماء فاتر. فإذا كان القمر يبدو تارة هلالا وتارة بدرا كاملا، هل ينتج عن ذلك أن القمر غير موجود في الخارج عنا، بل ينتج عن ذلك أن القمر موجود بأحوال تجعلني أراه بصورة مختلفة حسب كل حالة.
إذا قال لي أحد الناس أنه يرى قطعة من القماش الاحمر صفراء، لا استخلص من ذلك أن تلك القطعة لا توجد الا في ذهن كل منا، بل استخلص من ذلك أن هذا الشخص مصاب بمرض. وإذا بدا لي قضيب مكسورا إذا ما أدخل في الماء لا استخلص من ذلك أن هذه الظاهرة لا توجد ألا في وعيي، بل على العكس استخلص من ذلك أن انكسار الأشعة الضوئية في الماء ظاهرة موضوعية مستقلة عني.
وهكذا نرى أيضا علام يعتمد بار كلي في سفسطته: على الطريقة الميتافيزيقية في التفكير التي تزيل التعارض في الظواهر وتأثير الظواهر كل منها على الأخرى . فهو يرى أن التناقض لا يمكن أن يوجد الا في الذهن وليس في الواقع الموضوعي. ولهذا يبدو له أنه إذا كانت أحاسيسي متناقضة فما ذلك الا لأن الشيء الذي تمثله لا يوجد الا في ذهني وهو ليس سوى وهم وخيال كآلهة البحر التي تتكون من جسد أمرأة وذنب سمكة.
وهناك مسألة أخرى: فإذا كانت المادة غير موجودة فمن أين يمكن أن تأتي هذه الأحاسيس التي تنبعث "فينا" في كل لحظة؟ الجواب حاضر: الله هو الذي يرسلها ألينا. وهكذا يعود الراهب راهبا بعد رحلته في عالم "علم نفس الأحاسيس" فتأخذ نزعة باركلي الذاتية بيد النزعة المثالية الموضوعية القديمة التي كانت على وشك الزوال. فقد كان بار كلي يأمل بانقاذه "الإله" "الداخلي" أن ينقذ أيضا "الإله" التقليدي الخالق كما ينقذ اللاهوت بأجمعه.
وهكذا تتضح لنا أقوال بار كلي المشهورة:
"الكينونة أنما هي كينونة مدركة أو مدرَكة" ولكن لما كنت لا أعرف وجود الآخرين الا بواسطة الأحاسيس التي يمثلها لي "ذهني" ينتج عن ذلك بصورة منطقية أن الناس ليسوا سوى أفكار في ذهني. والخلاصة من ذلك أن الموجود الوحيد في العالم هو وعي.
ينكر باركلي أن يكون قد قال بهذه الخلاصة التي تسمى (solipsisme) (وهي الفرضية القائلة بوجود الذات لوحدها). ولكن ليس هناك من وسيلة لابعادها عنه إذا كان يريد أن يكون منطقيا مع نفسه؟ ويجب علينا أن لا نغفل الإشارة إلى أن النزعة المثالية، على عكس النزعة المادية الجدلية، لا يمكنها قط أن تكون منطقية مع نفسها لأنها تتراجع دائما أمام هذه الخلاصة غير المنطقية
ولقد حاولت النزعة المثالية الذاتية، بعد بار كلي، أن تتم بحث بعض التفاصيل وأن توجد ألفاظا جديدة تمعن في الغموض لبعث الحيوية فيها والارتفاع برصيد الفيلسوف المثالي! ولكن الطاحونة كانت تطحن نفس الحب.
يقول لينين: "لم يأت الفلاسفة المثاليون المحدثون بأية حجة ضد الماديين لا نجدها عند الراهب بار كلي .
يدل انتشار "فلسفات الذهن" و "الوعي" التي لا تؤمن بوجود المادة بل تعتبرها نتاجا ذهنيا عل استمرار النزعة المثالية الذاتية على طريقة بار كلي.
وهذه هي فلسفة البرجوازية الرجعية المحببة التي انتشرت في المدارس بعد قيام الكومون في باريس والتي تعبر عن خوف البرجوازية أمام ازدهار النزعة المادية وسط البروليتاريا. فإذا بالفلاسفة البرجوازيين يلبون نداء تيير الذي أرسله منذ عام 1848، ويحاولون بكل الوسائل إعادة الاعتبار للدين.
وهكذا يبدو الكون للاشوليه على أنه "فكرة لا تفكر بنفسها معلقة بفكرة تفكر بذاتها" وأما بوترو فهو يعتقد أن: "الله هو هذا الكائن الذي نشعر بفعله الخلاق في أعمق أعماقنا خلال جهودنا للاقتراب منه" ويقول هاملين "الواقع هو نتيجة "تركيب" يقوم به ذهننا".
وأما دوهيم فهو يرى أن النظريات العلمية ليست سوى "رموز" يبدعها الذهن الإنساني. ويقول برنشفيك "الذهن لا يجيب الا على الذهن" وأن تقدم العلوم يرجع لتقدم "الوعي " في الغرب. ولن نتحدث عن الأسياد الأقل شأنا من هؤلاء الفلاسفة.
وفي نفس الوقت تحيط "الفلسفة" نفسها بضرب من الأسرار. فلم تعد كلمة "فلسفة" تستعمل إلا كمرادف للنزعة المثالية الرسمية. حتى أن هناك من يدعي أن الاستعمال الحق لهذه الكلمة ليس في إمكان كل إنسان، إذ يجب إتقان معرفة تلاوة القداس المثالي. وتتعدد الكتب التي تحمل اسم "المدخل إلى الفلسفة" للرد على أولئك الذين لم تنفعهم حجج المثاليين والقول بأنهم ليسوا بالفلاسفة
ويمثل انتصار هذه "النكسة" الفلسفية فلسفة برجسون زعيم المثاليين البرجوازيين منذ 1900 ـ 1914 وقد تحدثنا عنه في الدرس السابق. وقد اعتمد برجسون على نظرية بار كلي دون أن يعترف بذلك فهو يؤكد في مطلع كتابه "المادة والذاكرة" أن العالم يتكون من صور، وأن هذه الصور لا توجد الا في وعينا، وأن الدماغ ليس سوى واحدة من هذه الصور.
نخرج من ذلك أنه بدلا من أن لا يوجد الوعي بدون "الدماغ" فأن الدماغ هو الذي لا يوجد بدون "الوعي" إذ أن الوعي "واقع مستقل" والدماغ هو في خدمة الفكر السابق عليه. فإذا ما أصيب الدماغ ظلت الذاكرة... في "اللاوعي". كما كانت تقول الديانات القديمة هناك روح صاف لا سند عضوي له.
ولقد دلل بوليتزر في الفصل الأخير من كتابه "نهاية استعراض فلسفي: البرجسونيه"، على المغزي التاريخي المادي لهذه الفلسفة الروحية.
فلقد قام برجسون عام 1914 وفلسفته الروحية بخدمة المستعمرين الفرنسيين فإذا به يعرض لنا الشعب الألماني كمادة خالية من الروح بعد أن لجأ الروح إلى ثنايا أعلام الاستعمار الفرنسي! كما نرى هذا "الفيلسوف" وقد تولاه الذعر أمام جروح الرأسمالية المحتضرة يجعل المسؤول عن ذلك النزعة الآلية وكتب يقول: "يمكن أن يؤدي تطور المدنية المادي، إذا ما اكتفى بنفسه ووضع نفسه في خدمة عواطف منحطة ومطامح شريرة، الى أرذل همجية".
وهذه نغمة من النغمات ضد النزعة المادية. وهكذا يقوم برجسون بدوره الفكري إلى جانب الرجعية ليصد الناس عن المشاكل الحقيقية ويقلل من شأن العلم.
وكان هوسرل المثالي يؤكد في نفس العصر في ألمانيا أن الوعي يوجد قبل وجود محتواه ويدعو من أجل ذلك باتباع "منهج فلسفي" يقوم على وضع العالم ومتناقضاته الموضوعية بين هلالين فبدلا من البحث عن أصل الوعي في الواقع يبحث عن أصل الواقع في الوعي. وتلك محاولة يائسة تعكس لنا قلق البرجوازية أمام عجزها عن السيطرة على تطور العلوم التي تضع باستمرار أمام النزعة المثالية مشاكل جدلية جديدة تستعصي على الحل. يعتقد هوسرل أن الجواب على المشاكل الفلسفية التي تثيرها العلوم يجب أن يكون استقلال وجود المادة أو عدم وجودها.
وآخر بدعة للنزعة المثالية هي وجودية هيديجر الألماني وزملائه الفرنسيين (ومن بينهم جان بول سارتر). "والوجود" الذي تتحدث عنه هذه الفلسفة ليس سوى "الوعي الوجودي". وهذا الوعي هو الواقع الوحيد. أما الكينونة والمعرفة العلمية والمعطيات الموضوعية والأفكار التي تعكسها فهي لا قيمة لها. إذ يجب على الأفكار العقلانية أن تختفي أمام "الوجود".
ولا شك أن هذا "الوجود" يحدده "وضع معين" لأن الإنسان يعيش "في وضع معين" غير أن هذا الوضع لا يحدد وعي الإنسان، بل وعي الإنسان هو الذي يحدد وضعه. لأن كل وضع يرجع في النهاية إلى وعي هذا الوضع: ويمكن في كل لحظة أن يكون لنا الوعي الذي نريده، إذ يمكن "أن يختار المرء نفسه". نستخلص من ذلك أن السجين في خليته أكثر حرية من السنونوة في الربيع لأنها لا "تشعر" شعورا وجوديا بحرمانها من الحرية! وهكذا يسخر الوجود من الكينونة، ومن المعطيات الموضوعية لأنه مستقل عنها. ولا توجد المادة إذا ما استطعت عدم الشعور بوجودها. فإذا لم يختر العالم نفسه عاملا فهو ليس بعامل!
وسواء كانت هذه "الفلسفات" ملحدة أم لم تكن فأنها تساعد على انتشار النزعة العينية لأنها تنكر أن يكون العلم ضروريا لحل المشاكل الاجتماعية، وليست المشكلة إذن هي مشكلة الرأسمالية أو الاشتراكية بل هي معرفة ما إذا كان العامل سيختار نفسه ثورياً أم لا. ولهذا لا تشتد الكنيسة في محاربة هذه الفلسفات أو هي لا تحاربها البتة فتسمح ببقاء فلسفة برجسونية مسيحية وفلسفة وجودية مسيحية. كما أنها تستخدمها لتتخذ طابعا تقدميا ولتحول المفكرين المسيحيين عن التفكير الفلسفي حول التناقضات الشخصية في العقيدة الدينية أو التفكير بالعلوم والنزعة المادية. أما الاشتراكية الديمقراطية فهي تستغل النزعة المثالية الذاتية لتشويه الماركسية.
2 – النظرية الماركسية
تعتمد النزعة المادية الفلسفية الماركسية على المبدأ القائل بأن المادة والطبيعة والكينونة هي وقائع مادية موجودة خارج الوعي ومستقلة عنه. وهي بذلك تعارض النزعة المثالية التي تؤكد بأن الوعي وحده موجود حقاً وأن العالم المادي والكينونة والطبيعة لا توجد إلا في وعينا وفي أحاسيسنا وتصورتنا.
كما تقول النزعة المادية أن المادة معطى أولى لأنها مصدر الأحاسيس والتصورات والوعي، بينما الوعي هو معطى ثان، لأنه انعكاس المادة والكينونة، وأن الفكر نتاج المادة متى بلغت هذه المادة في تطورها درجة عالية من الكمال. وأن الفكر بصورة أدق هو ثمرة الدماغ. يقول ستالين: "والدماغ هو عضو الفكر، ولهذا لا يمكن فصل الفكر عن المادة وألا ارتكبنا خطأ جسيمًا .
وهكذا يضع ستالين فرضيتين أساسيتين عن النظرية الماركسية للمعرفة: الكينونة واقع موضوعي، والوعي هو انعكاس ذاتي لهذا الواقع. وهو يشير من ثم إلى أن النزعة المادية تثير مشكلة مصدر الفكر خلال تطور الكائنات الحية، ومشكلة العلاقات بين الفكر وبين الدماغ. ولا شك أن الدراسة العلمية لهذه المشكلة لا يمكن أن تؤدي إلا إلى تدقيقات جديدة في نظرية المعرفة. فلنبحث هذه المسائل المختلفة.
أ) – مَوْضُوعيَّة الكَينُونَة
رأينا "في الدروس السابقة أنه لا يجب الخلط بين النظريات العلمية عن المادة ـ تلك النظريات التي تتطور وتتعمق ويزداد غناها كلما ازدادت جدليتها، لأن ميزات المادة لا تنضب ـ وبين الفكرة الفلسفية عن المادة التي هي أساس كل عمل فلسفي وكل معرفة والتي لا يمكن أن تعتريها الشيخوخة .
ولقد حان الآن الوقت لتحديد المفهوم الفلسفي للمادة: المادة هي مقولة فلسفية تستخدم للدلالة على الواقع الموضوعي الذي يجده الإنسان في أحاسيسه التي تنسخه وتصوره وتعكسه دون أن يكون وجوده متعلقا بوجودها.
ويقول لينين في موضوع آخر: "يوجد الواقع الموضوعي مستقلا عن الوعي الإنساني الذي يعكسه ".
وهكذا لا يُرجع لينين الواقع إلى ما ندركه عنه كما كان يفعل باركلي بل هو يفسر ما ندركه من الواقع بالواقع نفسه.
تبدو النزعة المثالية كأنها موقف رجل يعتقد أنه وحيد في العالم وأن لا شيء يوجد مستقلا عنه فهو يفسر كل شيء بسذاجة اعتماداً على حالاته النفسية. فإذا بالعالم يصبح عالمه.
وهي سذاجة مزدوجة تكتفي بنفسها بصورة عجيبة كما لو أنه لم تكن هناك حاجة للخروج عن الذات للمعرفة!. وهو موقف من لديه الجواب على كل سؤال، كما لو كان "حكمة" الشريعة والأنبياء، ذاك يتخذ من وعيه معياراً لكل واقع والذي يحدد للنوع البشري حداً لايتخطاه، هو الحد الذي يقف عنده وعيه. ولقد أدى تطور العلوم منذ عدة قرون إلى الكشف عن جوانب للواقع لا مجال للشك فيها، وان القول بأن العالم لا يحتاج إلى وعينا والى رخصة المثاليين في وجوده، يعبر عن نظرة العلوم الدائمة التي تنادي، بهذا الصدد، بنزعة مادية تلقائية بوجود واقع موضوعي خارج عن الوعي. فإذا كان العلم يكتشف باستمرار ميزات جديدة للمادة فما ذلك إلا لأن المادة لا توجد في داخلنا بل في الخارج.
وليس هناك من يشك في أن الجراثيم كانت موجودة قبل اكتشافنا لوجود الأمراض التي أتاح اكتشاف جراثيمها وشفاءها.
ولا شك أنه قد مضى زمن لم تتوفر فيه على سطح الأرض جميع الأسباب التي يتطلبها وجود الكائن الحي، ويعترض المثاليون على ذلك بقولهم: "ما معنى الوجود بدون الوعي" إذا كان الوعي هو الذي يتمثل وجود العالم بدون الإنسان وقبل الإنسان؟ ما معنى وجود أميركا قبل أن تراها عين كريستوف كولومبس إذا كان الوعي هو الذي يتخيل هذا الوجود السابق؟ فلا توجد الصحراء القاحلة بدون الوعي لأن الوعي هو الذي يتصورها لنا".
ولقد أجاب لينين، منذ زمن طويل، بأن نظرية المعرفة تقوم على معرفة التمييز بين وجود الإنسان الواقعي الحاضر في العالم في ظروف زمانية ومكانية وبين وجود الفكر الخيالي ووجود الوعي الملحق عقلياً بتمثل العالم الموجود حقا قبل الإنسان وبدون الإنسان. أن عدم التمييز هذا يدل على انعدام الفلسفة.
وليس هناك من يشك بأن حياة المجتمع المادية توجد مستقلة عن وعي الناس لأنه لا الرأسمالي ولا العامل سيتمنيان الأزمة الاقتصادية التي لا بد من حدوثها.
ويعمل قانون القيمة الذي يقول بأن كمية العمل التي تحتوي عليها بضاعة معينة تبدو بواسطة القيمة، منذ بداية الإنتاج التجاري، بالرغم من أن ريكاردو الاقتصادي لم يكتشفه الا في القرن التاسع عشر.
كما أن النضال بين البرجوازية وطبقة النبلاء هو واقع منذ بداية عهد البرجوازية؛ ومع ذلك لم يكتشف هذه الحقيقة ويعبر عنها المؤرخون البرجوازيون أمثال جيزو ومينيه وتيير الا في القرن الثامن عشر.
ماذا نقول إذن عن مثل هذا التأكيد المثالي: "كل ما لا تفكر به هو عدم صرف... ليست الطبيعة هي التي تفرض علينا تصور المكان والزمان بل نحن الذين نفرضهما على الطبيعة . سوى أن جهل المفكرين البرجوازيين الأساسي بصدد النزعة المادية الجدلية يسمح لهم بأدعاء مثل هذه الفرضيات.
ولا شك أنه ربما بدا لمن لا يملك المنهج الفلسفي أن الطبيعة، والكينونة والمادة تعكس فكر الإنسان الذي يفرض عليها ضرورياته، مثال ذلك أنه بعد بناء سد من السدود تعكس الطبيعة التخطيط الذي تصوره المهندسون. وهكذا يخضع السيل لإرادة الإنسان. فهل يعني هذا أن قوانين الطبيعة قد انتهكت أو تبدلت أو أزيلت أو أنها لا توجد مستقلة عن الوعي الإنساني وأنها بدون الوعي تزول؟
لقد اتخذت جميع هذه الإجراءات، على العكس من ذلك، على أساس قوانين الطبيعة والقوانين العلمية لأن كل خروج على قوانين الطبيعة والقوانين العلمية يؤدي إلى فشل هذه الإجراءات .
وهكذا حين نتكلم عن السيطرة على قوى الطبيعة والقوى الاقتصادية لا يعني ذلك أنه يمكن "إزالة" القوانين العلمية أو تكوينها. بل يعني ذلك، على العكس أنه يمكن اكتشاف القوانين ومعرفتها وتمثلها وتعلم تطبيقها على ضوء معرفة الأسباب، واستخدامها لمصلحة المجتمع والحصول عليها بهذه الوسيلة وإخضاعها لسيطرتنا .
يسمح لنا كل ذلك بتقدير أهمية الفرضية الماركسية الأساسية التي عرضها ستالين في آخر مؤلف له حول قوانين العلم حيث يقول: "تنظر الماركسية لقوانين العلم ـ سواء كانت قوانين الطبيعة أم قوانين الاقتصاد السياسي ـ على أنها انعكاس لعمليات موضوعية تجري مستقلة عن الإرادة الإنسانية "
يتبع



#عبدالرحيم_قروي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر23
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر22
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر21
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر20
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر19
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر18
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر17
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر16
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر15
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر14 ...
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر13
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر12
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر11
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-اصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر10
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-يوليتزر9
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر8
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر7
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر6
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - الفلسفة الماركسية-بوليتزر5
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر4


المزيد.....




- الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
- عز الدين أباسيدي// لعبة الفساد وفساد اللعبة... ألم يبق هنا و ...
- في ذكرى تأسيس اتحاد الشباب الشيوعي التونسي: 38 شمعة… تنير در ...
- حزب الفقراء، في الذكرى 34 لانطلاقته
- تركيا تعزل عمدة مدينتين مواليتين للأكراد بتهمة صلتهما بحزب ا ...
- تيسير خالد : سلطات الاحتلال لم تمارس الاعتقال الإداري بحق ال ...
- الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال
- هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال ...
- الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف ...
- السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا ...


المزيد.....

- مقدمة في -المخطوطات الرياضية- لكارل ماركس / حسين علوان حسين
- العصبوية والوسطية والأممية الرابعة / ليون تروتسكي
- تحليل كلارا زيتكن للفاشية (نص الخطاب)* / رشيد غويلب
- مَفْهُومُ الصِراعِ فِي الفسلفة المارْكِسِيَّةِ: إِضاءَةِ نَق ... / علي أسعد وطفة
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 5 :ماركس في عيون لينين / عبدالرحيم قروي
- علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاري ... / علي أسعد وطفة
- إجتماع تأبيني عمالي في الولايات المتحدة حدادًا على كارل مارك ... / دلير زنكنة
- عاشت غرّة ماي / جوزيف ستالين
- ثلاثة مفاهيم للثورة / ليون تروتسكي
- النقد الموسَّع لنظرية نمط الإنتاج / محمد عادل زكى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - عبدالرحيم قروي - من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر24