|
أطروحات علي الوردي وطبيعة الشخصية العراقية : منظور مختلف
ثامر عباس
الحوار المتمدن-العدد: 7884 - 2024 / 2 / 11 - 16:13
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لا ريب في أن أطروحات عالم الاجتماع العراقي الراحل (علي الوردي) وفرضياته الإشكالية بشأن طبيعة المجتمع العراقي وأنماط شخصيته الملتبسة ، ستبقى محور نقاشات ومساجلات بين العامة والخاصة على حدّ سواء ، مثلما ستبقى فاعلة ومؤثرة في الأوساط الاجتماعية والثقافية التي لامستها تلك الطروحات والفرضيات . ولعل أطروحة (ازدواج الشخصية) تعد في ترسانة فكريات هذا العالم من أبرز تلك الطروحات والفرضيات التي برع في صياغتها ، حيث استطاع من خلالها إماطة اللثام عن العديد من الظواهر السلوكية الشاذة التي تتميز بها الشخصية العراقية ، دون سائر أنماط شخصيات أقرانه الأخرى من أقوام العرب والمسلمين . وعلى الرغم من حقيقة تأثر (علي الوردي) بأفكار وآراء (ابن خلدون) وانتهاج نهجه في تحليل ظاهرة (البداوة) في المجتمعين العربي – العراقي ، للحدّ الذي أفرد له كتاب خاص تحدث فيه عن أصول ومضامين (فلسفته الاجتماعية) ، إلاّ أنه لم يعدم الاستفادة من النظريات السوسيولوجية والفرضيات الانثروبولوجية التي صادفها أثناء دراسته في أمريكا ، وخصوصا"تلك التي وضعها كل من عالما الاجتماع الأمريكيان (روبرت ماكيفر) و(وليم اغبورن) ، والتي لاحظ ان ما تطرقت إليه تلك الفرضيات والنظريات يمكن – بعد تشذيبها وإعادة ترتيب مضامينها - توظيفها في المجالين العربي والإسلامي ، ومن ثم استخلاص بعض الطروحات التي تفيد في تحليل الواقع التاريخي والاجتماعي للعراق . وبصرف النظر عن حقيقة كون هذا العالم قد استمد أطروحات (التناشز الاجتماعي) و(صراع البداوة والحضارة) و(الشخصية الحلفائية) وغيرها من الأطروحات التي شاعت في أوساطنا الاجتماعية الثقافية . بيد ان هذه المعلومة لا تجرح في قدراته الفكرية وإمكانياته الثقافية بقدر ما تضيف الى رصيده العلمي وترفع من شأنه الاجتماعي ، حيث استطاع – وقد نجح في ذلك - من خلالها وبالاعتماد عليها تبيئة وتوظيف تلك الفرضيات ، بما ينسجم وطبيعة المجتمع العراقي الموصوف بالتقلب والمزاجية ، وبما يتلائم مع خصائص جماعاته ومكوناته الموسومة بالتعصب والتطرف . ولعل من أشهر وأبرز تلك الفرضيات التي اجترحها كأداة منهجية لتحليل طبيعة المجتمع العراقي وإماطة اللثام عن خصائص شخصيته ، ومن ثم الكشف عن بنى تفكيرها ومضمرات سيكولوجيتها وأنماط سلوكها ، هي (صراع البداوة والحضارة) التي اعتقد أنها من نتاج عوامل المدّ والجزر بين الأولى والثانية . حيث تسود الحضارة وتنتشر مظاهرها في حالة (المدّ) ، في حين تطغى البداوة وتستشري مظاهرها في حالة (الجزر) ، هذا دون أن يشير – لا تصريحا"ولا تلميحا"- لأمر حسم الغلبة لأي منها في مضمار هذا التصارع الحضاري المتناوب ، تاركا"أمر استخلاص النتيجة لعوامل التطور الاجتماعي التي لا يمكن البت في مسارها المتعرج وسيرورتها المتقطعة . وعلى قدر ما نمحض تأييدنا ونبدي إعجابنا بهذه الفرضية الانثروبولوجية التي تفسّر لنا الكثير من غوامض وشواذ طبيعة المجتمع العراقي المركبة ، إلاّ أننا – بالمقابل – لا نميل الى التفسير الذي اقترحته علينا بشأن ديناميات ومئآلات هذا الصراع . ذلك لأن عوامل كل من (البداوة) و(الحضارة) لا توجد على النحو الذي يفهم منه أن عناصر الأولى تعمل بصورة (مستقلة) عن عناصر الثانية ، وأنه لا رابط جدلي ولا صلة وظيفية بين كينونتيهما في إطار صيرورة المجتمع وسيرورة تطوره . بحيث يمكننا العثور على (نقاء) الأولى في القرى والأرياف ، مثلما يمكننا اكتشاف (نقاء) الثانية في المدن والحواضر . وبضوء تطور العلوم الاجتماعية وارتقاء المعارف الإنسانية ، بات من المتعذر الركون الى الأفكار والآراء التي تتبنى مقاربات تقليدية تنظر الى الواقع المفعم بالتداخل والتفاعل نظرة استاتيكية ساكنة ، مثلما تتعامل مع ظواهره من منطلق (الانفصال) بينها و(الانعزال) عن بعضها ، كما لو كانت أشياء جامدة وكيانات ثابتة لا شأن للإرادة الإنسانية في تكوينها أو التأثير والتأثر بها . ولذلك فان ما نراه ونعتقد به هو أن ظاهرة (صراع البداوة والحضارة) في العراق ، ناجمة ليس من جراء عمليات (المد) و(الجزر) التي يعتقد أنها تتناوب فيما بينها للفوز بسيادة الانتشار الجغرافي / المكاني والاستئثار الاجتماعي / القيمي ، وفقا"لأواليات من الصعود تارة والهبوط تارة ثانية تعتمد على دافع خارجي لا يمكن تحديده بدقة . بل ان ما نرجحه من أسباب ودوافع لحصول تلك الظاهرة قائم على أساس ان بنية الوعي الاجتماعي للإنسان العراقي ، فضلا"عن بواطن سيكولوجيته ومكنون مخياله ، لا تزال – وستبقى الى أجل غير معلوم - تستنبت في مطمورها اللاوعي جذور (البداوة) وبذور قيمها وأعرافها وتقاليدها في حالة من الكمون ، طالما انه لا يشعر بوجود ما يهدد مصالحه الشخصية أو يتعرض لانتماءاته الفئوية بسوء . هذا في حين نجده ، على العكس من ذلك ، يسارع الى استدعاء واستثمار كل ما في مخزونه الذهني والنفسي والتاريخي من مواريث بدائية ، حالما يستشعر اقتراب الخطر من حدود عرين أناه الذاتي والجماعاتي . أي بمعنى ان نوازع البداوة وسلوكيات التبدون لم تغادر شخصية الإنسان العراقي أو تغيب عن أفق تفكيره ، بحيث يخطر لنا انه تغلب عليها وتطهّر منها وتحرر من سطوتها ، لمجرد انه هجر مرابض قريته وتخلى عن حقول ريفه مفضلا"عليها السكن في المدينة واختيار حياة الاستقرار والسكينة . وإنما هي بالنسبة له بمثابة رفيقه الدائم وحارسه الأمين الذي يحتكم إليه ويستنجد به لحظة الوقوع في مأزق سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي . وبناء على ذلك ، فان الحالة التي يكون فيها حضور الدولة طاغ وظهور قوة السلطة رادع على صعيد المجتمع ككل ، فضلا"عما يترتب عليهما من خضوع عام لمؤسسات الأولى وإذعان شامل لتشريعات الثانية ، هو ما يجعل ساكن المدينة يتجلبب بجلباب (الحضرية) ويتمظهر بمظاهر قيمها ويتقنع بقناع أعرافها . وليس ما يشاع عن خاصية استعداده الفطري واستجابته الطبيعية للانخراط في ديناميات (المدّ) الحضاري ، حالما يصادف ان مقدمات الدور التاريخي لهذا الأخير ضمن سيرورة التطور باتت لها الغلبة على نقيضه (المدّ) البدوي الذي سوف تشهد مكوناته وتكويناته لحظة الاستسلام لعوامل التراجع المديني والأفول الحضاري . والحال سوف نلاحظ حصول العكس عندما تتوقف وتصاب بالجمود ، أو حين ترتد وتنتكص أواليات التطور – بصرف النظر عن الأسباب – حينها سنكون أمام حالة من انحسار (المدّ) الحضري وتآكل قيمه من جهة ، وانتشار (المدّ) البدوي وتطاول قيمه من جهة أخرى . والخلاصة ، ان فرضية (صراع البداوة والحضارة) في المجتمع العراقي تقوم – من وجهة نظرنا - على ركيزتين أساسيتين ؛ (ذاتية) و(موضوعية) . ففيما يتصل بمضمون الأولى ؛ نعتقد ان جذور (البداوة) وبذور (التبدون) موجودة وقارة في كينونة كل إنسان عراقي – مهما حاول إثبات العكس – حتى دون أن يشعر بها خلال لحظات وعيه أو يستدل عليها عبر معطيات سلوكه . ذلك لأنها رابضة بين طبقات لا- شعوره ومطمورة في رواسب مخياله . وان مسألة طغيان مظاهر (البداوة) و(البدونة) على مظاهر (التمدن) و(التحضرن) ، أو بالعكس انكماش واضمحلال الأولى لصالح الثانية ، مرهون بمضمون الركيزة الثانية التي تتمثل بحضور طاغ لمؤسسات (الدولة) وإشهار رادع تشريعات (السلطة) ، بحيث يمكننا صياغة المعادلة التالية : دولة (قوية) + سلطة (رادعة) = حضارة ، دولة (ضعيفة) + سلطة (عنينة) = (بداوة) ! . وهكذا فحالما تظهر بوادر الضعف على كيان الدولة ومعالم التراخي على هيكل السلطة ، سرعان ما يرتد ذلك الكائن (المتمدن) و(المتحضرن) - شكلا"لا مضمونا"- الى مرابض (قبيلته) وحواضن (تبدونه) ، ينشد عندها مقومات الحماية الاجتماعية والرعاية الاقتصادية والمساندة النفسية ، على إيقاع انفلات العصبيات وصدام الإرادات وتصارع الجماعات ، التي سرعان ما يجد نفسه وقد انخرط في عواء قطعانها المفترسة ! .
#ثامر_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
متلازمة (الارادة والقوة) بين الغرب والعرب
-
الشرعية الدولية : هل حقا هي شرعية ؟!
-
من لا يقرأ بجد لا يحق له النقد !
-
عقدة الهاجس الأمني لدى الشخصية العراقية
-
التباس وعي (النخبة) العراقية بين خوانق التاريخ وشرانق المجتم
...
-
دلالات مفهوم الانقراض بين الثقافة والمثقف
-
نرجسية أنا (الأوحد) لدى المثقف العراقي !
-
عرض موجز لكتاب ( أثريات الانتلجنسيا : الموروث التقليدي لدى ا
...
-
أسباب انتكاسة التيار (المدني) في الانتخابات المحلية
-
العرب وسيكولوجيا الأزمات !
-
الفساد الأكاديمي ومأسسة الجهل المعرفي !
-
الجامعات الأهلية وانحطاط المستوى العلمي
-
هل نجحت (البوتقة) العراقية في صهر مكوناتها ؟
-
معوقات تعافي المجتمع العراقي
-
القبيلة والقبلية .. في التخادم البنيوي والمؤسسي
-
تفتيت الذاكرة العراقية .. من وعي الذات الى غربتها !
-
الحسّ المشترك .. ادراك ما قبل الوعي
-
الديموقراطية وشرط الوعي السياسي
-
الانثروبولوجيا والخاصية الفسيفسائية للمجتمع العراقي
-
خطاب المثقف واستقطاب المجتمع
المزيد.....
-
مسبار -فايرفلاي إيروسبيس- في طريقه إلى القمر.. شاهد لحظة إطل
...
-
محمد هنيدي يواجه أزمة بسبب انسحاب مخرج مسلسله الرمضاني
-
مباشر: اتفاق وشيك لوقف إطلاق النار في غزة بين إسرائيل وحماس
...
-
مصدر مصري مطلع يعلن اتمام التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار بين
...
-
أردوغان خلال لقائه الشيباني: لا مكان للمنظمات الإرهابية في م
...
-
كيف صمد منزل وسط جحيم لوس أنجلوس؟
-
التحدي والتصوير يتسببان في غرق طالب تونسي بالبحر
-
سوريا تقبض على متشدد مصري ظهر في فيديوهات يهدد السيسي بمصير
...
-
حادث سير مروع في القاهرة
-
جنوب إفريقيا.. انتشال 78 جثة من منجم ذهب مهجور
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|