أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام عبود - مــن يـكـون -الـروائـــي- صـــدام حـســــيـن؟ عـن -زبــيــبـة والـمـــلـك- وكـــرة الـثـــلـج















المزيد.....


مــن يـكـون -الـروائـــي- صـــدام حـســــيـن؟ عـن -زبــيــبـة والـمـــلـك- وكـــرة الـثـــلـج


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 524 - 2003 / 6 / 25 - 18:05
المحور: الادب والفن
    


 

يوما بعد يوم، تكبر قضية اتهام الكاتب والروائي المصري جمال الغيطاني بتأليف رواية "زبيبة والملك" لصالح صدام حسين. ويوماً بعد يوم تتوضح مسؤولية الكاتب العربي تجاه نفسه وتجاه مجتمعه.

 

اسوج...

بدأت  القضية باتهام، ألقي كما يلقى حجر مهمل على جبل من الاحجار المتكلسة عبر العصور، وما لبث هذا الحجر ان تحول سلسلة طويلة من الاتهامات والاتهامات المضادة، الى مواقف للادانة ومواقف للتأييد. ثم أخذ منحى جديدا بتحوله بيانات للشجب والتنديد وحملات لجمع التواقيع. وبذلك استقرت كرة الثلج الثقافية العربية عند هذا الحد المعترف به، شرعيا وعقليا، لدى النخب الثقافية العربية. وإذا قُدّر لهذه الكرة الاستمرار في التدحرج الى مسافة ابعد، فمن المؤكد أنها لن تكتسي إلا بالمزيد من أوساخ الطريق. فذلك هو القدر المقرر لقضايانا، كما يبدو، أو كما يحلو للبعض ان تكون.

وهنا، لا نستبعد أن يظهر لنا فجأة، من بين طيات الضباب والرمل، فارس ثقافي مزود حكمة العصور كلها - حكمة الاذلال والاستخفاف بالعقل - لينصح الجميع بالركون الى العقل والحكمة، ويدعوهم الى مناقشة قضايا الامة المصيرية بقدر عال من التبصر. وحبذا لو كان الجدل والصراع هامسا، حنونا، يليق بأمتنا، التي تنظر اليها الامم الطامعة بعين الشك والريبة!

حينما يبزغ في سمائنا مثل هذا المثقف العربي، ستذوب آنذاك كرة الثلج الثقافية العربية من تلقاء ذاتها، وتعود الى أصلها، محض كرة من الهباء. فحينما تتوارى كحدث، لن تترك وراءها من أثر يدل عليها سوى كومة الاقذار التي حملتها في معركة تدحرجها العبثية الخاسرة.

 

السهو المرتّب

قضية "زبيبة والملك" تعبير جدي عن واقع حال الثقافة العربية. واكاد أجزم فأقول، إنها تلخيص نموذجي للحياة العقلية العربية وبناها الثقافية ومؤسساتها ورموزها. إنها سهو مرتب يشير الى خصوصيات البحث المعرفي والثقافي العربي في ما يتعلق بقضايانا الكبيرة اجمع: من قضية فلسطين، وقضية نمو الارهاب السياسي في كنف النظم المُخدًّرة المصنوعة دوليا، الى قضايا التعدد العرقي والطائفي والديني، وقضية الحريات، وقضية قيام ديكتاتوريات إرهابية لم يعرف التاريخ لها مثيلا، من بينها حكومة صدام حسين التي امتدت لثلاثة عقود ونصف العقد; مرورا بالحرب العراقية - الايرانية، التي دامت ثماني سنوات بمساعدة علنية، مالية وثقافية وسياسية عربية، وصولا الى احتلال الكويت، وما تلاه من حرب لتحرير الامارة من براثن العراق، التي منحت وجود القوات الاجنبية شرعية دولية، بغطاء ومباركة عربيين. ثم تم إختتام المشهد بحرب العراق، التي جعلت العراق نفسه، اسوة بالمنطقة كلها، مادة للاحتلال العلني السافر. هنا، في هذا التسلسل المقبل، والمرتب، تدحرجت في طرق حياتنا كرة من نوع آخر، كرة من نار، احترق كثيرون في لهيبها، وتدفأ كثيرون أيضا، من الكتّاب خاصة، على جمرها.

وفي هذا السياق لم تكن حرب "تحرير" العراق او "احتلاله" سوى الخاتمة المنطقية لسلسلة الاحداث التي تراكمت على مر حقب ماضية، والتي جعلت من احتلال العراق السافر سوى تحصيل حاصل، ومطلب "عادل ومشروع" في نظر البعض. ولأن التاريخ يمضي قُدما الى أمام، ولأن ما حدث قد حدث، فلم يبق أمامنا الآن سوى نتائج تلك الاحداث المأسوية. فكُرَةُ النار، حالها كحال كرة الثلج، لا تخلّف وراءها سوى أكوام الأوساخ.

تطفو الآن على السطح قضية الغيطاني، الذي يتهم اليوم، اليوم فقط، بعد صداقة وزواج ثقافي متينين داما لعقود، وأنجبا كتبا ومراكز ثقافية وحملات تأييد وإسناد، والأهم من هذا كله أنجبا سياسة ثقافية مهادنة - في أهون النعوت - لمشاريع الحرب والقمع والارهاب التي سادت المنطقة، وفي وجه خاص العراق. قضية الغيطاني هذه ليست سوى واحدة من كرات الثلج، التي أعقبت تساقط كرات النار.

سيقول المثقف العربي، ما هكذا تورد الابل! فلم تكن  الامور واضحة الى هذا الحد، الذي تتحدث فيه الآن. نعم، بكل تأكيد، لم تكن الأمور واضحة الى هذا الحد. ولكن في نظر قطاع واسع من المثقفين  العرب فحسب. عودوا الى وثائقنا، عودوا الى عويلنا تجدوا أننا نبحنا حتى بُحّت حناجرنا. وإذا كنتم لا تثقون بنا وبنصوصنا، التي لم تقرأوها، فسلوا أمهاتنا الاميات، سلوهنّ كم بكين وصرخن دما!

نعم، لم تكن الأمور واضحة. فعقل المثقف العربي المبرمج وفق قواعد المنطق السائد هو الذي كان يرى ولا غرابة لو أنه لم ير شيئا. فأولئك الناظرون الى مأساتنا يتساوون في الفطنة والبصيرة مع مثقفي الوهم القومي، الذين سحرتهم حروب الطاغية. وهم يتساوون تماماً مع المثقفين العراقيين والعرب، الذين يهللون اليوم لاحتلال "مهد الحضارات". انها كرة الثلج الثقافية، التي لا تخلف بعدها سوى الأوساخ.

بيد ان كرة الثلج هذه، وهي تتدحرج، لا تنظر الى الطريق. لأنها ببساطة، لا اكثر من كرة عمياء. ففي قضية الكاتب جمال الغيطاني، تجرف كرة الثلج في تدحرجها الأعمى كل شيء. وأهم شيء. هي تجرف في طريقها العقل والوعي. وبذلك تتحول ردود الفعل الثقافية مباريات في الشتم والاتهام او التأييد والشجب. ولكن: أين العقل الموجه لبوصلة الحقيقة؟ أين البصيرة الثقافية لهذه الأمة؟

مما لا شك فيه، أننا مطالبون بالوقوف أمام أي موجة تهدف الى الحاق الأذى بالبشر، والى الوقوف أمام أيّ هجمة ظالمة تنوي النيل، من غير وجه حق، من اسم ثقافي عربي مثل جمال الغيطاني أو غيره. بيد أن  المثير في قضية "زبيبة والملك" أنها تقوم على مصادر غاية في الدونية والتهافت. فالمصدر الوحيد والاساسي لهذه الواقعة يتمحور حول عدد من أكثر كتّاب الحرب ورموز ثقافة العنف إخلاصاً لمشروع الطاغية الثقافي. بل هم، حتى في تقدير كتّاب الحرب ورموز ثقافة العنف إخلاصا لمشروع الطاغية الثقافي. بل هم، حتى في تقدير كتّاب السلطة نفسها، أحطّ ممجدي نظام الارهاب في العراق قدراً. أهي تصفية حساب؟ أم هي محاولة، بعض الفرقاء المختلفين، لنيل شهادات البراءة وصكوكها بحق، ومن دون وجه حق؟

 

عفاريت القمقم

إن إتهام جمال الغيطاني دفعة أولى من الأبخرة السامة لمرحلة ما بعد فتح غطاء القمقم، ومفتتح لسلسلة آتية من كرات الثلج والعفاريت، التي ستتدحرج في طرقاتنا الثقافية، والتي ستشدنا اليها بتدحرجها المسلّي، ناسين أو متناسين لا فقط ما ستخلّفه هذه الكرات من أوساخ، بل متجاهلين عمدا ما خلفته من آلام وكوارث سياسية وثقافية. سننسى، كالعادة، تركة الديكتاتور الثقافية. سننسى ثقافة العنف المؤكدة والموثّقة، وسنذهب راكضين بشغف خلف كرات الثلج، غير عابئين بما ستخلّفه بعد ذوبانها الحتمي.

ليست "زبيبة والملك" كرة الثلج الوحيدة، التي قذفت في طرقنا. عديد من كرات الثلج تدحرجت أمامنا، وستتدحرج أخريات وأخريات.

فجأة، أفاق شاعر عربي، في مأواه الاوروبي البارد، على دويّ المدافع، بعد ثلاثة عقود ونصف العقد من مجيء سلالة القتلة. بعد ثلاث حروب طاحنة، بعد أكثر من مليون قتيل، وثلاثة ملايين مشرد. صحا الشاعر بعد اختفاء الديكتاتور ليكتشف للعراقيين العُمي الحقائق المرعبة الثلاث الآتية: وجود شخص على كوكب الأرض اسمه صدام حسين. أن هذا الشخص طاغية عتيق. بيد أن الاكتشاف الأعظم للشاعر هو انه تنبأ بسقوط الطاغية. أما الدليل على نبوءته فكالآتي: بما أن صدام طاغية، وبما أن كل طاغية مآله الى السقوط حتما. اذاً فسقوط صدام أمر واقع لا محالة! رغم هذا القدر من السخرية البشعة، التي تنطوي عليها هذه النبوءات، فقد عمّنا الفرح لأن أحد الشعراء سجّل أخيرا، باسمه الشخصي، إكتشافا مثل هذا. ولم يكن الشاعر الشقيق هذا وحيدا في نزول الوحي عليه، فقد كثر المتنبئون في الاسابيع الماضية، الى حد أنهم كادوا أن يفسدوا متعة الاكتشاف السرية. الامر الذي جعل البعض يتطير، خشية ان يكون هذا الاكتشاف مجرد خطوة أولى تهدف الى تجميع المكتشفين في خندق ثقافي واحد لصالح طاغية قيد التكوين! من غير شك، لا نريد الطعن في ذمة هذا الشاعر أو غيره، فنحن نعرف أن لقمة العيش شيء وما في القلوب شيء آخر. بيد أننا تمنينا لو أنه لم ينطق، ليس احتراما لنا نحن الاحياء، وإنما احتراما لقتلانا، الذين لم نتمكن بعد من تجميع عظامهم في قبور تليق بهم. إنها كرة الثلج، التي لا تخلّف وراءها سوى الهباء.

شاعر عراقي، ممن عاشوا حربي الخليج الأولى والثانية، في وهاد الدم، وممن استقبله المنفى بمعية ملايين من العراقيين الفارين من جحيم العنف او مرارة الفاقة، التي ولّدها الحصار المزدوج، حصار صدام وحصار الاميركان، صحا هذا الشاعر فزعا، وهاله ما رأى، فراح يطلق صرخات متتالية، غريبة، شاذة سياسيا واخلاقيا، وحتى نفسيا. صرخات مخصصة لذمّ العرب، وبشكل خاص الذين يقومون بأمر الثقافة.

ورغم أننا لا نعرف الدوافع الشخصية والسياسية التي تقف خلف هذا الصراخ، إلا أننا لا نستطيع أن نصمّ آذاننا عنه، ولا نستطيع انكار نبرة الحرقة فيه. إعتاد هذا الشاعر أن يقف منتصبا ويقول لشعب يكوّن افراده الغالبية المطلقة من سكان العراق: "أيها العرب العراق يكرهكم وتكرهونه... يكرهكم بعمق وهدوء". هذا الشاعر الصارخ صرخته النابية، ليس وحيدا في بابه. فقد شاركه في ذلك العويل عدد غير قليل من المغتصبين روحيا. حينما صحا هذا الشاعر فزعا وجد نفسه محاطا بصباحات عربية مشمسة. صباحات تسيل على جنباتها دماء العراقيين من غير رقيب او حسيب. دماء العرب والكرد، دماء المسلمين والمسيحيين والصابئة. كانت عصافير العروبة تزقزق جذلى فوق أغصان الشجرة الأم، بينما كان العراقيون يسيرون قوافل قوافل، جيلا بعد جيل، نحو محرقة الحرب والطغيان الجنوني. مثقفو المنفى من الاتجاهات الديموقراطية المختلفة، المعادون للحرب والديكتاتورية، لم يصابوا بالبهتة قط. أولئك، اعتادت أعينهم الانفتاح على صباحات عربية منقوعة ببرودة الدم والخذلان.

كانت جلودهم قد دبغت منذ وقت مبكر في مدابغ محبذي حماة البوابات القومية. فعدا قوة الموهبة والحظ، وبقايا الصلات الشخصية التي نسجها هذا المثقف او ذاك، في معارك الهم المشترك في بيروت ودمشق وعدن والجزائر ومع المقاومة الفلسطينية، اضافة الى بقايا الصلات الحزبية والسياسية وحتى الطائفية والعرقية، ما كان في مقدور هذا التيار ان يجد له ملاذا على أرض الثقافة العربية بيسر. فقد عاش مستفردا، مقموعا على الهوية. وحتى الهوية، المتبقية من بعض العلاقات الحزبية والطائفية والعرقية، التي شفعت للبعض، لم تكن شفيعا دائما للجميع. فقد أعانت هذا الفرد أو ذاك، لكنها لم تعن الجميع، ولم تكن راغبة من قريب او بعيد في إعانة الكل، ككيان. كانت مهادنة سلطة الموت هي الاستراتيجيا المعلنة والخفية لمؤسسات الثقافة العربية عامة، وكانت عملية تطويق الاتجاه الديموقراطي العراقي وتحجيمه جزءا اساسيا من هذه الاستراتيجيا، المجيّرة لصالح بقاء هيمنة جهاز الارهاب الثقافي، حتى هذه اللحظة. فخلال العقد الأخير، ورغم تصادم ارادة الديكتاتور مع ارادة صنّاعه الدوليين، لم تتقدم مؤسسات الثقافة العربية خطوة واحدة في اتجاه اسناد التيار الديموقراطي، الذي اضطر الى ايجاد ملاذ له في المهجر الغربي. وشيئا فشيئا راح هذا التيار يخسر مواقعه واحدا بعد الآخر. فماتت او ذوت صحفه ومجلاته واحدة بعد الاخرى، واستنزفت طاقاته الروحية في معارك من اجل لقمة العيش، وفي خصومات لانهائية، هي جزء اساسي من عوارض فقدان المناعة والوقوع في فخ الاحباط والشعور بالخذلان. الامر الذي مهد لظهور نوع من المثقف المتهالك ثقافيا وروحيا، المستعد لبيع نفسه الى أحط الشياطين بأبخس ثمن. وهو عين البضاعة الثقافية التي تنشدها مرحلة مجيء "المحررين الدوليين".

ولم يتوقف الامر على تطويق الاتجاه الديموقراطي في المنفى، بل تعداه الى إهمال شأن الاتجاهات الثقافية العراقية المستقلة في داخل العراق. مئات الفنانين التشكيليين والاكاديميين والمسرحيين والكتّاب المستقلين تُركوا يواجهون مصيرهم المظلم بصمت. تُركوا عزّلا، مستضعفين، مهانين، من دون أن تمتد اليهم يد العون الثقافية العربية، ولو باستضافة قصيرة تعينهم على تحمل قدرهم القاسي لأطول فترة ممكنة، وتمدهم ببصيص أمل. والأهم من ذلك تُشعر جهاز القمع، ولو من بعيد، ان ذلك الرهط الحزين محاط بعيون تراقب مصيره بقلق وخشية. لكن ذلك لم يحدث. فقد تمتع اوشاب السلطة وحدهم بهذا العطف. وحتى من قُدّر له الفرار من طوق الموت، لقي مصيرا مظلما. فقد مات أجلّ علماء العراق وأعظمهم منزلة، الاستاذ ابرهيم السامرائي، وهو يطرق عبثا أبواب الجامعات العربية. بينما استقبلت مؤسسات الثقافة العربية رموز جهاز العنف الثقافي بالأوسمة والنياشين. لقد تيبست وضمرت كلمات عديد من شعراء الداخل وكتّابه، بسبب جفوة الخارج لهم، وفي المقابل أغدقت السلطة عطاياها وجوائزها الثقافية والمادية على كتّاب الحرب ومروّجي ثقافة العنف والموت.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد أيضا. فحتى أولئك الذين غادروا سطح السفينة الآيلة الى الغرق على عجل، في اللحظات الاخيرة، عوملوا بتمييز مريب. فمنهم من استقبل بالاحضان، رغم ماضيه الأسود، ومنهم من عومل بجفاء.

وحتى أولئك الذين استقبلوا استقبال الأبطال، سرعان ما جرى نبش ماضي بعضهم وهتك أسرارهم، ثم عادوا ثانية وشملوهم ببركة التسامح القومي، ثم عادوا ثالثة الى لعبة التشكيك، حالما ظهرت بوادر اصطفافات سياسية وثقافية جديدة، تتطلب اعداد أوراق جديدة لمائدة اللعب.

إنها كرة الثلج الثقافية العربية التي لم تخلّف وراءها سوى الهباء.

كرات الثلج الثقافية هذه لن تكف عن  التدحرج، وما تخلّفه وراءها من أوساخ جزء عضوي من منطق الاحداث، التي تجري أمام أبصار المثقف العربي، المشغول والمفتون بمراقبة ذرات الكرة البيض وانعكاسات الشمس الذهبية على هذه الذرات.

 

ثقافة الرشوة والموت

مالك عربي لأحد مواقع الانترنت يدحرج في موقعه الالكتروني كرة ثلج شبيهة بـ"زبيبة والملك"، يقول فيها مفتخرا فخرا لا حدود له، انه أحد القلة الذين "لم يقدم" لهم صدام رشوة عند لقائه بالطاغية. ومما لا شك فيه أننا لا نعرف لماذا لم يقدّم له صدام رشوة، لكن ما نعرفه جيدا ان هذا المتباهي الثقافي، ذهب بمعية من ذهبوا لتقديم الطاعة والعون في حرب الديكتاتور على  الجارة ايران، تقديم العون في حرب بشعة راح ضحيتها جيل كامل من العراقيين والايرانيين، وكانت سببا لكل ما حدث. حرب كهذه ما زالت تُذكر على أنها مصدر فخر. لقد ذهبت الحرب ومات من مات، وقتل من قتل من العراقيين والايرانيين، وذهبوا طيّ النسيان. أما أوساخ كرة الثلج فما زالت باقية، والأهم أنها ما انفكت تشكل مصدر فخر ومباهاة عند البعض!

إنها الكرة ذاتها تتدحرج.

ما الفرق بين كرة الرشوة هذه و"زبيبة والملك"؟ لا فرق في الجوهر. كلا الواقعتين جزء من بقايا ثقافة الموت، وجزء من ضريبة تاريخ مبقع بالدم. فالقضيتان بعض من اختلاقات جهاز القمع الثقافي، الذي فقد سلطته المباشرة لصالح خصم أكثر جبروتا. وخلف متانة الاتفاق الجوهري هذا لا يوجد سوى تعارض سطحي واحد بين القضيتين. تعارض يكمن في أن كرة الرشوة تعبّر عن إرادة المنتصرين. أما "زبيبة والملك" فتعبّر عن إرادة المهزومين. فالقضيتان تستندان الى اساس باطل وفاسد واحد. وما يفرق بينهما هو درجة الانحياز الى المنتصر. فحينما تكون في صف المنتصر تغدو خطيئة الاتصال بالديكتاتور ضربا من البطولة النادرة، التي تؤرخ للفطنة والطهر والشجاعة. إنها كرة الثلج!

الجيوش الغازية تصادر وثائق المخابرات العراقية ووثائق حزب البعث ووثائق الاجهزة السرية والمعاهدات والاتفاقيات الثنائية، بل تقوم حتى بمصادرة قوائم الموتى والمعتقلين السياسيين، الذين غيّبهم النظام الباغي. إنهم يسرقون علنا، وبتأييد تام من مرتزقة الثقافة والسياسة كل ما يشير الى الطرق التي مرّ الطغاة بها. إنهم يسرقون تاريخ الموت والارهاب علنا، ويقذفون لنا بكرات من الثلج عبر صحيفة "واشنطن بوست" وغيرها، في هيئة خبر صغير، كي نلهو به، نعضعض به، كما تلهو الكلاب الضالة بقطعة عظم. انها كرة المنتصرين السحرية التي فتنت صغار البشر على مر التاريخ!

كرات الثلج هذه ستظل تتدحرج، ولن تخلّف وراءها سوى الأوساخ.

فلا "زبيبة والملك"، ولا التباهي برشوة لم تحدث، ولا الهجوم على شاعر بأثر رجعي، ولا التلذذ بفتات ما ترميه الصحافة الغربية الينا من وقائع نحن أولى بها وبأصولها، وأحوج من غيرنا الى دراستها بتمعن، للخروج منها بنتائج تقود الى صحوة اجتماعية وانسانية حقيقية. لا هذا ولا ذاك له صلة بمعارك الثقافة العربية الحقيقية. فذلك كله كرات ثلج.

وربما يتساءل القارىء، لماذا هي كرات ثلج؟

هي كذلك، لأن الملعب الثقافي، بكل بساطة، لا يدرج في قوائم العابه، عادة، مباريات لا تخلّف سوى الوسخ الثقافي. فلا "زبيبة والملك"، ولا رشوة صدام لهذا الكاتب او ذاك هي جوهر المسألة.

 

مسؤولية الكاتب العربي

إن مسؤولية الكاتب العربي تجاه واقعه هي القضية الاساسية. ان محاكمة جوهر ردود فعل المثقف العربي، وأولهم المثقف العراقي، ازاء القضايا الكبرى، كالديموقراطية والتقدم الاجتماعي والسيادة الوطنية والحرية الفكرية وفي درجة اساسية الموقف من الانسان، كحلقة اساسية من حلقات الوجود الاجتماعي، هي القضية الاساسية. ولا يمكننا الفرز بين قضية أساسية وكرات الثلج الثقافية، بين النتائج المترتبة على سلسلة الهزائم الروحية والسياسية والعسكرية والاجتماعية وبين النتائج الناشئة بفعل معارك هامشية لا تقود الى تأكيد الحقيقة، من دون دراسة الذات الثقافية، محتواها واصولها ودورها وآليات عملها وما انتجته من ثمار سامة أو صالحة للأكل. إن مراجعة المثقف العربي لدوره بأمانة وشرف وشجاعة هي القضية الاساسية الماثلة امامنا، التي تجعلنا مؤهلين بعض الشيء للوصول الى طرق أكثر رحابة.

وكل ما عدا ذلك لا يعدو ان يكون كرات ثلج يلهو بها صغار الكتبة.

ومن أجل ان لا تتحول هذه القضية دوامة من غبار، نقول: إن جمال الغيطاني كتب "حراس البوابة الشرقية" في النور، وحصل على تقريظ علني من كبار رموز السلطة الثقافية في بغداد: حميد سعيد ووزير الثقافة لطيف نصيف جاسم، اللذين اعتبرا مساهمة الغيطاني عملا قوميا فذا. إن الغيطاني وغيره من المثقفين العرب، والعراقيين ايضا،  مطالبون اليوم، في العلن أيضا، في النور أيضا، بتقديم كشف حساب أخلاقي وليس محض اكتشافات خائبة. تقديم كشف حساب لا لصالح تاريخ مقاومة العنف والارهاب الثقافي والسياسي، وانما لصالح كل من ساهم في حالة التواطؤ التي سادت على مدى ثلاثة عقود. تقديم كشف حساب أخلاقي لصالح انفسهم أولا، ولصالح الثقافة العربية ثانيا، ولصالح الشعب العراقي المغلوب على أمره ثالثا واخيرا، إن استطاعوا.



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إعــادة إعـمـــار الـثــقـــافـــة فـي الـعــــراق الـبــعــ ...
- الـمــــوت يـمـشـــي فـي نــومـــه
- أقــنـعـــة الـفـــرهـــــود
- هل استقر مهد الحضارات في بطون الدبابات؟
- ســقـط الـديـكــتـاتـور صـعـد الـيـانـكـي: تهـانـيـنـا
- المسألة العراقية بين خيار أسوأ الاحتمالات و خيار المبدئية ال ...
- الرهينة - من القصة القصيرة الى الرواية-


المزيد.....




- خريطة التمثيل السياسي تترقب نتائج التعداد السكاني.. هل ترتفع ...
- كيف ثارت مصر على الإستعمار في فيلم وائل شوقي؟
- Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي ...
- واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با ...
- “بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا ...
- المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
- رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل ...
- -هاري-الأمير المفقود-.. وثائقي جديد يثير الجدل قبل عرضه في أ ...
- -جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
- -هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام عبود - مــن يـكـون -الـروائـــي- صـــدام حـســــيـن؟ عـن -زبــيــبـة والـمـــلـك- وكـــرة الـثـــلـج