|
حكاية من زمن الموت
سميرة الوردي
الحوار المتمدن-العدد: 1745 - 2006 / 11 / 25 - 05:45
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لحظة الخوف المعاشة هي غيرها المسموعة أوالمروية بعد حدوثها ، في مكان وزمان غير مكانها وزمانها ، اليوم هو التاسع والعشرون من الشهر السادس من عام 2004 ، أصحاب الجريمة المرتكبة ظهروا كمجرمين مدانين بعد أن كانوا طغاة سلاطين . حدث في خريف عام 1985 خرج الجميع ، حافلات هُيأت لهذه المناسبة ، الدعوة عامة للجميع ، لا يُعفى منها أحد مهما كانت أعذاره ، لم يُُُُُُخْبَرْ أحد عن مكانها أو مناسبتها ، فرح الطلاب ، انفلتوا بصخبهم وهم يصعدون الحافلات بين نظرات مدرسيهم الموبخة وصمتهم من ثقل الأوامر التي لا بد من تنفيذها حتى لو كانت ضدهم . مازالت الأرض ندية من المطر الخفيف الذي نزل ليلة أمس ، الخريف في أواخره ، بقايا من حرارة الصيف المنصرم تختلط ببواكير نسيمات الشتاء المقبل تشعرنا بدفء الحياة وديمومتها . لم أذهب مع الموكب ، ذهبتُ الي حمام المدرسة ، لم أخرج منه إلا بعد رحيل السيارات واختفاء أصواتها ، أتحايل بهذه الطرق كي لا أُعرِض نفسي للمساءلة ، ما أن تنقضي المهام وتعود الأمور الى سابق عهدها ، يكون اختفاء أحد غير ذي بال . مضى اليوم كغيره من الأيام والرغبة لمعرفة الى أين سِيق الأولاد لم تكن قوية لدي ، فمثل هذه الأمور تتكرر كثيرا ، المدارس مجال رحب للاستعراضات والاحتفالات التي ما أن تنتهي واحدة حتى تبدأ الأُخرى . ما إن خلت المدرسة من الجميع ولم يبق فيها سوى صفير العصافير وحارسها الذي انسحب الى غرفته ، تسللت بهدوء ، وفي ذهني عدة أعذار لو تفاجأت بأحد .يسألني عن عدم ذهابي ، لكن الأمر سار كما رغبت ولم أصادف أحدا . ذهبت الى السوق قبل أن أذهب الى البيت وقد انشغل تفكيري كله على حفلة الزفاف التي حضرتها لابن بنت عمتي الثاني فأخاه الأكبراغتيل في جبهة القتال قبل سنوات ، وقيل لأهله انه انتحر بسبب كآبته لذا لا يعد ضمن شهداء البوابة الشرقية . وها هي الحياة تسير مسراها الطبيعي ، لا يوقفها شيء بالرغم من فنون آلامها . حفلة بسيطة ضمت الأهل والأصدقاء . حفلة بسيطة وإن بدت لحفلات أُخر باهظة الثمن ، الناس لم يعد لديها الإمكانات المادية لإقامة الولائم التي اعتاد الناس إقامتها فيما سبق ، فقد كان الناس وبكل فئاتهم يقدمون أفضل المأكولات وأطيبها لضيوفهم وما يتبقى يوزع على الجيران والسابلة ، أما مائدة ابنة عمتي والتي عُدت من الموائد الفخمة فهي لم تتعد سندويجة دجاج صغيرة وقطعتي كباب وكبة وخيارة وتفاحة غلفت بكيس ومعها بطل ببسي فقط . حدثٌ في المحلة انساني المدرسة والحفلة ، خرج الناس من بيوتهم متسارعين على صراخ في الشارع ، صبي لم يتجاوز السادسة عشر عاما ينحر شقيقته والأب يرقب الحدث دامع العينين من بعيد وعندما وصلت الشرطة كانت الفتاة قد لقت حتفها ، كبلت الشرطة يد الصبي الذي استسلم بهدوء عجيب لمصيره ، أشيع بين الناس أن الفتاة متزوجة وزوجها في جبهة القتال وقد اختفت عدة أيام من دون علم أهلها وحين عودتها لقيت مصيرها المشؤوم ، ازداد اللغط حول سلوكها المشين بالرغم من عدم معرفة الناس بها و بأسرتها أو من أين أتت . اصطف الطلاب كعادتهم في كل صباح ، وجوم غير طبيعي أصابهم ، انمحت ضحكات اليوم السابق وجلبته ، بدا المدير مهموما محاولا أن يزيح ثقلا عن كاهله ، منتقيا عبارات حذرة يفتتح بها كلمته ، اصطففنا خلفه مدرسين ومدرسات . نوبة من الشفقة انتابتني ما أن استقرت عيناي على الخيوط المهلهلة التي انسابت من أطراف بنطاله ، نبهتني نبرات صوته الحزين لما ينطق به ، لهجة الإعتذار من الطلاب لم أعهدها فيما سبق ـ لا بد أن يكون لما حدث أمس له علاقة بدأحديثه بعبارة :لو كنت أعرف التفاصيل لكنت اعتذرت بشتى الأعذار وأُجنبكم هذا الموقف ، اهتموا بدراستكم وعسى الله أن يوفقكم ، هذه كل كلمته ، سار ببطء حاملا اعوامه الخمسين وعيناه الحزينتان تكاد تغرق بدموعها ، لقد جرت العادة أن لا نجرؤ على السؤال عما حدث ، تركت الأمر للصدفة كي تكشفه لي كما حدث لزميلنا عارف الذي إختفى في ظروف غامضة ، وبعد فترة أُقيل من عمله وقد قيل همسا أنه اعتقل بسبب ميوله التى تتنافى و الحزب . الاستاذ عارف في الأربعين أب لأربعة أولاد لم يعرف عنه أي تطرف او ميل لجهة خلال وجوده معنا ، اختفى ولم يعد . الخوف والحذر يغلف عواطفنا بل يخفيها تجنبا لما قد يحدث قُسمت دروسه علينا سدا لما تركه من فراغ وكلنا أسى لما يُهمس عنه و عما أصابه من مهانة وتعذيب وقدهُمس أنه أُعدم ولكننا لم نتثبت من الخبر . صعدتُ سلم المدرسة وكلي أسى على المدير الذي يبذل كل جهده لتقديم شتى المساعدات حتى لو كانت خارج حدود طاقته ، وعلى نفسي التي استزمن فيها الخوف ، وكأني ارتكبت آثام العالم كلها . دخلت الصف وكلي أمل أن يزيل الدرس ما حل في نفسي من أسى وإذا بالصف على غير عهده ! : أخرجوا كتبكم : لا رغبة لنا بالدرس قالها عبد الوهاب نيابة عن الصف ، أكثرالطلاب حيوية في درسي وأعلاهم درجة ، وهو الدرس الوحيد الذي معدله عالٍ فيه أما بقية دروسه فوسط أو دونه ، وعندما كنت أحثه على الأهتمام والدراسة يطأطأ رأسه لاقيا اللوم على الظروف القاسية بعد موت أبيه ، أواسيه بتسميته مطرب العرب بعد أن اكتشفتُ جمال صوته في الإنشاد والإلقاء . : نرجو المسامحة في هذا الدرس .انبرى يتحدث بسرعة وكأنه يريد أن يقول ما عنده ولا يشاركه أحد فيه ، قبل أن يتمم حديثه انشق الصف قسمين ، الأغلبية مؤيدة له وقلة معارضة تحاول اسكاته ، طلبت من الجميع السكوت ، اخترق ضجيج الطلاب خفق أجنحة سنونو صغير باحثا في زوايا السقف عن عش فقده ، حدثتهم عن سنونو جميل كان يبني عشه في زاوية تقع تحتها المكتبة ، وكأنه يريد القراءة ولم يغير مكانه طوال سنوات عديدة الى أن أُحدث تعمير في الغرفة وهُدم العش فلم يعد بعدها السنونوأبدا صمت الطلاب متتبعين الرواية مما أتاح لعبد الوهاب أن يستجمع ما مر به بالأمس ويهمسه في أُذني ، قربت أُذني اليه ،اتسعت عيناه وتقلصت يداه :أعدموه أمام امه . تراجعت للخلف لا شعوريا : من ؟ : الجندي . : لماذا ؟! انفتح صوته قليلا وكأن جزءا من الهم انزاح عنه : أخذونا الى ساحة واسعة قرب الجسر الجديد اكتظت بآلاف الطلاب والمدرسين رتبونا حسب أطوالنا بدقة وأمرونا بالصمت والتزام الهدوء ومن لا يستجب يعرض نفسه للمعاقبة ، حزبيون بملابس خاصة مدججون بالسلاح يحيطون بالمكان ، صمت وخوف غريب لفنا ، لو سقطت إبرة لسمع صوتها . لا يخرق هذا الصمت سوى همهمة هنا أو هناك سرعان ما يخرسها حزبي واقف هنا أو هناك . شق الزحمة بوق سيارة بيك أب تتبعها سيارة صغيرة ، أُنزل شاب صغير بقوة من البيك أب فقد ارتمى بحوض السيارة وتمسّك بأرضها قيدت يديه ورجليه بسلاسل ، يبكي بحرقة ، انزل رجل وامرأة في أواسط العمر من السيارة الصغيرة ، انهارت المرأة على الأرض غارفة حفنة تراب رامية بها على رأسها إنتباه ... علا صوت مكبرات الصوت التي شدّت على نخلات مطلات على الساحة ، هذاهو الخائن والويل لمن يسلك سلوكه ويحذو حذوه ، الآن سينال ثمن خيانته وتهربه من العسكرية . الجميع أصيب بالهلع ، علت بضع زغاريد من بين المحتشدين ، وهتافات بالنصر ، وبحياة القائد المفدى ، لكنها لم تغط ونين الأم ونظرات الأب التائهة في الوجوه وقد اعتلته صفرة الموت ، لا يدري ما يفعل ، اندفع اتجاه ولده ولكن الأيادي صدته وحالت بينه وبين الوصول اليه حفرت الأم التراب بيديها ثانية ورفعته الى راسها وأنشبت أظفارها في خديها فسالت الدماء المختلطة بالتراب ، أماالشاب فقد بدا صبيا صغيرا ، لم يملك سوى الإستسلام ، سار بهدوء عجيب بين جلاديه ، شُدّعلى عمود خشبي هُيئ لهذه الغاية ، اندفع من بين الحشود عشرون مسلحا خرج من بينهم واحد تلا حكم الاعدام ، ثم انظم اليهم علت زخات الرصاص مع انتهاء آخر كلمة ، انتفض جسده وتبعثر وسط جمود الواقفين وهلاهل الحزبيين .
جرت الأحداث في بغداد منطقة الدورة
#سميرة_الوردي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مناجاة
-
التلفاز
-
الآن حان الدرس الأول
-
الحب بعد الرحيل
-
الندم الأول
-
أعاصير
-
تاريخ أسفارنا /الفارزة الأولى والثانية
-
تاريخ أسفارنا / الفارزة الثانية
-
في يوم ما
-
صورة
-
مكتبتي
-
جنون
-
لحظة من لحظات الحرب
-
لاشيء يعدل الحرية
-
المحبرة
-
القداس
-
إمرأة تتسلى في الشرفة
المزيد.....
-
144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
-
بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|