|
غرابة الزمان التي لا ريب فيها
أحمد الفيتوري
الحوار المتمدن-العدد: 1750 - 2006 / 11 / 30 - 11:22
المحور:
الادب والفن
استنباء - من سيكون رفقة الرحلة ؟ . - لست على علم بالمرة . قبلها اجتاحه يقين : أن تأتي الحافلة . أن تتخذ مدخل البيت محطة. أن تواجه نافذة الحافلة؛ باب البيت، من حيث تطل، وهو يهم خارجا، يراها. أن يحدث هذا ، هذا ليس حدسا .
1 - ليس لي في المستقبليات ، فالتاريخ يهيمن على كل شيء ، الماضوية ماضية في غيها ، هكذا أمس هو اليوم، ولأن اليوم هو ماضي المستقبل فإن السؤال أين يكون هذا المستقبل . هذه خواطر وتأمل مبتئس أكثر منها تحليل متموضع في المشكل الذي هو المستقبل والتاريخ . وان خرجنا عن غينا هذا، فإننا نجد أن الودان وإخوته من الكائنات ذوات الطبيعة الأدنى أسيرة الحاضر لكن راسم لوحات تاسيلي ؛ الإنسان كائن مستقبلي أو هكذا يقال . الإنسان كائن زماني ؛ الزمن الذي هو أكثر أشكال الوجود خضوعا للخيال، هذه الخاصية التي خص بها الكائن الأرقي من كائنات طبيعتنا . لكن هذا الزمان ما هو ؟ ، وان تفحصنا هذا السؤال فسنجد ركاما هائلا في الموضوعة، تتلخص في هذه العبارة : غرابة الزمان التي لا ريب فيها . لكن ذلكم لا يمنع من محاولة استكناه المسألة ، من جانب أخر أكثر بساطة أي مسها في تعين الزمان ؛ التاريخ الذي هو " فكرة الطبيعة السردوية للزمان نفسه " . من هنا فإن " الخطاب التاريخي تمثيل أثير لقدرة الإنسان على ضخ المعنى في تجربة الزمن ، لأن المرجع المباشر لهذا الخطاب هو الأحداث الواقعية لا الأحداث المتخيلة " . والحقيقة أني أمعن في هذا التكثيف للفكرة، لأنها مجرد تصدير للمسألة التي بصدد تناولها : الكتابة المستقبلية في الأدب الليبي . وكنت تناولت قبل وفي هذه القاعة الكتابة التاريخية في هذا الأدب ؛ حيث نوهت لرواية " غوما " للأستاذ على المصراتي باعتبارها رواية تاريخية . لكن فيما يخص موضعتنا الحالية فإني أستهدف رواية : " من مفكرة رجل لم يولد " بالبحث . وأشير قبل ذاك إلي أنها العمل الأدبي الوحيد ، في هذا الأدب ، التي تناولت موضوعة المستقبليات ، التي قد يعتبرها البعض معي من روايات الخيال العلمي . من هنا توجب قبل ، وضع تحديد ما للفرق بين التاريخ والأدب، أو الكتابة التاريخية والكتابة الأدبية . وفي هذا أجد منهج فيلسوف السردية الفرنسي بول ريكور؛ هو المنهج الذي اختص صاحبه بالمسألة أكثر من غيره . في حين يسلم ريكور بأن التاريخ والأدب يختلفان عن بعضهما باختلاف مراجعهما المباشرة ، وهما الأحداث الواقعية و الخيالية ، فإنه يؤكد بأنهما ما داما ينتجان قصصا ذات حبكة ، فإن مرجعهما الأخير هو التجربة الإنسانية في الزمن ، أو ( بنى الزمانية ) . ويبدو أنه يفرق بين الكتابة السردية والتاريخية في موضوعة الحبكة ؛ فالتاريخ الزمني ليس سردا ، أو حكاية لأنه لا يمتلك ذلك النوع من البنية التي لا تمنحها إلا الحبكة ، هنا يكون الاختلاف الحاسم بين تجربة الزمن بوصفه مجرد تسلسل ، وتجربة الزمانية التي تكتسي فيها الأحداث مظهر عناصر القصص المعيشة ذات البداية المتميزة والوسط والنهاية . والخطاب السردي لا يعكس فقط ، أو يدون تدوينا سلبيا وحسب ، عالما مصنوعا سلفا ، ينشي المادة المعطاة في الإدراك والتأمل ويطوعها ويخلق منها شيئا جديدا ، تماما مثلما يطوع الفاعلون الإنسانيون أفعالهم ويحولونها إلي صيغ متميزة من الحياة التاريخية خارج العالم الذي يرثونه بوصفه الماضي الذي عاشوه . إن الكتابة التاريخية والأدبية عند ريكور يقعان معا تحت طائلة الزمانية لهذا فالقصص التاريخية والقصص الخيالية متشابهة ، ومهما كانت الفروق بين مضامينهما المباشرة – وهما الأحداث الواقعية والأحداث المتخيلة – يظل مضمونهما الأخير واحد : ألا وهو بنية الزمن الإنساني . وفي الأخير فإنه بصرف النظر عن كون السرد الخيالي نقيضا مقابلا للسرد التاريخي ، فإنه مكمله وحليفه في المجهود الإنساني الشامل للتأمل في سر الزمانية . 2 – إذا كان الودان لا يرى إلا تحت قدميه فإن إبراهيم الكوني لا يرى إلا قدام قدميه . الكائنات الأدنى لا ذاكرة لها تخزن القات ؛ قات الماضي . لكن الكوني له ذاكرة غير أن فعل هذه الذاكرة عند الكائن الأعلى مقلوبة حيث هي مرآة المستقبل رغم أنها حصاد الماضي . كأن الإنسان كائن اليوتوبيا : [ هناك دائما شيء مفتقد ، ثمة ضوء قد انسحب ، إن عالما جرد من الحدس والتوقع يصبح كئيبا باردا ] . في النص الذي استبداناء به هذه الورقة ، يبدو العاشق حاشدا لكله ، لاستكناه ما سيحدث ويحدث . فالرغبة في الحياة فكرة مستقبلية ، وكأن الحياة فكرة غيبية عند الكائن الأعلى ،أو على الأقل فكرة الخيال الذي يتجاوز الحقيقة المحدودة، ليلتقط إمكاناتها الكامنة . لهذا في نص الاستنباء ، العاشق يكمن عدم علمه الاطلاقي في تيقناته ، أي استبصاراته المبنية على الرغبة ، المعللة بجملة معطيات كامنة في الذاكرة ، خلاصتها حزمة احتمالات : معرفة في حدها الأدنى لإمكانية مجي الحبيبة ، الرحلة تكون في حافلة التي لا بد أن فيها نوافذ ، النافذة التي تكون قبالة البيت ستكون هدف الحبيبة، التي قد تكون تعرف البيت، الذي قدامه مكانا لوقوف الحافلة : وهو يهم خارجا، يراها. أن يحدث هذا ، هذا ليس حدسا . وبهذا المعنى الحياة مشروع معاش، كامن عند الإنسان في استهدافه الخلود ، حتى خلود الروح بقدر ما هي فكرة ميتافيزيقية هي مسألة لمعالجة حب الإنسان للحياة والرغبة المتأصلة فيها . أليس الحدس والخيال هما الجانب الأيمن والأيسر للعقل ؟. وقد اهتدى دابليو سبيري إلي أن المخ الإنساني له نصفين كرويين ؛ حيث النصف الكروي الأيسر من المخ يهيمن علي اللغة ، على حين أن الأيمن يختص بالتعرف أو التمييز وكذلك يتعلق الأيسر بالمنطق واللغة بينما يختص الأيمن بالتذوق كالاستمتاع الفني . ومن الأمور ذات الدلالة أن المخ الأيسر لديه إحساس قوي بالزمان ، على حين أن الأيمن لا يملك شيئا من هذا الإحساس . وبهذين معا الخيال والحدس يكون الكائن الأعلى مشرفا على ما سيكونه . وقد كتب أندريه بريتون في البيان السريالي : إن الانحطاط بالخيال إلى حالة العبودية هو خيانة لكل معني العدالة المطلقة داخل الذات . الخيال وحده هو ما يقدم لي شيئا من التلميح بما يمكن أن يكون . عندما كتب هـ . ج . ويلز في عام 1895م روايته من الخيال العلمي " آلة الزمن " ، عرض على قرائه افتراضا جديدا مثيرا وآسرا ؛ إن الزمان ليس أكثر من بعد رابع للمكان . وما أراد ويلز أن يوحي به هو أن السفر في الزمان ملكة عقلية نمتلكها فعلا ، ولكن في نطاق ضيق . ويعلق كولن ويلسون : " ومن ثم فآيا كان ما نعرفه أو ما لا نعرفه عن الزمان ، فهناك شيء واحد يبدو مؤكدا : هو أن الفهم المتزايد لقوانا الكامنة يجلب مزيدا من الاستبصار في طبيعة الزمان . وسوف نكتشف أن آلة الزمان التي تخيلها ويلز هي العقل البشرى نفسه " . 3 - بما يمكن أن يكون ، تكون " مفكرة رجل لم يولد " ؛ مفكرة يوسف القويرى الصادرة عام 1966م في جريدة الميدان ، ثم في كتاب عام 1971 م في طبعته الأولى . أن يعيش المرء يوما لم يقع بعد ، وهذا – على ما أظن – هو ما يمكن أن يوصف بأنه سفر في الزمان ؛ بهذا المعنى يوسف القويرى يكتب عام 1965 م مفكرته لعام 2565 م . ويكون " من مفكرة رجل لم يولد " أول استخدام في الأدب الليبي للخيال والحدس لأجل استشراف واستكناه المستقبل من خلال معطى العلم . فالنص ؛ الرواية تستند الخيال العلمي لموضوعها ؛ لأن الأفق الإنساني مسباره العلم المحض . فيما تتخذ البنية السردية من المفكرة أداة السرد ، فالمفكرة شكل من أشكال المذكرات أو التقارير العلمية ، لتأكيد ذلك المفكرة تحتوي يوميات, بين 7 أكتوبر 2565 ميلادية و 17 أغسطس 2567 ميلادية، وتحتوي على مذكرات 73 يوما تقريبا . كذلك يمكن ملاحظة أن لغة التقرير هي لغة هذا النص ، فيما الحدث الرئيس يرتكز على حوار بين زوج وزوجته، في بيت من بيوتات المستقبل التي لا تزخر فحسب بمقدرات علمية تكفل الراحة، ولكن أيضا مشحونة بعواطف مزهرة وعقل متفتح؛ عينه على الماضي بحس نقدي عالي النبرة، وحتى استعلأي . وحيث أن كل بنية سردية تتكئ على وقائع فإن بنية المفكرة تتخذ من الحوار واقعة، لتطرح مجموعة من المفاهيم الإنسانوية التي مرتكزها العلم ؛ " العلم الطبيعي هو الطاقة المحركة للتاريخ الإنساني ، وإن الفكر والقيم كانتا دائما تعبيرات ثانوية لاحقة لحصيلة المجتمع من العلوم في أي مكان وزمان " . كما سيوكد محمد المفتي على هذا الخطاب العلموي ، بعد عقود أربعة من صدور مفكرة يوسف القويرى. فيما ستكون أطروحة الدكتور نجيب الحصادي على الضد من ذلك : " يظل التبجيل الذي يحظى به العلم – قدر ما تظل الثقة المطلقة في أحكامه – موضعا ملائما للتشكيك." . لقد كتبت هذه الرواية ونشرت على شكل عمود صحفي، في ستينات القرن العشرين حيث سيطرت أحلام كبرى في التقدم الاجتماعي والتطور العلمي الذي أعقب غزو الدولة السوفيتية الاشتراكية الفضاء ، فيما كان المد القومي العربي يشكل يوتوبيا نهضوية جديدة متميزة . ومن هذا جاء الحس التعليمي المدسوس في النص والنظرة الإنسانوية الغالبة ، واتخذ النص الروائي مسلكا سردويا حواريا . كما أن النص على تماس مباشر بالمدرسة النقدية الواقعية التي سادت تلكم المرحلة ، وإذ ذاك اتخذت هذه المدرسة روحا تبشيرية بعالم جديد يسوده العلم . وكانت الرواية كناثر للواقع هي الجنس الجديد أداة المرسل لرسالته النبؤية ؛ فـ" الرواية كقصة خيالية نثرية تحاول تصوير أو توضيح التجربة والسلوك الإنسانيين ، ضمن الحدود التي تفرضها واسطة اللغة وضرورات الشكل ، بالاقتراب أكثر ما يمكن مما نفهم أنه الحقيقة الواقعية " . وبالنسبة ليوسف القويرى فإن رواية الخيال العلمي هي الرواية ، لأنه أولا وأخيرا المعلم والمبشر بالنبي الجديد العلم . فـ " التوجيه هو البعد الثالث في كتابات سلامة موسي . وهو توجيه محبب وظريف ، تشعر أنه يتسرب إليك بهدوء وفطنة ، و لا يواجهك بتحد وكبرياء مثلما يصنع المتعالون المزيفون " ؛ هذا ما يقوله عن أستاذ من أساتذته وهو كلام ينطبق عليه في جل عمله ، ويفصح عنه نص " من مفكرة رجل لم يولد " . كما يفصح النص عن إطلاع ودراية بالنظريات والبحوث والاكتشافات العلمية ، كذلك التوقعات وأحلام العلماء المنتشرة في تلك الحقبة الزاخرة بالأحلام . وككل عمل إبداعي فإن عين " من مفكرة رجل لم يولد " على الواقع ويستمد معطياته من هذا الواقع ؛ وهو يرسم يوتوبيا العلم يضرب من موقعه في المستقبل المفترض الحاضر الراكد والسائد البليد ؛ الخيال العلمي يفترض عقم الحاضر لذا يستولد المستقبل.
#أحمد_الفيتوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من قتل ناجي العلي ؟
-
تجربة المتشائل إبداع تحت الشمس
-
كم شجرة تكون غابة ؟
-
دروس الأكاديمية:لا تقول بغ ، ممنوع التصوير ، الكتابة ، الكلا
...
-
قصيدة حب متأبية بطريقة خ ، خ
-
تعيش جامعة العرب
-
زلة عرجون اليأس
-
فرج الترهوني : ترجمان كثبان النمل
-
..وكذا حبيبتي في الشعر.
-
ذئبة من بعيد ترنو ، ذئبة تندس في غابة عينيه
-
بغداد أفق مسفوح في بحر اللامتناهي
-
شارع الإذاعة : سر من رآه ، سر من لم يره
-
بورتريه الثعلب
-
بورتريه العنيزي
-
بورتريه البوري
-
بورتريه الفلاح
-
بورتريه الكوني
-
بورتريه المنتصر
-
بورتريه مطاوع
-
بورتريه زغبية
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|