|
هواجس في الثقافة مقتطفات 6
آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 7849 - 2024 / 1 / 7 - 15:10
المحور:
الادب والفن
كانت قرية دبانة مثل قنديل ضوء في وسط البراري الواسعة. يمكننا القول أنها فناء واسع، بيد أنه متعال مرمى على الضفاف مثل ورق الخريف الأصفر صامتة، كأنها مسكونة في ظل نائم، خائب كراية ابتلعها التراب أو الأسى والحزن. عينها مملوءة بالحسرة والفقد، تحن إلى غواية، إلى انبهار لتبدد النعاس عنها. قرية نائية في وسط أراضي مترامية الأطراف، بيد أن الغموض يكتنفها، والصمت والتكرار. لا عنفوان في صوتها أو مناجأة ليقظة. تمر الأيام عبرها وحولها كسطوة الزمن الأبله. هناك كان جدي مقيمًا برفقة جدتي وعمتي. جاء قادماً من قرية سعرت في الاناضول" محافظة باتمان حاليًا في تركيا". جاء هاربًا من الخوف والذل والهزيمة والانكسار والقهر والموت. من الإبادة التي قام بها الاتراك بأبناء موطنهم من القومية الأرمنية. عندما كان والدي يمر بالقرب من القرية كان يرميني على ضفة من ضفافها، يتركني عند هذا الرجل العجوز الذي تجاوز المئة عام أو أكثر لمدة يوم أو أسبوع أو أقل. كان المكان ضيقًا علي. الفراغ في كل مكان. أطفال الضيعة لا يماثلوني بشيء. لا يعرفون لعبة كرة القدم. لا يذهبون إلى السينما، ولا يلعبون مثلما ألعب. دبانة قرية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها الخمسة عشرة بيتًا. والأراضي المحيطة بها تابعة للشيخ الحاج منصور من قبيلة طي. وأصبحت انتفاعًا لسكان الضيعة بعد الاصلاح الزراعي. حاز جدي على قطعة أرض صغيرة كانتفاع أو حيازة يزرعها بالجبس والبطيخ والخيار في فصل الصيف والقمح في فصل الشتاء. كان مجبّرًا، طبيبًا شعبيًا، مرمم الكسور أو مجبر كما يقال في اللغة الشعبية. وعالج الناس بالطب العربي. يخرج بهذا العمر إلى البراري باحثًا عن الأعشاب التي يريدها من أجل مداواة الجروح أو الحروق أو الأمراض أو الكسور. يخلطها أو يمزجها مع بعضها ليخرج عينة متكاملة تكون دواء لمرضاه القادمون إليه من المحافظة وخارج المحافظة حتى أن صيته وصل إلى لبنان كما كان شائعًا. لقد قصده الكثير من الناس من أماكن مختلف. وكنت شاهدًا على ذلك. نجلس ونراه كيف يمد يده إلى الكسر، يعاينه بدقة ثم يضغط عليه بيده لينزل العظم في مكانه. إحدى المرات كان الكسر في أعلى الساق، رأيته يثبت المريض، وضع في فمه قطعة قماش صغيرة، طلب من مرافقينه أن يمسكوا المريض، رفع جدي رجله في الهواء وهوى بها على ساق الرجل وسط صراخ ودموع الرجل المريض وبكاءه. قاله: ـ الحمد لله على السلامة. سخنوا له الماء لألفه باللحاف. حتى منطقة الحوض والقفص الصدري كان يجبرهمما، وعندما كان يشفي المرضى كانوا يقولون له: ـ يا عم ماذا تأمرنا؟ كم من المال تريد؟ ـ دخان؟ أريد دخان. كانوا ينظروا إليه باستغراب: ـ دخان، كروز نوع حمراء، شرق، بترا. دخان فلت. دخان لف. لا أريد شيء آخر. أنني أعمل لله ومساعدة الناس. أريد المكافأة من الله. ـ هذا لا يجوز يا عم. ـ أنا لا اتعامل بالمال السائل. دخان فلت لا غير. الحمد لله لدينا عدة رؤوس من الأغنام وبقرتين. وهي تفي الحاجة وتزيد، وبعدين الرزق من الله. وهذه الحيوانات تمدنا بالسمن واللبن والجبن والزبدة والصوف. ولدينا الكثير من الدجاج والبيض البلدي والمواد الاساسية لحياتنا، نبيع ونشتري خيطان وسكر وشاي. سأله أحدهم: ـ كيف وصلت إلى سوريا ولم يقتلك الأتراك؟ قالوا لي: ـ قتلك لا يكلفنا سوى رصاصة أو ضربة خنجر أو طعنة سيف. لكننا بحاجة لك. أنت بناء بيوت عربية، نجار، مصلح المحراث الروماني اليدوي تبع الفلاحة، ومصلح حوافر الخيل، ومجبر الكسور وطبيب عربي. أبقوا على حياتي لحاجتهم لي. وكانت إرادة الله ساهرة على بقاءي. ـ إرادة الله أم حاجتهم لك؟ ـ لقد وهبني الله موهبة العمل والعقل. هذا كان كافيًا لي. هذه الموهبة انقذت حياتي. أحيانًا كثيرة كان يسألني: ـ والدك يقبض مئة وثمانون ليرة في الشهر، أنه مبلغ كبير بل هائل. أين يذهب بهذا المال كله؟ ماذا تفعلون بهذه الكمية الكبيرة من النقود؟ لم أكن أعرف الجواب. كنت صغيرًا ولم يكن لدي القدرة على معرفة ما يدور في عقل جدي. كنا ندفع إجار البيت، اقساط المدرسة الخاصة وأقلام ودفاتر وثياب وطعام. لم يكن يعرف حياة المدنية ومستلزماتها. بيد أنه كان يكره المراحيض الخاصة والأماكن المكتظة بالناس. كنت أقف إلى جانبه مرات كثيرة. لم أره يربت على رأسي أو يحضنني أو يقبلني. ولم تفعل جدتي الشيء ذاته. ولا أبي أو أمي. ولم يفعلوا هذا مع أخواتي وأخي، بيد أنهم كانوا يحبون أولاد عماتي أكثر. لم يكن هذا الأمر يضايقني ابدًا. كنت أراه شيئًا مألوفًا. قال لي مرة: ـ أريدك أن تبقى عندي، تعيش معي. هذه الأرض ستبقى لك من بعدي. وسيكون هذا البيت والأغنام والبقر والدجاج لك، الأرض تعطي الخير والبركة للإنسان وتهبه محبة الله وبركته. والدك رجل لا يعرف الله. إنه كاافر؟ في الحقيقة لم أكن أعرف ماذا يعني جدي بكلمة كافر، وقال: ـ إنه كافر لأنه يقود سيارة من حديد. الحديد يا ولدي خطر على الإنسان والحيوان. تعال وخذ الأرض وأفلحها وأزرعها بدلاً من أن تعمل في المستقبل مثل والدك في الحديد ـ يا جدي أريد الذهاب إلى المدرسة. الحياة هنا قاسية. لا تأكلون بميعاد. ونهاركم كله فوضى وركض دون هدف. في المدينة استيقظ كل صباح في موعد محدد وأذهب برفقة أخواتي إلى المدرسة صباحًا. نفطر قبل أن نذهب، وعندما نعود يكون الغذاء جاهزًا. ونرجع بعد الظهر إلى المدرسة لأكمال الحصص المتبقة. التقي بالكثير من الأصدقاء في باحة المدرسة في مدينة الحسكة ونلعب كرة القدم والغميضة. المدرسة جميلة والمعلمات يلبسن أجمل الثياب العصرية. أنكم تعيشون حياة مختلفة عن حياتنا. أذهب للسينما. في سيارة والدي أزور وأرى مدنًا كثيرة, أرياف، أنهار وينابيع. ـ هل تعرف السينما، هل حضرت فيلمًا؟ هل تسمع أغاني من المذياع؟ ـ أعرف أن العمل في الحديد حرام يا أبني. إنها ضد إرادة الله. والدك رجل عاق. تركنا والتحق بالعمل عند الآخرين. ثم ما هي السينما؟ والمذياع كفر وحرام. رأيته بيد والدك، يتحدث. كيف لمذياع صغير أن يكون يحوي في داخله رجل كبير ويتحدث منه. يا ولدي هذا المذياع فيه الجن وساكن داخله. وقلت لوالدك مرات كثيرة: ـ تعال, أعمل معنا، ساعدنا. لكنه فضل أنانيته علينا. أنه يحب المدينة ونساء المدينة. أنه ليس منّا. في البيت كنت أقول والدي: ـ أحب أن أعمل لدى جدي في الأرض. إنه يريد مني أن أبقى معه. أن أترك المدرسة واتحول إلى راعي غنم. ـ دعك منه. أنه لا يعرف ماذا يقول. إن علاقته بالحياة لا تتعدى الضيعة البائسة التي يقطهنا. إنه منفصل عن زمانه. دبانة تبعد عن مدينة القامشلي أربعة كيلومترات أو خمسة، يقطعها مرات كثيرة مشيًا على الأقدام، ومرات كثيرة تقف له السيارات العابرة وتحمله بين دفتيها. في الستينيات ذهبنا، أنا ووالدي ووالدتي وأخي وثلاثة من أخواتي البنات في زيارة إلى الضيعة. مرض أخي الذي يصغرني بخمسة أعوام. وكان الفصل شتاءًا ولم يكن هناك مواصلات. والوحل يملأ الطريق الترابي الذي شقته السيارات العابرة عبر الزمن. واشتد عليه السعال ولم نعد نعرف ماذا نفعل. بكى أبي وبكت أمي وعمتي. وبكيت أنا أيضًا. وكانت مدفأة الجلة تشتعل وتبث شجونها. والفوضى يعم المكان. جهز بعض الجيران عربة يجرها بغلان، وركب والدي ووالدتي بثياب الغسيل الشفاف في ذلك الشتاء القاسي عليها وساروا في حضن الزمن الغافي . استمر أخي يشهق، وينفث بقايا أنفاسه على وقع حوافر البغال وعجلات العربة التي ما أن تخرج من الوحل حتى تغوص فيه مرة ثانية. ما أن مضوا بضعة مئات من الأمتار حتى غرست في الوحل، في العمق تمامًا. ولم تعد تتحرك. نزل والدي والحوذي ودفعوا العربة بينما الأخيرة تخرج من فج لتقع في آخر، والحزن لفافة غرزت في قلب قلبي أمي من القهر والحزن والخوف من فقدان أخي. والقرية تقع في منطقة ما يسمى بخط العشرة. في نهاية الستينيات صدر قرار بأخذ الأرض من أهل الضيعة واعطاءها للناس القادمين من الرقة أو ما يسمى بعرب الغمر الذين فقدوا أراضيهم أثناء بناء سد الفرات. قالت الدولة لأهل الضيعة: ـ سنأخذ منكم هذه الأراضي ونعطيكم غيرها في القرية أو القرى القريبة منكم. قرية صافية مناسبة لكم تمامًا. ستنتقلون من هنا وتمكثون هناك. لم يقبل أهل القرية هذا العرض ولم تتراجع الدولة عن قراراها. ونفذ القرار في العام 1972 في زمن حافظ الاسد. وخسر جميع أهل دبانة أراضيهم ولم يذهبوا إلى صافية. ولم تعوض لهم الدولة أي شي. ومات جدي في العام ذاته وقطعنا جذورنا مع تلك الضيعة ولم أعد أعرف أي شيء عنها.
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هواجس في الثقافة مقتطفات ـ 5 ـ
-
هواجس في الثقافة مقتطفات ـ 4 ـ
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 3
-
هواجس في الثقافة مقتطفات 2
-
هواجس في الثقافة ـ مقتطفات ـ 1 ـ
-
عيد رأس السنة الجديدة في السجن
-
هواجس ثقافية معاصرة
-
فرانكشتاين
-
قراءة متأنية في رواية الرحيل إلى المجهول للكاتب آرام کرب
...
-
الهيمنة
-
البشموري
-
والدي العاقر
-
المثقف العضوي
-
مشكلة سبينوزا
-
الكبت في رواية عندما بكى نيتشه
-
عندما بكى نيتشه
-
الوعي المغيب
-
نيتشه في رواية
-
تدمر العسكري أقسى سجون العالم
-
الأثير
المزيد.....
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|