|
الراعي والرعية !
عبدالله عطوي الطوالبة
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 7844 - 2024 / 1 / 2 - 14:07
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
مفهومان بدائيان، ينتميان في الأصل والمنبت لمرحلة الإقتصاد الزراعي الموغلة في القِدَمِ. ولعل التبدي الأجلى لما تبقى من تلك المرحلة في الأذهان، صورة الراعي يرعى قطيع ماشيته ويأخذه إلى مواضع الكلأ والماء. بحكم إشراف الراعي على القطيع وتدبر شؤونه وحمايته وإطعامه وسقيه، لا بد أن تتوفر فيه خصائص مؤهلة للنهوض بهذه المهام على الوجه الأكمل. فعليه أن يعرف كل رأس في القطيع بالشكل والطباع حتى، ويستشعر افتقاده بسرعة إذا تعرض لمكروه. وعادة ما يكون الراعي على دراية بالمواسم وأماكن الخصب وأنواع العلف، ومن الرعاة من يحابي رؤوساً في القطيع بالعلف في الكم والنوع، وخاصة ما يُعرف ب"المرياع". المرياع لمن لا يعرف، هو "شيخ" القطيع. في الأصل، هو خروف يُفصل عن أمه، فور ولادته، فلا يذوق حليبها، فيرضعه الراعي من حمارة أو من زجاجة عادة ما توضع في خرج حمار الراعي. بمرور الأيام يرى الحمارَ أمه وأباه، يسير خلفه وحوله فلا يبتعد عنه. لاحقاً، في مرحلة عمرية متقدمة يُخصى ويُعتنى به، ليسمن، ثم يوضع جرسٌ في رقبته يسمونه "القرقاع". بهذا الإعداد، يصبح مرياعاً مهمته قيادة القطيع خلف حمار الراعي. هذا الأخير، أي الحمار، مُدَرَّبٌ على السير باتجاه المرعى. وكلما سار المرياع خلف الحمار، يدندن الجرس"القرقاع"، والدندنة هي إشارة للقطيع ليلحق بالحمار والمرياع إلى المرعى، أو إلى المكان الذي يحدده الراعي. الأديان بدورها، رسَّخت الرعوية وثنائية الراعي والرعية. ففي التراث الديني اليهودي والمسيحي والإسلامي، يظهر الحاكم كراعٍ لمصالح المحكومين الرعايا. على هذا الأساس، ترتبت خلال قرون علاقات الحاكمين بالمحكومين وفق تراتبية علوية، تفترض احتكار السلطة والمعرفة لدى الأولين والسمع والطاعة والجهل في الأخيرين. ولقد كان من الطبيعي أن تسطع أنوار عصر التنوير في أوروبا، خلال القرن الثامن عشر، على الرعوية المفهوم والتطبيق، لتعريتها وكشف جوهرها البدائي وانتمائها إلى عصور العبودية والاقطاع. تخلصت أوروبا من الرعوية، وحلت مكانها المواطنة، كناظم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم. تطور مفهوم المواطنة على صعيدي المعنى والتطبيق، وأصبح عنوان نقلة تاريخية في منظومة الحكم وإدارة شؤون الشعوب والدول. المواطنة، تعني أول ما تعني، ارتباط شرعية الحاكم برضا المحكومين وقبولهم وتقبلهم له. في التطبيق العملي، المواطنة توجب اختيار الحاكم من المحكومين في انتخابات حرة نزيهة (نزيهة بالفعل وليس على طريقتنا). ليس انتخابه فحسب، بل متابعة أدائه وتقييمه وتقويمه، ثم محاسبته إذا استدعت المصلحة العامة ذلك، أو إقالته ومحاكمته إذا لزم الأمر. هذا هو شأن الأمم والشعوب الحرة في أوطانها، بعد أن أودعت ثنائية الراعي والرعية في متاحف التاريخ. أما العرب، ففي الوقت الذي بدأت أوروبا تقطف ثمار عصر التنوير وأولها المواطنة وتطبيقاتها، فقد كانوا يرزحون تحت نير الحكم العثماني القروسطي. لماذا وصمناه بالقروسطي، ولسنا بهذه الوصمة له بظالمين؟! ألم يطرح هذا الحكم نفسه امتداداً لتقاليد الخلافة؟! وبطبيعي أمره هذا، افترض الرعوية أساساً للشرعية السياسية والأخلاقية! مقصود القول، في الوقت الذي كانت أوروبا تودع ثنائية الراعي والرعية في متاحف التاريخ، كانت هذه الثنائية تترسخ في الواقع العربي. بعد جلاء الاستعمار العثماني إثر هزيمة الإمبراطورية في الحرب العالمية الأولى، وتنظيم بريطانيا جهود مشاغبة عسكر "الرجل المريض" على امتداد ساحات سيطرته، ران على صدور العرب الإستعماران البريطاني والفرنسي. انصرف هم المستعمرين إلى تدجين الضحايا وإضعافهم، لضمان السيطرة عليهم لآمادٍ طويلة. أول وسائل السيطرة والإضعاف، إعمال مشرط التقسيم في الخارطة العربية وإنشاء دويلات من دون استشارة قاطني جغرافيتها، ولو من قبيل رفع العتب. وهكذا نشأت دولة الحاضر العربية من دون رضا قاطنيها المفترض أنهم مواطنوها، وما هم بمواطنين بالمعنى الذي بَسَطناه للمواطنة. لم يخطر ببال المستعمرين البريطانيين والفرنسيين تصدير قيم التنوير والديمقراطية والحريات إلى ضحاياهم العرب، بل العكس هو الصحيح تماما. لقد هيأوا كل ما من شأنه تكريس قمع الإنسان العربي وقهره في الدويلات التي رسموا حدودها، من خلال أنظمة سلطوية "دوزنها" المستعمِر على مقاس مصالحه، أولاً، ولتبقى دويلات العرب ولاَّدة أزمات بحكم نشأتها الشاذة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، ثانياً. وجد المستعمرون في ثقافة "السمع والطاعة" و "من اشتدت شوكته وجبت طاعته"، خير معين لإقناع العرب بأن ليس في الإمكان أفضل مما كان، وأن طاعة الحاكم واجبة. وهناك من يذهب في هذا السياق أبعد من ذلك، فيستل من معاجم القرون الوسطى لازمة "طاعة الحاكم من طاعة الله ورسوله". تأسيساً على ما تقدم، وهو قليل من كثير، لا غرابة أن تستطيب ثنائية الراعي والرعية الإقامة في ديارنا العربية. وما تزال تلتذ وتستمتع بطيب الإقامة وكرم الضيافة !!! السلام عليكم.
#عبدالله_عطوي_الطوالبة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإحتجاج بالنص الديني دليل أزمة وجودية !
-
لماذا انهزمت الجيوش وتصمد المقاومة؟!
المزيد.....
-
السجن 11 عاما لسيناتور أمريكي سابق لتلقيه رشاوى من رجال أعما
...
-
مبعوث ترامب: على مصر والأردن تقديم بديل لرفض استقبال الفلسطي
...
-
المقاومة الفلسطينية وأسطورة ترامب
-
هيغسيث: إسرائيل حليف مثالي للولايات المتحدة
-
علماء يكشفون كيف وصلت الحياة إلى الأرض
-
ماسك يرد على ترشيحه لنيل جائزة نوبل للسلام
-
برلماني أوكراني: زيلينسكي يركز جهوده على محاربة منافسيه السي
...
-
رئيس جنوب إفريقيا يحذر نظيره الرواندي من عواقب الفشل في وقف
...
-
مستشار سابق في البنتاغون: على واشنطن وموسكو إبرام اتفاقية أم
...
-
منعا للتضليل.. الخارجية الروسية تدعو إلى التحقق بعناية من تص
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|